الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.. فإن آلام النزع وإن لم تكن هي الموت ولكنها أشد منه، حتى إن الموت ليكون راحة منها، وقد مد الله في نزع الكونت مداً طويلاً، فكان يقظان العين نائم الروح، وكأنه مقبور في جلده، وكانت زوجته لا تألوه موتاً. فليس يراه أحد إلا يطن أنه لما به، ولكنه لا يموت، لأن أيامه كانت بعض ما كتب في الأزل من تاريخ هذه البائسة، وقد حمله الله على الأمل، والأمل معطية دائبة لا تكل ولا تنقطع ولو ذهبت تقطع مسافة ما بين الضدين لتجمع أحدهما بالأخر، فما يزال يحسب أن لزوجته فيئة بعد شرة الصبا، وأن تقادمه في الهرم وتقدمها إليه سيصلحان ما أفسد الدهر منهما جميعا، وليس في الناس أحمق ممن يدفع نفسه إلى ما يطن، في حين تدفعه نفسه إلى ما يستقين!.
أما هي فرأت أن لا سبيل إلى انهزامها أو تراجعها بعد ما أنزلت أخلاقها في المعركة، كأنها ماتت قبل أن تموت فليس يضرها أن تقع في هذه المعركة هالكة، وليس ينفعها أن تخرج منها حية، وكل شيء تستدرك منه الحيلة، إلا ما أفاتت المرأة من شرفها النسائي، فإنه إن فرط منه فارط لم يستدرك، فبسطت عنانها في يد الأقدار وانطلقت على أثرها صاغرة! وقطع الفلك في دورته عشر سنوات حتى تفرى الليل عن صبح لم يشهده الكونت، فترك لامرأته ما جمع، وترك فيها ذلك الموت الحي، وتركها في تلك الحياة شجرة مر داء غير أن اللذات لم تبق عليها بعده، فقد لا تقتل الآلام إذا أسرفت على النفس ولكن اللذات لابد قاتلة، وكأن الطبيعة فرضت على الإنسان أن لا يلذ بالعيش إلا حيث تكون لذته اختلاسا، فإنما ركب على أن يشده ما يؤلمه، ويبني منه ما يحسب أن يهدمه، فإن هو حمل نفسه على لذتها، وأطلق لها ما بين هواه ورأيه، فقد أراد لبنيته الضعيفة وضعا ليس في هندسة الحياة، فلا تترك فيه اللذات إلا أمراضا، ولا تحمل منه الأرض إلا أنقاضاً
…
، ولو لم تكن هذه اللذة المسرفة سببا إلى الموت، لما ركب في غريزة الإنسان كره الموت من حب الاستمتاع بها، والحياة في عمليتها الجراحية المؤلمة لا تحز إلا بأسلحة الآلام الحادة واللذات الحادة! وبيع ذلك القصر وما ضمه، وكان فيما يحتويه بعض رفرف من الكتب يباهي الأغنياء بتنسيقها ليظهر من ألوان جلودها رسم ليس في الحائط
…
، فاشتراها أديب تأدى إليه خبر الكونت وامرأته، فإنه ليقرأ منها ذات يوم في كتاب يصف البأساء والضراء من هموم الحياة، إذا ندرت ورقة كانت بين صحفه فالتقطها فإذا فيها تعتلجان بين هذين السطرين: الفقر خلو من المال، ولكن أقبح الفقر الخلو من العافية!. "فكتور".
والغنى أن تملك من الدنيا، ولكن أحسن الغنى أن تهنأ في الدنيا
…
! "لوجيز".
الحظ
قال "الشيخ علي": وإن في نفسي أشياء من كلمة بين الكلام قد ضل بها الناس ضلالاً بعيداً، لا أعرف كيف استحدثت ولا من أين انصبت على الدنيا، وقد خرج الناس من أن يهتدوا فيها إلى حقيقة مخلصة، إذ لم توضع في لغاتهم موضع شرح وإبانة، ولكن موضع غموض وإبهام
…
ويا عجبا للإنسان! كيف اهتدى إلى التعبير عن المعاني الإلهية التي يكون المعنى الواحد منها تاريخا طويلا لقدر من الأقدار المستكنة في غيب الله من لدن يقضى إلى يوم يقع، وكيف تلقى في نفس هذا الإنسان معاني الغيب فيردها ألفاظا يحمل منها السماء بأفلاكها على بضعة أحرف!.
على أن أعجب ما فيه يعبر عما تناله قوته بألفاظ صريحة خالصة لا لبس فيها ولا اختلاط، فإذا انتهى إلى ما يضعف عنه أو يعجز دونه أشار إليه بحروف مبهمة لا يكون لها في نفسه من الدلالة الغامضة أكثر مما يدل المجهول على أنه مجهول، فالإنسان متى أحس القوة رأيته كأنما يحاول أن يسمع السماء بطنين ألفاظه المكشوفة عن معانيها أنه موجود على الأرض، ويحاول أن يظهر للأرض بصراحة هذه الألفاظ أن له إرادة تعمل مع الأقدار في تسخير الطبيعة، ولكنه عند العجز والضعف، وعندما يتخيل صفات من القوة الأزلية ولا يحسها - تراه يرسل الكلمة الخفية التي تشير إلى كبريائه بشيء من الصراحة اللغوية المحدودة، وإلى ضعفه وعجزه بإبهامها المطلق فما أن تزال في هذا الوجود الغوي من المعنى على وجه التعيين والنص، حتى يقع بها قدر من الأقدار فيكون هو معناها.
وضعف الإنسان لا حد له فلا حد لما يستعمل من الكلام المبهم الذي يحمل ما شئت أن يحمل، ولولا ذلك لما صح أن تكون الفصاحة هي نفسها وسيلة من وسائل التعمية في محاورة الخصوم.
قال "الشيخ علي": أما الكلمة التي أشرت إليها، فهي لشمول معناها الطبيعي وإبهامه كأنها لغة للنفس الإنسانية أين وجدت، ولكن ليس للإنسان أن يفسرها، بل هو يتعلل بها ويتعلق بها ويتعلق عليها ويعلم أنها كذا خلقت، لأنه قدر معناها قدرة على قياس لا يبرح يطوي هو من طرفه ليعرف ماذا يبلغ وما هي مسافته، ويعد القدر من طرفه الآخر ليفسد عليه ما عرف.
فهي كلمة يستوي عندها خطأ الإنسان وصوابه، ولهذا يراها واقعة في موضعها وفي غير موضعها، ولا معنى لها عند هذا الإنسان إلا أنها اتجاه حركة القدر، وهي الحظ.
الحظ يا بني كلمة غامضة غموض النفس الإنسانية، يتعزى بها أهل الأرض جميعا ويظهرون فيها إيمانهم الفطري الذي لا بد منه للقلب، فما دام هذا التركيب على غموضه المعجز بحيث لا يمكن أن يعرف بجملته، وما دام هذا الإعجاز وضع حيرة للعقل، فلا بد في اللغات من ألفاظ تصور كل ذلك وتصفه على تلك الوجوه العجيبة، بحيث تكون اللفظة إقرار من الإنسان وإن جحد، وصورة لإيمانه وإن كفر.
وهذه الكلمات من أوضاع الإلهام فلا تخلو منها لغة من اللغات، وهي بعد في تفاوتها وظهورها كدرجات الإيمان من أدناها إلى أعلاها، فمن لم يؤمن بالله وجد في لغته لفظا للقدر وهو الإيمان بعمل الله فإن كفر بالقدر اعترضته نفسه بكلمة الأمل وهو الإيمان برحمة الله، فإن جحد هذه اعترضته طبيعته الإنسانية بكلمة الحظ وهو الإيمان بقدرة الله، ولا أحسب أن في الأرض رجلا يكفر بهذه الأربعة جميعا! ومن ههنا كان الكفر نفسه لا يخلو من الإيمان، وكان الكافر كأنه إنما يؤمن من أضعف موضع في الكون، وما أشبه الإيمان بجبل راسخ يحمل الناس كافة، غير أن المؤمن يصعد مرتقيا من جهة والكافر ينزل منحدرا من الجهة الأخرى!.
والعجيب أن كلمة الحظ نفسها يضعف معناها ويقوى بعكس ما يكون في الإنسان من قوة الإيمان وضعفه. فالرجل المؤمن القوي في إيمانه بالله قلما يفهم من هذه الكلمة إلا أضعف ما تريد النفس منها، فهي تبعثه على تذكر قضاء الله والاستكانة لقدره والتعزي عما فات بما لا يزال في الغيب، ولكنك واجد ضعفاء الإيمان لا يفهمون منها إلا القوة المسخرة لحوادث الدنيا، ولا يريدون بها تسخير هذه القوة في منافعهم، ومن ثم تهيج الكلمة في أنفسهم من معاني التسليم والاستكانة، وهذا عجيب من طباع الناس لولا السبب الذي كشفته لك! وما أراك تحسن معرفة هذا السبب ما لم تعرف حقيقة ما أريد بكلمة الإيمان، فلست أريد بها ذلك المعنى الذي يتعاون على تمثيله البناء والنجار والحداد وغيرهم من أهل الصناعات، حين يشيدون المساجد والبيع والصوامع ونحوها من أمكنة العبادة، فإن هي غلا مظاهر الدين الاجتماعية لا غير، ولا يمكن أن يحصر الضمير الإنساني بين حائطين.
وإنما الإيمان هو ذلك المعنى الذي يلقي على روحك السكينة لأنها متصلة بالله، وفي ضميرك المحبة لأنها متصلة بالناس، وهو ذلك المعنى الذي يعلمك ما أنت ممن حولك، وما حياتك ممن وراءها، وهو ذلك الاعتقاد الكبير الذي تصغر عنده الحياة بما فيها من الخير والشر، وتهون بما فيها من النفع والضرر لأنه قائم على الفكر الذي هو بقية ما نفخ الله من روحه في الإنسان الأول فلا يضعف أبدا ما دام في الكون قوة، ولا يفتقر أبدا ما دامت الطبيعة غنية بجمالها، ولا يسقط أبدا ما دامت السماء قائمة، ولا يموت أبدا ما دامت الحياة باقية، ومتى خضعت له استحال عليك أن تذل لصغائر الحياة، لأنه هو لا يذل ومن مظاهر تلك العظمة التي تكون في الأبطال فيستهينون بالحياة إذ هم أهل الموت، وفي العظماء فيتنزهون عن الدنايا غذ هم أهل الأخلاق، وفي الحكماء فيزهدون في حطام الدنيا إذ هم أهل النفوس.
ومن ثم كان الإيمان الصحيح حرية صحيحة، لأنه يعصم من ضروب الذل كلها، وكان منفعة خالصة، لأنه الحد القائم بين النفس وشهواتها، وكان نافعا، لأنه العقل السماوي الذي يهم الإنسان حكمة كل مصيبة، أو يلهمه الثقة بالحكمة التي يجهلها، ولو أن للفضيلة عبادة لكان لها من أخلاق كل رجل صحيح الإيمان مسجد تعبد الله فيه!
ولا يصح إيمان المرء حتى يتبين لنفسه طريقا إلى ربه، فيرى كأن قطعة من السماء في باطنة تضيء له الحياة، ومتى عرف هذه الطريق وامتد بها ضميره إلى حيث يتصل بجلال الله، فمن هذه الطريق نفسها يرد مصائبه على الغيب كما جاءت من الغيب، لأن للقدر طريقين: فواحدة يندفع منها، وهذه لا تعرف إلا بعد أن تقع الواقعة فتدل عليها بنفسها، والأخرى هي التي يتصرف إليها القدر في حركة الدهر، وهذه لا يوفق إلى معرفتها غير السعداء ومن كتب الله لهم أن يكونوا مظهر حكمته أو مظهر حمده.
فقوم يجدونها في إيمانهم الوثيق، وآخرون يصيبونها في حكمتهم البالغة والمؤمن إنما هو صورة قلبية من الرجل الحكيم، والحكيم إنما هو صورة عقلية من الرجل المؤمن، فإذا نزلت بأحد هما المصيبة وبلغت منه ما لا يبلغ الصبر، فتح لها طريق السماء في باطنه فيبصرها كأنها مدبرة، والمصيبة متى وجدت كالحياة متى ولدت: لا محل للعقل أبا في أولها، فيتبين حكمة الله منها ويرى حينئذ كيف تنقح يد الله في تاريخه.
وما أرى المصائب في نظام الكون إلا حركات ظاهرة تسير بها نعم مجهولة لا تزال ومن وراء الغيب، وكثيرا ما يكون من هذه المصائب ما ينبه الله به الناس من غفلاتهم حتى لا يقعوا في أشد منها إذا تركوا لما هم فيه، فليست النازلة هي المصيبة ولكن المصيبة من جهلنا وضعفنا، ألم تر إلى كل نعمة مع الجهل والضعف كيف تحمق وتضعف حتى لا تكون مع صاحبها إلا قريبا مما تكون المصيبة مع صاحبها؟ قال "الشيخ علي": والحقيقة يا بني أن من لم يكن كفؤا لما يناله هلك بما يناله، فالحظ توفيق، والتوفيق أن لا يكون لك إلا ما تصلح له فأنت بذلك مطمئن، ومن ثمرة الاطمئنان فرضي فاستمتع، فهذا هو ذو الحظ وإن كان عنده لم يصب إلا قليلا ولم يطمئن إلا من ولم يرض إلا من عجز ولم يستمتع إلا بأهون المتاع.
إن كل امرئ يريد لنفسه لا لسواه، وإن أول التوفيق أن تريد ما يصلحك وأول الخذلان أن تريد ما لا يصلح لك، وما الطمع إلا فقر حاضر ولو كان طمع الغنى.
وإن هذه النفوس لتبلى من طول ما يلبسها قدر ويجعلها قدر، فلقد رأيت غير الموفق حين يجور في إرادته، ويضل في مسعاته، ويلتمس من الغيب ما يقدر لنفسه دون ما قدرت له نفسه- لا يبرح يكد ويسعى، وكلما لبس حالة من دنياه فاضت عليه فخلعها أو ضاقت عنه فخلعته، ولا يزال ذلك من دأبه ودأب القدر معه حتى يهن ويضعف ويصير إلى البلى في نشاطه وحزمه وفي طماحه ورغبته، وقد أنفق من حياته ما لا يرد في ابتغاء ما يدرك، وهذا كله هلاك بطيء يأتي على العمر، والعمر بمقدار الزمن الذي تعيش فيه، ولكنه مقدار ما توفق من عيشك.
وهل سمعت برجل كان يحفر قبره منذ عقل معنى الموت وقد نذر أن لا يحول عنه، ثم لم يزل يوسع الأرض من عمله ويفسح في جوانب هذا القبر وعمر طويلاً وغبر على ذلك دهره، حتى أصبح قبره يأكل القبور أكلاً ثم أدركه الموت فانطرح فيه رمة بالية فإذا هو لا يملأ من جوفه عمل يوم واحد مما كان يعمل، وبقيت الحفرة كأنها فم مفتوح تصيح منه الأبدية: أين الميت العظيم الذي أعد كل هذا لجيفته
…
وما بال هذا الساعد وما بال هذا المنكب، وفيم كان ذلك العمل، وما هذا النبوغ الميت الذي ضاعت فيه الحياة ولم يعظم به الموت؟
…
إنك إن لا تكن سمعت بهذا الرجل فلقد رأيت كثيراً من مثله يعملون للحياة عمل ذلك الأحمق بعينه للموت، فهو لم يمت بمقدار ما أعد لنفسه، وهم لا يعيشون بمقدار ما جمعوا لأنفسهم، ومنهم من أضاعه في غير حاجته، والعمر لا يستخلف، وكلا الفريقين طرف من قياس واحد في الخذلان وإن كان أحدهما يبتدئ من عكس الجهة التي يبتدئ منها الآخر.
لا يوجد على الأرض من يملك شيئاً في الأرض غير محدود، ولكن ما من أحد يكن طعماً محدوداً في نفسه، ومن هنا كثر ما يسميه العامة "سوء الحظ" وإنما هو سوء التوفيق.
أما حسن الحظ فما أحسب الناس يعرفون ما هو، ولا أراه إلا رغبة مجنونة لا يقرها إلا العقل السليم ولا يستقيم بها نظام الدنيا، وإنما عرف الناس في كل وجه من وجوه الحياة كيف تكون الخيبة، وكيف يمرض الأمل، وكيف يهلك الطمع، وسموا ذلك "سوء الحظ" فحسبوا أن لهذه الأحوال ضداً، وجعل كل واحد يتمنى لنفسه هذا الضد ويصفه ويسميه "حسن الحظ" لأنه زعم لا سوء فيه، كالذي يسمع بالموت فيحسب أنه يعرف ما هو الموت؟ والحقيقة أنه لا يعرف منه شيئاً وإنما عرف الحياة الهالكة! يأبى كل أحمق إلا أن يختط صلى الله عليه وسلم خطة يبني له عليها مستقبله، فكأنما يريد أن تمشي يد الله في التقدير على أجزاء الصورة التي في خياله
…
! ولو جمع الله أبنية الأماني من أوهام الناس ومثلها وكشف عنها الغطاء فأبصرناها لرأينا ثم (مدينة المستقبل) التي لا يملك أفخم قصورها إلا الصعاليك
…
أما أنا فلا أرى كلمة (الحظ) فيما نأمله وفيما نتعلل به إلا لحنا من الألحان الطبيعية التي خلقت في أفواهنا لنتغنى بها تحت الأحمال الثقيلة من مصائب الدنيا وأطماع النفس، كي تجم الطباع وتنشط للسير بأحمالها، فما الإنسان إلا دابة للحمل، وعليه أن يحمل من معاني المادة التي يعيش فيها أو يعيش بها، والزمن نفسه بحكمته وعلومه وحوادثه إنما يعلمنا كيف نحتمل الأسواء والهموم أكثر مما يعلمن كيف نتقيها.
قال "الشيخ علي: ولكن يا بني ما هذا الذي يرتفع بالخامل، ويتقدم بالعاجز، ويجعل النكرة معرفة والنكرة معرفة، ويضرب وجه الحق عن مستحاقه، ويفلج الضعيف وما يسمو به أمل، ويحرم المجد وما يشك في الظفر، ويخالف في سبيل الأقدار بين نصيب ونصيب، ويقطع في محاولة الأمور بين الأسباب والغايات ويبعد المنفعة مما به تمامه فإذا هي مضرة ومفسدة
…
؟ لعلك تقول، إن كل هذا يجتمع في كلمتين هما السعد والنحس، وهما تنطويان في لفظة واحدة هي الحظ، ألا فاعلم أن هذا من وضع القدر، وهي مذاهب لغوية تمر بين أنفسنا وبين أفهامنا، وقد جئتني بجمل تنطوي في كلمتين، وكلمتين تجتمعان في لفظة، وأنا آتيك بجمل في كلمات في صوت واحد، فما هي صرخة الألم مثلاً؟ أليست قطعة طويلة ن كلام النفس يجمعها الحس الثائر المتألم وينتفض فيها فلا تكون إلا صوتاً واحداً! وانظر أين هذا الصوت مما يشرحه لك الطبيب من أسباب ذلك الألم وعوارضه في كلام طويل وعبارة سابغة لا يتألم منها حرف، مع أن أحدهما إنما يفسر الآخر كما ترى! وأنا فلا بد أن أعلمك من أين خرجت هذه الأسماء، لقد خرجت من تاريخ النوع الإنساني كله، فإن هذا الحيوان العاقل كان يشعر بمعاني الأشياء قبل أن يضع ألفاظها، وكان السخط والغيظ والحسد والمنافسة ونحوها من غرائزه الطبيعية: إذ هي المعاني التي بثها الخالق في نفسه لتنشئ في الأرض تاريخ هذه النفس، فكان إذ تعادى رجلان أو فئتان فبغى بعضهما على بعض، أحس الغالب منهما أن قوى الطبيعة معه، وأيقن المغلوب أن قوى الطبيعة عليه، لأن الإنسان لم يكن عرف نفسه بعد، وكان هو وحده يمثل في هذه الطبيعة المخيفة الرائعة فكرة الخوف العاقلة! فهذه الثقة في القوى الطبيعية المجهولة من الإنسان، وهذا الشك فيها والخوف منها، هما الأصل في تاريخ لفظتي: السعد والنحس.
ولقد كانت الأمم القديمة كلها تتوسل إلى الغيب المجهول بوسائل غريبة من الطلاسم والتمائم والتعاويذ ونحوها من الأعمال والعادات المأثورة في تاريخ كل أمة، لأن ذلك المعنى بعينه قد ارتقى مع العقل واشتد مع الإنسان فخرج من مخافة الطبيعة إلى الرغبة في إخافتها، حتى تنزل على حكم الإنسان في اجتلاب الخير ودفع الشر، والزمن لا يأتي على الغرائز فيمحوها، ولكنه يحول منها شيئا ويهذب منها شيئا، ومن هنا كانت كلمة الحظ فاشية في المتمدنين لأنها أخر صورة مهذبة من تلك الغريزة الأولى! أما إن في حوادث القدر أشياء لا نفهم وجه الحكمة فيها، وهي الحظوظ والأقسام، فذلك صحيح في نفسه بمقدار ما هو خطأ في أنفسنا، والشذوذ فيما يقع من حوادث الدنيا وفيما نشهد من تصاريف القدر أمر معلوم، ولكن لماذا لا يكون قاعدة لأشياء نجهلها ما دمنا نجهل الغيب كله ولا نعرف منه شيئاً؟
ما رأينا قط في تركيب هذا الكون المعجز شيئا خارجا عن موضعه، ولا شيئا زائدا في موضعه، فلم نظن مثل ذلك في الجهة التي بنا من حكمة الله، جهة السعد والنحس؟ يا بني، إنما قربت النعمة من فلان لأن القدر يسوقها إليه، وإنما بعدت النعمة عن فلان لأن القدر يسوقها إلى غيره، وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه، فربما سعى الفرد بكل سبب فلم يفلح، ثم يقع له سبب لم يمتهد له وسيلة قط فإذا هو عند بغيته، وإذا هو قد ملأ يديه مما كان قد يئس منه، فلا يكون عجبه كيف خاب في الأولى بأشد من عجبه كيف نجح في الثانية! وهذا هو مظهر إرادة الله، فإن صادف من بعض النفوس الضعيفة حسدا أو غيظا أو سخطا أو منافسة أو نحو ذلك مما يكون مظهرا لضعف الإيمان في النفس، تحول المعنى إلى لفظ يحمل كل هذه العواطف الوحشية، فليس الكلمة التي تسلب الإنسان قوة نفسه وتكاد في إبهامها تسلب الأقدار قوة الحكمة أيضا وهي كلمة الحظ، ألا ترى أن أحدا من الناس لا يتعلل بهذه الكلمة ولا يحتج بها ولا يسكن إليها إلا من غيظ أو سخط أو حسد أو عجز أو ما هو بسبيل من هذه المعاني؟ قال "الشيخ علي": فلم يبق من معنى الحظ إلا أن يقال: ولم وفق فلان، ولم خذل الآخر وما هو بدونه، وربما كان أحق منه، وربما كانت المنفعة به أكثر والنعمة عليه أظهر؟ ولم كان ذلك سعيدا، وبأي شيء صار سعيدا؟ وهذا شقيا، وبأي شيء عاد شقيا؟ إلى نسق طويل من هذه المسائل التي لا تجيب عليها السماء ولا تكف عنها الأرض أبداً
…
ولكن، يا هذا لم تخفي أنت وحشيتك المهذبة وتكتم الغيظ والسخط والحسد، ثم تحتال على أن تخرج هذه المعاني الخشنة في ألفاظ لينة، وأن تعترض على القدر في أسلوب من التسليم والرضا، وتطرح بينك وبين الله لفظة إن لم يكن معناها مخاصمة القضاء فمحاسبته، وإلا فمعتبة عليه! وهل تعلم أنت ما هي شعوب الحوادث وفنونها، وما الذي سيفعله المجدود حين تقبل عليه الدنيا، والمحروم حين تدبر عليه النعمة، وماذا يكون مما يترتب على الحرمان أو ينشأ عن الحظ، وهل تدري لما أساء بعض الأغنياء حمل الغنى دون البعض، ولم أحسن بعض الفقراء حمل الفاقة دون البعض، ولم ابتليت طائفة بالتمني وابتليت غيرها بالضجر مما تتمناه الأولى، وحبب إلى تلك ما بغض إلى هذه، ولم انتزعت النعمة بعد أن استمكن حبلها، وأقبلت الأخرى بعد أن استيأس أهلها؟
…
أليس من كل هذا يتهيأ البقاء للحياة الإنسانية في نظام لا يخف على نوع الإنسان فيهمله ويفسد به، ولا يجور عليه فيستأصله فيذهب به؟ وهل الناس إلا خطوط في لوح الغيب يستقيم منها ويعوج ما يعوج لأن كل ذلك مما لا بد منه في جملة الوضع وأحكامه، فإذا أردت أن تسأل لماذا استقام هذا ولم أعوج ذاك، ثم ما قصر وطال، ثم ما دق وجل، ثم ما علا وسفل، ثم ما انفرد واختلط فسل: لم خلقت الدنيا ولم خلق الناس، وسل الخالق ولا تسل "الشيخ علي".
كل ذلك يا بني حكمة وكل ذلك انتخاب، وقد ظفر العلماء في حركات النظام بما سموه الانتخاب الطبيعي، وعرفوا أن ذلك سر من أسرار التقدم والارتقاء، فاعلم أن ما نحن فيه من معنى الحظ إنما هو انتخاب إلهي، وذلك سر من أسرار الحياة والبقاء، وما من حركة لي ولك ولكل إنسان إلا هي تمس قطعة من تاريخ الحياة وطائفة من الأحياء، فليس من حي هو لنفسه وحدها، وليس من حقيقة هي لنفس واحدة، وإن عرف الإنسان بعض الحقيقة من نفسه فأكثر الحقيقة لا يعرفه إلا من سواه، ومن أجل ذلك يقضي نظام الحياة بما نسميه الحظ وإن كنا لا نفهمه كما يقضي به نظام الحياة، وإنما قوة الحركة وضعفها على حسب ما يراد بها في الدفع والجذب، فكن واثقا بالله مؤمنا بالقدر خيره وشره، فالثقة وحدها حظ عظيم والله تعالى يصيب الناس بنياتهم، غذ هي حقائقهم الصريحة، وإذ هو وحده المطلع عليها، فهو يوفق السعداء للنية الحسنة ثم يسعدهم بهذه النية على الوجه الذي يعلم أنه من سعادتهم، فإن لم يكن لهم الحظ الذي يريدونه فلهم الحظ الذي يلائمهم، وربما كان زمام العافية بيد البلاء وكانت النعمة في عاقبة المصيبة، وكان الإنسان عابسا من طلعة القدر والقدر يضحك له!.
وإذا لم يكن للأقدار نواميس أرضية تجري عليها وتقع بحسبها فإن أقرب ما يصح أن يعد من نواميسها فينا أرى هو نيات الناس.