الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مقدمة المصنف]
بسم الله الرحمن الرحيم
1-
أما بعد: فإن البحث عن المعالم الأثرية ظاهرة حضارية، أولتها الأمم عنايتها، وتفرغ لها المتخصّصون، وبذلت فيها الجهود والأموال وأفردت لها الجامعات أقساما تعكف على دراستها. وزادت العناية بها في العقود الأخيرة، لأنها كانت من الوسائل التي اتخذها الغرب المستعمر لقهر الشعوب والسيطرة عليها، وإحباط كلّ حركة للاستقلال، السياسي والاقتصادي والثقافي.
وكانت الدول الغربية قد سبقت أمم الشّرق إلى هذا الميدان، وجمعت من آثار الشّرق أكداسا، وأرسلت روّادها يجوبون الفيافي والقفار، ويكتبون الأبحاث عن مشاهداتهم، ويسرقون المخطوطات. وكان هدفهم تقديم الدراسات المشوّهة عن شعوب الشرق، لإظهار تفوّق العرق الأوروبي وانحطاط السلالات الشرقية، وإيهامها أن لا سبيل للوصول إلى المضمار المتقدم في الصناعة والاختراعات.. ومن الخير لها أن تبقى مستهلكة لصناعات الغرب، وأن تصدّر خيرات أرضها الخام، إلى الدول التي هيأتها قدراتها الموروثة، للاختراع والإبداع.
وإذا كانت الأمم- غير العربية- قد نالها سهم واحد من سهام الأعداء، فإن ما تبقّى في جعبة السهام توجه كله إلى أرضنا العربية، وكانت جلّ جهود المستشرقين والمبشرين (المنصّرين) مركّزة في الجبهة العربية، لأنهم لم يجدوا صمودا أشدّ عليهم من صمود أمة العرب، ولم يجابهوا بالرفض، كما جوبهوا في المجتمع العربي. وأشدّ ما فتّ في عضدهم، بقاء التراث العربي- في القرن العشرين- حيّا، ومفهوما، ومهضوما، كما كان قبل ألفي سنة.. كما أدهشهم تمسك العربي بترائه، مع فقره
وحاجته، حيث وجد العربيّ المسلم في التراث خبزه وريّه، عندما يشح الخبز والماء..
يموت أحدنا صابرا جائعا ظمان ولا يقبل عن تراثه بديلا.
وكانت آخر معركة في حرب التاريخ والاثار، معركة الصهيونية مع فلسطين حيث زيّف الصّهيونيون التاريخ، واستطاعوا أن يوهموا العالم- مدة من الزمن- أنهم أصحاب الحقّ في أرض فلسطين، ولذلك كانت الجولة الأولى في المعركة إلى جانبهم لخلوّ ساح المعركة التاريخية من المقاومة التي تصدّ الباطل وتزيل العماية عن العيون، وسوف نكسب المعركة في الجولة التالية- إن شاء الله- عندما تسطع شمس الحقيقة في سماء العالم، ونعود إلى تراثنا، ونتمسك بماثر أجدادنا الأفذاذ. ولكننا قبل أن نقنع العالم بصدق أدلتنا، علينا أولا، أن ننشر هذا اليقين بين شعبنا، ومع نشر هذا اليقين، لا بدّ من بثّ التعلق الروحي بهذا التراب المقدس.. نعم.. التراب المقدس، لأنه رمز أمجادنا، والناطق بالملاحم عن دورنا الحضاري.. في صحرائنا حياة وارفة الظلال لأنها تضم أجداث أبطالنا، وعلى قمم جبالنا مجد، لأنها كانت تطل من عل على مرابع الخلد وفي كرومنا الخضر بطولة، لأننا ورثناها عن صناديد.
ومعالم السيرة النبوية العطرة، عنوان حضارة سادت وما بادت، ولن تبيد، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. هذه المعالم، التي تعلق بقلوب ملايين البشر، ويشتد الشوق إليها مهما باعدت المسافات بينها وبين محبيها، ولا يفتر الحنين لرؤيتها على مرّ الأيام.. فكم من عين تدمع وكم من قلب يهفو عند ما يطرق سمعه، جبل سلع، ووادي العقيق، ومنى وعرفات، والصّفا، والمروة، والمأزمان، وكلّ معلم من معالم الحجاز قال أحدهم:
كفى حزنا أني ببغداد نازل وقلبي بأكناف الحجاز رهين
إذا عنّ ذكر للحجاز استفزني إلى من بأكناف الحجاز حنين
فو الله ما فارقتهم قاليا لهم ولكنّ ما يقضى فسوف يكون
وقال آخر:
إذا برقت نحو الحجاز سحابة دعا الشوق مني برقها المتيامن
فلم أتركنها رغبة عن بلادها ولكنه ما قدّر الله كائن
2-
ولهذا كانت عنايتي بهذه المعالم النبوية التي شهدت مواطىء أقدام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت له فيها أقوال وأفعال.. ألا يجدر بنا أن نستروح عبيرها، ونعيش معها لحظات من حياتنا، نتأملها، ونتذكر ماضيها، لنبقى مرتبطين بذاك الماضي، وننقل الماضي إلى الحاضر، نعيش في كنفه.. ونحن لا نفعل ذلك تقديسا لشخص وعبادة لمعلم، وإنما نفعل ذلك، لما يحمله المعلم من معاني خالدة وتاريخ مجيد.. وإذا كنا اليوم نقيم المتاحف لنجمع فيها آثار زعماء ورجال، لم يكن لهم من مجد مقدار قلامة ظفر رسول الله فلماذا لا نفعل هذا مع تراث رسول الله؟ وإذا كنا نجمع اليوم بين الاثار، والتاريخ لتمجيد زعماء وقواد، ما يقاس فضلهم على الناس بفضل رسول الله على البشرية؟ فلماذا لا نجمع بين السيرة العطرة المرويّة، وبين آثاره في المعالم التي شهدت حياته؟ .. وإذا فعلنا ذلك، لا نكون قد خرجنا على ما استنّه الصحابة رضوان الله عليهم في هذا السبيل.. ولنأخذ من سيرة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بعض النماذج في هذا الطريق: فقد روي عن نافع أن ابن عمر كان يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلّي في كل مكان صلّى فيه، حتى أن النبي نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة فيصبّ في أصلها الماء لكيلا تيبس. (حياة الصحابة 2: 655) .
وقال مجاهد: كنا مع ابن عمر في سفر، فمرّ بمكان فحاد عنه، فسئل لم فعلت ذلك؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا ففعلت (مسند أحمد 2/ 40) .
وعن نافع أنّ ابن عمر كان في طريق مكة، يقول برأس راحلته، يثنيها ويقول: لعل خفّا بقع على خفّ- يعني خف راحلة النبي صلى الله عليه وسلم (حلية الأولياء 1/ 310) .
وروت عائشة رضي الله عنها: «ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله كما كان يتبعه ابن عمر» (الطبقات 4/ 145) .
وينقل نافع وصفا لحال ابن عمر وهو يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: «لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتبع أثر النبي، لقلت: هذا مجنون» . وعن عاصم الأحول عمن حدثه قال:
كان ابن عمر رضي الله عنه إذا رآه أحد ظنّ أن به شيئا من تتبعه آثار النبي صلى الله عليه وسلم. (حلية الأولياء 1/ 310) .
3-
ومن دواعي تأليف هذا المعجم: أنني وجدت حاجة الباحث في الحديث الشريف ماسّة إلى معرفة شيء عن أعلام الحديث والسيرة، حيث وجدت موزّعة في كتب الشروح ومعاجم المعالم الجغرافية.. ثم إنني وجدت الباحثين في عصرنا، إذا عرّفوا بمعلم من معالم السيرة النبوية، رجعوا إلى الكتب القديمة، ونقلوا منها ما أثبتته، دون أن يراعوا التغيرات الجغرافية الحديثة التي طرأت على الأقاليم التي شهدت أحداث السيرة النبوية.
من ذلك التغيرات التي حدثت في جنوب الجزيرة العربية وفي شرقها، ففي الاصطلاح القديم كان جنوب المملكة العربية السعودية، يدخل في مسمّى اليمن، وأصبح من المحتم علينا اليوم أن نعرّف المعلم منسوبا إلى المسمى السياسي الجديد حتى لا يضل القارىء. وكان شرق المملكة السعودية (الدمام والقطيف والأحساء) يدخل في مسمى «البحرين» ونسبة القطيف اليوم إلى البحرين تضليل للقارىء. وفي بلاد الشام كان هناك جند الأردن، وجند فلسطين، وكان جند الأردن يشمل عددا من مدن وقرى فلسطين مثل (عكا وطبرية) وجند فلسطين يشمل عددا من مدن وقرى شرقي الأردن حسب المسمى الجديد، ولذلك تجد الباحثين يخلطون في نسبة القرى إلى كلا القطرين، فاقتضى الأمر أن تنسب كل قرية أو معلم إلى الإقليم حسب مسماه الجديد.
كما أن المصادر القديمة، تقيس المسافات، بالفراسخ، والأميال «مسافة معروفة قديما وليست الميل الجديد» كما تقيسها بالليالي والأيام، وهذا المقياس أصبح غير مفهوم لدينا، فاقتضى الأمر أن تحدد المسافات بالمقاييس الجديدة (الأكيال) .. كما أن هناك معالم قد اندثرت مع مرور السنين، وبقيت معالم ثابتة يعيش فيها الناس، فاقتضى التصنيف الجديد أن ينوه بهذا الأمر.
4-
وكان عملي في هذا المعجم، مقصورا على ضبط الاسم، وتحديد مكانه بالقياس إلى أحد المراكز الكبرى الثابتة، وتحديد المسافات بالأكيال إذا توفّر لي هذا التحديد، وذكر مسماه الجديد، إن حصل للاسم تغيير، وهل هو موجود أم مندثر؟
5-
وقد رجعت إلى أكثر كتب الحديث المطبوعة، وكتب السيرة النبوية، وعرّفت بكل معلم ورد ذكره في كتب الحديث والسيرة، سواء أكان متصلا بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
أم لم يتصل، ولم يكن من خطة التأليف أن أذكر الأحاديث والحوادث التي جاء المعلم في سياقها، لأن هذا يطول ويصعب استيعابه وتقييده، ولأنني لم أصنع هذا المعجم لمن يريد معرفة تاريخ المعلم، والأحاديث والحوادث التي جرت فيه، وإنما صنعته للباحث في كتب الأحاديث والسيرة النبوية، ليرجع إليه عندما يريد معرفة شيء عن المعلم الذي صادفه.
ولا أدّعي أنني استوعبت كلّ معلم ورد في حديث أو خبر نبوي، لأنّ كتب الأحاديث والسيرة أكثر من أن تحصى وقراءتها قد يستوعب عمر الإنسان، ولا تنتهي، ولكنني وجدت أن المعالم تكاد تكون مكرّرة في كثير من الكتب وإن اختلفت الرواية، ولهذا يكون الاطلاع على معظمها قد يغني عن الاطلاع عليها كلها، فاقتصرت على أمّات الكتب المشهورة. فنخلت من كتب الأحاديث:
(أ) البخاري، ومسلم، ومسند الإمام أحمد، ومسند أبي يعلى، وسنن ابن ماجه، وسنن أبي داوود، وسنن النسائي، ومنتخب كنز العمال.
(ب) ومن كتب السيرة النبوية: سيرة ابن هشام، وأنساب الأشراف للبلاذري، الجزء الأول، وسيرة الرسول لابن كثير، وكتاب زاد المعاد.
(ج) ورجعت إلى كتب المعالم الجغرافية القديمة، ومنها «معجم البلدان» ، و «معجم ما استعجم» ، و «مراصد الاطلاع» .
(د) ومن الكتب الخاصة كتاب «وفاء الوفا» للسمهودي، و «المغانم المطابة» للفيروز آبادي، و «تاريخ مكة» .
(هـ) واستفدت من الكتب التي صنفها أهل العصر في معالم الحجاز، وأشهرها كتاب «معالم الحجاز» لعاتق البلادي، و «المعالم الجغرافية في السيرة النبوية» ، ولكنه قاصر على الأعلام التي وردت في سيرة ابن هشام. كما استفدت من تحقيقات حمد الجاسر في كتابه «بلاد ينبع» وكتاب «المناسك» للحربي.
. ولم أقتصر على ذكر المعالم الواردة في الأحاديث الصحيحة والأخبار المخرّجة، وإنما ذكرت كلّ معلم له صلة بأخبار وأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كل معلم ورد في حديث أو خبر مهما كانت درجة إسناده، لأن البحث عن درجة السند والمتن ليس من اختصاصي، وإنما هو من اختصاص المتفرّغين لهذا العلم.
وقد زودت المعجم ببعض المصوّرات التي اقتبستها ممن سبقني، وكانت له القدرة على ذلك، وأكثر ما اقتبست من المخططات عن الباحث عاتق البلادي، فقد أتيحت له الإمكانات ليجول في الجزيرة طولا وعرضا ورسم بعض المخططات لرحلاته فكانت مفيدة في بابها.
.. وكل رجائي دعوة صالحة من كل من رأى في هذا السفر نفعا.
.. والله الهادي إلى سبيل الرشاد.
محمّد محمّد حسن شرّاب