الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذن فلا بد في كل شيء إنساني من حقيقة باطنة في نفس الإنسان تعطيه بصحتها أو مرضها قوة اللذة أو الألم، وبهذا يقضي العدل الإلهي كل ذي حق بالنصفة والسوية، لا فرق بين الغني في غناه وبين الفقير في فقره، فلكل منهما لذة وألم، ولعلنا لو سألنا أغنى الناس عما هي لذة الغني لرأيناه في حقيقة التعاسة النفسية كأفقر الناس إذا أجابنا عما هو ألم الفقر.
وقد فطر أكثر الخلق- لطبيعة الخوف المتمكنة منهم- على أن يتسعوا في فه الآفات وحدها، حتى صار الوهم الخيالي أكبر الآفات الحقيقية، فالفقير الذي لا يفهم حقيقة الفقر يتألم بإدراك ووهم وفلسفة، إذ يقيس حاضره على ماضيه وعلى ماضي غيره من الفقراء، ويقيس مستقبله على حاضر الأغنياء ومن في حكمهم فقط، وبهذا ألمه عملاً عقلياً في شيء موهوم، فما دام يتمنى أكثر مما يستحق فهو يتألم بأكثر مما يستحق، ولو تأمل الناس لرأوا أن نصف الفقر فقر كاذب، فآه لو كان مع ضعف الفقر قوة الإرادة! إذن لوجد الحكماء في الأرض شيئاً حقيقياً يسمونه الغنى.
أيها الناس، إن الفصل بين الغنى والفقر من الأمور التي تتعلق بالضمير وحده، ورب غني يزيد أهله بالحرص والدناءة فقراً فانظروا فيها، فأفكار إلهية لا تطلب إلا الفضيلة التي يمكن أن تكون بلا ثمن، ولا يمكن أن يكون شيء ثمنا لها. انظروا إلى بعض الأغنياء الذين تموت في قلوبهم كل موعظة إنسانية أو إلهية فلا تثمر شيئاً حتى إذا ماتوا نبتت كلها من تراب قبورهم فأثمرت لنفوس المساكين والفقراء عزاء وسلوة وموعظة من زوال الدنيا، انظروا بعين الحقيقة التي تعطي هذه الطبيعة النظر فتعطيها محاسن الطبيعة الفكر.
انظروا في باطن الإنسان بالفضيلة التي هي من نور الله، وبالحقيقة التي هب من نور الطبيعة، فإنكم لا ترون حقيقة الغنى تبتعد عن حقيقة الفقر إلا بمقدار شبر واحد، وهو ملء هذه المعدة!
مسكينة! مسكينة
!
قال "الشيخ علي": واسمع الآن يا بني ما أقص عليك، فإني محدثك بخبر ليتني ما علمته، بل ليتني إذ علمته ما وعيته، وليتني إذ وعيته ما أثبته ولا نفذت فيه كما نفذ في.
ولكن الحياة كما تقضي علينا أن نسهد أموات الأحياء ونحملهم إلى أبواب الآخرة من تلك الحفر، تقضي علينا أن نشهد أحياء الأموات من أهل الرذائل ونحمل من أخبار ضمائرهم الميتة إلى أبواب السماء في أنفسنا!.
فواهاً لك أيتها الحياة الدنيا! تقتلين بالشر وتجرحين بأخباره ولا تؤتين عسل الحكمة إلا بعد لسع كثير..
وقد علمنا أن كل شيء يسير فإنما هو يذهب في طريق يتهدى أو يتعسف. وكأن الأسف على أهل الشر لم يجد له طريقا في هذه الحياة إلا من ضمائر لا أهل الخير، وبهذا يضرب الشر أهله وغير أهله.
كانت لنا يا بني في هذه القرية النضرة فتاة بائسة ضاق بها العريض من هذا البر فخرجت إلى بعض المدن تستطعم الحياة، فحدثتني أنه استضافت حتى كأنما كانت تنفذ إلى رزقها من شق في صخرة فسدت عليها، فلا وراء ولا أمام وأعجزها حتى المعاش الملفق.
وخرجت يوماً على الناس وكأنها لقذارتها قطعة ممن الحياة البالية مدرجة في بعض الأطمار، أو روح من الهواء تمشي ساكنة في أردية من الغبار، وما تحصي العين تلك البقع المنتشرة في ثيابها، كأنها أرقام للفقر يعد بها ليالي عذابها، وهي علم الله بقع، أشأم منها أنها في رقع، وقد اغبر شعرها الفاحم وتلبد، فكأنها بعض ما وقع على رأسها من حظها الأسود، ولاح من تحته كالدينار الزائف في صفرته ورده، وكالقمر الممحوق في استطالته تحت الظلام ومده..وهي فتاة عليلة قد أخذ السقام من حجمها كما أطفأت الأقدار من نجمها، وخفي من لمرض في صدرها، أكثر مما خفي بين الناس من قدرها. وما تعرف من أسماء الأموات والأحياء غير أسماء أهلها، ولا تملك من الأرض أكثر من غبار نعلها، وقد خرجت تتحامل فكلما خافتت في مشيها قليلاً خافت العثار، فاستندت إلى جدار، فإذا رأيت صورة البؤس ولكن في غير إطار.
وإنها تمشي وكأن ليس فيها دم ينتهي إلى قدميها فهي تجرهما جرا وتقتلعهما بين الخطوة والخطوة، وما تدري من الألم أهما على الأرض أم في الأرض تسوخان؟ وقد تزايلت أعضاؤها فما تحس أن فيه حياة متماسكة، وهي ما فتئت تحسب أن جسمها قد خلق نعشا لقلبها فلا هذا القلب يحيا كما تحيا القلوب ولا ذلك الجسم ينمو كما تنمو الأجسام!.
في رأسها عقل زاد الله ورحمته في جهة منه ونقص عنف الناس وقسوتهم من جهة أخرى، فبينا هي على ذلك تحمد الله، 'ذا هي مع ذلك تلعن الناس، وهي في مرة تنظر على الحياة فترى كل شيء في الحياة إلا نفسها، ومرة تنظر إلى الموت فلا ترى في الموت شيئا إلا نفسها، ولم يمسك روحها بين الاثنين إلا خيطان: أحدهما من السماء وهو الأمل في رحمة الله والآخر من الأرض وهو إشفاقها على جثتها التي كانت تكدح منذ الصغر لقوتها، تلك الجدة الفانية التي كبرت وبلغت من الكبر حتى حسبتها الفتاة قد كبرت سن الموت.
أما الآن فقد تبين لها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وانصدعت حفرة جدته المسكينة ولم يبق لها إلا رحمة الله.
قال "الشيخ علي": وكان خروج هذه البائسة أصيل يوم من أيام الصيف ذهبت فيه طاوية على الجوع كما تغدو الطيور من وكناتها وملء بطونه هواء، غير أن الطيور تهزأ بالناس جميعا، وهي على ضعفه أقوى من الشرائع والقوانين، إذ تنبعث وكأن كل طائر منه إرادة متجسمة تقذف بها السماء فما تبالي على أي أرض تقع ومن أي حب تلتقط، ولا تعرف إلا أنن هذا الإنسان يعمل على السخرة ليخرج لها من الأرض رزقها رغدا......
…
أما الفتاة فكل الناس يهزأ بها، وهي ترى كل إنسان على ملكه كأنه قانون وضع لعقابها إذا حدثتها النفس حديثا، فقد بلغت من الضعف والمرض والفاقة إلى حال لا تجعل يديها تصلحان لعمل غير الأخذ، فإن اختلست قيل سارقة فعوقبت، وإن سألت قيل لها متشردة فكذاك! ويا ليت في قلب هذا الإنسان من معاني الصفح بعض ما في لسانه من ألفاظ القصاص، ولكنه حيوان متكلم فتنصرف فطرته الحيوانية أكثر ما تنصرف إلى لسانه، كما تتمثل هذه الفطرة من سائر الحيوانات في حواسها التي تبطش بها، وكلا النوعين سواء في الافتراس والكلب والتوحش، فما اللسان إلا حاسة البطش العاقلة
…
وقلما يؤذي الإنسان قبل أن يؤذي بهذا اللسان.
ولم تر المسكينة أروح لنفسها المكدودة من الانتحار، وكأنما يخال لها أن في الموت عيشا، فخرجت تمشي بين الناس إلى قبرها كأنها فيهم جنازة وهم يشيعونها، ولئن كانت لم تسر بالحياة فلقد سرها أن ترى تشييع جنازتها وهي حية تموت، ولا أقول وهي حية ترزق، فإن العلة النازلة بها قد أخذت عليها مذاهب الرزق حتى لم تترك لها في الناس "وجهها"، وقبضت عنها الأيدي إلا تلك اليد الواحدة التي تأخذ دائما ولا تعطي أبدا....وهي يد الموت! وإنها لتنفتل وتلتوي على أحشائها من رجفة الجوع، وما تأخذ عينيها من الناس إلا من يحمل بطنه حملا من شبع وري، فكان نظرها إلى الناس أمض عليها من الفكر في نفسها، وكأنها تقتل من جهتين.
وكذلك أخذت سمتها إلى طريق النهر، وأمضت نيتها على الموت غرقا، لتموت نظيف، وتكون لنفسها غاسلة، وترسل روحها المتألمة إلى السماء في دموع السماء! ومشت تتساقط كأن الجوع والمرض يهدمان منها في كل عثرة ركنا، أو كأنه كتب على كل بائس أن يموت في طريقه إلى الموت، وهي تنتهض من كل عثرة إلى أشد منها كما تتخطى العنكبوت في نسجها من خيط واهن يكاد ينقطع إلى خيط أوهن منه، وقد اجتمعت روحها في عينيها فهي تسيل على نظراتها الشاردة، وكلما امتد بها المسير قصرت مسافة النظر حتى توهمت أن الموت بادئ من عينيها، وأنها كذل إذ لمحها طفل قروي قد انقلب من المدينة إلى الضاحية التي غادر فيها أمه العمياء، وكان يعتمل طوال يومه في بعض المصانع أو هو يحمل طعامها الذي لم ينله إلا ببيع نفسه يوما كاملا، على أن المسكين لا يحس من الذل أنه اشترى نفسه بمقدار ما يحس من العزة أنه ابتاع إداماً ورغيفين وقطعة من الحلوى.
قال الشيخ علي: وبصر هذا الطفل بالفتاة، وأدرك أن روحها تخطو في أنفاسها، وأن الجوع لا غيره وهو من أبنائه، طالما شد عليه حتى انطوى، ولان لغمزاته حتى التوى، وما يعرف أنه ابن أبيه وأمه، وأكثر مما يعرف أنه ابن فقره وهمه، فابتدر إلى المسكينة، وكانت حركة الحياة فيها أسرع من حركة أضراسها في طعامه، ثم ذهب لا يعرف ما صنع..لأنه طفل؟ أو لأنه فقير؟ لا أدري! غير أني أعرف أنه لا يسلم من لؤم النفس في صنعة المعروف وتطويل المن به وتعريض الحديث فيه إلا للأطفال وإلا للفقراء، أولئك لأنهم لا يستكثرون الخير، وهؤلاء لأن الخير منهم غير كثير.
وانطلق الطفل وهو يلوي رأسه ويفكر في أي خديه تقع عليه اللطمة الأولى من أمه، لأنها لا محال متوعرة به، ستحسبه أقترف إثما فطرد من عمله، وانقطعت به طريق أمله وإلى أن يأتي الله بالصبا الذي ينير برهانه، ويثبت لها إحسانه، يكون هذا الليل، قد صب عليه الويل، وهكذا جعل يشهد الله على ما سيلقاه في سبيل الخير، بدلا من أن يشهد الناس على ما لقي غيره منه في هذا السبيل من إحسانه وإيثاره، لأنه طفل؟ أو لأنه فقير؟ لا أدري! ولما أمسكت عليها النفس وراجعت الحياة بدا لها فيما اعتزمته من الانتحار، فترددت وجعلت تساورها الظنون، وخلق لها من معدتها عقل جديد يبصرها فرق ما بين الجوع والشبع، وكذلك تعرض لبعض الناس حالت من الحرص يعقلون فيها ببطونهم، حتى إن أحدهم لو تحسس رأسه وهو يفكر لحسبه بطنا صغيرا من العظم
…
فأنشأت الفتاة تستقيم على طريقها وهي تؤامر نفسها على الحياة والموت، وقد بدأت تهضم في معدتها الطعام والعزيمة جميعا، ومات الذي كان بينها وبين الموت! وبينا هي تسير نظرت في عرض الطريق سيدة لو لبس معنى الغنى لفظا ما لبس غير اسمها، ولو كان للكبرياء رسم ما رأيته غير رسمها، وقد أورثها الغنى ذلك الغرور بنفسها، حتى توهمت أنها في الأرض أخت شمسها، وبلغت في النعمة من الحق والبطر، بحيث جعلت نفسها كالسماء متى تعبس وجهها استهلت لعناتها كالمطر، وهي من أولئك اللواتي يخرج الغنى معهن في الطريق لا حارساً ولا منعماً ولكن للكيد والفتنة، فتنة المساكين وكيد الحاسدين، فخرجت في زينتها وكأنها حانوت جوهري
…
وهي نصف من النساء ولكنها تتصابى، فكأن في وسامتها وابتسامتها شباب عشر فتيات جميلات!..وقد ذهبت في أوضاع جسمها مذاهب هندسية بين المستدير والمستقيم والمنحني
…
حتى ظهرت كأن نصفها من الله ونصفها من الخياطة
…
وإذا رأيت جملتها رأيت روضة الجمال بألوانها وأزهارها، ولكن مصورة، فإذا انتهيت إلى وجهها رأيت للحسن هناك شهادة على الله ولكن
…
مزورة....، وعلى الجملة فقد جعلها حسنها المالي في رأي نفسها كالشرائع: لا جدال فيها إلا من زنديق
…
ورأتها الفتاة كما تنظر المرأة إلى المرأة بعين جامدة ليس فيها لغة ولا فلسفة ولا شعر، فقالت: يا لها من سعادة أن تكون هذه العجوز لا تتقدم في عمرها إلى الأمام ولكنها ترجع إلى الوراء، وأن تظهر بين الناس حسناء وإن كانت من القبح بحيث ذهب نصف نهارها في التحسن، وأن لا تجد من هموم الدنيا أكثر من هم الألفاظ إن قال الناس غير حسناء أو قالوا غيرها أحسن منها! ويا له من شقاء أن تكون هي كما هي وأكون أنا كما أنا! ثم رمت بعينها إلى السماء وانحرفت تواجه تلك السيدة، فما تبينها هذه وألمت بما في نفسها حتى انقبضت كأنما أثارت الأرض في وجهها دابة جامحة، وجعلت تتحاماها وتلوذ ههنا وههنا وتحتث قدميها كأنها لقاء خطر شديد، غير أن الفتاة ملئت عليها الطريق بحركاتها فكانت وجهها كيف أمت وانحرفت يمنة ويسرة وكأنما تطاردها مطاردة!.
فلما عيت السيدة بأمرها وغاظ الفقر نعمتها وهاج فضول الفتاة حنقها وكبرياءها، وقفت لها وقفة القضاء عابسة الوجه شامخة الأنف يكاد يستنفض الناس طرفها وتكاد تميز من الغيظ، وتدل هيئة وجهها على أن وراء شفتيها المرتجفتين كلمات أحد من أنياب الوحش! فلم تبال الفتاة وبقيت رئتاها واسعتين للهواء وبقيت رئتاها واسعتين للهواء ذ ليس بعد الفقر خوف، ولفت إليها باسطة اليد وهي تكاد تزلقها ببصرها، حتى إذا وقفت بإزائها خفضت رأسها وقالت: - سيدتي! أدام الله نعمته عليك وهناك هذه النعمة بدوامه! - هي دائمة، وما أنت والنعمة؟ - سيدتي! وقال الله ما أنا فيه من بأساة الحياة ولا كتب عليك أن تعرفي ما هي! - فلماذا أنت وأمثالك في الحياة إذا أيتها الحمقاء؟ وهل يكتب تاريخ البؤس إلا في صفحة من مثل هذا الوجه؟ - سيدتي! ألا مهلا مهلا وانظري إلي ينظر الله إليك! - قد نظر الله إليك من قبلي! - سيدتي! هبيني خادما أحسنت إليها! - فلتكوني خادمة طردتها إن بلغت أن تكوني خادما مثلنا! - يا ويلنا! ألا رحمة في قلبك فتجودي علي بما لا بأس عليك منه؟ - ولماذا أفضلك على سائر الفقراء؟ ينبغي لأن أجود عليهم جميعا إذا أنا جدت عليك، ولو فعلت لطلبت بعد ذلك من يجود علي!
- سيدتي! ألا فاجعليني من نصيبك في الإحسان وغيري من الفقراء له غيرك من الأغنياء، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره! - إذا فكوني أنت من نصيب غيري ودعي غيرك لي! - سيدتي! ليس فقري عن خطأ مني وليس غناك عن صواب منك، وما الرزق يا سيدتي من فضل الحيلة! - وهل أنا أريد أن أعاقبك فتنتفي من الأخطاء؟ - رحماك وأتقي الله في الإنسانية، فلعل في قصرك الباذخ كلبة جعلتها أحسن حالا مني! - حينما تصيرين مثلها فتعالي إلينا ويومئذ تعرفين كيف تطرد الكلاب!.
قال "الشيخ علي": فكبر ذلك على الفتاة وانتبهت في نفسها فضيلة الفقر وحكمته، فرأت أنها تنظر من ضمير تلك السيدة في مرآة مقلوبة من مرائي الإنسانية، مهما جهدت أن تستقيم لها لم تزدها إلا مسخاً، هنالك غلبتها عيناها وانطلقت وراء دموعها ولم تجد لها عزماً.
أما السيدة الكريمة- كما يقال - فابتلعت ما بقي في فمها من تلك الفلسفة، وافتر ثغرها قليلاً عن ابتسامة السخرية، وسرها أن يكون في لسانها كل هذا المنطق
…
ثم أنغضت رأسها بكبرياء وقالت: "مسكينة! مسكينة! " ومرت بعد ذلك لا تلوي وما يخطر لها إلا أنها نفضت نعلها
…
وسمع الله قولها إذ تجادل الفتاة وقد ربت في ثيابها من الغيظ وتنفشت كالإسفنج، فأطلق عليها دموع البائسة، وإن هذه لتأنس راحة في البكاء لم تعهدها من قبل، فانزوت إلى جانب من طريق وجعلت تبكي، ثم تبكي، ثم تبكي، حتى لو جمعت دموعها لغمرت منها، وقد جمعها الله وأرصدها من أقداره لتلك الإسفنجة وقضى ربك ألا تعصر بعد اليوم إلا دموعاً.
كانت للسيدة فتاة كطلعة البدر في الرابعة عشرة، لا تصفها إلا مرآتها، وهي الدنيا مجموعة في قصرها، وكأنها في النعمة مستقبل نفسها وماضي أمها، وكانت هذه السيدة عقيماً ولكن شذت معها الطبيعة لأمر أراده الله فولدت لها الفتاة وكأنما انشق لها القمر، ولم تذكرها في نفسها إذ كانت تحول تلك المسكينة بل ذكرت خادمتها وأنفت لهذه الذكرى. ومن شؤم الغنى على أهله أن لا يذكرهم في الشر إلا بأنفسهم، ولا ينسيهم في الخير إلا أنفسهم، فلا يعلمون أن الفقر أنواع كثيرة، وأن الغنى نفسه نوع من الفقر إلى الله، وبذلك ينظرون إلى المساكين تلك النظرة التي لا تخلو من بعض معاني القضاء والقدر. كأن الألوهية درجات جعلهم الغنى في واحدة منها، فما ظنكم أيها الأغنياء برب العالمين؟ وانكفأت السيدة إلى قصرها فإذا فتلتها تنتفض من وعكة الحمى، وهي في سريرها كقلب أمها في اضطرابه والتهابه، وما تعلم من أين اتصلت بها الحمى ولكن الله يعلم، ولئن كان البعوض مما يعد في أسباب هذا المرض فلقد كان كلامها للفتاة ينفر منها كما ينفر البعوض من مستنقع
…
فخرجت المرأة عن رشدها وضاقت عليها الأرض بما رحبت، ولقد تكون المصيبة جنونا وإن لم يكن من أسمائها الجنون! على أنها لم تر ملجأ من الله إلا إليه فابتدرت تدعوه! وضرب الذهول بينها وبين اللغة ومسحت من وعيها فلا تردد غير هذه الكلمات. يا رب! يا رب! ابنتي ماذا جنت؟ "مسكينة! مسكينة! "، "مسكينة! مسكينة! ".
وجاء الطبيب كأنما أطلق في قنبلة مدفع ضخم
…
فأسرعت إليه وهي تقول: ابنتي ابنتي أيها الطبيب "مسكينة! مسكينة! " ثم مرت أيام وبنتها مريضة وهي مريضة ببنتها، فكانت كلما نظرت إليها ملتهبة ذاوية تتخايل الموت فيها لم يجر الله على لسانها غير هذه الكلمات: آه يا ابنتي! "مسكينة! مسكينة!.
قال "الشيخ علي": وضرب الدهر من ضرباته وخرجت الفتاة البائسة ذات يوم وكانت قد أصابت عملاً فتردم جانب من حالها، وبينا هي تمشي مطمئنة رفع لها شبح أسود في عرض الطريق، فجعلت تدانيه حتى حاذته، فإذا هي بسيدة الأمس وقد حال لومها، واستحال كونها، وعادت من الهم كأنها ظل منصب في سواد، وظهرت من الحزن كأنها تمثال منصوب للحداد، وهي تلوح من الذلة والانكسار كأنما مات بعضها، وكأنما كانت حياتها من الأزهار فذهب ربيعها وروضها، وبقي جذرها وأرضها! فما تبينتها الفتاة ورأت ما نزل بها حتى نفرت دموعها حزناً، ثم رفعت عينيها إلى السماء وقالت: يا رباه! "مسكينة! مسكينة! "
…
كذا يضع الإنسان الكلمة لمعاني الله فيكذبه بمعانيها، ويا رب كلمة ملفوظة وفيها الله كلمة غير ملفوظة!.