المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ولتعلمن كذلك أن الغاية من هذه الحياة كمال الحي في - المساكين

[مصطفى صادق الرافعي]

الفصل: ولتعلمن كذلك أن الغاية من هذه الحياة كمال الحي في

ولتعلمن كذلك أن الغاية من هذه الحياة كمال الحي في جسمه ونفسه، فإن تم بالفقر فذلك غناه، وإن نقص بالغنى فذلك فقره، ولا شأن لاصطلاح الناس فيما هو خاص بين المرء وذات نفسه، وهذا معنى بسطته لك آنفا ولكني متلقيك بمثاله من رجل وامرأة، ولا عليك أن لا تسمع حديثا عن الباشا و"هانمه" أو أبي زيد وأم الخير، ولا على أن أجيئك بالمثالين على باخرة أجعل ذلك من صرف الكلام وتزيينه وما بلادنا من هذه المخازي بمنتزح، ولكني أردت إمتاعك من لذة الحديث على مدار إمتاعك من حكمة الحادثة، والكلام عن رذائل الحياة في بلادنا هذه كلام غي يتجافى عن الرقة في أكثر مناحيه، وإذا وجهته إلى أكثر قومك فإنما أنت تشتمهم به أ، هم يتلقونه من هذه الجهة، ولا مناص أن تقع بك ظنة السباب وإن كنت واعظا، ويقال عاق وإن كنت براً، وغاش وإن كنت من الناصحين.

‌الرجل البخيل

أما فلان هذا فهرم بخيل لو مسخ حجر لتحطمت من غيظها الأحجار، ولو كان على بخله حديدا لما لأن الحديد في النار، ولو صوره الله طينا أجوف لما طن في يد أحد على نقر، ولو خلقه مرة أخرى من تراب لما جمع هذا التراب إلا من ثياب أهل الفقر.

وهو نبي أمة البخل، أما معجزته فهي قدرته على أن يستنبط غير المألوف من المألوف، ويستغل الصفر فيخرج منه ألفا إلى ألوف وإنه على ذلك لآية، فما رآه المؤمنون إلا قالوا: اللهم غفراً، ولا رآه الجاحدون إلا زادوا عتواً وكفراً.

وكم تمنى وهو يتهالك حرصا أن يكون كإبليس في أنه لا يموت غلا متى هرم الدهر، ولا يذهب من الأرض إلا حين لا يبقى في تاريخ الأرض ولا شهر، وإذا خوفته الموت والحساب قال: ويلك دع عنك، وإذا علم أنه سيعطى كتاب أعماله في الآخرة قال: يا ليت صحفه من "ورق البنك"! على أن درهمه في أيدي الناس هم واسمه في أفواههم سم، وكم لأمواله من قتيل فمن استلف، فقد ذهب به التلف، ومن اقترض، لقد انقرض! وكم من بائس قشعت غمامته، ثم غالت هامته، وقضت دينه، ثم أبكت عينه، فو الذي نفسي بيده إن دراهم هذا الخبيث لتعد من اللصوص، وإنها للئيمة على العموم أما هو فلئيم على الخصوص، يرسل الدرهم في يد المحتاج فيذهب فيه ديناره، ويقدح فكره الملتهب فلا تقع إلا في بيوت الفقراء ناره، ولو كان مخلوقاً يوم عرض الله الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، لحمل وحده الأمانة، وإذا كان مبلغ القول في وصف كل غني كريم أنه "صراف" في خزانة الله فجهد القول في هذا اللئيم أنه لص الخزانة! وهو على غناه كأنه في الناس بؤس المفلس في القمار. وكأنه لحقارته ذيل الحمار، إن طلع عليهم فطالع زحل، وإن غاب عنهم فوباء رحل، ومتى ذكروه، فكأنهم نكروه، وإذا قضي عليهم أن يسمونه فكأنما شتموه. وإذا وصفوه قالوا وجع الأظافر، وذنب بلا استغفار، اللهم قنا عذاب النار! أما وجهه فلو أنزل الله مرآة من السماء فنظر فيها لصدئت من قبح خياله، كصدأ ذلك المخزون من ماله، وأما روعته فلو خرج على الحسان لابتلاهن بما يفجأ الظباء من رؤية الفهد، وامتلكهن بما يعتري المرضع إذا كشفت عن طفلها فأبصرت الثعبان في المهد، وأما جهامته فلو نظر إليه البدر لغرب، ولو طلع عليه الفجر لهرب، أما روحه الخفيفة.. فلو بعثت خلقاً آخر لما كانت إلا بقة صيف، في رقبة ضيف، أو بعوضة تلسع العاشق المهجور فتوقظه وقد ظفر بالطيف،، وحياته كالبلاء المحتوم، وغناه كالكنز المختوم، وأما هو فكالقبر الكتوم.

وأحسب لو رسمه أمهر المصورين بأبدع خططه وألوانه، وأنطقه من عينه وعنوانه، وجعله آية فنه وافتنانه، وترك من يراه لا يحسب إلا أن المصور قد سرقه، أو أن الله تعالى مسخه على ورقة، لبقي مع ذلك في رسمه مغمز لا تصلحه إلا يد الشيطان الرجيم! ولا تلونه إلا شعلة من نار الجحيم

ومن للمصور بشرارتين من الصاعقة ينزلهما في الرسم لتظهر بهما عيناه، ومن له برقبتي البخل والرذيلة يطبق عليهما يسراه ويمناه، ومن له بلونين من غضب الله ونقمته يظهر وهما في الصورة معنى فقره وغناه؟ ولست أطيل في القول، فما أنا ببالغ من القول بعض صفاته وهيهات أن يصفه على الحقيقة إلا من يعلم لغة الملائكة فينقل إلى لغة الناس كتاب سيئاته

ص: 33

قال "الشيخ علي": ذلكم هو "الكونت فيكتور" رجل أملق أموال الناس وزاده في ماله، وجمع بين سوء حمل الغنى وسوء حمل الجاه، وعرف النعمة ونسي المنعم بها، فكأنما فتح الله عليه من هذه الدنيا ومكن له في أبوابها وأفشى جاهه ونعمته على ما ابتلاه به في خاصة نفسه من المحق، ليجعله واحداً من أولئك الذين يخرج للناس من تواريخهم قصصاً في الأخلاق محكمة السبك في نسق التأليف الإلهي المعجز الذي يأتي بالحادثة في موضعها حية وميتة، وينزل الكلمة في مستقرها من الموعظة ولو أن فيها ذهاب نفس وإدبار نعمة، ويدير المثل والفلك بأسلوب واحد.

وقد أسند هذا الرجل في حدود السبعين وكادت تحطمه السن، ولا يزال متأبداً، ولم يستر سقف بيته امرأة، ولا ضحكت الشمس فيه على وجنة طفل يبتسم. وقد نشأ على أن حب المال لا يستقيم إلا ببغض النساء، لأنه أكثر ما يجمع لهن وأكثر ما ينفق عليهن، ولا يرى المرأة إلا أنها "ثورة مالية"، و"سوق في البيت" و"أزمة يحتال الرجل للخلاص منها بالوقوع فيها"

ويقول إنها منذ أكلت من الشجرة الملعونة في السماء جعلت الرجل شجرتها الملعونة في الأرض، فهو ما عاش سنبت وينمو وهي ما عاشت تحصد وتأكل.... وقال مرة: إن الرجل لا يزال عقلاً حتى يتزوج، فإذا هو فعل فهو صار من زوجه وأولاده سلسلة بطون

فقيل له: ولم لا يكون يومئذ من زوجته وأولاده سلسلة عقول؟ قال: إلى أن يصبح أطفاله القدماء رجالاً يكون هو قد صار طفلهم القديم!

وجاءه يوماً سمسار يساومه في أرض له وجعل يراوغه ويترقى إلى خديعته بما أوتي السماسرة من خبث ودهاء، ويقبل به مرة ويدبر به مرة، والكونت في كل ذلك يعبث وينمي له، ثم صرفه على طمع كاليأس، فلما ذهب مدبراً قال: ويحي! لو أن هذا السمسار كان امرأة جميلة إذن لأدارني في يده كما يرقص الدينار على الظفر، فالحمد لله إذ خلق النساء على نظام رحيم فجعل في هذا الشر المحتوم موضعاً للهرب

ولما بلغ الخمسين- بعافية من الله- قال: أحسبني لو كنت متزوجاً يزماً فإن امرأتي في هذه الساعة تلتقم ثدي أمها

فسأنتظر حتى تصلح لي! فأجابه بعضهم: وحتى تصلح لها أيضاً!

وتواصفوا عنده الجمال مرة وأفاضوا في حديث النساء والنعمة بهن- وقد تعالم الناس ذلك البغض منه- فلما أضجروه قال: حسبكم يا قوم، ما أراكم إلا تخلقون إفكاً إن هذه المرأة في حقيقتها غير تلك المرأة في وهم الرجل، فهي هي حتى يبعث عليها وهمه ويصبغها بألوان نفسه وتستضيء به فكأنها منه أمام الفانوس السحري!

إن المرأة خصم عنيد لا يقتل بالغضب ولكن يقتل بالضحك، وشر ما فيها أنها إن لم يكن منها قتل فليس معها حياة.

تقولون إن الرجل محتاج إلى المرأة! فقد كان ذلك أيام كانت المرأة كأنها في عملها للرجل رجل آخر

فتلك حاجة اليد لليد، وحاجة الظهير إلى الظهير، ولهي مناقلة طبيعية في الجنسين بين قوة تحتاج إلى ضعف يخفف من سورتها، وبين ضعف يحتاج إلى قوة تشد منه، فلو كان العالم كله رجالاً، إذن لطالت أنيابهم كثيراً ولما وجد على الأرض من يخترع مقصاً للأظافر.

أنا لست أنكر أن المرأة شيء طبيعي، وما هي بهولة من الهول ولا مسخ من المسوخ، ولا أنا آسف على خروج آدم من الجنة بذنبها، فإني رجل اقتصادي، ولقد كان من هذا الذنب رأس مال كبير، فإياكم وإياي، لا تظنوا أني أكابر أو أماري، ولا تحسبوني جلفاً يكره الجمال ويريد أن يكون للمرأة بديلاً من رأسها النحيف المكلل رأس جاموسة.. وبدلاً من يدها الرخصة الناعمة ظلف بقرة

حسبكم يا قوم- حسبكم الله- لا أطيق هذا العبث معي، ولكني أسمعكم تقولون المرأة وتقولون المرأة ولا أرى المرأة نفسها كما تحدثون وتصفون، بل أرى مخلوقة غريبة الأطوار في هذه المدينة، وأرى خرقاء إن لم يكن معها الإفلاس فلا أقل من أن يكون معها الندم أو الغيظ أو السخط، وربما كانت بلاء ماحقاً يزف إلى الرجل يوم زواجه باحتفال

يخيل إليها من الفكر في المال أن الرجل هو مال أيضاً، وتريد أن تتزوج، ولماذا؟ لأن المحراث لا يلتمع نصله إلا بعد أن يجدوا له الثور

ص: 34

امرأة متأنقة لا تريد أن تطلع الشمس كل يوم على زي جميل ليكون لزوجها كل يوم هم جميل، ثم هي أحسن ما تكون حين تخرج من بيتها كأن بيتها منخل لا يمسك منها إلا الحثالة!

إننا يا قوم لقاء المرأة لا تلقاء معجزة من معجزات الأنبياء، فنحن نستطيع أن نقول هذا خطأ فيها وهذا صواب منها، ولكنها على أي أحوالها لا تريد أن نكون معها أبداً إلا على حالة واحدة، تريد أن تشبه نفسها، لأنها لا ترى أكمل من نفسها، أما الرجل فهو إذا رأى فيها نقصاً فذلك عندها لأن عينه عين رجل تكاد أهدابها تكون من شعر اللحى والشوارب

فمن ههنا لا يرى الخبيث تلك الحسنات النسائية التي تترقرق من المرأة في كل شيء صافية جميلة كنور القمر.

ترى هذه المرأة أن كل حسن في أعمالها لا يكون إلا أحسن شيء لأنها حسناء، ولكنها لا تقر أبداً أن كل قبيح في أعمالها ينبغي أن يكون أقبح شيء ولماذا؟ لأنها حسناء أيضاً!

هذه المرأة الجميلة قد ظنت عند نفسها أنها شيء مقدس، ولذلك لا تريد أن تعمل عملاً، كبقرة البراهمة، فيا ليت الرجل كان شيئاً مقدساً أيضاً كعجل المصريين القدماء!.. ولكن البقرة المقدسة في المرأة لا تعرف العجل المقدس في الرجل!

يا هؤلاء، إنما الرجل مخلوق قوي، ولكن معظم قوته منصرف إلى حواسه، فمن ثم كان في يد المرأة ضعيفاً، لأنها على ضعفها ينصرف ما فيها من القوة إلى عواطفها، فلا يلتقي الخصمان إلا كانت الهزيمة على الرجل، وقد كان لولا سفاه رأيه في منظر عن هذا ومستمع، فما رأيت قط رجلاً يهوى امرأة إلا اعتد سلطانه في أنه يشعر بسلطانها عليه، وكان رضاه في أنها راضية عنه، فهكذا هكذا.

جعل الرجل حاجته الكبرى في المرأة، وبالغ في توهم هذه الحاجة، وافتن في تصويرها ألواناً وضروباً، فجعلت المرأة حاجته إليها سبب كل حاجة لها، وبالغت في الطلب، واحتكمت فيم تطلب، وانصاع الرجل في يدها كالبهيمة السائمة، وجعله التمدن الفاسد في رأيها كآلة الساعة: علامة ضبطها وإتقانها "أن لا تقدم ولا تؤخر"!

وأن تعجب فاعجب أن هذا الرجل نفسه إذا هو كبحها مرة عن حاجة تطلبها، أرضاها بحاجة أخرى لم تطلبها، فكأن هذا المسكين إذ تعبد لها يأبى إلا أن يكون عبداً بشهود وأدلة.. وتحسب المرأة اليوم أنها غير المرأة من قبل، وغير ما كانت حالها، كأنها رقى في التاريخ، فقد غيرت نفسها بالفنون والعلوم والأزياء، وبهذا التحكم الباطل وبهذه الدعوة الفارغة، وأنا أول المؤمنين أنها غيرت نفسها ولكن غيرتهما الطبيعة؟ أيها السادة، إن كلمة "هات" وكلمة "خذ" لولا كلمتان لخربت الدنيا وتقاصرت الأمور والأحوال، وكل عمل وكل عامل يتركب منهما. فالدنيا كلمتان:"هات، وخذ"، والحياة كلمتان:"هات وخذ" والمرأة التي تصفونها كلمتان أيضاً ولكنهما: "هات، وهات"..

قال "الشيخ علي": ومر هذا الكونت في فلسفته يمضغها مضغ الماء وربما أصاب شيئاً، ولكن ماذا تنفع كلمة الحق يراد بها الباطل؟ وهذا الرجل يتكلم كأنه ابن شجرة لا ابن امرأة

! على أن من تعلق شيئاً من أمور الحياة وكل إليه، وهو بعد لم يعرف غير المال يجمعه ويدخره، وقد خلقه الله رجلاً مالياً ويسره لم خلق له، وكثيراً ما رأى وجهه في المرآة فكان يعجبه من منخريه أنهما في تفرطحهما "كحافري حصان الجنيه الإنجليزي"!

ولما استوفى عمر السبعين وأصبح في يبسه وموته كأنه جذر قرن من الزمن، خرج في عيد مولده إلى سواد المدينة منحدراً إلى قرية يملكها، وانطلق يجتلي مناظر الطبيعة، فكان لا يرى في السائمة والطير والنبات والأزهار إلا شباباً وطفولة، وكان وحده منظر الهرم المستميت في هذه الطبيعة كلها، وأعجبته شجرة قائمة على مسيل الماء، وأعجبه أن يتفيأ ظلها وقد تجفى بروحه المتعبة بردها ونسيمها، فانطرح يتثاءب هنيهة وأحب أن يسافر إلى شبابه البعيد على مطية النور، فكيس رأسه على ذراعه فإذا هو نائم كأنما جرع السم فخمده من فوره

ص: 35

ورأى فيما يرى النائم كأن الأرض ترقصه على أعشابها لتمسح عن أعضائه التعب، ثم أبصر السماء في مثل تحاسين الطاووس من ألوانها وأصباغها كأنما أشرف على الأرض فجر يوم من أيام الجنة، ثم نظر فإذا ضوء رطب يتندى وقد ترقرق فأصاب شفتيه الذابلتين، ولمح على إثره وجه حسناء كأنها فلقة قمر، فكان ذلك الضوء قبلتها وابتسامتها، وكان على قلبه "برداً وسلاماً" فنصب لها يديه يتناولها فإذا هي أمامه ضاحكة، وإذا هي ملء صدره وذراعيه، فارتجف جسمه رجفة شديدة كأن فيها شوق سبعين سنة من الهجر، وما لبثت عقد أجفانه أن انحلت فنظر فإذا يد فتاة قروية ناعمة تهزه برفق!..

فانتهض الكونت كأنما نشط من عقال ولما تصح عيناه من سكرة الحلم فكان يخيل إليه أنه يرى جمال السماء والأرض معاً في طلعة هذه الفتاة وعلى غرتها، ثم كشف لها عن رأس كفروة الأرنب البيضاء، وانحنى متأدباً وقال بلطف: أشكرك يا سيدتي! أما هي فابتسمت له وقام في نفسها أنها هي ردت عليه روحه، ولأنها لو لم تنبهه انتبه آخر الدهر، كأنما حسبته ميتا وظهر هذا الفكر في ابتسامتها فأكسبها شيئا من قوة روحها، وجعل لشفتيها الحمراوين جمالا كجمال الشفق إذا افتر عن نور الفجر.

وتأملها الرجل بمبلغ ما في نفسه من لذة الحكم وما في صدره من ضجعة تلك الحورية التي تلوث عليه وتقلبت فيه "وبعث عليها وهمه وصبغها [ألوان نفسه واستضاءت به، فكأنها من أمام الفانوس السحري!

" وما خلق الله لذم أهنأ للنفس من لذة الأحلام، فكأنما ترى فيها النفس شيئا من تحقيق المستحيل، وإن في أعقاب هذه اللذة بعد اليقظة ما يشعر المرء بالأماني كيف جاءت وكيف ذهبت، فكأنما كان في حياة أخرى، وكأن نفسه تتمسك بهذه الحياة ولا تريد أن تسلمها، فتكون ذكرى الحلم نفسه على الحقيقة، لأنها نتاج ما بين لذة لم تكن شيئا ولذة صارت شيئا.

وثبتت صورة الفتاة في عينه على ما اشتهى، وكانت زهراء اللون، حوراء العينين، ساجية الطرف، أسيلة الخد، باسمة الثغر، حسنة التكوين كأنها ريحانة ترف رفيفاً، وتكاد من فرط رقتها تتكلم ابتساما حتى لا يحسب من رآها أن الشمس طلعت يوما على أبعد من ثغرها واللؤلؤة، ولا أحسن من خدها والورد، وكأن الطبيعة يعتريها أحيانا من سوء الحرص وسوء الخوف وسوء الحيلة بعض ما يعتري الشحيح الذي يخبئ من الأداة والمتاع. فكانت "لويز" على ما وصفنا من الجمال والظرف ولم تكن مع ذلك إلا قروية! أما صاحبها فما أشبهه بعنق النسر: شيخ مضعوف، كالعرق المنزوف والعظم الملفوف، ممسوح العضدين، ناسل الفخذين، كأنما يتوكأ منها على عصوين.... غير أنه له عينا يتوقد فصها ويستنفض الناس طرفها فلا يملك من تقع عليه أن يضطرب، وكذلك اضطربت الفتاة، وما كاد الرجل يلمح اضطرابها حتى طبع الله على بصيرته فحسب ذلك معنى من الغزل، وانطلق وراء خياله يمر به على آمال الشباب الفانية، وكان لحظ الفتاة ينساب في عروقه دما يغلي، فحسب أن جسمه قد ثاب إليه، وأنه بعث خلقا جديدا لهذا الحب الجديد.

ويبالغ في التظرف ويجلس قريبا منها يستنبئها وهي تطرف له من أخبارها، فعلم من روايتها أنها شريفة النسب خالصة العرق، وقد نبا بها المنزل وانحط الدهر على أهلها فهي ذاهبة إلى المدينة تتلمس حياة التقوى في دير العابدات

وعلمت هي من رؤيته أن هذا الموت الماثل أمامها حياة، وأنه لا مذهب لها من ورائه إذا هي أفلتته إلا مذهب القدر المجهول، ورأته كأنما يتسرب لفظها ولا يسمعه، وأبصرت هواها في حماليق عينيه، فجعلت حينا تبسم له وتلحظه وحينا تلحظه وتبسم له، وما تلفظ من أنة في بث حزنها إلا أحس المسكين أنها نقرة على أوتار قلبه، ولعل الإنسان لا يمكنه أن يحب إلا إذا هيأت له الطبيعة مجلس الحس على ما يشتهي وعلى ما هو مذهب الحب نفسه! وقد مذعت له الفتاة من خبرها، وكتمت عنه أنه طريدة منبوذة استزلها فتى من عشيرتها على أن يتحللها وكان مها مقعد فؤادها زمنا، ثم طوح بها عاره وغدره ولؤمه جميعا، فخرجت هائمة على وجهها ولفظها قومها كما تطرح الثمرة إذا دب فيه الفساد من عبث الطير!

ص: 36