الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا هو " الشيخ علي".. رايته فرأيت في برودة ثورة على العالم الإنساني، وعرفته فأصبت في ضميره قطعة مجهولة من هذه المسكونة، واستجليت نفسه فإذا هو أفق فوق الأرض، وطالعته فكأني رأيت في جملته النقطة الأرضية التي يبدأ من ورائها ارتفاع السماء، وبلوته فإذا هو حصاة تحت ضرس الدنيا والناس هنالك يمضغون، فلم أملك أن غمست قلمي من نظراته في مجرى من أشعة الوحي، ووضعت الاعتبار من هذا الرجل وحقيقته ما عرفت من الناس وحقائقهم، فخرجت لي من المقابلة هذه الصفحات، ولذا كان القول في "المساكين " ما قال "الشيخ علي".
على أني إن كنت لم أحسن وصف الرجل أو كنت لم أبلغ في وصفه فذلك لأن هذه الحقيقة في هذا القلم كالثمر الحلو في العود المر، والرجل مما أنضجه القدر وحده ليس لنا من حقيقته الغامضة إلا الصفات التي تثبت أنها غامضة.
وهل في الحياة أشد غموضاً من رجل يرى، أو كأنه يرى، أن كل نعمة لم ينلها فهي مصيبة لم تنله، وكل ما يعرفه من هذه الدنيا أنه يعرف كيف يتركها مطمئناً وعلى شفتيه من الابتسام تحية السماء لاستقباله، ومتى هو فارقها انكشف موته عن حياته، وصرحت هذه الحياة من ضميره وخلصت من هذا الضمير كلمة هي معنى الرجل الذي انطوى عليه، وكانت هذه الكلمة هي "الحمد لله".
في وحي الروح
التراب المتكلم أمام التراب الصامت
ترى أيهما هو الصدق في حقيقته: ما نفرح به أو ما نحزن له؟.. أما إن في الحياة ملحاً وإن في الحياة حلواً وكلاهما نقيض، فليس منهما شيء إلا هو رد للآخر أو اعتراض فيه أو خلاف عليه، وتجدهما اثنين وهما واحد في اثنين.
فأنت تؤتى الحلو تسيغه وتستعذبه فإذا هو بك في الملح تمجه وتغص به، ثم لا تضع من أمر على أحسنه في صورة إلا رأيته على أقبحه في صورة أخرى.
والإنسان من الهم في عمر دهر لا يموت، ومن السرور في عمر لحظة تشب وتهرم وتموت في ساعات، والحس كأنه من هذه الدنيا فرخ في بيضة ملئت له وختمت عليه فلن يزيد عليها سوى خالقها، وخالقها لن يزيد فيها! ومن الصحة والمرض، مما سر وساء: وما شد وهد، ومن العقل العجيب الذي يحكم من الإنسان تركيباً عصبياً مجنوناً ثائراً قد استبانت فيه الحيوانية، من كل ذلك وما إليه مزيج هو بقدرة الله أشبه، ولكنه فوق ضعفنا وحيلتنا، فلن نرى منه في الكون إلا شكل الحيرة ومعناها والعذاب بها، والفرح بالغفلة عنها والسرور بإنكارها أو المكابرة فيها، والحيرة لا نفي ولا إثبات، ومتى يطلب الإنسان الحقيقة، وهو جزء منها، لا يقف إلا على جزء منها، فالمشكلة متحركة إلى كل جهة حتى لا تذهب عنها لتنساها إلا وأنت ذاهب بها لكيلا تنساها.
أما إن في الحياة ملحا وإن في الحياة حلوا
…
فإن لم يمكن، فالممكن من الحقيقة للإنسان أن يستحيل فيموت! ترى أيهما هو الكذب في نفسه: الموت أم الحياة؟ إنه الجنين فالوليد ثم الميت لا محالة بعد أن يسرع الأجل أو يتراخى، لا يتقار جنين في ذاته الدموية من الأحشاء، ولا يثبت وليد في ذاته في المهد، ولا يترك شاب في ذاته العظيمة للحياة، ولا يقف شيخ في ذاته الجليدة دون القبر! ومن عقدة الثمر إلى لبتها إلى شحمتها إلى قشرتها، على ناموس القضاء والقدر، في باب الحتم المقضي من كتاب السماء، وعلى ناموس النشوء والارتقاء في باب الهذيان العلمي من كتاب الأرض
…
وكما تكون تحت الوسائد كنوز أحلام الليل، تكون في هذه الحياة أحلام الكنوز الخالدة التي يملأ الأرض كلها ضوء لؤلؤة واحدة منها.
تطلع الشمس على الناس كأنها فص خاتم السماء تشير به أن تعالوا إلى الكنز في ضوء هذه الياقوتة الصغيرة.
الحواس زائغة متراجعة مقلوبة، وهذا هو نظامها ونسقها واستوائها، فليس من أحد في هذا الكون الموجود إلا وهو ناظر إلى كون غير موجود.
السماء سموات، والأرض أرضون، والأكوان عداد العقول، وكل أمل في رأس مخلوق يزيد عنده الدنيا أو ينقصها ويغير من الخليقة ويبدل، وكل إنسان في كل يوم هو إنسان يومه ذلك، فكأن كل حي من كل حي غلطة، وآمالنا كأرقام الساعة: هي اثنا عشر رقما محدودة، لكنها في كل دقيقة هي اثنا عشر رقما فلن تنتهي.
والحياة خداع وغرور، وزيغ وخطأ، وعمل وعبث، ولهو ولعب، ومهزلة وسخرية، والناس كالأرقام تخط على هذا التراب ثم يقال للعاصفة: اجمعي واطرحي ثم حلي المسألة
…
وأين كل ما صبته الشمس والكواكب من نيرانها، وما أخرجته فصول الأرض من وشيها وألوانها، وما هتفت به الطير من أغاريدها وألحانها، وما تلاطمت به الدنيا من أمواج إنسانها؟ وأين ما صح وفسد، وما صدق أو كذب، وما ضر أو نفع، وما علا أو نزل؟ في كل لحظة تمتلئ الدنيا لتفرغ، ثم تفرغ لتمتلئ وماضيها ومستقبلها مطرقتان يمر بينهما كل موجود لتحطيمه.
وكأن الحياة ليست أكثر من تجربة الحياة زمنا يقصر أو يطول، وما العجيب أن لا تفلح التجربة في أحد، ولكن العجيب أن لا تنقطع وهي لا تفلح.
والعالم كالبحر من السراب يموج به أديم الأرض بما رحبت ثم لا تملأ أمواجه ملعقة، والحقيقة في كل شيء لا تزال تفر من تحليل إلى تركيب ومن تركيب إلى تحليل، لأن شعور أهل الزمن بالزمن لا يحتمل المعنى الخالد.
ولعل سبب الموت أنك لا أجد إنساناً يعيش في حقيقته الإنسانية، فلا هذه الحقيقة يسرت له كاملة ولا هو خلق لها كاملا، وفي الإنسان كالطبيعة أرض وسماء، فترابه لا يغشاه مما فوقه غير الظل وقد خلق مقسوما فشقة منه في أرضه وشقة في سمائه، فإذا حضره الموت ضرب الضرب بين هاتين فأخذت السماءُ السماءَ وجذبت الأرضُ الأرض.
هناك البرق الإلهي ملء الكون يلتمع ويخطف، ولكنه من الإنسان كشعلة تتوهج في غرفة أرضها وسقفها وحيطانها من المرايا وليس في هذه الغرفة إلا تتوهج في أرضها وسقفها وحيطانها من المرايا وليس في هذه الغرفة إلا هذا الضوء ورجل أعمى.
فلا سخرية ولا ضلالة ولا عبث ولا خداع إلا في أسلوبنا الإنساني المبني على حواسنا الزائغة، كما تنود السفينة خفت على موج البحر وما عبث البحر بها ولكن يعبث بها وزنها.
يريد الله أن نخلق لأنفسنا معنى من السمع والبصر ليس في أذن ولا عين، وأن نزيد في مجموعة أعصابنا الواهنة عصبا عقليا يراه ويسمعه ويدركه ويؤمن به، فالإيمان قوة جبارة لا تجمع إلا من رد كل أطراف النفس المنتشرة إلى عقدتها الروحية، وحبسها أكثر حواسها في حس واحد عنيف مؤلم، ووضع المناعم المضنون بها في ذلك المعنى المفتوح المتهدم الذي لا يمسك شيئا وهو االزهد، وحصر الآلام الطاحنة في ذلك المعنى المطبق المتحجر الذي لا يفلت شيئا وهو البصر، ورد الأخلاق كلها إلى ذلك العنصر الذي يضيف معنى الحديد إلى معنى اللحم والدم وهو الإرادة، وبعد ذلك كله وضع كل شيء إنساني قي ضوء من أضواء الكلمة المتألهة المسماة بالفضيلة.
يا إلهي! ما أقواك وما أضعفنا! كأنك تقذفنا من السماء فنجهد من بعد أن نرتفع إليها بأنفسنا على أجنحة الأعمال التي تطير بجاذبية مما تحب! لما خلقت الإنسان عبدا على قدرك صار إلها على قدره، فيجب في الحق أن تعذبه السماء إذا وغل عليها طفيليا بلا عمل ولا ثمن! النخلة السحوق نواة مخزونة في بلحة، والعالم العظيم تركيب مخبوء في إنسان، فالإنسان لنكده الطبيعي محيط بنواميس قاهرة تحركه، وتحيط به نواميس أخرى قاهرة تتحرك معه، فمن ثم لا يبرح يصطدم، ولن يكون متجها أبدا إلا إلى التحطيم، فإذا هو تورع وتحرج واستعلى أمات من شهواته فأبطل مثل ذلك فيما حوله، فكان خروجه من بعض الدنيا هو حقيقة وجوده في بعض الدنيا، ومثل هذا حقيق أن يقول: إني أحكم العالم من داخلي.
تباركت ربنا وتعاليت، إن الشك فيك لهو اليقين على طريقة، والإيمان بك هو اليقين على طريقة أخرى..المقعد لا يمشي، والأعرج لا يعدو، والضعيف لا يسبق العداء، فإذا أنكر المقعد على من يراه يمشي، والأعرج على من يبصره يعدو، والضعيف على من يعرفه قد يمشي، والأعرج على من يبصره يعدو، والضعيف على من يعرفه قد سبق، فما ذلك من إنكار العين ولا من مكابرة النفس، وإنما ذاك رأي منظور فيه إلى حظ رجل مهملة أو قدم مكسورة أو عظم واهن، ومن ثم لن يكون في الناس ملحد إلا وفي طباعه أو أخلاقه أو حوادث دنياه جهة مريضة ينكسر عندها الرأي ويبتلي بها الحس، فهي توجهه وتصرفه منظورا فيه إلى شعور بعينه. وقد ينتحر الرجل من إعراض امرأة فمنذا يقول إن النفس الإنسانية في وزن قبلة!
فأما الملحد بغير علة فهذا لا يوجده أب ولا تضعه أم إذ يجب أن يكون طباعه له وحده وميراثه منه وحده حتى يصدق زعمه أنه ألحد للبرهان وحده، فما يجحد الجاحد إلا ليجعل نفسه في الرفاهية من الأمر والنهي، ويخرج بها من حكم الضرورة، وما بين المؤمن وربه، حتى كأن فيه شيئا يلذعه بالجمر فما يستريح من لذعة إلا قدر ما يجم ليحتمل للذعة بعدها.
يا إلهي إنما يحبك المؤمنون ويكابدون في رضاك على مقدار منك لا منهم فأنت تقذف قلب المؤمن بضرورات كشعل البراكين وتضرب روحه من مصائبه بسلسلة جبال مفتولة وتتركه في الأرض يشعر كأنما خر عليه سقف العالم! شبه خلفها، وظلمات تنتهي بعد حين إلى مد النهار الأكبر ومن الضرورات والمصائب والآلام يتخلق الجو الحساس الذي يبسط فيه الإنسان جناحي روحه ويسمو بها على التراب والمادة.
الجو الجو: هذه تغريدة البلبل في قفصه.
الغذاء الغذاء: هذه قوقأة الدجاجة في قفصها.
أيقيس الإنسان نفسه على قياس من الطبيعة في قوتها المتراكبة، ومظهرها المسخر لكل ما يتفق، وتركيبها المبني على سهولة الاحتمال، ونظامها الميسر لعدم المبالاة؟ ألا ما أحمق الزهرة التي علمت أن الدوحة التي لا تقتلعها إلا العاصفة العاتية فقالت: الآن أهزأ بالنسيم! ثم لمسها النسيم فرمى بها ورقة ورقة! كأن الشكل الإنساني نقص إنساني، وكأن الإنساني لم يجئ إلى الدنيا بأكمله وكأنه خلق منه إلا قدر لغرض ما، كأنه تركيب في يد الصانع الأعظم ألقى منه جزءا في مرجل الفلك الأرضي ليغلي قليلا
…
ثم يتطاير ويجتمع فيتلقاه من بعد.
كأن هذا الإنسان تحت هذه الضغطة في هذه الفورة في هذا الفلك، مادة يطعم جوا لتتحول ولتتحول ليس غير. ألا ما أحمقه وهو في المرجل على الوقدة الحامية إذا أبى أن يغلى!
…
وما أسخفه وهو في المصفاة تحت الضغطة الثقيلة إذا أبى أن يعصر!
…
وما أجهله وهو في الحياة الفانية إذا نسي أنه سيموت! لا تغتري أيتها الحبة الصغيرة المختبئة في كدسة من القمح تتحدر في ثقب الرحى، ولا تحسبي أنك من لهو ولعب تنبعثين هناك وهنا بين الحب، إنك في رفق ولكنه رفق الحجرين الآكلين اللذين لا يدعان شيئا ولا يفلتان شيئا وإنما يرفقان بك قليلاً قليلاً وليجيدا طحنك كثيراً كثيراً! فتحنا القبر وضرحنا للميت العزيز. لم أقل أنه مات، بل قلت إن موته قد مات! كأن الحي على هذه الأرض هو القبر الإنساني لا الجسم الإنساني، فإنك لتجد قبورا من ألف سنة ولن تجد إنسانا في بعض عمرها، أما ترى هموم الدنيا وأحزانها كيف لا يخلو منها أحد، وكيف تخرج من النعيم كما تخرج من البؤس؟ ما أحسبها إلا صوراً من ظلمة القبر يجيء القبر فيها حيناً بعد حين إلى ميته الذي لم يمت! من يهرب من شيء تركه وراءه، إلا القبر، فما يهرب أحد منه إلا وجده أمامه، هو أبدا ينتظر غير متململ، وأنت أبدا متقدم إليه غير متراجع، وليس في السماء عنوان لما يتغير إلا اسم الله، وليس في الأرض عنوان لما يتغير إلا اسم القبر.
وأينما يذهب الإنسان تلقته أسئلة كثيرة: ما اسمك؟ ما صناعتك؟ كم عمرك؟ كيف حالك؟ ماذا تملك؟ ما مذهبك؟ ما دينك؟ ما رأيك؟
…
ثم يبطل هذا كله عند القبر كما تبطل اللغات البشرية كلها في الفم الأخرس، وهناك يتحرك اللسان الأزلي بسؤال وحد للإنسان: ما أعمالك؟ أيها المتقاتلون على الدنيا والإنسان إلى حين! إن تنازع البقاء مذهب فلسفي بري لا إنساني
…
فإنها الثيران هي التي تجد من القوة أن تنطح في المجزرة وتنسى لم هي في المجزرة! فتحنا القبر وأنزلنا الميت العزيز الذي شفي من مرض الحياة، ووقفت هناك، بل وف التراب المتكلم يعقل عن التراب الصامت ويعرف منه أن العمر على ما يمتد محدود بلحظة، وأن القوة على ما تبلغ محدودة بخمود، وأن الغايات على ما تتسع محدودة بانقطاع، وحتى القارات الخمس محدودة بقبر!..
يا عجباً! القبور مأهولة بملء الدنيا وليس فيها أحد! أية ذرة من التراب هي التي كانت نعمة ورغداً، وأيتها كانت بؤساً وشقاءً، وأيتها التي كانت حباً ورحمة، وأيتها كانت بغضاً وموجدة؟
سألت القبر: أين المال والمتاع؟ وأين الجمال والسحر؟ وأين الصحة والقوة؟ وأين المرض والضعف؟ وأين القدرة والجبروت؟ وأين الخنوع والذلة؟.. قال: كل هذه صور فكرية لا تجيء إلى هنا، لأنها لا تؤخذ من هنا! فلو أنهم أخذوا هدوء القبر لدنياهم، وسلامة لنزاعهم، وسكونه لتعبهم، لسخروا من نواميس الكون! إن هؤلاء الأحياء يحملون في ذواتهم معانيهم الميتة وكان يجب أن تدفن وتطهر أنفسهم منها، فمعنى ما في الإنسانية من شر هو معنى ما في الناس من تعفن الطباع والأخلاق.
يكذب أحدهم على أخيه فيعطيه جيفة حقيقية ميتة، ويكيد بعضهم لبعض فيتطاعمون من جيف الحوادث المسمومة، ويمكر الخائن فإذا جيفة عمل صالح قد مات، فكل مضغة تبتلعها من حق أخيك الحي هي كمضغة تفتلذها من لحمة وهو ميت: لا تعطيك إلا جيفة، ثم أنت من بعد لست بها إنساناً ولكنك وحش
…
بل وحش دنيء ليست له فضيلة الوحشية التي من قوة تأبى أن تمس لحوم الموتى! واهاً لك أيها القبر! لا تزال تقول لكل إنسان تعال، ولا تبرح كل الطرق تفضي إليك فلا يقطع بأحد دونك ولا يرجع من طريق راجع، وعندك وحدك المساواة، فما أنزلوا قط فيك ملكاً عظامه من ذهب، ولا بطلاً عضلاته من حديد، ولا أميراً جلده من ديباج، ولا وزيراً وجهه من حجر، ولا غنياً جوفه خزانة، ولا فقيراً علقت في أحشائه مخلاة! ألا ويحك أيها القبر! لم لا تأتي إلا في الآخر؟ ولم لا تضع حدود معانيك بين الأحياء بعضهم من بعض حتى يقوم بين الضعف والقوة حد المساواة، وبين النفوس والشهوات حد التقوى، وبين الحرام والحلال حد الله! يا شقاء أهل الأرض! أما أنهم لو وضعوا فيها موضعاً من العناية لما كان الإبهام في السريرة، ولا كانت الغفلة في النفس، ولا كان النسيان في الطبع، ولولا هذه الثلاث في هذه الثلاثة لما كان المجهول البشري كله في شيء واحد وهو القبر.
إن أحزاننا وهمومنا ودموعنا هي كل المحاولة الإنسانية العاجزة التي نحاول بها أن نكون في ساعة من الساعات مع أمواتنا الأعزاء! هم يأخذوننا إليهم اختلاجاً وانتزاعاً في هذه الأحزان والهموم والدموع، فكأنها أمكنة تخلق من الأثير الروحي وتتجسم من معانيها كي تصلح أن يلتقي فيها روح الحي وهو حي بروح الميت وهو ميت، كما يتلاقى روحا الحبيبين في قبلتهما أول مرة إذ يخلق قلباهما لهذا اللقاء جواً أثيرياً من الزفرات واللوعات بين الشفاه المتلامسة.
أو لعل الموت كما يجرد الحي من روحه ينتزع من أهله شهوات أرواحهم فيميته مدة من الزمن في القلب وفي العين وفي الفكر، وبذلك يرد جميع المحزونين إلى المساواة، فأهل كل ميت وإن علا كاهل كل ميت وإن نزل، وتموت بالموت الفروق الإنسانية في المال والجاه والقوة والجمال، حتى لا يبقى إلا الدمعة واللوعة والحسرة والزفرة، وهذه أملاك الإنسانية المسكينة! يا هم من يحس ويعرف ويرى كيف يموت العزيز عليه وكيف يتحول من يحبه إلى ذكرى! إن ما يعمل في القبر يعمل قريب منه في القلب!.
وما يعرف الحي أن الذاكرة فيه هي حاسة اللانهاية إلا حين يموت له الميت العزيز، فلا يكون في الدنيا وهو في ذاكرته بمعانيه وصورته لا يبرحها.
وليس ينزل الحي من أمواته في القبر إلا من يقول له إنني منظرك إلى ميعادا! أما لو عقلها الأحياء لعرفوا أن الموت وحده هو ناموس ارتقاء الروح ما بقيت في الدنيا، ولكن ضجيج الشهوات- على أنه لا يعلو رنة كأس ولا يغطي همسة دينار ولا يخفي ضحكة امرأة- يطمس على الكلمة الأزلية التي فيها كل قوة الصدق وكل صراحة الحقيقة، فإذا هي خافتة لا تكاد تثبت، غامضة لا تكاد تبين! أذلك سحر الحياة فينا، أم سوء استعدادنا لها، أم شراهة الجسم من لذة الحياة لابتلاع كل ما في الكون منها، أم حماقة الكأس التي تريد أن تغترف البحر لتكون له شاطئين من الزجاج، أم بلاهة الإنسان الذي يريد أن يطوي فيه معنى الخالق ليكون إله نفسه..
ويحه من غريق أحمق يرى الشاطئ على بعد منه فيتمكث في اللجة مرتقباً أن يسبح الشاطئ إليه
…
ويثبت الشاطئ ويدع الأحمق تذوب ملحة روحه في الماء! اسبح ويحك وانج، فإن روح الأرض في ذراعيك، وكل ضربة منهما ثمن ذرة من هذا الشاطئ.