الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كذلك ساحل الخلد: يريد من الإنسان الذي هو إنسان أن يبلغ إليه مجاهداً لا مستريحاً، عاملاً لا وداعاً يلهث تعباً لا ضحكاً، ويشرق بأنفاسه لا بكأسه، وينضح من عرق جهاده لا من عطر لذاته.
إن روح النعيم الأرضي في ذراعي الغريق الذي يجاهد لينجو، وروح النعيم الأزلي الحي يجاهد ليفوز!.
الفقر والفقير
قال "الشيخ علي": يا بني، إن في تاريخ الحياة سؤالاً لم تزل تلقيه أطماع الناس في كل عصر من عصورها وما إن تصيب له جواباً مقنعاً، لأن الطمع ليست له طبيعة محدودة، فهو يرمي بسؤال غير محدود ويريد بطبيعته جواباً غير محدود.
هذا السؤال واحد من ثلاثة هي حقائق الإنسانية الضالة عن الإنسان نفسه في غيب الله.
يقول الإنسان: ما هي الروح التي تعطي الحياة؟ وتقول آماله: ما هو الموت الذي يستلب هذه الحياة؟ وتقول أطماعه: وما هو الفقر الذي يجمع على الروح بين الموت والحياة؟ كذلك يتساءل: ما هو الفقر؟ على أنه غير الفقر ذلك السؤال الذي تجد في كل نفس إنسانية معنى من جوابه، ولا غير الفقر ذلك القبر المعنوي الذي لم يخلق الله نفساً من النفوس إلا ولها ميت من الأمل في ترابه، بلى، وإذا كان في لغات الأفواه لفظ خالد فإنما هو الفقر، وإذا كان في هواجس القلوب معنى خالد فإنما هو خوف الفقر، وإذا كان للدموع الإنسانية مصب واحد تلتقي إليه من جهات الأرض فإنما هو بين شاطئين إن جاز أن يكون أحدهما الحب فإن من المحق أن أحدهما الفقر! إن هذه الأرض لتصبح في كل يوم، ولا يمكن أن يقال بحق إن فيها عملاً إنسانياً عاماً غير طلب المال، فأحر بها أن تمسي في كل يوم، يمكن أن يقال إن فيها معنى إنسانياً عاماً غير راجع إلى الفقر.
ويقولون إنها تدور حول قرص الشمس، وهو قول فلكي أو سماوي يصح إطلاقه على الأرض كهيئتها يوم خلقها الله، أو على الأقل كما خلقها، أما الحقيقة الأرضية فإنها تدور حول قرصين: قرص اللهب، وقرص الذهب، ويا لله الفقير! إنه دائماً في الجهة المظلمة.
الفقر متى ألقيته سؤالً عاد إليك بجواب نفسه، لأنه فصل من كل عمل، كالشتاء فصل من كل سنة، وليس في الناس جميعاً من يصدق إذا ادعى أنه لا يعرف الفقر، غير اثنين لا خير فيهما: غني جن من فرط الغنى، وفقير جن من فرط الفقر، فالأول لا يعرف هذا الفقر في جنونه لأنه جن بغيره، والثاني لا يعرفه لأنه جن به.
ولكن من هو الفقير؟ من هو الكائن الضعيف الذي أحاط به الجهل حتى إنه ليجهل نفسه، وأينما يول وجهه أشاح عنه الناس بوجوههم فلووا رؤوسهم، وصعروا خدودهم وأمالوا أعناقهم، حتى كأن كل رأس في التواء عنقه من الأنفة والاستكبار يمثل علامة استفهام الحياة في وجه هذا المسكين أو يقيم علامة إنكار
…
؟! من هو هذا الحي الذي تنكرت له الدنيا حتى أصبح فيها كأنه نوع شاذ من الخلق يقوى على كل شيء حتى الطبيعة، ولكنه يضعف عن شيء واحد وهو الغني، فقضت عليه شرائع الاجتماع أن ينفق من حياته أضعاف ما يكسب لحياته، وإذا لم يجد ما يطعمه الجوع فأطعمه من جسمه فذلك عليه يسير، وإذ سال في الشمس وجمد في البرد فهو عند الأغنياء ذو طبيعتين لأنه ليس مثلهم ولأنه فقير
…
؟ ومن عسى أن يكون هذا القوي الذي يختصمه الاجتماع كله ويخشى أن يرتفع فيكون "قاضياً" عليه، ويأخذه اليوم بالجناية وهو الذي أوحاها بالأمس إليه؟ ومن هذا الذي يرى المجتمع أنه إذا قدر للشريعة أن تلحد في قبر فلن تدفن إلا في هاوية من مطامعه، وإذا حكم الله على عصر من عصور الجبابرة بالشنق فلا تكون المشنقة بجذعيها وحبالها إلا من ذراعيه وأصابعه
…
؟ من هو الذي يجف ريق الأرض لو جف عرقه من ترك العمل، ويخيب أمله مع ذلك في كل غني وهو نفسه للأغنياء أكبر أسباب الأمل، يدلون عليه بالغنى ولولا أن في فضتهم عنصراً من دمعه القيم لما وجدوا لها قيمة، ولو لم يكن في ذهبهم روح من دمه الكريم لما عد أفضل المعادن الكريمة؟ قال "الشيخ علي": ذلك يا بني هو المدرج في أكفان النسيان، الذي ليس له في الناس إلا "منكر ونكير"، ذلك هو البائس في بني الإنسان الذي يكثر عليه القليل ويقل منه الكثير، ذلك هو المتناقض في نفسه حتى لا يصغر أن يقال في صغير ولا يكبر أن يقال فيه كبير، ذلك هو الذي يشبه أن يكون عمله حركة فلكية في الأرض للآلة الغني- ذلك كله هو الفقير!
وبالله! ما تحمل الأرض إنساناً واحداً لا يخشى عادية الفقر ولا يتعوذ بالله منه، ولا يرى يومه في هذه الأرض كأنه الآخرة قبل الآخرة، يقوم الفقير حسابها وعذابها، ويستعيذ برحيمها، من جحيمها، ويفر من أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، ويضع في ميزانها المنصوب آماله، فلا يزن إلا أعماله، ويستصرخ كل من يمر به فلا يسمع إلا قائلاً يقول: نفسي نفسي
…
فينظر فإذ هو في الناس ضائع حتى لا يعرف له محل، ومنفردا حتى لا يجد بينهم لشخصه ظلا، وإذا هو بالسماء وقد التهبت بأقدارها حتى كأنها في عينه جمرة من البرق الخاطف، وإذا الأرض قد ثارت بأهلها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، فإن أقبل على الناس فروا من أماكنهم كأنه زلزال تمشي، وإن استصرخهم نفروا كأن في صوته فزع الرعد القاصف.
يا لله! ما تحمل الأرض إلا من يعرف هذا كله من الفقر بل أشد منه، ثم يبقى الفقير ويا لهف أرضي وسمائي عليه! كأنه مسألة في حساب الناس لا هم لهم فيها إلا كثرة الطرح والضرب ثم الغلط في النتيجة
…
وتنحاز طبائع الناس كلها في جهة والفقر وحده في جهة حتى لا يرى هذا المسكين في العالم على سعته غير اثنين: هو واستبداد الغني.
ترى أين تكون شرائع الآداب إذن؟ هل هي في ضمائرنا، أم هي في كتبها، أم هي في تاريخها الميت القديم، أم صار الحق كله إنسانيا بحتا: لي عليك ولك علي وليس لله علينا شيء، وفصلنا أنفسنا من السماء وقطعنا الروابط التي كانت تربطنا بها ونبذناها فرثت ثم رثت فإذا هي على أجسام الفقراء تلك الأسمال البالية؟ إن هذه الحقوق متى أصبحت إنسانية محضة ليس فيها لله شيئا، فكل درهم يوضع في يد الإنسان يجعل فيه عقلا يحكم على عقله، وكل رغيف يستقر في معدته يخلق فيها ضميرا يستبد بضميره، فينفصل الإنسان من الله ويبتعد عنه بمقدار ما يقرب من الغنى، وحسبه يومئذ في اعتبار بعيد جدا عن الله ورحمته أن يقال إن بينه وبين ربه مسافة ألف دينار ذلك بأن عدل الله يقضي أن يكون للفقير قسمه من الثروة، وإنما الجزء المهم من هذه الثروة هو الإحساس في ضمائر الأغنياء.
والأدلة على هذه القضية قضية الحقوق الإنسانية كثيرة تفوت الحرص لأن كل صاحب ربا قد جمع مال السحت من استئكال الناس إنما هو في نفسه دليل عليها، ولعمري إنه وليس أحد أخيب رجاء ولا أحق بأن يخيب، ممن يسأل المتهالك على الربا الذي يستنبت دراهمه بين الأحزاب والدموع إحسانا لوجه الله، فإن هذا الذي لا يعرف الله فيما يأخذ كيف يعرف الله فيما يعطي؟ قال "الشيخ علي": ولماذا نرى يا بني جفاة الأغنياء يخشون من الفقر على أنفسهم وأهليهم فقط ولا يخشون منه على الفقير؟ أظنهم يقولون إن في الأرض شيئين بمعنى واحد: قبور الأموات في بطنها، وأكواخ الفقراء على ظهرها، وليس من فرق بينهما في النسيان لأنه يشملهما جميعا، وإنما الفرق بينهما في حاليهما المتناقضتين، هذا قبر ميت وهذا قبر حي
…
نعم صدقوا أبروا وقالوا حقا، أليسوا جفاة القلوب غلاظ الأكباد؟ وإلا فما الفرق بين موت منسي كموت الغريب، وحياة منسية كحياة الفقير، إلا على الفرق الذي لا يبالي به هؤلاء الأغنياء حين يكون لأحدهم ظاهر حي وضمير ميت؟ وأحسب أولئك الطغاة يقولون، إننا نرى الفقير لا يملك من الأرض شيئا محدودا بل هو يملك أرض الله كلها بحدودها الأربعة.. ففقر فلان التاجر الغني مثلا ليس هو في الحقيقة أن لا يصيب القوت ولا يجد المأوى كغيره من الفقراء، وإنما هو المتاجرة في الآمال، بعد الأموال، وقبض الريح، واستقبال الأبواب والجدران، بعد استقبال الأصحاب والجيران، وهام من هذا الباب الذي يفتح من جهة الغنى على سائر الجهات الثلاث للحياة البائسة: وهي الفقر، والمذلة، والألم، وإنما هو رجل ككل رجال المال متى خرج المال من يد أحدهم خرج اسمه من أفواه الناس وحرج حبه من أفواه الناس وخرج حبه من قلوبهم، ويكون من أهل السعادة لو خرج هو أيضا من الدنيا
…
قتل الإنسان ما أكفره! لو أن غنيا فقد جبلا من الذهب وأصاب رغيفا يتبلغ به لكان ذلك أيسر في مذهب الإنسانية من أن يذهب البائس المعدم فيتكفف الأبواب ويستكف الناس ثم لا يتخلص منهم رغيفا يمسك به الرمق على نفسه ويقيم منه بابا حاجزا يمنع الجوع أن يدخل إليه الموت وأن يخرج منه الروح، ولكن مصيبة الإنسانية في أهلها أن الله لم يخلق إلا صنفا واحدا من الناس، على أن كل إنسان يظن أنه ذلك الصنف الواحد
…
فالغني إذا تصور الفقر وهو لا يزال في غناه، لا يتوهم إلا اختلال نظام الأقدار، واضطراب حركتي الليل والنهار، بعد أن يهوي كوكب سعده الذي يسك من كل ذرة في أشعته دينار
…
وهو لا يرى بهذا الفقر إلا نقمة هابطة من السماء ولعنة صاعدة من الأرض قد التقتا عند رأسه الشامخ في جو كبريائه فاصطدمتا به فإذا هو مكب لليدين وللفم عند أقدام الناس وإذا هو فقير! هذا هو الفقر في أوهامهم، ولكن لا تنسى أنه فقرهم فقط
…
فقر المال المترابط في مكانه أو الذاهب في حلوق الأرض وبين أضلاعها، أما سائر الناس فهم عند هؤلاء أهل باطل ودعوى، يزنون بكل ريبة، ويقرفون بكل تهمة، إذ ينتحلون الفقر ويدعونه ليعادوا نعمة الغني بالحسد، فالجوع فقر، والمرض فقر، والتعب فقر، والضجر فقر، واشتهاء ما ليس لهم فقرا، وقلة الأصحاب فقر، وحتى ولو أن أحدهم سخطته زوجه لنسب ذلك إلى الفقر، وبالجملة فكونهم ليسوا كالأغنياء هو الفقر.
فإذا كان الفقر كل شيء عند هؤلاء الحمقى فما هو الشيء الذي يسمى الفقر؟ من أجل ذلك يا بني ترى الأغنياء يخشون من الفقر على أنفسهم وهم أنفسهم لا يخشون منه على الفقير، لأن هذا الفقير برأيهم قد أصبح شخصا أخر لا صلة لهم به ولا عهد، فهو يكذب على الحوادث والحوادث تكذب عليه، وجزاء سيئة سيئة مثلها، فإذا انخدعوا له بمقدار ما يتعجبون من سخافته، وإذا أعطوه كان العطاء سخيفا بمقدار ما ينخدعون، ولا ينظرون لأثر الله عليه ولكن لأثره على نفسه، إذ الحقوق عندهم حقوق إنسانية، فهيهات يختلج في نفس أحدهم أن لو شاء الله لوضعه في ثياب هذا الفقير ولوضع الفقير في ثيابه.
أترد مثل هذا الغني الجلف المتسكع إلى الدين؟ إنه هو في نفسه دين وشريعة أيضا
…
أتبصره بالإنسانية؟ فمن هو إذا ويلك إن لم يكن من صميم هذه الإنسانية وعين أهلها بل إنسان هذه العين! أما الحق فاذكر بربك أمواله تعلم أن"الحق في يده"
…
هكذا يعطى المال أهله حتى فضائل غيرهم، ويسلب الفقر أهله حتى محاسن أنفسهم، وهكذا لا تجد المال أبدا إلا نعمة ناقصة، ولن تتم هذه النعمة إلا إذا رزق الإنسان مع الغنى أخلاقا تكفيه شر الغنى، ومن أجل هذا كان من الأمور الطبيعية أن تجد العقل في إنفاق المال أشد ارتباكا منه في جمع المال.
قال "الشيخ علي": ولابد من صلة معنوية بين جميع الناس على ما يكون بين الإنسان والإنسان من التباين والاختلاف في كل شيء، حتى بين الأخوين تلدهما الأم الواحدة، وهما مهما اتفقا في الحياة ومظاهرها فإنهما لا بد مفترقان افتراق الثديين اللذين ارتضعا منهما الحياة، فما عسى أن تكون هذه الصلة العامة بين الناس؟ تقول الشرائع أن الصلة التي تجمع بين الناس بعضهم ببعض هي العدل! وتقول العلوم إنها العقل، وتقول الآداب أنها شيء من العدل والعقل يكون الإنسانية في الضمير، وتقول الحياة أنها سبب الإنسانية وهو الرحمة، ثم يرعد صوت إلهي يقصف من جهة السماء التي هي مصدر العقل والعدل والإنسانية والرحمة فيصيح بكل ما في هذه الأشياء من القوة ويقول: كلا! بل هو سبب الرحمة ومظهر الإنسانية، وكمال العقل، وفضيلة العدل، وهو الفقر!
من الذي ولد وفي يده قطعة من الذهب؟ ومن الذي مات وفي يده "تحويل" على الآخرة؟ لقد وسعت الخرافات كل شيء إلا هذا، فما لنا نتخذ في البدء والنهاية ثم نختلف في الوسط؟ ذلك لأن بدءنا من طريق الله ونهايتنا في طريق الله، ولكن الوسط مدرجة بيوتنا ومصانعنا وحوانيتنا، وبكلمة واحدة هو طريق بعضنا إلى بعض....وحينما التقى الإنسان بالإنسان فإما أن تلتقي المنفعة بالمنفعة وإلا المنفعة بالمضرة، فلا بد من انتفاع أحدهما أو كليهما، ومن ثم يقول البخلاء: ما الذي ننتفع به من رحمة الفقير؟ وماله يريد أن يتحيفنا كأنه روح الجدب، وأن يتعر قنا كأنه روح المرض؟ وماله يريدنا على أن نسيء من أجله المس في أموالنا كأنه روح الإفلاس؟ أو لا يكفيه أننا لا نرزؤه شيئا، وأننا نفضل عليه فتعتد الدرهم الذي نمسكه عنه كأنه درهم أخذناه منه، وبذلك لا يضرنا ولا ننفعه بشيء، ومن الجهة الأخرى لهذا القياس يكون قد نفعنا ونفعناه بلا شيء....؟ قاتل الله البخل وقبحه، فما هو إلا حرص على المنفعة يشبه عبادة الوثنيين لكل ما توهموا فيه المنفعة، وإن كان للحواس نوع من الكفر بالله فكفر اليد في إمساكها، وإن الله لرحيم إذ لم يعاقب البخلاء بما يعاقبون به الناس، فليس بين كل بخيل وبين الهلاك إلا أن ينقل الله "الإمساك" من يده إلى جوفه!..على أن البخل إذا لم يكن بقية من الوثنية القديمة بعينها فهو على كل حال نقص من الإيمان، لأن الله وعد المحسنين والمتصدقين ثواب ما أنفقوا مكفأة على فضيلة الإحسان، ثم أن يخلف عليهم ما أنفقوه أضعافا مضاعفة، إذ المحسن لا يجود بدراهمه على الله ولكنه يقرضه إياها قرضا حسنا متى وضعها في يد الإنسانية الفقيرة، فمن أمسك عن الإحسان بخلا فإنما يشك في وعد الله، وإلا ففي قدرة الله، وإلا ففي الله نفسه، فأكبر البخل عند أكبر الكفر وأصغره عند أصغره، ويوم يخرج الإيمان من قلوب الأغنياء تخرج أرواح الفقراء من أجسامهم فيموتون بالجوع والعري وبالمرض وغيرها من أسباب الموت، وكلها مظاهر متعددة لسبب واحد هو في الحقيقة كفر الأغنياء كفرا في الضمير لا كفراً في اللسان.
ومن هنا يا بني لا تجد الفقير في أي من العصور إلا جهة من الخلل في نظام الاجتماع الإنساني، كما أن البخل جهة من الخلل في نظام النفس الإنسانية، والفراغ الذي يجده الفقير في بيته إنما هو موضع النعمة الضرورية التي بخل بها الغني، وهو في الحقيقة موضع التفكك أو الكسر في الآلة التي تديرها شريعة الاجتماع.
الإنسان إنما خلق اجتماعياً، وهو بشخصه لا قيمة له ولا منفعة إلا حيث يكون شخصه جزءاً من مجموع، لأن اليد الواحدة في الجسم ولو كانت يد ملك وكان فيها زمام العالم، فإنها لا يفارقها عيب أختها المقطوعة.
وكل خلل في النظام الاجتماعي فإنما مرده إلى طغيان بعض الأفراد وجنوحهم إلى أن تكون شخصية الواحدة منهم من الكبر والعظمة بحيث توازن المجموع كله أو أكثر المجموع، إن هذه الموازنة الفردية متى اتفقت كانت إخلالا بالموازنة الاجتماعية، لأنها تجعل كل حركة من هذا الفرد زلزلة في المجموع، كالثقل في إحدى كفتي الميزان، إن خفت سقطت الكفة الأخرى وإن ثقل شالت، وهو السقوط إلى فوق!
…
والموازنة الاجتماعية لا تتهيأ إلا إذا تطبعت قوى المجموع فاندفقت في تيار واحد إلى جهة معينة، ولكن الموازنة الفردية لا تستقيم إلا إذا جاءت من عكس هذه الجهة، فتصد قوة المجموع وتبقى دائما ذات قوة على صدها من الغلبة، فإن ضعف خصمه يعطيه منها أكثر مما تعطيه قوة نفيه، ولا يكون ضعف المجموع إلا من حصر الشخص العظيم قوة عقله ونفسه وضميره في هذا السبيل الفردي، لتكون منه الشخصية الهائلة التي تشبه ما كان في تاريخ الوثنية من شخصيات الآلهة وأنصاف الآلهة.
وقد أضطر الناس لذلك من عهد اجتماعهم في نظام أو شريعة إلى ابتداع الوسائل للتوفيق بين قوة الفرد وقوة المجتمع، حتى لا يستشري الداء في الموازنة الاجتماعية فيفسدها ويوقع الخلل في نظامها، ولكيلا تكون خيرات المجموع كلها في معدة واحدة، وحتى لا يبقى الناس أرقاما يعدهم الغني المستبد كما يعد دراهمه لأنهم ثروته الحية!
غير أن هذه الوسائل على اختلافها لم تكن ولم تزل إلى عهدنا عهد الاشتراكية العلمية إلا ثورات هي مهما كانت فإنها أشبه شيء بجموح الحيوان إذ يحمي أنفه فيجمح ثم يسترسل في جماحه ثم يشتد حتى يعتز صاحبه على رأسه ويملك نفسه منه، ثم ماذا؟ ثم يسكن مكرها بعد أن جمح راضيا، فإن لم يسكنه الألم من صاحبه أسكنه التعب من نفيه، لا يكون بالتخلص من إنسان بعينه.
ومن هذا يا بني ترى أن الإنسان لا يعيش فردا ولكنه حين يموت يموت فرداً، فإذا رأيت فقيراً منبوذاً من الاجتماع منفرداً عنه، لا يساهمه في علمه وعيشه، بل كأنه يعيش في بقعة مجهولة من الحياة، فاعلم أن إهمال ذلك الفقير إنما هو نوع من القتل الاجتماعي.
ههنا قاتل ومقتول: لم يأخذ القاتل بحق من الحقوق ولا ثأر لنفسه ولا قتل بيده، أما المقتول فإنه لم يقتل في إثم اجترحه ولا هو جنى على نفسه الضعف الذي أرهقه وبلغ منه حتى جعل إهمال القوي إياه كأنه حكم عليه بالقتل، فترى على من تكون هذه التبعة، وهي بالتحقيق ليست على القوي لقوته ولا على الضعيف لضعفه؟ هناك اثنان: رجل في الماء وآخر على الشاطئ، فأما الذي في الماء فليس بينه وبين الموت غرقا إلا نفس واحد مبتل ينسل بالماء من حلقه إلى رئتيه وهو يرى بعينه الموت دائبا في حفر قبره المائي، فليس الموج الذي يتكفأ به ويتناثر من حوليه إلا ما تثيره يد جبار الموت من غبار ذلك القبر وتحثوه في وجهه بنزق وغضب، بعيد عن الأحياء حتى بعد عن أن يكون له قبر بينهم ولا صلة بينه وبين الحياة الأرضية إلا نظرات ذلك الرجل القوي الذي يتراءى في عين الغريق كأنه صخرة راسية على الشاطئ لها قوة وليس لها إرادة، ولكن هذا الذي يشعر بصلابة الأرض تحت قدميه ويحس القوة من يده وعضلاته، يشعر أيضا من بمعنى من الصلابة في قلبه وقد جاء إلى الشاطئ ليتنفس من تلك النسمات التي يتنهد بها صدر السماء فتكون أرواحا للأمواج تبعث فيها حركة الحياة. ما له ولهذا المنظر؟ سواد يطفو على الماء كأنه هنة من المتاع الخلق أو حذاء قديم أو ريش تحسر عن طائره، أو رأس رجل يغرق، وما دفعه بيده إلى الماء فيكون حقا عليه أن يستنقذه، ولا كان الغوص من صناعته فيعتمل في إخراجه ليخرج معه أجر عمله، وهو قوي ولكنه قوي لنفسه لا للضعفاء، وقد جاء ليروح عن نفسه، وإنقاذ الغريق عمل آخر، وربما أنشبه في حلق الموت
…
أخذ فيما جاء له وما زال يموج في جلده ويتنفس ملء صدره من الهواء ومن زفرات الإنسانية التي تنشق لها غيظا، ومن لعنات ذلك الغريق الذي بدأت حياته تذوب كما ينماث في الماء حتى آن له أن ينصرف وترك الرجل يغرق وهو يقول: لا بأس أن ينقص عدد أهل الأرض واحدا فهم كثير!....
ترى على من تكون هذه التبعة أيضا؟ إذا أردتم أن تعرفوا ذلك فإنكم تستطيعون أن تحققوه بدون أن تكونوا شرطة أو قضاة أو أهل قانون أو رجال فلسفة، ولكن بأن تكونوا من ذوي الإنسانية فقط، فإن الإنسانية لا ترى في الأرض إلا الضمائر، وما هذه الأجسام إلا أدوات صناعية ركبت هذا التركيب لتصلح لحياة الضمير، فالرجل قد مضى بريء اليد، بريء القوة، بريء العقل، إذ هو لم يقتل، ولم يجن على القتيل، ولم يحتل لقتله، ولكن الإنسانية حين تنادي الضمائر بأوصافها فتقول: أيها الطيب، وأيها الكريم، وأيها الشقي السافل، تصيح بضمير هذا الرجل قائلة: أيها القاتل!
…
إذا لم يقر الأغنياء لأنفسهم بالضمائر ولم يلحقوا بها التبعات التي تناسبها فهل هم في ذلك إلا كالمجانين لا تقر لهم الشرائع بالعقول وتخيلهم من تبعة ما يجنون على العقلاء لأنهم مجانين؟....وكيف ترى ذلك الغني الفظ الذي يهر في وجوه الفقراء ويزمجر عليهم كأنه ينبحهم بلغة من لغة الكلاب
…
ولا يفتأ يقذفهم بالألفاظ الجاسية المؤلمة كما يقذف المجنون بالحجارة
…
وإذا أعطاهم فإنما يعطيهم بقضية فارغة
…
وهو لا يوقر أبدا إلا من فوقه، كأنه لا يرى في الدنيا كلها أسفل من نفسه
…
ولا يبالي إلا بمن يطمع فيه كأنه جالس في (مكتب أحد المخدمين) ..وقد تساوي في الدناءة والكلف بالدنيا وقذارة الطباع ظاهره وباطنه كأن ضميره لبسه مقلوبا
…
وصار أمر رضاه وغضبه وإحساسه وحيائه موقوفا على ما يكون من أمر المعاملات، كأن أخلاقه ليست في نفسه ولكنها في أيدي الناس، فليس مثل الغني الدنيء رجلا عاقلا؟
بلى، وإنه لأعقل من كل من يمدحه ويزكيه ولو كان هذا المثنى عليه أكبر علماء الاقتصاد، ولكنه على ذلك مجنون الضمير بحيث لا يعقل إلا بحواسه! ولو أنصفت القوانين لما لبست مثل هذه الحرية الإنسانية على رذيلتها، ولجعلت من نصوفها القاطعة ما يكفح مثل هذا الغني ويتلقاه بلجامه، لأنه في الحقيقة ليس رجلا ولكنه دابة اجتماعية! قال "الشيخ علي": ومن بديع حكمة الله أنه وضع للإنسانية أصلاً من أصول نظامها في ضمير الإنسان فترك له أن يقترف ما شاء من الإثم والمنكر ولكنه جعله من الإحساس بطبيعة الخير والشر بحيث يكون له من الذنب نفسه العقاب على الذنب، حتى إن شر المجرمين ليستعين على مقارفة جرمه بإقناع الضمير بدياً وأخذه بالحجة من هواه، فيخطر في نفسه ما ينزو بها، كالشجاعة والنخوة، أو ما يتوهج بروح الغضب في دمه، كالانتقام ونحوه، وما يطمئن له الضمير في معنى الجناية، كمدافعة الضرر وما إليه! وبالجملة فإن أول ظلمه عدلاً أو شبيهاً بالعدل، حتى لا يلتوي عليه أمر نفسه إذا خذله ضميره، فإن اضطراب هذا الضمير يتصل اتصال الكهرباء بأيدي المجرمين فإذا هو فيها شلل، وبأرجلهم فإذا هو زلل، وبنظامهم العصبي فإذا هو خلل، وبعقولهم فإذا هو المس والخبل، وإذا لم يفلح الجاني في إقناع ضميره أو التلبيس عليه تخلص منه ففصل بينه وبين العقل بالسكر وما هو حكمه حتى لا يشهد من أمره شيئاً.
أفلا تجد في تخدير أكثر المجرمين لضمائرهم ساعة الجناية دليلاً على أن الضمير الذي يشهد الذنب إنما يتلقى العقاب عليه؟ ولماذا تدفع الجريمة على الجريمة غالباً؟ أليس ذلك لأنها إنما تقتضي عقابها الطبيعي؟ ثم ماذا يكون بعد أن يضرب الشقي تلك الحاسة الروحية التي نسميها الضمير ويرميها بالشلل- إنه ينحط درجة واحدة، ولكنها درجة الضمير التي لو جازها الحيوان لصار إنساناً، ولو نزل عنها الإنسان لعاد حيواناً، فلا يبقى فيه من ثم إلا الفطرة الحيوانية التي تجعل عقل الحيوان مرة في القوة ومرة في الضعف، فإن أحس القوة على خصمه كان العقل في الظلم بكل ضروبه وأشكاله، وأبى هذا العقل الحيواني أن يترخص في شيء هو من حقه بالقوة، وإن أحس من نفسه العجز والضعف ورأى أن لا قبل له بخصمه فكفى باتقاء الظلم عقلاً
…
يا بني! إن أفقر الفقراء ليس هو الذي لا يجد غذاء بطنه، ولكنه الذي لا يستطيع أن يجد غذاء شعوره، فلا تحسبن أن مع جنون الضمير وجفوته ومرضه سعادة وراحة، لأن لذة المال لا تتجاوز الحواس الظاهرة فهو يبتاع لها كل شيء مما تشتهي ولكنه لا يستطيع أن ينيل القلب شيئاً إلا إذا جاءه بالخير والفضيلة.
والغني الذي يمنع الفقراء ماله قد يزيد فيه ولو حكماً بمقدار ما يمنع.. بضعة دراهم، أو بضعة دنانير، ولكنه يزيد ضميره جفاءً بالقسوة والغلظة ونسيان الفضيلة، ولا يزال على ذلك حتى يمر به يوم يفقد فيه ضميره كل شعور بالخير فيفقد معه كل شعور بلذة النفس التي أقرب المعاني إلى مغنى السعادة
…
... ويومئذ لو اشترى كل لذات الدنيا بماله ما زادته إلا ألماً من الضجر وضجراً من الألم، لأنه فقد قوة من ضميره تقابل القوة التي يفقدها المريض من معدته.
فلينظر الفقير الجائع وقد أخذه كلب الجوع وسطع في عينه وهجه ودارت به معدته ذات اليمين وذات الشمال- إلى رجل غني ممعود في كفه معنى الحياة وفي جوفه معنى الموت، وقد ابتاع مما تشتهيه معدة خياله التي لا تشبع لأنها لا تنال شيئاً، وأسرف بالمال في حتى استجمع الكثير الطيب، ثم انقلب إلى داره بعين من ذلك الذئب تكاد أشعتها تنضج الغذاء من حر نظراتها إليه.
…
سلوا صاحبنا الفقير يقل لكم أي لذة يا قوم تكون في غير هذا الطعام يقتل به داء البطن وتنفتق عليه الخواصر شبعاً وسمنة. وهل هذه إلا روح مائدة من موائد الجنة، فيها ما تشتهي الأنفس وتقر الأعين؟ ثم سلوا الممعود المسكين يقل لكم وهو صادق صدقاً يتمنى بما ملكت يداه من الدنيا لو أنه كذب، يقل لكم: تالله ما أجد في هذا كله ولا في بضعه من لذة ولا سعادة، ولو أبحته جوفي لكان الموت بعينه!