المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ما مدى نشاط هذا العمل التبشيري: - المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي

[إبراهيم خليل أحمد]

الفصل: ‌ما مدى نشاط هذا العمل التبشيري:

‌ما مدى نشاط هذا العمل التبشيري:

يسير العمل التبشيري في أي قطر متأثرا بالناحية السياسية تأثراً كبيراً، ففي البلاد المتمتعة بحريتها واستقلالها يسير العمل التبشيري في أسلوب الدهاء باستخدام تلاميذ المبشرين والمستشرقين من الوطنيين، حتى لا يصدموا بقوانين البلاد، فيكرهوا إلى الرحيل الفوري، لهذا كان لابد من قوة عسكرية تساند الحركة التبشيرية، وهذه القوة كانت تكمن في نوايا الإنكليز منذ أن اشتركوا مع القوات العثمانية في إجلاء الفرنسيين عن مصر سنة 1801م، واستطاعوا بفضل الوفود من المرسلين والمستشرقين أن يثيروا فتناً في البلاد، وتمكنوا من التفريق العنصري بين المسلمين والأقباط، حتى كانت ثورات داخلية دفعت خديوي مصر إلى التفكير في الاستعانة بأية دولة من دول أوروبا لتمكينه من العرش، ووجدت إنجلترا الفرصة سانحة لتدخل مصر التي تتشوق إلى احتلالها، واستطاعت الجيوش الإنكليزية أن تبطش بالمجاهدين من الضابط الأحرار في 15/9/1882م، كما استطاع خديوي مصر أن يتخلص من الأحرار من زعماء الثورة العرابية بالنفي والتشريد.

وهكذا وطد الاستعمار أقدامه في البلاد بحجة حماية عرش الخديوي، وأصبح المصريون نهباً بين استعمارين غاشمين، استعمار الأسرة العلوية، واستعمار الأجنبي، حتى كانت الصيحة المدوية التي أهتز لها العالم بأسره، والتي أسقطت الملكية في مصر، وأخرجت الطاغية الفاسد من البلاد، ثم طهرت البلاد من الاستعمار والرجعية بفضل جهاد أبطال الثورة بقيادة السيد الرئيس جمال عبد الناصر، فما أن بزغ فجر يوم 23 يوليو سنة 1952 م حتى أشرق على البلاد عهد جديد من الحرية والعدالة والاشتراكية، واستطاعوا بفضل إيمانهم بالله وبرسوله من إجلاء المستعمر الغاصب

ص: 52

في 19/10/1954. ولقد صدق الله تعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .

فالمؤسسات التي ورد بيانها في صفحة 28 تتبع المذهب البروتستانتي.

وبالإضافة إلى هذه المؤسسات هناك مؤسسات للمذهب الكاثوليكي لا تقل في ضخامتها وبرامجها عن المؤسسات البروتستانتية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1-

المعهد الشرقي بدير الدومنيكان بشارع مصنع الطرابيش بالعباسية بالقاهرة.

2-

معهد دار السلام بكنيسة دار السلام بمصر القديمة.

3-

المعهد الفرنسي بالمنيرة.

4-

مدارس الفرنسيسكان بالفجالة.

5-

مدارس الفرير بالخرنفش.

وهذه المؤسسات - سواء ما يتبع المذهب البروتستانتي والمذهب الكاثوليكي - ملحق بها مطابع كمطبعة النيل المسيحية التي يملكها البروتستانت بشارع الأصبغ بالزيتون. وهذه المؤسسات تخضع مباشرة للنفوذ الأمريكي الإنكليزي الفرنسي.

وتبحث هذه المؤسسات في التراث الإسلامي، وتتعاون مع أبنائها من الوطنين الذين تثقفوا بالثقافة الإنكليزية أو الفرنسية ممن درسوا في أمريكا أو إنكلترا أو فرنسا الآداب الشرقية، والثقافة الإسلامية، وهؤلاء يزداد أثرهم كلما أرتفع شأنهم،

ص: 53

واتصلت مشورتهم بتوجيه الآداب أو الثقافة في مصر، وعلى هذا القياس بالنسبة للدولة الإسلامية.

وكان يرعى الجانب البروتستانتي (كينيت كراج) ، وهو أمريكي شديد التعصب ضد الإسلام، قام بالتدريس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة لفترة من الوقت، وهو الآن يشغل وظيفة رئيس تحرير مجلة "العالم الإسلامي" الأمريكية، وهي مجلة تبشيرية سافرة. ورئيس قسم اللاهوت المسيحي في جامعة هارتفورد، ورئيس جمعية البعثات الأمريكية في الخارج.

وقد جاء بعده القس صموئيل زويمر، ثم جاء بعده القس أ. أ. ألدر، ثم جاء بعده الدكتور جون طمسن، ويعاونه القس والقس ماكجل الرئيس الحالي للإرسالية الأمريكية بالجمهورية العربية المتحدة وجمهورية السودان.

كما يرعى الجانب الكاثوليكي المستشرق الفرنسي لويس ماسيثون، عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شئون شمال أفريقيا.

ولهذه المؤسسات سياسة جغرافية رشيدة، تهدف إلى تحقيق العمل التبشيري، فالمستشفى أو المدرسة أو الجمعية ينبغي أن تكون في دائرة شعبية، وكل الطرق تؤدي إليها دون مشقة أو عناء، وعلى سبيل المثال قاعدة إنشاء المستشفيات، ولنأخذ مثلاً مستشفى هرمل، فإن الموقع الجغرافي للمستشفي له أثر فعال في تحقيق أهداف التبشير، ومن عجب أن واضع تصميم مستشفى هرمل الإنكليزي وتصميم مستشفى القصر العيني - وكلاهما في عهد اللورد كرومر - مهندس إنكليزي.

ولنأخذ للكليات مثلاً الجامعة الأمريكية، فهي في منطقة عمرانية

ص: 54

في ميدان التحرير، وكل الطرق توصل إليها، وجامعة القاهرة في منطقة نائية بالجيزة، ويصل الجيزة بالقاهرة كوبري عباس، فإذا ما حدث شيء ما، من تعطيل المواصلات أدى إلى تخلف الطلبة عن الانتظام بكلياتهم، ثم أن المسافة بين جامعة القاهرة بالجيزة ودار الكتب التي هي مصدر الإطلاع للطلبة شاسعة، والمسافة بين الجامعة الأمريكية ودار الكتب بباب الخلق بضع خطوات.

مثال آخر: كلية أسيوط الثانوية الأمريكية تقوم في منطقة آهلة بالسكان، مع أن المدرسة الأميرية الثانوية في بلدة الوليدية ويستدعى الوصول إليها عبور قناطر أسيوط.

ثم أن هذه السياسة ثابتة لا تتغير بتغير الأشخاص، ولا بتقادم الزمن، لأن منهاج العمل ثابت، وما على الإداريين إلا التنفيذ وفق هذا المنهاج دون تغيير أو تبديل. والذين يضعون هذا البرنامج هم أعضاء المحفل العام أثناء انعقاد المحفل، ومن هذا كانت السياسة المنهاجية سياسة مدروسة من كل جوانبها، ولنأت إلى شرح الخطة الجغرافية في بناء المستشفيات:

مقارنة بين مستشفى قصر العيني ومستشفى هرمل:

إن مستشفى قصر العيني يخضع لروتين معين، وموظفو المستشفى وأطباؤه مسئولون أمام الجهات العليا عما يعملون، والإمكانيات في المستشفى محدودة، فإذا ما تجاوز المرضى عدد أسرته رفض إتاحة الفرصة لهم بالنزول إليه.

وهنا تظهر السياسة الماكرة في قرب مستشفى هرمل من مستشفى قصر العيني إذ يتوجه المرضى الحائرون - في مرارة نفس وفي خور وضعف كارهين - إلى مستشفى هرمل، وهناك يجدون

ص: 55

من الابتسامات والترحيبات ما ينسيهم مرارة المرض وقسوته، ويرون الفرق في المعاملة دون أن يدركوا أن موظفي مستشفى قصر العيني مقيدون بتعليمات ولوائح لا يمكن تخطيها إطلاقاً.

ويطمئن المريض إلى مستشفى هرمل وإلى موظفيه، وهنا يبدأ معه النشاط التبشيري السافر في أسلوب الصداقة والمحبة والإنسانية، والمريض منذ اللحظة التي يدخل فيها مستشفى هرمل تدون له بطاقة شخصية لمعرفة كل شيء عنه.

وبهذه المناسبة يحق للمسلم أن يسألني: ما مدى خطورة المبشر؟ وما هي شخصيته؟

المبشر الإنجيلي هو الإنسان الذي وهب حياته وماله للمسيح وللكنيسة، فهو يتفانى بعلمه وماله في سبيل التبشيري، وهو - في مستواه العلمي - لا يقل بأي حال من الأحوال عن الدرجة الجامعية بتفوق. ذلك لأن طبيعة عمله وقيامه بالتبشير السافر توجب عليه طاقات من المعرفة، ليستطيع أن يناقش ويباحث وينتصر.

وللمبشر الإنجيلي من التوجيهات الكتابية ما يحفزه للاستبسال في هذا العمل، فمن الآيات التي وردت في الإنجيل:"أحتمل المشقات، أعمل عمل المبشر تمم خدمتك"(1 تي 4: 5) وفي انتظار الجزاء من الله: "أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع"(فيلبى 3: 14) .

ولهذه المواعيد يستبسل في جهاده، وشعاره: (من سيفصلنا عن محبة المسيح. أشدة أم ضيق أو اضطهاد أم جوع أو عرى أم

ص: 56

خطر أم سيف. . . فإني متقن أنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة، ولا رؤساء، ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلية، ولا علو، ولا عمق، ولا خليفة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح" (رومية 8: 35 - 39) .

لهذه الروح العالية التي يتميز بها المبشر في جهاده، ولعظم مسئوليته العلمية يستطيع أن يعرف كل شخص تقابل معه لسنين مضت، يعرف اسمه، وأكثر من هذا، يستطيع أن يعرف صلات هذا الشخص بالآخرين، وهذا بفضل ما يدونه من ملاحظات في كراسة خاصة بأرشيف مكتبه، هذه الكراسة يستعرضها في خلواته للصلاة من أجل هؤلاء ليربحهم للمسيحية وللكنيسة، ويحمل المبشر مسئوليات ضخاما يقوم بها طواعية وكأن الله يراقبه عن قرب، ويطالبه بالتفاني في الخدمة.

ألا ليت هذه الروح النبيلة تتحول إلى الدعوة الصادقة الأمنية في خدمة الإسلام، والله يهدي قلوبهم إلى الصراط المستقيم، ويهدي أفكارهم إلى الوحدانية الصافية الخالصة التي أفصح عنها القرآن الكريم. وبينها الرسول العظيم، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إمام المرسلين، وخاتم النبيين، وسيد المجاهدين.

وأنتقل بالقارئ النبيل إلى حقيقة العمل التبشيري ونطاقه ووسيلته:

العمل التبشيري بين المسلمين فن من الفنون. يحتاج إلى تدريب ودارية كاملة، يتوقف عليها استعداد المرء الفطري من الذكاء وسرعة البديهة وقوة الجلد والصبر على المكارة وتحمل المشقات والعوز دون تذمر أو تضجر، ورجحان الفكر، ونضوج العقل،

ص: 57

وسعة الصدر، وقوة الإدراك، لينفذ إلى أعماق السائل أو الطالب، ويدرك ما يخطر على باله من أسئلة.

وينقسم العمل التبشيري ثلاثة أقسام:

1-

التبشير بين الجماعات: وهذا يحدث بالمدارس والمستشفيات وفي الندوات الدينية العامة.

2-

التبشير مع الفرد الواحد: وهذا يحتاج إلى مثابرة وصبر واستعداد للترحاب بالضيف وإظهار كل إمكانيات الود والصداقة، حتى يأنس إليه الفرد ويثق به، وهنا يصبح آلة مسخرة يكيفها المبشر كما يشاء ويصل بها إلى النصرانية، طواعية واختياراً.

3-

العمل التبشيري الصامت: وذلك بتوزيع الكتاب المقدس، والنشرات الدينية، والصور والأيقونات، ومن الكتب الجدلية الخطيروة - التي يستعين بها المبشر للوصول إلى غايته.

هذه المجموعة هي:

1-

كتاب ميزان الحق: للدكتور فاندر المستشرق الأمريكي، والدكتور سنكلير تسدل.

2-

كتاب الهداية: ويقع في أربعة أجزاء، وهو تفنيد مريع للإسلام، وطعن سافر في القرآن الكريم.

3-

كتاب مقالة في الإسلام: للدكتور المستشرق سال.

4-

كتاب مصادر الإسلام: للدكتور سنكليز تسدل.

وهذه الكتب الأربعة تعتبر للمستشرقين والمبشرين من أخطر المراجع للهجوم على الإسلام والقرآن الكريم والرسول الأمين.

ص: 58

ولا يفوتني أن أشير إلى جهاد المسلمين في هذا الصدد، فقد هب رجال من المسلمين للدفاع عنه، والزود عن الرسول الكريم.

والكتب الآتية هي ردود على ما جاء بالكتب المذكورة آنفاً:

1-

إظهار الحق: للشيخ خليل رحمه الله الهندي، هذا الكتاب لو تم تحقيقه لكان قوة تفند مزاعم أعداء الحق وتسد أفواههم.

2-

السيف الحميدي الصقيل: للرد على كتاب الهداية.

وإذا شاء القدير أن يبوئني المكانة الثقافية الدينية التي تخول لي حق البحث والكتابة فسأقوم بفضل الله بالرد على كتابي "مقالة في الإسلام"، و"مصادر الإسلام" وكتاب ثالث متداول بين أيدي جمهور المسيحيين، هو "المسيحية في الإسلام"، للايغومانس إبراهيم لوقا، والله المستعان.

والعمل التبشيري في الدول المختلفة يسير على نمط واحد مع مراعاة مقتضى المقام، فمثلاً الناحية الشعبية التي يتميز بها المستشفى غير الناحية الخاصة التي تتميز بها الكلية، ولهذا يتلخص العمل التبشري في هذا الأسلوب:

1-

التبشير بالفانوس السحري.

2-

التبشير بسرد قصص الأنبياء والتابعين لهم والمتواترة بين المسلمين.

3-

التبشير بإلقاء المواعظ في المناسبات العامة: الجنازات، الاحتفالات العلمية.

4-

التبشير بإلقاء المواعظ السافرة المقارنة، ويقوم بها الآن

ص: 59

الشيخ كامل منصور كل يوم اثنين من كل أسبوع بدار الإرسالية الأمريكية بالأزبكية، ويتنقل من الإسكندرية إلى طنطا وإلى المنيا وإلى أسيوط وإلى عواصم المحافظات - لهذه المواعظ السافرة.

أولاً: العمل التبشيري في المستشفيات:

يتوافد المرضى على العيادة الخارجية، ويقوم الكاتب وهو واعظ إنجيلي بتحرير بطاقة له، كما تقوم الممرضة بمعرفة شخصية المريض وظروفه الخاصة، هذه التحريات كلها تباعاً إلى مكتب قسيس المستشفى، لتبويبها وتصنيفها.

ويلقى واعظ من قبل قسيس المستشفى قصة دينية قصيرة على جمهور المرضى المنتظرين في خيمة الاجتماع، فإذا دخل المريض المستشفى فإنه يستمع لدرس دسني في أصيل كل يوم، وقد يتبعه عرض بالفانوس السحري، ثم توزع على المرضى النشرات لقراءتها والتسلي بها.

وفي هذا كله تعقد بمكتب القسيس أو بمنزله ندوات تبشيرية فردية لمن يقبل على المسيحية، وإذا وثق القسيس بإخلاصه أغدق عليه الهبات ما ينسيه الأهل والأصدقاء. وإذ يتمادى الإنسان في هذا التيار يجد نفسه مخزياً، وكأن المسلمين حوله يكظمون غيظهم ويتمنون الفتك به، فإذا صادف أحد مشايخه الأفاضل من المسلمين، ووجهه التوجيه السليم، استطاع أن ينأى عن فخ التبشير الكاذب الخادع، وسار في الطريق المستقيم.

ثانياً: العمل التبشيري بالمدارس:

يسير العمل التبشيري بالمدارس بحسب تدرج المراحل التعليمية. ففي مرحلة التعليم الجامعي والثانوي يأخذ التبشير

ص: 60

أسلوب المناقشة والبحث العلمي، ويحاول المبشر أن يعتمد كثيراً على الكتب الإنكليزية أو الفرنسية. ومما لوحظ أن هؤلاء الطلبة ليسوا على شيء من المعرفة والفقه بالأمور الدينية، وهذا مما يساعد على العمل التبشيري مساعدة إيجابية.

ويذهل المسلم حين تبشيره بالنصرانية من القرآن الكريم، وتظهر عليه علامات الدهشة التي تستغل استغلال حكيم في تكييف الموقف، فمن الآيات الدالة على تدعيم الوحدانية بحسب العقيدة المسيحية قوله تعالى:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} .

إلى هنا نكتفي من الآية. وهيهات أن يتذكر المسلم بقية الآية وهي قوله تعالى {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} .

ومن الآيات الدالة على مكانة المسيح بن مريم قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} . وتطابقها بما جاء بإنجيل لوقا 1: 30 - 35 (لا تخافي يا مريم، لأنك قد وجدت نعمة عند الله، وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع

وقال لها: الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك) .

ومن الآيات ما يجعل المسيح بن مريم فريداً بمنزلته بين الأنبياء كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} ، ويطابقها ما جاء في إنجيل لوقا وإنجيل يوحنا:(الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله) ، (في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. "يو 1: 1") .

ص: 61

وبهذا التدرج نصل بالمسلم إلى عقيدة التجسد.

ولكي نؤكد له هذه العقيدة من القرآن الكريم نذكر قوله تعالى:

{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} .

ثم نبرز فكرة التجسد من قوله تعالى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} ، نتدرج في المناقشة والبحث العلمي، ثم نطابق هذا بما جاء في التوراة:(وظهر ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة، فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تحترق، فقال موسى أميل لأنظر هذا المنظر العظيم، لماذا لم تحترق العليقة؟ فلما رأى الرب أنه مال لينظر ناداه الله من وسط العليقة، وقال: موسى موسى. فقال ها أنذا. فقال: لا تقترب إلى هاهنا، اخلع نعليك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. (سفر الخروج 3: 2 - 5) .

ويبرز المبشر فكرة التجسد من هذين القولين في القرآن الكريم {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} ، وفي التوراة (ناداه الله) .

ومن هنا يتبلبل ذهن المسلم ويصيخ بأذنيه، ويستسلم للبحث العلمي في إثبات نظرية التجسد.

ويحاول المبشر أن يأتي بآية من الإنجيل فيأتي بقوله: (عظيم هو سر التقوى، الله ظهر بالجسد) .

وللمسلم أسوق أن التوراة تنفي تجسد الله سبحانه وتعالى، فهذا سيدنا موسى عليه السلام قال لله سبحانه وتعالى: (أرني مجدك. فقال: أجيز كل جودتي قدامك، وأنادي باسم الرب

ص: 62

قدامك. وأتراءف على من أتراءف، وأرحم من أرحم، وقال: لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش، وقال الرب: هو ذا عندي مكان، فتقف على الصخرة، ويكون متى أجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة، وأسترك بيدي حتى أجتاز، ثم أرفع يدي فتنظر ورائي، وأما وجهي فلا يرى) . (سفر الخروج 33: 18 - 32) .

والقرآن الكريم براء من هذا الهراء، فإن قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ينفي عن الله عز وجل المادية والكيفية والكمية والنوعية، وهذا لأنه واجب الوجود لذاته، وما سواه ممكن الوجود في ذاته.

ويتحدث المبشر عن تزكية القرآن الكريم بمودة النصارى في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} . وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . (البقرة 62) .

وفي هاتين الآيتين تذكير للمسلم بمساواة النصراني بالمسلم من حيث الوحدانية ومن حيث تمتعه برضوان الله.

ويسترسل المبشر في قوله، فيقول: أن الله كلف الرسول الكريم باستفتاء أهل الكتاب فيما استعصى عليه بقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ)

زهنا يتغاضى عن ذكر بقية الآية، وهيهات للمسلم أن يتداركها. وهي: (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} .

ويؤكد المبشر صدق التوراة والإنجيل بقوله: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ

ص: 63

الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . ثم يربط بين هذه الآية وما جاء في الإنجيل من القول: (لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله مسوقين بالروح القدس) .

(2 بطرس 1: 21) .

ويسترسل المبشر في تأكيد حلول الروح القدس على المسيح بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} (110: المائدة) . {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} ، ثم يتغاضى عن قوله تعالى بعد ذلك:{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} ، (البقرة 87) . ويربط بين هذه الآية وبين جاء ما جاء بالإنجيل:(أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئاً من الروح القدس) . (لوقا 4: 1)

رواسب التبشير والاستشراق:

هذه الحقائق سالفة الذكر مريرة، لكنها كانت رواسب للتبشير والاستشراق، بل توجيه سافر من الاستعمار الذي ظل منذ سنة 1882 وهو يهدف إلى شل القيم الدينية الإسلامية، وإلى الازدراء باللغة العربية بصورة إيجابية، وذلك بتقويم العلم الأوربي، وتمجيد الحضارة الأوربية، والاستمساك بأهداب المدنية الغربية. ولقد نجحوا إلى حد ما في هذا، إذ خلقوا لفترة السبعين سنة خلت أجيالاً متعاقبة لا تفقه من الإسلام شيئاً، ولا تحفظ من القرآن إلا آيات معدودات، ولهذا كان من اليسير غزوهم وبلبة أفكارهم.

ويقول الدكتور محمد البهي وزير الأوقاف السابق ما نصه:

"وكان المبشرون والمستشرقون آمنين في عملهم، إذ أيقنوا أن المؤسسات الإسلامية على تعددها وتنوعها لم تعرف للآن وضعيه

ص: 64

التبشير والاستشراق في توجيه الشعوب الإسلامية، حتى نحاول أن تلقاها، فضلاً عن أن يكون لقاؤها إياها ضعيفاً أو قوياً. فالأزهر الشريف - وهو أكبر المؤسسات الإسلامية في الشرق وفي العالم الإسلامي - لم يخرج برسالته كثيراً عن أن يكون ترديداً للخلف عن السلف. وجمعية الشبان المسلمين تقليد لجمعية الشبان المسيحية في جانب واحد وهو ممارسة الرياضة، ومع هذا لا تقلد جمعية الشبان المسيحية في جعل الرياضة وسيلة للتهذيب الديني، وإن عقدت اجتماعات دينية فينقصها عنصر الجدية وحرارة الإيمان، هذا بالإضافة إلى أن جمعية الشبان المسيحية جزء من النظام العالمي وهي تخضع في مجموعها إلى الكنيسة".

وهم يتجهون دائماً في عملهم التبشيري الفردي إلى إدعاء أن القرآن الكريم موضوع وليس موحى به من الله، وإلى أن الفلسفة العربية أفكار يونانية كتبت بأحرف عربية، وأن اللغة العربية لم تعد صالحة اليوم لاستيعاب كل الأغراض، بدليل الكلمات الأجنبية الدخيلة على العربية، كما يجتهدون في إحياء الشعوبية بين الدول الشرقية: الفرعونية في مصر، والأشورية في العراق، والبربرية في شمال أفريقية، والفينيقية على ساحل فلسطين ولبنان، ويفضلون اللغة الفارسية في إيران - كلغة آرية - على اللغة العربية - كلغة سامية.

وكان لهذا الاتجاه الجديد الأثر السيئ في بلادنا إبان الثورة "ثورة 23 يوليو المجيدة"، إذ دفع جماعة من أقباط مصر إلى تشكيل هيئة دينية سرعان ما سرت في كل أنحاء الوادي باسم "جماعة الأمة القبطية" حوالي سنة 1954، وقد بدأت في أسيوط، وكانوا

ص: 65

يتظاهرون بقيامهم بثورة كنيسة لإصلاح النظام الكنسي، ونتيجة لهذا اختطفوا "الباب من دار البطريركية"، وإذ أراد الله بالجمهورية العربية المتحدة سلاماً وأمناً بارك في رجال الثورة الذين استطاعوا أن يقمعوا هذه الحركة قبل أن تصبح خطراً تسانده الدول الغربية، وصدر قرار جمهوري بحل جميع الأحزاب السياسية وكان لهذا القرار الأثر الطيب في استقرار وتوطيد الأمن في البلاد.

وكان هذا العمل الجليل لطمه على وجه بريطانيا، ولكنها كظمت غيظها حتى معركة بورسعيد سنة 1956م إذ انفجرت مع فرنسا وإسرائيل لغزو الجمهورية العربية المتحدة، ولكن هذه الدول الثلاث قد قهرها الله عز وجل على أمرها ونصر الله رجاله وأعز جنده وأمن البلاد وطمأن أهليها.

والمبشرون والمستشرقون يدعون إلى قراءة الكتب، فيؤسسون المكتبات العامة ويؤثثونها بكل وسائل الراحة للقراء والمطالعين، ويزودونها بمختلف أنواع الكتب في شتى العلوم والفنون، وبدار طباعة لطبع جريدة أسبوعية باسم "الصداقة"، ويرسلونها إلى المترددين على مكتباتهم العامة، ويستغلون المكتبة في القيادة التوجيهية للمتمردين عليها، ويعملون مسابقات في المطالعة بتلخيص مجموعة من الكتب تختار من بين مجموعة تعرضها لجنة المكتبة، ويمنحون جوائز تشجيعية في حفل رائع للفائزين.

وكل هذه الأعمال كفيلة باكتساب صداقة عناصر جديدة لتذوق اللغة الإنكليزية أو الفرنسية والتشرب بالثقافة الأوربية، حتى جاء على الشرق حين من الدهر أصبح في الأسرة الواحدة عدة ثقافات، فبينما تجد الفتاة تجيد اللغة الفرنسية، والفتى يجيد اللغة الإنكليزية، تجد الوالد يعيش على لغة قومه اللغة العربية، ويرى

ص: 66

نفسه غريباً بين أفراد أسرته التي استمسكت بأهداب المدنية الغربية بدلاً من استمساكها بالعروة الوثقى، وأصبحت الأسرة تجعل الأحد عطلة نهاية الأسبوع جرياً على عادات أهل الغرب، ونسيت يوم الجمعة وما فيه من فرض وسنة، وما في أداء شعائره من مثوبة. أما المثوبة ففي لقاء المؤمنين بعضهم لبعض، أما الفرض ففي أداء صلاة الجمعة، أما السنة ففي التزيى بخير ما لدى الإنسان من ثياب {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، وفي أداء الفرض والسنة، وفي لقاء المؤمنين من الأجر العظيم ما فيه.

فهل بعد كل هذا يستبدل المسلم يوم الجمعة بيوم الأحد؟

ومن حسنات حكومة الثورة أنها استأصلت هذه الانحرافات، فجعلت العطلة الرسمية لكل المؤسسات بالجمهورية العربية المتحدة يوم الجمعة فقط، وأصدرت قانوناً بجعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية للتعامل في كل دروب الحياة، في التجارة والصناعة والعلاقات الدولية، وبهذا حفظت للغة العربية، لغة القرآن الكريم ولغة التفاهم بين المسلمين قاطبة، سيادتها.

الإسلام قوة لا تقهر:

لم يكن المستشرقون ولا المبشرون يوماً ما ينصفون الحقيقة العلمية للعلم، بل كانت أبحائهم كلها موسومة بصورة واضحة من أسس عقائدهم، مقاصدهم الخبيثة.

وكان لزاماً على في هذه العجالة أن آتى بحقيقة سجلها التاريخ بمداد من ذهب على صفحات الأيام، فأشرقا دائماً بأمجاد الإسلام والعروبة، وهذه الحقيقة تتلخص في هجرات المسلمين:

ص: 67

في هجرة جعفر إلى أبي طالب إلى الحبشة، وإكرام النجاشي له، بعد تأثره بما عرف من فضائل الإسلام، ولم يكن بيد جعفر سيف يحارب به؛ بل هاجر مجرداً من كل سلاح إلا سلاح الإيمان، ليجد في جوار النجاشي حماية وأمناً وسلاماً.

ويسمع النجاشي بالرسول الكريم، ويصيخ بأذنيه إلى القرآن الكريم، فيؤمن بالله وبرسله، ويحمي ضيوفه المهاجرين في رحابه، الذين حين جاءوا غليه حيوه بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة. فسألهم النجاشي بقوله: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملل؟ فقال جعفر:"أيها الملك كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار، ويأكل القوى منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدق قوله وأمانته وعفافه، فدعانا إلى توحيد الله وأن لا يشرك به شيئاً، ونخلع ما كنا نعبده من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والداء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام - وعدد عليه أمور الإسلام - فآمنا به وصدقناه، وحرمنا ما حرم علينا، وحللنا ما أحل لنا، فتعدى علينا قومنا فعذبوننا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان. فلما قهرونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك". فقال النجاشي: "هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ " قال: "نعم" فقرأ عليه سورة مريم. فبكى النجاشي وأساقفته وقال النجاشي: "إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة". وأرسل إليهم النجاشي فسألهم عن قولهم في المسيح فقال جعفر: "نقول فيه الذي جاءنا به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول". فأخذ

ص: 68

النجاشي عوداً من الأرض وقال: "ما زاد على ما قاله عيسى مثل هذا العود" فنخرت بطارقته (أي تكلمت مع غضب ونفور) فقال: "وإن نخرتم". وقال للمسلمين: "أذهبوا فأنتم آمنون" وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أشهد إنك رسول الله، صادق مصدق، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك جعفر بن أبي طالب، وأسلمت لله رب العالمين". وكان رضي الله عنه رداءاً للمسلمين نافعاً حاكماً بالقسط، مات بأرض الحبشة في رجب سنة تسع، وقيل قبل الفتح.

عن عبد اله بن عتبة، عن ابن مسعود قال:"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحوا من ثمانين رجلاً فيهم عبد الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن عرفطة وعثمان ابن مظعون، وأبو موسى، فأتوا النجاشي".

وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم

ص: 69

قالا له: "إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا" قال: "فأين هم؟ " قالوا: "هم في أرضك فابعث إليهم".؟ فبعث إليهم؟

فقال جعفر أنا خطيبكم اليوم، فاتبعوه. فسلم ولم يسجد، فقالوا له:"ما لك لا تسجد للملك؟ " قال: "أنا لا نسجد إلا لله عز وجل" قال: "وما ذاك"؟ " قال: "إن الله عز وجل بعث إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمرنا ألا نسجد لأحد إلا الله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة".

قال عمرو بن العاص: "فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم" قال: "ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه؟ " قالوا: "نقول كما قال الله عز وجل: هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يفرضها ولد؟ ".

قال: فرفع عوداً من الأرض ثم قال: "يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، فو الله ما يزيدون على الذي يقول فيه ما يسوي هذا، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد إنه رسول الله فإنه الذي نجد في الإنجيل، وإنه الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم، أنزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتين حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه".

ص: 70

وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما! ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدراً، وزعم إن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلغه موته.

رواه أحمد واللفظ له وأورده الهيثمي وقال رواه الطبراني.

ويقول فضيلة الأستاذ محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية:

جميع رسالات السماء متفقة على أصول لا تتغير ذواتها، وإن كانت قد تتغير صورها على مقتضى مطالب الأزمان، ومستويات الفهوم والمقاصد.

فالتوحيد، والعبادة، والفضائل، والخير، والإيمان بالجزاء. هي الأصول الخمسة، التي قامت عليها جميع الأديان، وهي الحقائق التي تنقلت على ألسنة كافة الرسل، وانتقلت معهم من أرض إلى أرض، ومن زمان إلى زمان.

وهذه الحقائق، هي معاني الإسلام، الذي هو روح كل الأديان {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} من قبل ومن بعد.

ولا يتم إيمان العبد حتى يؤمن بكل دين سابق من عند الله {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ

ص: 71

وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} . ويقول الله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} ويقول تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وقال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} .

ومن ثم كان دين الله واحداً كما قلنا، في أصله، وإن اختلفت صوره، ودين الله هو الإسلام، ولا غير الإسلام، سابقاً ولاحقاً.

فمثلاً نوح يقول: {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .

ويقول إبراهيم: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} ، ويقول أيضاً:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} ، ويبلغ القرآن عن يعقوب:{إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وهذا يوسف يقول كما قال جده إبراهيم {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وهؤلاء هم سحرة فرعون يقولون: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وهؤلاء هم حواريو عيسى يقولون: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وهذا رسولنا الخاتم صلى الله عليه وسلم يقول: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .

هذا هو الحق وإن كره المبشرون والمستشرقون يظاهرهم ويساندهم الاستعمار.

ص: 72