المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وما النية غلا خلاصة الفكر والضمير ونتاج ما بينهما، فلا - المساكين

[مصطفى صادق الرافعي]

الفصل: وما النية غلا خلاصة الفكر والضمير ونتاج ما بينهما، فلا

وما النية غلا خلاصة الفكر والضمير ونتاج ما بينهما، فلا تنطو على ما يسوؤك أن تنمك به ألسنة الغيب وإنما الحوادث من هذه الألسنة ولا تعقد هوى ضميرك على ما تحسبه أملا من حيث لا يكون إلا حسدا للناس ولا يعقب غلا نكدا لنفسك، وما تظنه عزما منك وهو طمع في الله ومخادعة القدر.

وحسبك من المتاجرة مع السماء بضاعة صالحة من الإيمان الذي لا غش فيه، ومن المتاجرة مع الأرض بضاعة طيبة من النية التي لا دنس فيها، فإن ربحك من هذه البضاعة التي لا تكسد في أسواق السماء والأرض، أن يلقي اله عليك محبة منه وتأييدا وسكينة، وإن رأى الناس أنك خسرت شيء من الغنى أو الجاه أو متاع الدنيا، فإنما تعلم أنت يقينا أنك لم تخسر غلا الهم والشقاء والتعب بالدنيا وأهلها.

ويومئذ يكون لك من حسن الإيمان، وحسن النية، وحسن الأخلاق، ما نعرف منه كيف يكون حسن الحظ.

‌الحرب

رقعة من الأرض كأن فيها شيئاً من الطينة التي خلق منها الإنسان، فهي تمطر من دمائه، وكأنما عرفته في سماء الله فلا يكاد ينزل بها الجيشان حتى تعد أرواح أكثرهم إلى سمائه، ينجذب إليها الجندي لأن فيها ترابه بل لأن فيه من ترابها، وينطرح عليها لأن اقتراب منيته في اقترابها، ولا تزال تصرعه وكأنها من شوقها تضمه، وتلقيه على صدرها ميتاً أو جريحاً كأنها تعلمه بذلك أن الأرض أمه، وهي مزرعة الموت، نباتها الرؤوس فمنها قائم وحصيد، وثمراتها النفوس فمنها داني القطاف ومنها بعيد وقد رواها بالدم الحي فنبت فيها العظم وأثمر فيها الحديد!.

بل هي ساحة الحرب ترفع عليها القوة راية وتنزل راية ويحشر إلى مسرحها الناس ليمثل لهم الموت كل يوم رواية وقد اضطربت فيها الآجال فكأنها أمواج في بحر القدر زاخرة، وتناثر فيها الرجال، فكأنهم عظام في بعض المقابر ناخرة، وظهرت تلك الساحة وقد كشرت عن أنياب من السيوف وأسنان من الأسنة كأنه لأهل الدنيا قم الآخرة! أما الجنود فإذا رأيته يلتحمون قلت: زلازل الأرض قد خلقت على ظهرها، وإذا شهدتهم يقتحموا خلت نفوس الكرام قد حملت على دهرها وقد أيقنوا أنها إن لم يكونوا للموت كانوا للأسر، ومن لم يبن منهم على الفتح بني على الكسر، وما منهم إلا من يحمل رأساً كأنه لا يملكها، على عمق لا يدري كيف يمسكه، في بدن لا يعرف أيأخذه الموت أم يتركه، فهو لا يبالي أظلته الشمس أم أظلم عليه الرمس، ونهض للتاريخ مع الغد أم ذهب في التاريخ مع الأمس.

وإذا كان من صفة الميت أنه اسم في الحياة بغير جسم، فمن صفة هذا الحي أنه جسم يعيش بغير اسم، وما الجندي إلا عدد في حساب الحرب، فسيان قطعه الطرح أم أخذه الضرب وإنما هو حيث يتهيأ له انتظار الأقدار، فليس إلا الصبر ولو في بطن القبر، وحيث يطبخ له النصر على النار فثم المكان، ولو في جوف البركان، وآية عقله أن يكون كالآلة المتقنة تعمل بلا عقل فلا يخشى الحي، ولا يسأل لماذا ولا كيف، ومن ذكاءه أن يكون من صحة الذهن بحيث لا يفرق في الموت بين الجمر والتمر، وأن يكون من خفة الروح بحيث تحمله اللفظة الخفيفة على جناح الأمر.

وما الحرب إلا أن يتنازع الناس على الحياة فيقيموا الموت قاضياً ويطلبوا من الشريعة المدونة في صفائح السيوف حكما على الحياة ماضية، فكلا الفريقين يقدم الحجج، من المهج، ويتكلم بألسنة الروح من أفواه الجروح، ويأتي من بلاغة الموت في خصامه من كل ضرب ويجري الحياة مجرى الاستعارة في بيان الحرب.

وقد تواقف الرجال في يوم أطول من يوم العرض، وتقاذفوا بالآجال حتى أوشكت السماء لكثرة ما ينظر منها أن تقع على الأرض فالخيل منقضة كأنها صواعق أرسلها الموت في أعنة، أم نوازع من السحاب بروقها الصوارم والأسنة، مسرعة كأنها تسابق تلك المنايا التي جرت بها الأقدار، جائلة كأنما تحيرت كيف تفر من ساحة الموت بما حملت من الأعمار، وعلى ظهورها كل فارس كأنه بين الرماح أسد في غاب وكأن الموت من سيفه سم خلق في ناب، وكأن العنان في يده سوط لكنه سوط عذاب، لم يعد في الفرسان حتى لم يعد من الإنسان فإذا صاح بقرنه عرفت الوحوش ذلك الصوت، وإذا هاجته الحرب لم يفته من ضروب النقمة فوت، وإذا نظر في مقتل عدوه حسبت عينيه نقطتين على تاء الموت.

ص: 53

وقد ثار الغبار كأنه طريق يمد من الأرض إلى السماء، أو كأنما أراد أن يمثل السحاب وقد رأى المطر تمثله الدماء، أو كأنه أرض ثامنة بدأت تتخلق مبعثرة في الفضاء، أو كأنه لما رأى الحرب تتوقد هب مستجيراً بالهواء من الرمضاء، أو هو قد فر من الأرض لما خشي أن تنفلق الأرض من حوافر الخيل، أو كأنه ألف أن يأتي الناس أعمال اللصوص في نور الشمس فضرب عليهم قبة من الليل، أو حسب عقول الجند في أيديهم وأرجلهم فطار ينظر أين تلك الهام، أو هو لما رأى المطر أحمر خشي على الأرض فثار على السماء ينظر ماذا دهى الغمام.

وقد رمت الأرض تلك المدافع بزلزالها، وألقت على الجنود صوراً من شر أفعالها، فتركتهم كالغابة الملتفة إذ استطار بها الحريق، وانحط فريق من أشجارها على فريق، وكأنما انقض عليهم من قنابلها جدار من جحيم، وكأن كل مدفع في صيحة الحرب إنما هو عنق شيطان رجيم.

تحمل في بطونه أجنة من النار ترتعد الحصون لهول ميلادها، وتتحنى القلاع مخافة منها على أولادها، ولها صوت بعيد كأنما تنادي به السماء لترسل المنايا الطارقة، أو لتستقبل الأرواح المفارقة، أو كأنه نشيد فخم تفتخر به الأرض على الرعد والصاعقة.

وهي القارعة وما أدراك ما القارعة، أما يومها فيوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش، وهو إن لم يكن يوم النفخ في الصور فإنه يوم تحصيل ما في الصدور، وإن لم يكن يوم يبعثر من في القبور فإنه يوم يبعثر الناس في القبور.

وهو المدفع حسبه قوة أنه من الحديد، وحسب ما يحويه قول الله عز وجل "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد في بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز" وحسبه رعباً أنه شكل (عصري) من عذاب الخسف القديم أعده الله لهذا الإنسان الجديد

، فكم من حصن منيع اعتز به أهله، فتركم فيها تراباً وعظاماً، وكم من قلعة شامخة اعتز الجند بقواها، "فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها".

وأما الرصاص فهم من سماء الموت حب غمامه، وله صفير كأنه ترنم الشيطان ببعض أنغامه، ولو أن عاصفة كنست أرض الجحيم لما شوت الوجوه بأشد من ناره، ولا حملت من هنالك إلا ما تحسب هذا الرصاص من حصاه وغباره، يثور كما تثور الأعاصير، ويندفع كما تندفع المقادير، ويقع على الأجسام بالأجل أو يطير، ويتناثر كأن في السماء نجم تفتت فسقط، أو كأن قطعة ذابت من الشمس فألقت على وجوه الناس هذا النقط، أو هو فوج من ذباب النار، وهبط إلى هذه الدار، فلا هم له إلا الجلود وإنضاجها بلذعة، والعيون وإخراجها بنزعة، والعروق واستخلاصها، والدماء وامتصاصها، والأرواح بعد ذلك واقتناصها.

وكأنه زفرات غير أنه لا تخرج من الصدر بل تنزل فيه، ولولا أنها تشويه ولا تشفيه. وهو أوقع في الرؤوس من الأوهام وأنفذ في الأغراض من مكايد الأفهام، وأحر على الأكباد من كل ما يضرم غضب الجبار المغيظ، وما هو إلا العذاب الرفيع إن كان المدفع هو العذاب الغليظ

وهناك من الروع ما لا يحصيه الوصف ولا يحصله، وإن عرفت آلة التصور كيف تجمله فليس يعرف القلم كيف يفصله، ولعمري لو كان البحر الأسود في المحبرة، لما بلغ في وصف هذه المقبرة، غير أنها في الحرب التي ابتدعها العلم لهلاك الإنسان، والقوة التي رزقها العقل فكانت بلاء على الأبدان.

قوة المعجزات التي أركبت هذه الديانة الإنسانية على متن الغمام، وطوت لها السماء بين جناحي النور والظلام، فإذا سمت الطيارة خفض لها السحاب جناح الذل، وأقبلت الملائكة تسأل ربها ما هذا الجزء من العالم بل ما هذا الكل، وما هذه الجرادة التي رأسها في ظهرها، وسرها في جهرها. بل ما هذه الحياة الأرضية التي عرجت في السماء فخرجت من حدود دهرها، وما هذا العقل الإنساني الذي لا يوزع جاشه والذي يرفعه إلى السماء ارتعاشه وهو مع ذلك يندفع على أهله بالويل اندفاع السيل، ويطلع نصفه كالنور على الأرض ليطلع نصفه الآخر كالليل؟

ص: 54

وهي الحرب العامة كأنها ثورة الدهر وقد ضجر من هذا العلم وطغيانه، ومل من سماجة إنسانه، واشتاق إلى عصر حيوانه، فزفر زفرة أيقظت الموت وكان نائما، وتركت هذا الإنسان من الفزع لجبنه أو قاعدا أو قائما، واستنزلت من القضاء ما كان في علم الله غيبا، واشتعل من هولها رأس الأرض ببياض السيوف شيبا، وجعلت من البيوت قبورا لأهلها، وسارت في معايش الناس بين صعبها وسهلها، وأظهرت لعقول العلماء أن أكثر علمها من فنون جهلها، فالأرض في بلاء منتشر لا يعرف له حجم، والشعوب في ظلام من اليأس ملتهب النجم، والدول في عصر كليل الشياطين كله رجم

قال "الشيخ علي": تلك هي الحرب القائمة اليوم ولكن كما ترى خيال النار في الماء، أما الحقيقة فكل حرف منها جيش، وكل كلمة أمة ووراء ذلك معنى رائع هو استجماع الحياة الأرضية لمقابلة الموت. ولو أن لهذا الكون مرضا يعتريه كما تعتري الناس أمراضهم لقلت إن شق الأرض قد ضرب بالفلج فأصبح شقها الآخر لا يكاد يجر ظله حول الشمس، لأن الحركة مقسومة بينه وبين ذلك النصف الميت، فقد اشتبكت العلائق بين دول الأرض جميعا، إذ لا تعرف دولة بين الناس ترعى شعبا من البهائم، ولما بدأ الإنسان يعرف نفسه في عصر العلم والمدنية عرف أخاه، لأن أكثر حقيقة الإنسان فيه، ومن ثم اتصل به اتصال اليد بأختها في المعاونة على ما يسرت له كلتاهما، وجمع العلم بين هذه الأمم لأنه لا ينتسب لواحدة منها وليس له في الأرض لا خال ولا عم، ولا يعرف شيئا يقول للعلم يا بني ويقول له العلم يا أبي إلا التاريخ الإنساني.

ولها سفر بين أمم الأرض كل ما يخرج من رأس الإنسان وما ينتج من يده، واتصل ذلك واستفاض حتى كأنما دارت الأرض دورة جديدة من داخلها، فما إن يقع الاضطراب في ناحية منها إلا دخلها من الأثر في سائر نواحيها، من هزة ترجف، إلى زلزلة تهدم، إلى الخسف الذي يجعل عاليها سافلها.

وإن باسط لك شيئاً من الرأي في كلمات قليلة، ولكنها كالمعركة الأخيرة التي يحق لها النصر، فتكون هي تاريخ الحياة ولا يكون ما سبقها إلا تاريخ للموت.

ألا فلتعلم أنه لو كان لحوادث منذ نشأ الدهر تاريخ صحيح يصف لنا ما كان سببا في كل حادثة وما صارت كل حادثة سببا فيه، لا ثبت يقينا أن ليس في الأرض شيئا من خير أو شر غير ما يلزم لبناء هذا التاريخ الأرضي على الوجه الذي يتفق مع بناء الإنسان، والتاريخ يطرد حيناً ثم يعطف ههنا وههنا في مجراه من الغيب، فلا يتحول إلا انشقت له ناحية من العالم.

فإن خربت دولة أو سقطت أمة فما هي بصاحبة الدهر كله، وقد كان لها قسمها منه ثم عاد الدهر يطلب قسمه منها. ولن يجدد البناء القديم حتى يكون الهدم أول العمل في تجديده.

فالحرب شر لا بد منه، لأنها من عوامل التحليل والتركيب في تاريخ الإنسانية، وهي بذلك سبب من أسباب استمراره. فكل شر لا بد منه فهو خير لا غنى عنه. وهل يبتغي للإنسان أن تضرب العصور والدول كمال تضرب الدنانير والدراهم من معدن معروف على وجه معروف ولغاية معروفة؟ وإذا لم يكن لنا مستقبل التاريخ وكنا في عمر محدود فما نحن والرأي في بناء هذا المستقبل، وكيف نقدم لله لآلات البناء ثم نحكم الشرط أن لا يكون في هذه الآلات ما يحتقر أو يكسر أو يرض.

إنما يجعل للحرب ذلك الوصف يطير لها في كل أرض صوتا بالذم والسوء، أنها لا تأتي إلا بغتة، ولا تطبق إلا في غفلات العيش، وأنه تثور في بياض الأمن الأحمر من لون الموت، وتطلع من خصب النعمة سوداء من لون القحط، وتنبثق بالشر من حيث يكون الشر مأمنا وتصب المحنة على من لا يطيقها، ثم لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تلف من جانبي الحياة لفا، وهي في كل ذلك البلية المكشوفة التي تشتهرها الأحاديث، وتضرب فيها الألسنة، وتسيل عليها الأوهام بما في طباع الناس من طبقات الأخلاق ضعفا وشدة، وخوفا وطمعا، وبخلا وكرما، وحذرا واندفاعا، بحيث تصبح وكأنما ترتمي على رأس كل إنسان بالموت، أو بالخوف من الموت، أو بالخبر عن الموت أو ما يشبه الموت، أو بما يكون الموت خيرا منه!.

وإلا فكم يترضرض الناس كل يوم، وكم يجدون من صنوف الدمار في الأعمار ومن ضروب الأرزاء في الأرزاق، ما لو جمع بعضه إلى بعض في نسق واحد لطم على هذه الحروب كلها، ولأظهر لك أن في السلم ما هو شر من الحرب وإن لم يصرخ به صوت الموت.

ص: 55

وما البغي والظلم والكيد والفتنة والاستبداد ونحوها مما يشمل أكثر وسائل الحياة الإنسانية إلا ضروب من القتل الخفي، وربما عد الموت في بعضها راحة من الموت، ولكن ذهب بإثمها في اصطلاح الناس أنها خطط موضوعة للمغالبة على الحياة، وأنها لا تنالهم إلا فردا فردا، وكأن باطل الأمم غبر باطل الأفراد، لأن الاجتماع قضى منذ أول العهد به أن تكون الأمة مظهر السرع وأن يكون الفرد مظهر العقاب، ولكن ليت شعري لما يكون الفرد كذلك من الأمة ولا تكون الأمة كذلك من أمة غيرها؟ فالحرب هي عقاب الجماعات، وهي كذلك ضرورة اجتماعية، ولن يخلو منها تاريخ الإنسان إلا إذا رجع الناس أمة واحدة في تركيب مستحيل لا يتهيأ أبد الدهر ما يقسم هذه الأمة على نفسها، ولعمري إن ذلك التركيب الاجتماعي الذي يخلو من الحروب ليزهد الناس في جنة الله ولا يدع للأديان محلا على الأرض، ويحسبون أنه صلاح في الطبيعة وهو يفسد الطبيعة كلها، فما هو إلا خيال شعري في تاريخ الحقيقة الإنسانية، وما رأى الحرب إلا البرهان الذي تقيمه الطبيعة أحيانا على فساد ذلك الخيال كلما أوشك الضعف الإنساني أن يتوهمه حقيقة

وإذا كان الله لم يخلق إنساناً من النور فلا تظلم نفسه، ولا من الثلج فلا يحمي دمه، ولا من الصخر فلا يهن كاهله، ولا من الحل فلا يحيف على غيره، ولا من الرضا فلا يطمع في سواه، ولا من الكتمان فلا تخرج أضغانه ولا من السكون فلا يتحرك في نزاع، فكيف لعمري يخلق بعض الكتاب والفلاسفة هذا الإنسان الجديد من عناصر السلم وحدها؟ ألا إن الإنسان لا يولد ساكنا ولا نظيفا، وإنما يخرج من بطن أمه في ثورة دموية تنفجر من حوله ههنا وههنا، وما أرى الحرب أكثر ما تكون إلا ولادة للتاريخ على هذا الأسلوب، فكأن من التاريخ ما يولد على أسلوب الحيوان في ثورة من الدم، ومنه ما يوجد على أسلوب النبات في تحول ساكن غير منظور.

قال "الشيخ علي": والحركات المجهولة في نظام الأرض كثيرة، بعضها يجري على الطبيعة وبعضها يجري على الإنسان، فكما يدك الجبل وتخسف الأرض ويغطي الماء وتثور العواصف وتتفجر البراكين، يجري على الإنسان من مثل هذا القحط والوباء والحروب وغيرها، لأن الإنسان في الحقيقة هو الطبيعة الرفيعة، وما القوة المركبة فيه التي تخرج من مجموع غرائزه إلا تهيئة حربية في نفسه.

فلولا أن هذا الإنسان مهيأ للحروب بأدواتها الطبيعية، وأن هذه الأدوات هي كذلك من أسباب بقائه اللازمة له، لما قامت في الأرض حرب قط، ولو أبعدنا في مطارح الفكر ونظرنا من وراء النفوس الإنسانية إلى ميادين القتال، لرأينا أن الحرب التي تقوم بين الأحياء إنما هي حرب قائمة بيد مذاهب الحياة.

وكما يجتمع العلماء وأهل السياسة لتنقيح الأنظمة والقوانين، تجتمع الدول المحاربة لتنقيح الطباع والعادات، وما أعجب أن يكون القتل تنقيحا في قانون الحياة. فلا تنظر من الحروب إلى هؤلاء المساكين والمتوجعين والمحزونين، فذلك كله إلى نهاية ولا يبقى منه على الأرض شيء قل أو كثر، ولا أحمق ممن ينظر ساعة الهدم على آثار الهدم ولا يعلم أن ذلك سبب لما بعده، وأنه إذا لم يهلك يوم في سبيل الغد هلك المستقبل كله.

ولكن متى تكون الحرب حقاً ومتى تكون باطلاً؟ هذا ما لا سبيل إلى وجه الرأي فيه، وربما كان الجواب عليه سؤالا آخر، وهو: متى تعرض في حياة الناس تلك المسائل التي لا يصلحون هم أنفسهم لحلها؟ ومتى تكون الحركة العنيفة التي يتحول بها التاريخ الإنساني كلما وجب أن يتحرف ليتبع مجراه من الغيب؟ أليس ذلك هو السبب في أن العقل أحيانا يكون أول ما ينهزم في الحرب كما تراه اليوم، فيصبح الفلاسفة والعلماء والمتفننون لا هم لهم إلا إدارة حركة الموت هجوما ودفاعا، وترى الصلوات والأدعية والتسابيح تصاعد إلى الله وفيها ريح الدم والنار والغازات، وكأنها قنابل صنعت من قنابل صنعت من العواطف؟ وقد يقول بعضهم إن في الحرب إسرافا اجتماعيا بما تأخذه من الموتى وما تترك من المرضى، ولكن كم من الإسراف الطبيعي والأخلاقي في بقاء الناس موفورين بعلومهم وفنونهم وشهواتهم ونعمهم ومصائبهم ونحوها، مما يؤدي إلى انطواء هذا لمجتمع الإنساني في الأدمغة والقلوب بما تبعث عليه تكاليف الحياة الاجتماعية السامية التي تحاول أن تجعل الإنسان حيوانا على شكل مخترع.

ص: 56