المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لؤم المال ووهم التعاسة - المساكين

[مصطفى صادق الرافعي]

الفصل: ‌لؤم المال ووهم التعاسة

"اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير".

‌لؤم المال ووهم التعاسة

قال "الشيخ علي": وأنت يا بني ما إن تزال تصف الدنيا بلون لا أرى كيف أسميه، فلا هو من وجوه أهل الحسد فأقول أصفر، ولا من قلوب أهل البغض فأقول أسود، ولا من صدور أهل الدم فأقول أحمر، ولا من شيء أعرفه لأنه ليس شيئاً يسمى، وعلم الله أن يهوى في جهنم سبعين خريفاً وعيناه تدوران في رأسه، لا يبصر من حيث ابتدأ إلى حيث ينتهي شراً من وجه دنياك! إنك يا بني تصور الأرض لا أرضاً ولا ماءً بل قلوباً ودموعاً، وتعرفها لا دولاً ولا أمماً بل آلاماً وحوادث، فكأن هذه الأرض العظيمة تحتاج إلى وقدتين من قلبك ومن الشمس، وإلى نعجتين من خيالك ومن الفضاء قدرين من حزنك ومن الأبد، ومن ثم فلا عجب يا بني إن كان مركز الثقل فيها على وهمين: على محورها وعلى ظهرك

هيهات لقد أسرفت على نفسك الضعيفة وجعلت هذه الحصاة الهينة تحت مطرقة الزمن فما تزال رخواً منبعثاً مسترسلاً في اندفاق ولين، كأنك رجل من العجين، وكم تقول لي:(فلان) وجاهه عريض. ودهره المريض

... وانظر إلى (فلان) كيف جعله الكبر يذكر منا وينسى، وكيف أصبح من الغنى وأمسى..

(وفلان) كيف تمر من فرج أصابعه سفن الآمال في تيار المال، كأن يده قنطرة على نهر الأقدار، أو جسر تعبره حظوظ السماء إلى أهل هذه الدار

... (فلان) قبحه الله! كيف صار شيطانه في إنسانه، وطول عمره في لسانه، وكثرة ماله في قلة إحسانه

... (وفلان) أخزاه الله فما بر ولا نفع، بل تفرق بالحرص ما جمع وطمع في كل شيء حتى في الطمع

... (فلان) الذي جمع وعدد وخلقه الله واحداً وهو في الرذائل يتعدد وقد انتفخ كأنه شدق إسرافيل، وامتد كأنه يد عزرائيل، واستكبر كأنه فرعون على النيل

... (وفلان) وما أدراك ما فلان؟ جبل شامخ والناس في سفحه رمال، ومجد باذخ ولا مجد لمن ليس له مال، وهو في أهل الغنى الألف والباء، وإن قيل في غيره (ابن نعمة) فهو في أهل النعمة أبو الآباء، على رأس عظيم كأنه ركن الكعبة الذي يتوجه عباد الغنى إليه، وقائمة بائنة كأنها لجاه صاحبها قطعة من المحور الذي تدور هذه الأرض عليه، وهناك أنف أما في السماء فله منزلة، وأما في الأرض فعطسته زلزلة ينفض الناس من رهبته نفضاً، ويرش الوجوه من هيبته أرضاً، وكأنه في تلك الكبرياء ميزان معلق يرفع من ناحية ويخفض من ناحية، بل كأنه في ذلك الوجه القفر جحر للنحس تختبئ فيه الداهية! قال "الشيخ علي": وما أنت يا بني وهذه (الفلانات) وأمثالها؟ إن هؤلاء الناس بعض أعمال الله في أرضه، فهو يخلقهم وينشئهم ويديرهم بتعلق طائفة من الأقدار بنتائج أعماله طرداً وعكساً فما أشبههم بدابة الطاحون: تلزم دائرتها ولا تفتأ تدور إلى غير انحراف، فثم هي لعلها حين تسمع ذلك الهزيز وتلك الجعجعة تحسبها من نشيد الاحتفال بها

فهم قوم مسخرون فرشهم الله أمراً من أمره، ويسرهم لما خلقوا له، فضربهم بالحرص والطمع ضربة جبار لو نالت السموات والأرض والجبال لأشفقن منها، وجاءهم الحرص بهذا المال، أما الطمع فجاءهم بماذا؟ جاءهم يا بني؟ لو قلت بصدإ القلب وهرم النفس ودناءة الطبع، ولو قلت بكل ما في الحشرات من القذر، وبكل ما في السباع من الضراوة، وبكل ما في الدبابات من السموم لكنت عسى أن أقارب الوصف، ولكن المعنى الذي يتلجلج في نفسي أكبر من ذلك كله.

غير أني أقول لك يا هذا: إن ثلاثة من المتجاورات يفسر بعضها بعضاً: الحرص مع الطمع، ثم المال ورذائله، ثم ما في المعدة وما في الأمعاء

أتحسب أن هذا العالم يحفل برجل من الأغنياء قد أجحف به الدهر وطحنته النوائب بأرجائها، وجاءه بعد الدنيا المؤنثة يومه المذكر، وتركته الأقدار أسود الحظ لا بيضاء ولا صفراء؟ فلم لا يعدون الغنى شيئاً دون المال ويحسبونه كل شيء مع المال؟ لعل الحقيقة أيضاً ذات وجهين في الناس

!

ص: 19

هو المال، المال وحده لا غير، فنحن نحتاج إلى الغني صاحب المال كم نحتاج إلى بائع الملح

وما أشبهنا في إطرائه وفي الزلفي إليه بأطفال القرية إذ يتزلفون إلى بائع الحلواء التي تلف بالعصا، وإذ هو واقف بينهم بعصاه وحلوائه كأنه الهبل الأعلى، هو- من تعلم- دسم الثوب ترب اليد، قذر التفصيل والجملة، يصلح أن يكتب على وجهه "متحف الميكروبات المصري"، ولو رآه طبيب لجعل عصا الحلواء على رأسه تفاريق، ولكن أين لا أين الطبيب في هذا الاجتماع؟ كل أطباء الاجتماع ألسنة وأقلام ومحابر، أما اليد التي تزيل المنكر أو تغيره فلا أراها تمتد إلا من جانب الأفق ولا تعمل إلا بعون من الله وملائكته، وقد انقضى عصر الأنبياء.

قال "الشيخ علي": فإن لم يكن الغنى إنسانه من الناس يواسيهم ويسعدهم ويتخذ من المال سبيلاً إلى أفئدتهم بالإحسان والمساعفة، ويأخذ لنفسه بقدر ما لها ويعطي من نفسه بقدر ما عليها، وإن لم يكن وجهه مرآة الفقراء يبصرون فيها ابتسام الدهر على وجوههم العابسة، ولم يكن ذهبه عند دموع البائسين وعند أنفاس المحزونين، ولم يكن اسمه في دعوات المحتاجين وفي ألسنة الشاكرين- فقد أصبح عندي كأنه لا شخص له، بل هو شخص له لعنة من لعنات الله والملائكة والناس نفخت فيها الروح، وهي اللعنة أي منقلب تنقلب.

ما أشبه المال أن يكون آلة من آلات القتل، فإنه يميت أكثر أصحابه موتاً شراُ من الموت- إلا من عصم الله- موتاً يجعل أسماءهم كأنها قائمة على ألواح من العظام النخرة، ويرسلها كل يوم إلى السماء في لعنات لا عداد لها، ثم يثبتها في التاريخ آخراً لا بأعيانها ولكن بعددها، أو كما تثبت الحكومة في كل سنة عدد البهائم التي نفقت بالطاعون

فهذا الشخص الميت وهو بعد في الأحياء لا يبلغ في قدر نفسه على الحقيقة أكثر من مقدار حجمه من

من.... من جيفة حمار!

يا بني! ربما كان الرجل نبات نعمة الله لأنه سيكون حصاد نقمته، فهذه، منزلة من البؤس والخذلان يستعاذ بالله منها، وكم رأينا من أناس تخصب أبدانهم حتى ليضيق بهم الجلد كدنة وسمناً، ويكاد أحدهم ينشق مرحاً ونشاطاً، ثم لا يكون هذا الخصب الذي استمتعوا به شطراً الآخر (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلهم الأمل فسوف يعلمون) وإن خطأ كبيراً أن تقضي لفلان من (فلاناتك) بمتاع الدنيا، فإنك لا تدري أشر أريد به أم الخير، وكيف تحكم ويلك على غناه بفقرك، وعلى آماله بيأسك، وعلى شخصه بظلك، وعلى نهاره بليلك، وعلى عمره كله وهو بعد حي لم يوف عمره ولا تدري ما عسى أن يكونه فيما بقي؟ ألا دعه حتى يستنفد أيامه المكتوبة ويستوفي أنفاسه المقدرة، فلعل مصيبته قادمة في الغيب وكأن غناه مقدماتها، وعلى قوة المقدمة تقاس قوة النتيجة، فإذا مات الغني ولم يعرف في جملة عمره هماً ولا غماً يعدل بؤس الفقر مهما اشتد الفقر، فكفى حينئذ بالموت في جملة من تلك الجملة! وإنما الحياة مدة ستنقضي، فسواء انقطع الخيط من أوله أو من وسطه أو من آخره، فقد انقطع! تقول: إن لهم متاع الحياة! ولو أنصفت لقلت: إن لهم بؤسها الممتع! فإنهم يجمعون المال من طرق لا نؤتيه إلا نكداً ثم يرسلونه في طرق أخرى ليجمعوه، وهلم كما تدور دابة الطاحونة، وهب أنهم لا يألمون كما تألم فإن يد الله غمزتهم من مكان قريب غمزة مؤلمة، وما أحسب الضجر من اللذات قد خلق إلا للأغنياء وحدهم، وناهيك من بلاء يغمر النفس بالنعم صنوفاً وألواناً حتى يتنكر لها معنى النعمة فتراها وقد ثابر عليها الضجر متكرمة ولكن لا تريد الكراهية، ومتسخطة ولا ترغب في السخط، ومتألمة ولا تعرف مم ألمها، ولا تبرح دائبة تلتمس نعمة لم يخلقها الله، لتحدث منها لذة لم يعرفها الناس.

ولولا هذا البلاء، وأنه ما وصفت لك، لما أصبت على الأرض غنياً كهؤلاء الوارثين: تضرب به كل لذة وجه أختها فتسلمه الواحدة إلى الأخرى ويجذبنه بكل حروف الجر، من وإلى وفي وعلى، بين الخمر والقمار أو القبر! ولو أن (ضجر اللذات) يصنع بكل الأغنياء هذا الصنع لفسد الكون، بيد أن الله أراد عمرانه فجعل في طباع أكثر الأغنياء لؤماً خاصاً، لؤماً ذهبياً يكسر من سورة هذا الضجر، كما يفثأ الماء البارد من الماء الحار حين يمتزجان.

ص: 20

فالقوم إما كريم يضجر فيسرف، وإما لئيم يضجر فيمسك، وكلاهما يحد لذته ويضجر من لذته، فهم كما هم ونحن كما نحن وكلنا سواء كما ترى، وكأن أم المصيبة حين ولدت وضعت بنتين: المصيبة التي تؤلم، والنعمة التي لا تلذ!

وليس أشقى ممن منع السعادة وأعطي الرغبة فيها إلا الذي أعطي السعادة ومنع اللذة منها!.

فلا تقل يا بني إن العصا لظهور الفقراء وحدهم، فإن هناك السوط أيضاً، وهو رتبة عالية فوق رتبة العصا، ولذلك خص بشرفها

الأغنياء! وانظر، ويلك، هل ترى الفرق بعيداً بين الضجر من شيء لأنه موجود، وبين الضجر من ذلك الشيء لأنه غير موجود، بين عدم الشعور باللذة، وبين الشعور بعدم اللذة، بين ألم الغني الذي لا تجده أبداً إلا على شك في أنه سعيد، وبين ألم الفقير الذي لا تجده أبداً يشك في أنه تعس؟ قال "الشيخ علي": وتسألني عن التعاسة، وما هي؟ وكيف هي؟ وتريدني على أن أبتغي لك مما بين ظاهرها وحقيقتها، ألا فاعلم يا بني أن هذه الكلمة حقيقة بأن تنسي نفسها، وما أدعى أحد معرفتها إلا أنه لا يجد أحداً يعرفها، وكل شيء مجهول فما أسهله أن يكون من عم كل جاه، وما أصعبه أن يكون من جهل كل عالم، وإني لأرى الناس يأتون في وصفها بهذه السهولة

لقد ألف هذا الإنسان من عهد القبائل في الاجتماع الأول أن يطوي العالم كله في قبيلته، ويجمع القبيلة كلها في نفسه، فيزعم أن "كل الناس" يعرفون كذا"، "وكل الخلق" يقولون كذا، وأن "الدنيا كلها" "وكل العالم"

وعلم الله ما في الدنيا، ولا في العالم من يعرف أن يقول غيره أو هو مع غيره من ذوي جماعته إلا اثنين أو ثلاثة أو جماعة منهم، ثم بقي ذلك ميراثاً في أخبار الجهلاء وأوصافهم وفي كلام أهل المجازفة إلى اليوم!.

ولكن إن شئت أن تعرف التعاسة- ولا أقول ما هي (حرسك الله) ولمن ما عملها- وإن شئت أن تسمع لها وصفاً آتياً من جانب السماء، فالتمس في دار الهموم من لم يبق له هم يحمله إذ يكون قد احتمل كل هم، فإن مثل هذا المخلوق- الذي لا تعرف أهو حي في ثيابه ميت فيما وراءها أم هو ميت في ثيابه حي فيما بعدها- متى استفرغ دمع أجفانه ومات البكاء في عينيه، خلق الله لسانه ألفاظاً كالدمع ولغة كالبكاء ومعاني هي في جملتها أوصاف التعاسة على الحقيقة! وأين تحسب واجداً هذا المخلوق الملهم المسخر الذي كأنما ينضغط بين الأرض والسماء لشدة ما يجد من حطمة هذه الدنيا- حتى تكتب من تاريخه فصلاً في ذلك المعنى، وحتى يخرج من لغة الأقدار ما يصحح لفظاً واحداً من لغة الناس؟ ألا إن الأرض لا تشهد كل يوم نبياً مثل أيوب يمتحن الله صبره امتحان الألوهية للنبوة، وإذا لم تكن تلك المصيبة رعاك الله كأنه في باب النقمة تاريخ غير إنساني، فإن بينها وبين معنى التعاسة الذي يضج الناس منه كالفرق بين رؤية السيف مسلولا على العنق وبين رؤيته على العنق.

ولقد أعرف رجلا من أهل الفقر النظيف أعطى ابنته قطعة فيها عشرة غروش، وأرسلها يبتغي بها رزقا من الطعام، فأضاعتها كأنما أضاعت عقلها، فضاقت عليها الدنيا، وخيل إليها أن ليس على الأرض ما يسع طفلة

فلم تجد لها غواثاً إلا الموت يحول بينها وبين أبيها، فجرعت من "الفنيك" جرعة كانت فيها نفسها، وابتعدت عن أبيها ولكن بُعدَ ما بين الدنيا والآخرة! فهذا مثال مما يجلب الضعفاء على أنفسهم من التعاسة: تموت الفتاة: وتسير الجنازة، ويفتح القبر لعشرة غروش

ويحدث في العالم هذا الفراغ، وتخرج الدنيا إحدى عجائب التعاسة ويشهد الناس ذلك المنظر القاتل، وكل هذا لعشرة غروش

ويقع للفتاة أمران أهونهما الموت، وأصعبهما الذي لا يحتمل ضياع عشرة غروش..! وما عشرة غروش يا بني؟ إنها قوت حمار في يوم أو يومين، ونشوة سكير في ساعة أو ساعتين، ولذة فاسق في لحظة أو لحظتين، ولعنة الله على غني في نفس من حياته أو نفسين! ولكن يعلم الله كيف كانت في نفس تلك المسكينة من غلظة أبيها وقسوته وما خشيت من بادرته وما حسبت من إنضغاته عليها، وكيف استحالت هذه القطعة تاريخا طويلا من الوساوس والأوهام حين أضاعتها، فالناس ناس لولا الوهم، وكان الوهم وهما لولا الناس!

ص: 21

ولعمري ما الذي يجعل الفرد جبانا في لقاء الحوادث حتى يخاف الحياة فيعوذ بالموت، ويضرب ما أقبل من الدنيا بالذي هو مدبر، أو يخشى الموت فيتعذب بالحياة ما أدبر منها وما أقبل؟ أما إن ذلك ليس من فقر ولا غنى، ولكنه حرص على الحياة يخالط بعض الأنفس ويستمكن منها حالة بعد حالة، فإذا هو انقلب في آخرة الأمر خوفا من الموت، ثم لا يزال يحور وينمي وهو ذلك يخلع القلب من الإيمان الذي يربط عليه واليقين الذي يثبت به، حتى يبلغ بعد حين أن يكون خوفا من الموت، ورجع الخوف من الموت مع ذلك البلاء خوفا من الحياة، فهذه أصلحك الله حالة من الجنون تستلب العقل، وسواء من أصيب بها ومن خولط في عقله، وليس معها هؤلاء الضعفاء كما يشهدون على أنفسهم إلا موت الجبن الذي يسمى انتحارا، أو حياة الجبن التي تسمى ذلا. ولخير للمرء أن يكون حمارا من صنعة الله وتعرفه الحمير، من أن يكون حماراً من صنعة نفسه وتنكره الناس....

إن لنا على هذه الأرض حياة واحدة علم أهل العلم إنها حقيقة مسرعة بين أوهام، فهي ما تبرح تجاهد كل شيء ولا تثبت أطول من مدة جهادها إلى أمد غايته أرذل العمر، وعرف أهل الجهل أنها تتقدم إلى الموت وأن الموت يتقدم إليها فهما لا بد ملتقيان. لا العلم ولا الجهل يرتاب أو يشك في الموت. ولا الفقر ولا الغنى، ولا الصحة ولا المرض ولا شيء عن خصائص الأحياء، لأنه ليس على الأرض حي قديم

ولكن العالم والجاهل، والفقير والغني، والصحيح والمريض، كل هؤلاء يخافون الموت ويحرصون على الحياة إلا قليلا منهم، فليتهم علموا أن النفس روحية وأنها تألم لهذا الخوف ولا تقار عليه، إذ هي لا تعرف الموت لأنها خالدة، ولكنها تعرف الألم لأنها في غير دار الخلود، ومعنى ذلك أن الإنسان يخاف الموت، فيصل الخوف بالنفس، فتردها إلى حوادث الحياة فتخفيه هذه الحوادث فيذله هذا الخوف، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت.

ونحن إنما ننصب الحبالة ثم نرتبك فيها ونضطرب فيها فكأننا لا نصيد إلا من أنفسنا، إذ لسنا نجهل أن للنفس حظا ليس للجسد، وأن الفارس لا يربط في الإصطبل وإن كان جواده فيه، غير أننا مع ذلك نحاول أن نغدو النفس من اللذة الجسمية، وأن نعلف الفرس والفارس من طعام واحد

فهذا التناقض الذي نسيء به إلى أنفسنا هو الذي يجعل النفس خائفة من الحياة إذ لا تجد فيها غير ألم التعبد للأهواء والشهوات، ولا يصيب من الحياة إلا ما تستذم به الحياة إليها، فلا يكون من ذلك إلا أن تسيء إلينا هذه النفوس بتناقض آخر، فربما كان الرجل في النعمة السابغة قد أينعت خضراؤها ثم هو لا يشعر منها إلا ما يشعر من المصيبة الماحقة، ومتى فزعت النفس من الحياة كما عرفت فلا هناءة على ذلك الفزع، ولا تكون الحياة من ثم إلا موتا مستمرا أو خوفا من الموت لا ينقطع.

قال "الشيخ علي": يا بني إن الحرص جبن، والجبن ذل، والذل استعباد، وما يدخل من هذه الأبواب إلا الشر، فكن حرا من الأهواء كما خلقت وكما خلقت الحرية التي لا قيد لها من رذائل الدنيا، فإنك لن تراع ولن تعرف مما يسميه الناس تعاسة أكثر مما تعرف مما يسمونه سعادة، ولن تجد في مصائب الحياة ما يموت دونه الصبر الجميل، فإن عمر هذا الصبر أطول أبدا من عمر الصابرين! لذلك لا يغضب الفيلسوف ولا يخاف الشجاع، ولا يبخل الكريم، ويذل الأنوف، ولا ينافق الرجل الحر، ولا يكذب الرجل الشريف، وإنما هذه مظاهر محدودة من حرية النفس، فكيف بالنفس إذا كانت حرة من كل أقطارها؟ وقديماً علم الناس أن من لا يبالي بشهوات جسمه هو الذي يستريح وداعا ويتعب التعب في البحث عنه، وما علمت ولا علم الحكماء والأطباء غذاء تسمن عليه المصائب والأحزان إلا الحرص على الشهوات!

ص: 22

وليت شعري ما هي هذه الشهوات؟ أما إنها في الحقيقة نزعات طبيعية لا بد منها بمقدار، لأن الطبيعة الإنسانية تعالج نفسها بما يعينها على البقاء وما يجعلها صالحة له على الوجه الأفضل، فهي تغري الإنسان مرة وتؤلمه مرة، وكل ذلك ليجلب لها أو يدفع عنها. فما تسميه لذة من لذات الجسم إنما هو علاج طبيعي من ألم طبيعي لا أكثر ولا أقل

كالأكل مثلا: فما كانت الطبيعة لتغري به هذا الإغراء حتى فات عند أكثر الناس حد اللذة لولا أن الجوع انحلال في الجسم، فإن هو أسرف عليه أو استمر به أوقع الفساد فيه وركبه بالعف علة بعد علة.

غير أن الإنسان بما فيه من شبه البهيمة ينجذب إلى طبع البهيمة غالبا، ونسي أن للبهائم وازعا طبيعيا وهو فضيلتها الخاصة بها، فأقبل يرتع ما شاء، وجد به الحرص بمقدار ما يطمع فيه، وغلبه الطمع على بصيرته، فلا يكون في إنسانيته إلا بهيمة تتخيل وتتفنن ما لا يتفنن إنسان ولا بهيمة، وما تجد من مستهتر بالشهوات إلا وجدته من أجل ذلك راضيا مغتبطا يتمنى لو أنه في هذه الشهوات بهيمة البهائم كافة!....

أف لهذه الدنيا! يحبها من يخاف عليها، ومتى خاف عليها خاف منها، فهو يشقى بها ويشقى لها، ومثل هذا لا يكاد يطالع وجه حادثة من حوادث الدهر إلا خيل إليه أن التعاسة قد تركت الناس جميعا وأقبلت عليه وحده، ولولا الخوف يزلزل قلبه لأدرك الفرق بين النسمة والعاصفة، وعلم أن اللفظة لا يلزم منها أن تخلق معناها، وأن ليس كل ما نسميه تعاسة يكون في حقيقته من التعاسة.

وترى الواحد من هؤلاء لا يزال يلوك لسانه في كلمات من التأميل والسخط والألم والنفرة وغبرها من مما هو من لغة الحرص على الحياة، فهو على الأرض وكأنه يعيش في سحابة تجري بها الريح، ولعمري كيف تهنأ الحياة مثل هذا إلا إذا كانت أديم الأرض من ورق الزهر، وكانت مزابل هذه الدنيا رياضا غناء، وعدت الطيور الجميلة من كلاب هذه المزابل

؟ كذلك لا يسعد أكثر الناس بالحياة ولكنهم يشقون بالحياة والموت، ومن ثم ظلموا التعاسة فجعلوها أصغر مما هي، كما ظلموا السعادة فتوهموها أكبر مما تكون.

قال "الشيخ علي": واعلم يا بني أن القدر وإن كان من السماء ولكن تاريخه ثابت في الأرض، وما كانت المصائب جديدة في الحياة وهذه المحابر التي كتب منها تاريخ الإنسان لا تزال كما كانت من قبل تشرق بالدماء والدموع، ولا يزال الدهر يمد منها ولا يزال يكتب منن هذا المداد، فمم يخاف هذا الإنسان الجديد وليس فيما ينزل به إلا ما نزل بمن قبله، وما هو بخالد ولا بمتروك لما يحاوله، ولقد علم يقينا أن الله لم يخلق فيما خلق مقراضاً يقلم أظفار الموت؟ يريد من قدر الله زلالا صافيا كأنه ماء مرشح يصب من حياته في كأس من البلور

! ويبتغي أن يكون في الأرض تاريخا جديدا سلسا منقحا ليس فيه شيء من تلك الألفاظ الجافية في نبوها وخشونتها، ألفاظ التخريب والتدمير والتقتيل والجوع والمرض والأحزان والهموم ونحوها.

فأما أن يكون من ذلك التاريخ القديم الذي تمليه قدرة الله على الطبيعة، ثم لا يكون إلا كالطبيعة نفسها في النظم والنسق ولا يجيء الإنسان الجديد فيه إلا طباقا أو ناسخا أو منسوخا، فهذا موضع النفرة ومكان الأذاة ومنه مثار الهم وإليه مسرب الدموع، وذلك والله معنى إن لم تنشأ منه تعاسة الإنسان فهو على كل من تعاسته.

الإنسان كله يا بني منطو في رأسه، وما هذا الجسم إلا أداة، منه ما يحمل الرأس، ومنها ما يحمل عنه، فالجسم دابة من الدواب لا أكثر ولا أقل، والرؤوس لا يمكن أن توزن بميزان حتى يعلم فرق ما بين رأس ورأس آخر، فالإنسان مختبئ محجب، وكأنه لا يزال منه جزء عند الله فما ينفك يجد من نفسه ما يبعثه على النزوع إلى الغيب والفكر في المستقبل لأن هذا المستقبل تمام له، ولا يبرح يشعر بالحياة شعور المتألم أو المتعب أو المكدود أو المغيظ أو المفزع أو أي ما يكون من أشباهها، لأن هذا الحاضر غير تام به ولا كامل معه، وليس ذلك بعجيب، ولا من العجيب أن يألم الإنسان لحياته، ألا يرى أنه في جسم لا راحة للروح إلا بعد تحطيمه؟

ص: 23

ومن ههنا تفاوت الناس، فمنهم من تراه كأنه يحاول أن يكشف عن جزئه الذي في الغيب ويصل بينه وبين حاضره، فيتوهم في الحياة ما ليس فيها ويسخرها لأوهامه باطلا، ومنهم من يقبل على شأنه ويأخذ الحاضر بما فيه ويعرف أنه حي ولكن على شروط لا بد منها للحياة.

فأما الجاهل الأحمق المخدوع فكأنما يرى في مرآة خياله الغيب كله، أو ما يظنه الغيب كله، فلا يعدو أن يسترسل في ظنونه وأوهامه استرسالا أشبه بالأبد الذي لا حد له، ومن ثم لا يرضيه شيء ما دام في هذه الحياة شيء لا يرضيه، ولا يقنعه شيء ما دام في الدنيا شيء لا يناله، وكل مصيبة يخشاها أو يتوقعها فكأنما هي نازلة به أو قد نزلت، وعنده أن كل ما يمكن أن يكون ينبغي أن يكون، وما هو جائز فليس ما يمنع أن يكون واجبا، وما قيل أنه غير جائز فهو غير مستحيل، وما الذي يمنع أن تخسف به الأرض أو تقع عليه السماء، أو ينحدر إليه رجم من الشهب، أو ينتهك حجاب قلبه، أو يسل البلاء خيط عظامه أو يخالط خوفه كل داء دوي، ثم ما شئت من أو بعد أو.. إلى أبعد حد مما انتهى إليه أهل الفقر في الفقر وأهل الأمراض في الأمراض وأهل الأحزان في الأحزان وأهل المصائب في المصائب، فيذهب العمر باطلا بالذي عليه والذي له، ويجني هذا الإنسان على نفسه من أثر الخوف والطمع ما لا يستقبله أبد الدهر، فلا يهنأ بموجود، ولا يطمئن إلى مرجو، ولا تكون آماله إلا مخاوف مستبهمة لا مأتى لها من الحقيقة، فيجد روح التعاسة في أشياء كثيرة ولا يكاد يصيب العزاء في شيء قليل! وهنا يا بني الحفرة التي يقبر فيها بعض الأحياء ليعيشوا عيشة وهمية، أو ليموتوا موتا وهميا، تلك الحفرة التي يقضي الأحمق شطرا من عمره واثبا في الأوهام بيت شاطئ الدنيا والآخرة حتى إذا انتهى إليها تردى فيها وكان الرأي لو ادخر لها بعض تلك الوثبات....

وأما الحكيم الذي يعرف الحياة كما يمكن أن تكون، ويعرف أن كل حي من الناس فإنما هو حي على شروط لواهب الحياة، ثم للحياة نفسها، ثم لأهل الحياة فهو أدرى بالمصائب من ذلك الأحمق، ولكنه لا يثيرها ولا يبحث عنها ولا يمتلق لها العلل من نفسه ولا يعترضها في غيره، وما نزل منها فإنه يفتح لها من قلبه سبيلا تمر فيه بين العزيمة والجرأة، وإلا فبين الثبات والصبر، وإلا فبين التوكل والإيمان، وما أهون مصيبة تفتح لانصرافها ثلاث طرق واسعة! وهذا الحكيم يجد في محنته لذة تشبه لذة الدرس لمن همه الحكمة واختبار الأشياء ومعاناة خواصها وأسرارها، كأنه في مصائبه في معمل للتجربة والاختراع، فإنما هو يتلقى عن الله ما لا يصيبه إلا هو، وما لا يصرفه عنه إلا هو، وإنما يستعمل رأسه للفهم لا للوهم، وهو يعرف أن علم الله أزلي يسع الأزل كله، وأن الأقدار من علم الله فهي مقسومة على الدهر كله، وأنه هو في جانب الدهر لا يبلغ أن يناله ما تنال الشرارة من ماء البحر إذا انطفأت في البحر.

هذا الحكيم يعرف أن الحياة ليست هي الانتهاء إلى الموت على أي وجه، ولا هي بالهرب من الموت في كل وجه، فهو لا يبالي الموت ولا يخافه، ولا يعبأ بالحياة ولا يرجوها، ولكنه يمشي على صراط من فضائله، وعلى نور من ربه فما دامت فضيلته لا تنكره، وما دام قلبه مطمئنا، بالإيمان، فكل ما بين الأرض والسماء، بين الآخرة والأولى، وهو مادة العزيمة في نفسه، ومادة القوة في روحه، ومادة الابتسام على شفتيه! فإن نزل به هم وأدركه خور الطبيعة وضعف الإنسانية فلم يستطع أن يخلص منه، صرفه إلى جهة غير جهته، واستخرج منه معنى غير معناه، وقابل بين راحة الرضا به وتعب السخط عليه، ونظر في مبلغ شره وما عسى أن يكون حاله لو نزل به ما هو شرمنه، وجمع بين الدعاء لله أن يصرف عن ما وقع، وبين الحمد لله على وقايته مما كان يمكن أن يقع، ثم لا يزال يعالج الهم مستأنياً ربيطاً جأشه تثوب إليه القدرة على نفسه فتسكن إليه النفس من نفرتها وحتى يرى هذا الهم كأنه مما لابد منه في رياضة أخلاقه، وتنزيه شمائله، وكأن صدع الجانب الذي بينه وبين الناس أو بينه وبين نفسه إنما لتقوية الجانب الذي بينه وبين الله.

ص: 24