الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القدس قدسهم، وأن مسجدنا الأقصى بنيناه فوق هيكلهم أو على أنقاض هيكلهم..
ومن البديهيّ أن نقول: إن الخيط الذي يربط عواطف المسلمين بالقضية الفلسطينية، هو الجواب عن هذا السؤال، فإذا أقنع الأعداء المسلمين بأن المسجد الأقصى، بناء حديث اغتصب المسلمون أرضه، وهى ذلك الخيط الرابط بين المسلمين والقضية الفلسطينية، ثم لا يلبث أن ينقطع..
ومن العجيب، أن كتبنا التاريخية في العصر الحديث، بل ومن العجيب أن المصادر الفلسطينية التي وضعت لخدمة القضية، توافق هوى الأعداء، وتنسب بناء المسجد الأقصى إلى من لم يبنه، وتختصر عشرات الالاف من السنين، لتنسب البناء إلى خليفة ليس له في قلوب المسلمين مكانة، إن لم يكن ذكره مقرونا بالتشويه التاريخي.. والجواب عن السؤال هو ما سيأتي، مدعوما بالأدلة التي لا تنقص، لأن أعلى درجات التاريخ عندنا (ما قال الله، وقال رسوله) وما قطع به الوحي لا يستطيع أن ينقضه مؤرخو الأرض ولو اجتمعوا. وقد يقول قائل: إن الأدلة المأخوذة من القرآن والحديث ومصادرنا التاريخية، لا يسلّم بها إلا المسلمون، فكيف نقنع مناصري أعدائنا بحقنا، وهم لا يؤمنون بأدلتنا؟ والجواب عن هذا السؤال: إذا آمنا نحن بحقنا لا نبالي بعد ذلك آمن الناس أو كفروا، فنحن نريد أولا أن نؤكد هذا الحقّ في نفوسنا، ونفوس المسلمين، حتى لا يزعزع إيمانهم ترّهات الأعداء وأكاذيبهم، فما وهنت عزائم المسلمين في الدفاع والنصرة إلا لضعف العقيدة وتوهين الإيمان بالحقّ، لما عرض عليهم من التاريخ المبتور.. ويوم يكون لنا الإيمان القوي يكون لنا الصبر والثبات، اللذان يجبران العالم على الاعتراف بنا، لأن الإيمان هو السلاح الأقوى في ميدان المعارك، وما ثبات أهلنا في انتفاضتهم إلا لقوة إيمانهم بحقهم.
تمهيد في صفة المسجد الأقصى:
درج المسلمون على تسمية المسجد القائم إلى الجنوب من مسجد قبة الصخرة المشرفة «المسجد الأقصى المبارك» ، والحقيقة أنّ المسجد الأقصى الذي ورد ذكره في القرآن الكريم يشمل الحرم القدسي الشريف بأجمعه، والذي هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ويشمل مسجد الصخرة، والمسجد الاخر، وكل ما في داخل السور، حيث يحاط الحرم بسور له عدة أبواب منها ما هو مفتوح، ومنها ما هو مغلق، فالمفتوحة باب الأسباط، وباب حطّة، وباب شرف الأنبياء، وباب الغوانمة، وباب الناظر، وباب الحديد، وباب القطّانين، وباب المتوضأ، وباب السلسلة،
وباب المغاربة، أما المغلقة فهي: باب السكينة، وباب الرحمة، وباب التوبة، وباب البراق.
أما المسجد الأقصى نفسه فهو يقع في القسم الجنوبي من ساحة الحرم.
أما أقسام المسجد الأقصى: فيقابل الداخل إلى المسجد من الجهة الشمالية رواق كبير أنشىء في زمن الملك المعظم عيسى صاحب دمشق 634 م، ثم جدد بعده، وهو مؤلف من سبع قناطر عقدت على ممرّ ينتهي إلى سبعة أبواب كل باب يؤدي إلى رواق من أروقة المسجد السبعة.
وللمسجد عدا هذه الأبواب: باب في الجهة الشرقية وآخر في الجهة الغربية. وهناك مدخل لجامع النساء الواقع في الركن الجنوبي الغربي للمسجد، وهو مؤلف من رواقين ممتدين غربا مسافة 53 مترا إلى أن يتصلا بجامع المغاربة، ويقع في الجهة الشرقية أيضا جامع عمر، وقد أطلق عليه اسم أمير المؤمنين عمر لأنه- كما قيل- بقية الجامع الذي بناه عمر عند فتح القدس.
ويقع في الجهة الشمالية الغربية إيوان كبير، ويقع بالقرب منه إيوان جميل يسمى محراب زكريا.
وللمسجد الأقصى تسع قباب موزعة في أنحائه، بنيت في عصور متفاوتة، وله أربع ماذن؛ وفيه تسعة أروقة، وللمسجد 137 نافذة وكلها كبيرة من الزجاج الملوّن
…
وقد تعاقب على رفع قواعد أبنية الحرم القدسي ملوك العرب وسلاطينها وأمراؤها منذ الفتح الإسلامي، حتى السنوات الأخيرة قبيل نكسة حزيران 1967 م، بل عني به أيضا أهل فلسطين في العهد البريطاني الغادر. وقاموا على ترميمه وإصلاحه مرتين أنفقوا عليه مئات الالاف من الجنيهات، وكانت تكثر الحاجة إلى إصلاحه وترميمه، لكثرة الزلازل التي كانت تمرّ بها ديار القدس على مرّ العصور، فيحدث تصدع في المباني
…
ولعلّ في ذلك اختبارا للمسلمين: أيحافظون على قوة مساجدهم ويصلحون ما تصدع منها، فتكون رمز محافظتهم على قوتهم، وإصلاح ذات بينهم
…
وبخاصة إذا كان من المساجد التي تشدّ إليها رحال المسلمين، ولا شك أن تصدع المسجد الأقصى اليوم رمز لتصدع المسلمين، ولن تعود إليهم قوتهم إلا إذا تنادوا لإغاثة المسجد الأقصى..
وسوف يأتي مزيد من وصف المسجد، في هذا البحث، بعد الإجابة عن السؤال الذي وقفنا هذه الكلمة عليه، ونبدأ بقول الله تعالى حيث قال:
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي
المخطط رقم (8)
بارَكْنا حَوْلَهُ، لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «1» ، ومن المتفق عليه بين أهل التفسير أن المسجد الحرام، هو مسجد مكة، والمسجد الأقصى هو مسجد القدس، ووصف بالأقصى: لأنه لم يكن حينئذ بعده مسجد. وقوله تعالى: باركنا حوله: يريد بركات الدين والدنيا، لأنه متعبد الأنبياء منذ هبط الوحي على الأرض، وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة «2» ، وباركنا حوله، قالوا: هي الشام، ولكن إذا كانت القدس مركز البركة، فإن فلسطين هي أكثر ما تنال من البركة، لأنها الأقرب، ثم تتوزع البركة في دوائر لتشمل الشام كلها، إذا صح أن المقصود ب (حوله) الشام، وليس فلسطين بخاصة، وإذا ثبت أن «المسجد الأقصى» هو مسجد قدسنا المطهر الشريف، فإن ذلك يدل على أن المسجد كان موجودا
(1) سبحان: علم للتسبيح والتقديس والتنزيه، مثلما يقال:«عثمان» للرجل. وهو منصوب دائما بفعل محذوف لا يذكر، تقديره: أسبّح الله سبحان، فهو مفعول مطلق، ومعناه: ما أبعد الذي له هذه القدرة عن جميع النقائص. وفي قوله تعالى: «أسرى بعبده ليلا» ذكر ما قد يفهم المعنى بدونه، لأن الإسراء والسرى، لا يكون إلا ليلا، فلماذا ذكر الله تعالى «ليلا» .. في هذا نكتة بلاغية تفيد في قوة المعنى؛ وتعليلها من وجوه: الأول: أن الإسراء، يدل على أمرين: أحدهما: السير، والاخر: كونه ليلا، فأراد الله بذكره (ليلا) إفراد أحدهما بالذكر تثبيتا في نفس المخاطب، وتنبيها على أنه مقصود بالذكر، كقوله تعالى: وقال الله: «لا تتخذوا إلهين اثنين، إنما هو إله واحد» ، فالاسم الحامل للتثنية دال عليها، وعلى الرقم، فأراد التنبيه على أن المقصود «التثنية» لتوكيده. وفي قوله:«هو إله واحد» ذكر «واحد» لأن المقصود الوحدانية، والوجه الثاني: أنه أراد تصوير السير بصورته في ذهن السامع. والوجه الثالث: أنه أراد بقوله: «ليلا» بلفظ التنكير، تقليل مدة الإسراء، وأنه أسري به بعض الليل، فالتنكير دلّ على البعضية، ويؤيده قراءة «من الليل» ، أي: بعض الليل.
(2)
روي أن إبراهيم عليه السلام لمّا هاجر من العراق، قيل له: إلى أين؟ قال: إلى بلد يملأ الجراب فيها بدرهم. وقال تعالى في قصة إبراهيم: «ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين» . وكانت نجاة إبراهيم إلى فلسطين، فهي الأرض التي بارك الله فيها. ومن باب المبالغة في بركات الدنيا التي حظيت بها فلسطين يذكر المؤرخون، أن موسى عليه السلام، أرسل جواسيسه إلى فلسطين، وعندما وجدوا فيها قوما جبارين، هالهم منظرهم مع تعلقهم بخيراتها، فحملوا معهم وهم عائدون عنقود عنب من أرض الخليل، حمله رجلان منهم.
أو كان معروفا قبل الإسراء، لأن وجود المسجد لم يكن مقرونا بالإسراء، وإنما جاء الإسراء والمسجد موجود أو موجود مكانه ومعروف لدى الناس المخاطبين، وأخبرنا الله أنه «بارك حوله» في الزمن القديم السابق على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم «1» ، وقد أسرى الله بنبيّه إلى المسجد الأقصى الذي يعرفه العرب في الجاهلية، والدليل على معرفة العرب له أنهم لم يسألوا عنه، ليستوضحوا مكانه، وماهيته، فهم إذن يعرفونه ويعرفون مكانه، ويعرفون أيضا قدسيته، ولذلك وردت الأحاديث الشريفة الصحيحة التي تعلي منزلته وتحث على الصلاة فيه والارتحال إليه، والمعروف أن الأحاديث كلّها، قبل فتح الشام من ذلك، غير أحاديث الإسراء والمعراج. قوله عليه السلام:«لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى» . وفي رواية للبخاري «مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي» . فجعل المسجد الحرام أولا، ومسجد الأقصى ثانيا، ومسجد المدينة ثالثا. والترتيب يدل على المنزلة.
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، عن ذي الأصابع، قال: قلت يا رسول الله، إن ابتلينا بعدك بالبقاء، أين تأمرنا؟ قال:«عليك ببيت المقدس، فلعلّه أن ينشأ لك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون» .
* والسؤال الذي يحتاج إلى الإجابة عنه:
من بنى بيت المقدس، أو مسجد بيت المقدس: هل بناه عبد الملك بن مروان، أو ابنه الوليد (خليفتا بني أمية) ؟ أو بناه داود وابنه سليمان عليهما السلام؟
الجواب: لم يكن أول من بناه داود وسليمان عليهما السلام، ولا عبد الملك وابنه الوليد، فهو أقدم من هؤلاء وهؤلاء، ودليلنا على هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري، ومسلم، والإمام أحمد، عن أبي ذرّ رضي الله عنه، قال: «قلت يا رسول الله، أيّ المساجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قال: قلت:
ثم أيّ؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما، قال: أربعون سنة» «2» .
(1) لأنّ الله تعالى أخبرنا أنه نجّى إبراهيم عليه السلام، إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين، ونجاة سيدنا إبراهيم سابقة على إسراء محمد صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا أن البركة كانت حاصلة منذ خلق الله أرض فلسطين، ووضع فيها أسباب البركة.
(2)
فوائد لغوية: قوله: «أول» بمعنى «قبل» وهي ظرف زمان، ويجوز البناء على الضم، لقطعه.
وإذا أخذنا بالشائع المشهور أن الذي بنى الكعبة إبراهيم عليه السلام، والذي بنى المسجد الأقصى داود أو سليمان عليهما السلام، نقع في إشكال، فالمدة بين إبراهيم عليه السلام، وداود عليه السلام متطاولة، حيث هاجر إبراهيم عليه السلام من العراق، ونزل ضيفا على أجدادنا الكنعانيين «1» ، العرب في فلسطين حوالي سنة 1805 قبل الميلاد. وولد سيدنا إسماعيل في قرية الثميلة- قرب عسلوج في منطقة بئر السبع حوالي سنة 1794 قبل الميلاد. وتولّى داوود الملك على قومه من سنة (1004- 963 ق. م) .
عن الإضافة، مثلما تقطع «قبل» ، و «بعد» عن الإضافة، والتقدير: أيّ مسجد وضع في الأرض، أول كل شيء.. هذا إذا حذفنا المضاف إليه ونوينا معناه. ويجوز أن نقول:«أول» بالنصب دون تنوين، إذا حذفنا المضاف إليه ونوينا لفظه نحو «تسابق شباب فلسطين إلى الجهاد، وذهب خالد أول» ، أي: أول الشباب. أول: ظرف زمان منصوب. ويجوز أن نقول: أولا: إذا حذفنا المضاف إليه لفظا ومعنى: نحو: جاهدت أولا. فإذا أضيف، نصب، كقولنا:«صليت أول الوقت» . وقد يأتي (أول) بمعنى مبدأ الشيء، ويعرب حسب موقعه نحو «أول تحرير الوطن رصاصة» ، يعرب مبتدأ. ومثله: أول الغيث قطر. وأيّ: في قوله: أيّ مسجد: اسم استفهام معرب مرفوع، يعرب هنا مبتدأ. وقوله: ثم أيّ: بالتنوين، معطوفة على الأول، ونونت لقطعها عن الإضافة والتقدير: أيّ مسجد.
(1)
الكنعانيون: من العرب البائدة، ويقول الطبري، وابن خلدون، إنهم أول من أقاموا ملكا للعرب في بلاد الشام، وكانت لغتهم العربية، وقد قلّ الشبه بين لغتنا الحاضرة- لغة القرآن- ولغة الكنعانيين، لتباعد الأزمنة بيننا وبينهم، ومع ذلك بقيت عشرات الكلمات في لغتنا، تسربت إلينا من التاريخ البعيد، ومن ذلك- مع تحريف اللفظ- صيدون، بمعنى صيد. و «جشور» بمعنى جسر. و «لسن» بمعنى لسان. و «حمور» بمعنى حمار. و «لاهام» بمعنى لحم. و «باراق» بمعنى برق. و «قرت» بمعنى قرية، وكانت أول هجرات الكنعانيين العرب من الجزيرة العربية قبل حوالي خمسة آلاف سنة، وكانوا يعمرون الأرض قبل قدوم سيدنا إبراهيم بحوالي ألفي سنة، فنحن أولى بفلسطين بحقّ عروبتنا الكنعانية وعروبتنا العدنانية التي تنتمي إلى إبراهيم عن طريق إسماعيل، وبحق وراثة محمد صلى الله عليه وسلم أو دينه الإسلامي، الديانات السابقة التي نزلت على الأنبياء.
وإذا زدنا ثلاثين سنة على ميلاد سيدنا إسماعيل، ليساعد أباه إبراهيم في بناء الكعبة، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ، فإنه يكون بين بناء الكعبة، وبين بناء المسجد الأقصى على يد داود أكثر من ثمانمائة سنة
…
مع أن الحديث الشريف ينصّ على أن بين بناء المسجدين أربعين سنة..
والجواب عن هذا الإشكال: أن الحديث الشريف يشير إلى أول من وضع أساس المسجدين، وأول من ابتدأ البناء. وليس إبراهيم عليه السلام أول من بنى الكعبة، ولا داود أو سليمان أول من بنيا مسجد بيت المقدس. والأدلّة على أن إبراهيم لم يبن الكعبة، وإنما رفعها كثيرة:
(أ) جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس، أن إبراهيم عليه السلام عندما وضع ابنه إسماعيل مع أمه هاجر، رفع يديه وقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ.. ولم يكن إبراهيم قد بنى البيت بعد، وإنما بناه عندما شبّ إسماعيل وتعاونا في البناء. ومعنى هذا أن البيت كان موجودا، لأنه قال:«عند بيتك المحرّم» .
(ب) وفي الحديث أيضا الذي رواه البخاري، أن الملك جاء إلى أم إسماعيل بعد أن تركهم إبراهيم، وقال لها:«لا تخافوا الضّيعة، فإن هاهنا بيت الله، يا بني هذا الغلام وأبوه، وإنّ الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله..» .
(ج) وفي قوله تعالى: «وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت» ، أي: أعلمه مكانه، وقد جاء في الحديث الذي رواه البيهقي في الدلائل عن عبد الله بن عمرو مرفوعا:«بعث الله جبريل إلى آدم، فأمره ببناء البيت، فبناه آدم ثم أمره بالطواف به» . وفي حديث آخر:
(د) وجاء في البخاري: قال إبراهيم:
«يا إسماعيل، إنّ الله أمرني بأمر، قال:
فاصنع ما أمرك ربّك، قال: وتعينني؟ قال:
وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال:«فعند ذلك رفعا القواعد من البيت» .
وروى الإمام أحمد، عن ابن عباس:
القواعد التي رفعها إبراهيم، كانت قواعد البيت قبل ذلك»
…
* وإذا ثبت بالأدلة، أن إبراهيم عليه السلام، لم يؤسّس المسجد وإنما رفع قواعده القديمة، وجاءت الاثار التي يعضد
بعضها بعضا، أن آدم عليه السلام هو الذي بنى الكعبة، أو بنته الملائكة قبله في بعض الروايات، فإن المسجد الأقصى أيضا يكون من زمن آدم، أو قبله، لأن الحديث الصحيح ينصّ على أن بينهما أربعين سنة.
وقد جاء في الاثار التي رواها أهل الثقة وأهل الدراية بعلم الأخبار، أن أول من أسّس المسجد الأقصى آدم عليه السلام، وقيل:
الملائكة، وقيل: سام بن نوح. وقد روى ابن حجر العسقلاني عن ابن هشام، قال:
إن آدم لمّا بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس، وأن يبنيه، فبناه، ونسك فيه.
* قال مجير الدين الحنبلي: والحديث الشريف المتقدم (حديث أبي ذر)، والأقوال والأحاديث التي تقول إنّ داود أو سليمان بنيا المسجد الأقصى: تدل على أن بناء داوود وسليمان- المسجد الأقصى، إنما كان على أساس قديم، لا أنهما المؤسسان له، بل هما مجدّدان، وكل قول من الأقوال الواردة في بناء المسجد الأقصى لا ينافي الاخر، فإنه يحتمل أن يكون بناه الملائكة أولا، ثم جدده آدم عليه السلام، ثم سام بن نوح، ثم داود وسليمان عليهما السلام، فإن كل نبيّ منهم بينه وبين الاخر مدة تحتمل أن يجدّد فيها البناء المتقدم قبله.
والقول: بأن «ملكي صادق، ملك اليبوسيين الكنعانيين، قد جدد عمرانه، قول قوي وهو الذي اختط مدينة بيت المقدس وبناها، وكان ملكا عليها، فلا يبعد أن يكون أسس المسجد حين بنائه المدينة، ولكن يحمل على تجديده البناء القديم، لا تأسيسه.
ومما يدل على وجود المسجد الأقصى قبل إبراهيم عليه السلام، ما يروى أن (ملكي صادق) ملك اليبوسيين العرب، نزل بأرض بيت المقدس، وقطن بكهف من جبالها، يتعبّد فيه، واشتهر أمره حتى بلغ ملوك الأرض الذين هم بالقرب منه، فحضروا إليه وسمعوا كلامه فأحبوه ودفعوا إليه مالا لبناء مدينة القدس، فلما عمرها سمّاها «بيت السلام» ، وقد اتّخذ بقعة الحرم الشريف معبدا له، فكان يقدم ذبائحه على موضع الصخرة المشرفة، وقد التقى سيدنا إبراهيم عند قدومه إلى فلسطين، واحتفل به لانتصاره على أعدائه.. وبذلك تكون له الأسبقية في الدعوة إلى التوحيد- في فلسطين- ويكون الكنعانيون أقدم من عرفنا من الأمم التي قدست بقعة الحرم الشريف، ويدلك على قدم البركة الدينية في فلسطين أن الله نجّى إبراهيم ولوطا إلى الأرض المباركة، فتكون هجرتهما إليها بسبب بركتها التي كانت تحلّ فيها منذ القدم، لأن الله وضع فيها المسجد الأقصى منذ بدء الخليقة، كما مرّ سابقا.
* وبهذا نعرف أن المسلمين، أهل
التوحيد الذي جاءت به الأنبياء كلها، هم أولى الناس بميراث قواعد المسجد الأقصى، لأن الله أراده أن يكون للموحّدين المؤمنين برسالات الأنبياء، وليس في الدنيا من هو على رسالة التوحيد غير المسلمين، بل يرث المسلمون المسجد الأقصى، وبيت المقدس بحقّ أن أول من سكنها من الناس هم اليبوسيّون من العرب الكنعانيين، وبقوا صامدين فيها حتى بعد أن تمكن يوشع- بعد موسى- من دخول بعض أجزاء فلسطين، وبقيت على عربيتها حتى جاء داود وتمكن من دخولها، ومع ذلك لم يبرحها جميع أهلها، لأنهم هم الذين عملوا- في أيام داود- على تعمير المدينة والمساعدة في بناء الهيكل، ولم يدم حكم اليهود لها إلا مدة قصيرة لم تزد على مائة سنة في عهدي داود وسليمان، ثم عاد الحقّ إلى أهله بعد تشتت ورثة مملكة سليمان..
ويدلّك على ذلك أن القدس وفلسطين، كانت عربية خالصة العروبة، وتتوالى إليها الهجرات العربية، قبل الإسلام بحوالي عشرة قرون، وما كان الحكم الفارسي، واليوناني، والروماني، إلا عن طريق حاميات موزعة في أنحاء البلاد، أو عن طريق التبعية السياسية، ولم تكن لهؤلاء هجرة جماعية، ولذلك يقول أحد خبراء الأجناس:«إنّ رأي الفقهاء الأكفاء من أهل الخبرة والمعرفة أن فلاحي فلسطين الناطقين بالعربية، هم أخلاف للقبائل الكنعانية التي كانت تعيش هناك قبل الغزو الإسرائيلي- زمن موسى- وظلت أقدامهم ثابتة في التربة منذ ذلك التاريخ» .
وأما القول: إن عرب فلسطين والشام من سلالات العرب المسلمين الفاتحين، فهي فرية صهيونية روجتها في بلاد الغرب، وكاد أن يصدقها العرب أيضا
…
والمقام يطول، إذا أتينا بالأدلّة على عروبة فلسطين عبر التاريخ، ولعلها تحتاج إلى مجلس مستقل آخر.
* وأقول بإيجاز: إن عروبة فلسطين، وأحقية العرب المسلمين بها، ظهرت في حكمة الإسراء والمعراج، وفي سيرة الرسول عليه السلام.
أما حكمة الإسراء والمعراج: فلأن الله تعالى أسرى برسوله إلى القدس، ثم عرج به إلى السماء من هناك، ولم يعرج به من مكة، للدلالة على الرابط الذي يربط بين القدس ومكة برابط واحد، وهو التوحيد الذي أوحاه الله إلى أنبيائه من السماء.. وفيه أيضا من الحكمة أن تكون فلسطين من مواطن نشر الدعوة الأولى، بعد انتشارها في وسط الجزيرة العربية، فقد جاء الإسلام إلى العرب أولا، ثم إلى الناس الاخرين ثانيا،
حيث كان لسان القرآن هو اللسان العربي، والمخاطب به هم العرب أولا، ولمّا كانت فلسطين والشام عربية توجهت إليها عناية الرسول عليه السلام منذ وقت مبكر، حيث تتابعت الرسائل التي تدعو ملوك الشام من العرب إلى الإسلام، كما تدعو هرقل الحاكم الروماني إلى الإسلام بوصفه المهيمن على ديار الشام سياسيا، وتتابعت سرايا رسول الله وغزواته نحو الشمال لهذا الهدف منذ السنة الخامسة من الهجرة، فكانت سريّة دومة الجندل، وذات السلاسل في أقصى الشمال، وكانت غزوة خيبر التي كان يقطنها اليهود لتأمين الطريق نحو الشام، وكانت غزوة تبوك، وكانت غزوة مؤته في موقع متقدم في شرقي الأردن، ثم كانت سرية أسامة بن زيد التي نفذت مهمتها في عهد أبي بكر الصديق، وقد توغلت في ديار الأردن وفلسطين، وكانت مأمورة بأن تجوس في خلال ديار (الداروم)(دير البلح اليوم) ، وبعد أن تمّ القضاء على أهل الردة في عهد أبي بكر، كانت أول البلاد التي توجهت إليها الجيوش هي بلاد الشام، ومنها فلسطين بل كانت أول معركة كبرى في فلسطين، وهي معركة أجنادين، بالقرب من بيت جبرين في قضاء الخليل، ثم تتابعت الفتوح بعدها.
* صفة المسجد الأقصى: يقع جنوب جامع الصخرة، وطوله ثمانون مترا وعرضه 55 مترا- عدا ما ضيف إليه من الأبنية.
وأول ما يواجهك من هذا المسجد عند مدخله من الجهة الشمالية رواق كبير أنشأه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق سنة 634 هـ، وجدد من بعده، وهو مؤلف من سبع قناطر عقدت على ممشى ينتهي إلى سبعة أبواب، كل باب يؤدي إلى كور من أكوار المسجد السبعة. وللمسجد عشرة أبواب، والبناء قائم على 53 عمودا من الرخام، وفوق الأعمدة قناطر يربط بعضها ببعض أخشاب ضخمة مستطيلة، وفوق القناطر صفّان من الطاقات، ويتألف باطن السقف من عوارض كلّها من الخشب وعدة ما في المسجد من السواري هي تسع وأربعون، وهي ضخمة مربعة الشكل مبنية بالحجارة.
والمحراب قائم على أعمدة من المرمر، وبجانبه المنبر وهو من الخشب المرصّع بالعاج والابنوس، عمل في عصر نور الدين زنكي «1» ، ويقابل المنبر دكة المؤذنين وهي على عمد من رخام.
ومن داخل المسجد من جهة الغرب جامع النساء أو الجامع الأبيض وهو عبارة
(1) وقد حرق مع ما حرق من المسجد الأقصى سنة 1968 م.