المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ولقد رأى الكونت أخزاه الله أن أحسن ما يكون الاستمتاع - المساكين

[مصطفى صادق الرافعي]

الفصل: ولقد رأى الكونت أخزاه الله أن أحسن ما يكون الاستمتاع

ولقد رأى الكونت أخزاه الله أن أحسن ما يكون الاستمتاع بالجمال حين يكون الجمال فنا وفتنة، فأنا الفتنة ففي عيني لويز وجمال تكوينها، وأما الفن فلا سبيل إليه من هناك ولا من فلسفته، وليس إلا أن يبسط يده كل البسط حتى تنبت له تلك الزهرة من أغصان الذهب والجوهر، فأنفق واتسع في الإنفاق، وجعل آمال شيخوخته كلها مقترحات في زينة الفتاة، فبرعت البراعة كلها في الرقص والموسيقى وأحسنت من الفن النسائي في أساليب الظرف والجمال والزخرف على جسمها، ما ترك هذا الهرم المتصابي المفتون يفاخر الناس كافة بأنها خارجة من قريحته.

وأعجب ما في الأمر أنه على كثر ما أنفق وطائل ما بذل، لم يكن يرى أنه أنفق على لويز ما لا بد منه على لويز، وهو منذ أصبحت في كنفه، استبدل من الحرص على المال بالحرص على الحياة، وعرف أنه لا بد في الحب من وسيلة، وأن قلب المرأة ليس في يد أحد ولا في يد المرأة نفسها، بل هو يختار فيما يختار، ويختار على ما يحتكم، وأنه ليس أشد عنفاً من هذا القلب، فهو إن لم يحي قتل: يحب المرأة عاشق غير محبوب منها، ويريد مراغمتها على حبه فيقتله قلبها لوعة وضنى بما يطوع لها من صده أو بغضه، وتحب المرأة ثم يمنعها قومها ويرغمونها على غير من تحب، فلا يقتلها إلا قلبها! وإن فكتور ليعرف أنه فارغ الخلقة

من وسائل الحب كلها، ويعرف أنه في أحمض أنواع الهوى لا يعدل أكثر مما تعدل قشرة الليمونة المعتصرة، فكيف به في الثمر الحلو، وكيف به في حب لويز! لم يبق إذن إلا أن يخرج الوسيلة من يده، والمال أضعف الوسائل في الحب الصحيح وإن كان أقواها في الحب المكذوب، على أنه لا يجعله قويا من ضعف إلا أن يظل يمد بعضه بعضا، فإذا انفضت اليد أو أمسكت فلأن يقبض المحب على الريح أيسر من أن يضع يده على ظبية شاردة

ومن أجل ذلك توسع الكونت البذل حتى كأنه كيس مخروق. ولم يعرف لها طلبا إلا بلغ فيه رضاها وحسب أن في رضاها محبتها. فكان يأتي بالحاجة التي كانت تطلبها والحاجة التي لم تطلبها، ويجعل كل شيء شيئين، "وأبى أن تعبد لها أن يكون عبدا بشهود وأدلة".

وبقيت لويز تتربص به الأجل، فكانت له كحرف التسويف، ولا تزال تدفعه عن نفسها، وتروضه على الصبر، وتمنيه أنها تستتم فنون الجمال من أجله، وأن هذا القمر متى تم فسيدخل معه في المحاق.. لا محالة. وتظن باطلا أنه لم يبق منه إلا كما بقي منه من ذنب الوزغة تضرب به يمينا وشمالا ثم تموت، بيد أن الموت لم يستنقذها منه، وإن كان يرأف بها أحيانا وتدخله الرقة عليها فينيب عنه الروماتزم ليريحها بضعة أيام!

وكان الرجل يخشى غضبها ويطمع في رضاها فكان يستعين ببعضه على بعضه، ويعلم أنها ترى الصبر أحسن ما فيه فيترك أقبح ما فيه ويصبر، فلما استوت فتنتها ولم يبق من باطلها ما تتعلل به أو تتملق به علة، ورآها قد أخذت زخرفتها وازينت واهتزت وريت، صار منها كحرف الجر لا يريد إلا أن يكون الجار والمجرور (متعلقين)

وفرغ صبره واستقين أن له آخرة وأن صاحبته لا تزال في أول دلالها، وكانت تحسب أن الدهر نائما عنها فإذا عينه قد انتبهت في أجفان هذا الشيخ فنظر إليها نظرة لا صواب فيها....

وباغتها الرجل فخيرها بين أمرين خيرهما شر: إما طريق إلى صدره وإما طريق من غدره، ومع الأولى الوصية بالمال، ومع الأخرى أن تذهب في الحال! وكذلك غلبها على أمرها وانتصر في معركة كان لا بد من أن يخر فيها أحدهما صريعا، وقد استحال أن يكون المغلوب غيرها، وإن عثرة تستنهض منها بعد حين خير من عثرة لا تستقيلها، ورأت الظبية أن لا مناص، فوقعت في يد القناص

‌يا ليل

ص: 38

الليل منسدل كأنه حجاب مضروب بين الحياة والأحياء، مجتمع الظلمة كأنما هي ذنوب الناس في نهارهم جعلت الملائكة ترسلها إلى السماء، وتغشى الأرض معنى من خشية الله فنفرت له دموع المساكين، وأقبلت عليه أنفاس المحزونين، وبرزت له في آثار الظلم دعوات المظلومين، وقد ارتفع إلى الله صوت يتقطع زفرات، ويتلهب حسرات، ويسل من الدمع قطرات، وكان صوت لويز وهي تزفر الزفرة تكاد تنشق لها، وترسل الأنة تكاد تدفن فيها، وما بها فتسكته عنها، ولا بها الحزن فتمسحه بدمعها، ولا بها الهم ولا بها الغضب، ولا أمر مما يتواصفه أهل البلاء ويبثونه في شكوى أحزانهم وإنما ذلك شيء إن يكن من الحياة فليس بالحياة، وإن يكن من الموت فليس بالموت، ولعله منازعة الحياة والموت على قلبها! ما بك يا لويز وقد بت زوج الكونت الذهبي، وهو عما قليل آخذ ما أمامه، وتارك ما وراءه، وما بك أيتها المسكينة وقد كنت فقيرة بائسة لا تملكين قوت يوم فقبضت على أعناق سبعين سنة تجمع المال وتكنزه، وما بك عمرك الله وقد خرجت من الكوخ إلى القصر، وصعدت من العريش إلى العرش، وإن كانت حواء قد طردت من الجنة فقد طردت أنت إلى الجنة وفي الجنة قوم يقادون إليها بالسلاسل

! قالت المرأة وهي تناجي ربها: ماذا قضيت علي؟ لقد وضعت الدنيا في راحتي وكأن مملكة آمالي مرسومة في كفي، ولكن أي فرق بيني وبين تمثال من الذهب الخالص في منزل هذا الرجل! لقد رددتني من فقري وذلي إلى رجل رددته أسفل السافلين فما يريني الدنيا التي أعرف أنها الدنيا ولكنه يريني الآخرة!

يا ويلتا! إن لم يخجل الرجل من شيء أفلا يخجل من أنه لا يخجل؟ أبى هذا الموت لشقائي إلا أن يتخذني زوجته، وكنت خليقة أن أجعله أسعد رجل في الدنيا لو اتخذني ابنته! اللهم إنك رزقتني العافية في كل جوارحي ولم تصبني إلا في القلب! يا ويلتا ما أنا إلا لعبة في يد هذا الطفل، لا يلذه شيء أكثر من تحطيمها في طرق لذته، وقد خلقت يا رب من يحطم القلوب الصحيحة، ولم تخلق من يستطيع أن يجبر القلوب المكسورة، وأنه ليس فيما برأت وذرأت مخلوق أشد تعبا من يفتش في قلبه عما ليس في قلبه، وهل من الممكنات أو في أشباه الممكنات أن أجد في ناحية من قلبي حب هذا الزوج؟ لقد عرف الناس أن قلب المرأة كثير العبث، وهذا الذي يسمونه دلالا ويسبونه في الحب إنما هو شيء من عبثه، وأن هذا القلب إنما خلق ليحب، ولذلك أعطي قوة يخلق بها الحب من العدم، غير لأنهم جعلوا فيما يجهلون من أسرار المرأة أن ذلك القلب إنما جاءه العبث بالرجال من أنه لا يطيق أن يعبث به أحد من الرجال، ومتى وجد من هؤلاء من يريده بنادرته ويجعله من هزله معرض السخرية وموضع العبث، لم يكن في الدنيا أحد أبغض إلى المرأة منه، وإن كانت الدنيا كلها في طلعته، وإن كان مخلوقا من رونق الشمس.

أليس النساء يحببن حتى الكلاب ويرفهنها ويغالين بها وينزلنها منزلة الولد في الحب والانعطاف والتوجع والتحزن؟ فسبحانك اللهم! إن هذا القلب الذي يسع حب الكلب يضيق عن حب كثير من الرجال إذ يحبون المرأة حبا ليس فيه شيئا من روحها حب الزانية أو الاستمتاع أو الخدمة فكأنهم بذلك يبغضونها بغضا فيه كل روح.

يا ويلتا! أعجزت أن أجد في هذه العاجلة نفسا أرى فيها نفسي؟ وهل حرمت علي كلمة الحب فلا يفيض بها صدري ولا ينطق بها لساني؟ وهل خلقت للؤلؤة لأكون في عقد من الحصى، ورسمني الله بهذا الجمال ليعذبني بهذا القبح؟ وما عسى أن ترد علي هذه النعمة ما دمت لا أجد لها سبيلا إلى قلبي، وما دام هذا القلب لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يعامل بالمال

؟ ضل ضلالكم أيها الناس إذ تحسبون النعمة حق النعمة في الغنى وحده، وتمضون الأمر على ما تخيلتم من ذلك، ولا تدرون أن الله ينتقم بالغنى أشد مما ينتقم بالفقر، فلو أني بليت بالمصيبة وأنا امرأة خاملة لا احتملتها وقلت خمول عرفته فما يبلغ به ولا يزيد ني بنفسي ولا بنفسه معرفة، ومن رحمة الله بالفقراء الخاملين أن في كل بلاء يعتريهم ما يعينهم على حمل بلاء أشد منه، ولكن الضربة اليوم لا تصدع الصدقة بل تستحق اللؤلؤة، فاللهم لا قوة إلا بك!

ص: 39