المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تتلخص الدعائم التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى - المنهج الصحيح وأثره في الدعوة إلى الله تعالى

[حمود الرحيلي]

الفصل: ‌تتلخص الدعائم التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى

‌الفصل الثاني

الدعائم التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله

‌تتلخص الدعائم التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى

- كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة فيما يلي1:

أولاً: العلم:

فلابدّ للداعي إلى الله تعالى أن يكون عالماً بحكم الشرع فيما يدعو إليه، فالجاهل لا يصلح أن يكون داعية.

قال تعالى مخاطباً نبيه محمدا ًصلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} 2.

وبوّب الإمام البخاري رحمه الله لهذه الآية بقوله: "باب العلم قبل القول والعمل"3.

قال الإمام ابن حجر رحمه الله في الفتح: قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما؛ لا نه مصحح للنية المصححة للعمل، فنبه المصنف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم:(إن العلم لا ينفع إلا بالعمل) تهوين أمرالعلم والتساهل في طلبه4.

1 انظر مقدمة الدكتور صالح الفوزان على منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل للدكتور ربيع بن هادي المدخلي، ص3.

2 سورة محمد، الآية (19) .

3 انظر صحيح البخاري مع الفتح، 1/159، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل.

4 انظر فتح الباري لابن حجر، 1/160، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل.

ص: 149

والعلم الحقيقي هو معرفة كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1.

ولا يكون الداعية إلى الله ناجحاً في دعوته، حكيماً في أمره ونهيه إلا بالعلم الشرعي، وإن لم يصحب الداعية من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه فسلوكه على غير الطريق، وهو مقطوع عليه طريق الوصول، ومسدود عليه سبيل الهدى والفلاح، وهذا إجماع من العارفين، ولا شك أنه لا ينهى عن العلم إلا قطاع الطريق، ونواب إبليس وشُرَطُه 2.

ومن الأدلة الواردة في فضل العلم والحث عليه قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} 3.

وقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 4.

وقوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 5.

ومن الأحاديث: ماجاء عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"6.

1 سورة النحل، الآية (44) .

2 انظر مدارج السالكين، لابن القيم، 2/483.

3 سورة الزمر، الآية (9) .

4 سورة المجادلة، من الآية (11) .

5 سورة فاطر، الآية (28) .

6 صحيح البخاري مع الفتح، 1/164، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، رقم 71، وصحيح مسلم، 2/718، كتب الزكاة، باب النهي عن المسألة، رقم 1037، والترمذي، 4/137، أبواب العلم، باب إذا أراد الله بعبده خيراً فقهه في الدين، رقم 2783.

ص: 150

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها"1.

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل مابعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسَقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هى قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً فذلك مثلُ من فقه دين الله، ونفعه مابعثني الله به فعلم وعلّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"2.

إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة التي تدل على فضل العلم والحث عليه والعمل به.

وليس القصد هنا سرد الأدلة في هذا الأمر، فهذا شيء معروف، ولكن أحب أن أُوكد على أنه يجب على من أراد أن ينصب نفسه للدعوة إلى الخير، والأمر

1 صحيح البخاري مع الفتح، 1/165، كتاب العلم، باب الإغتباط في العلم والحكمة، رقم 73، وصحيح مسلم، 1/559، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، رقم 816.

2 صحيح البخاري مع الفتح، 1/175، كتاب العلم، باب فضل من علم وعلم، رقم 79، وصحيح مسلم، 4/1787، كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدي والعلم، رقم 2282.

ص: 151

بالمعروف، والنهي عن المنكر، قياماً بما أوجب الله عليه، والنصح لعباده، وطمعاً فيما وعد الله به أهل تلك الأعمال من الأجر العظيم والنعيم المقيم، فليتفقه في دينه وليأخذ العلم عن أهله الراسخين فيه، السائرين في طريقه القويم، طريق السلف الصالح المتمثل في منهج أهل السنة والجماعة. فالذي يريد أن يدعو الناس لا بدَّ له أن يتعلم على أيدي العلماء الربانيين قبل أن يتصدى للدعوة إلى الله تعالى، حتى يقوم بذلك بحجة ودليل ويعرف كيف يسير في ذلك الطريق، على هدى ونور.

يوضح شيخنا فضيلة الدكتور محمد أمان بن علي الجامي رحمه الله أهمية البصيرة للدعاة إلى الله، ووجوب الرجوع لسيرة السلف الصالح، وطريقة دعوتهم، وأنَّ أي طريقة أو جماعة لا تنتهج نهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، فمصيرها الفشل لا محالة، فيقول:

"تُوجد في العصر الحديث جماعات تدعو إلى الله، ولكنها في الغالب تتخبط على غير بصيرة، فالواجب على دعاة الحق أن يكونوا على بصيرة فاهمين ما يدعون إليه ومتصورين له ومؤمنين به {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 1.

هاتان صفتان لا تباع محمد عليه الصلاة والسلام:

1-

القيام بواجب الدعوة.

2-

أن يكسبوا البصيرة قبل أن يشرعوا في الدعوة.

البصيرة هي: العلم الذي مصدره الوحي، والفقه الدقيق، الذي يستفيد منه الداعية الحكمة، وحسن الأسلوب، وكسب القلوب، والتحبب إلى الناس.

1 سورة يوسف، من الآية (108) .

ص: 152

وهذه الجماعات أشبهها بالأحزاب السياسية المتنافسة لمصالحها الشخصية وأغراضها الذاتية، وهي ذاتها محنة من المحن ومشكلة من المشكلات للدعوة والدعاة معاً، إذا بقيت على وضعها ولم تعد النظر في سلوكها ومنهج عملها وبرامجها، وأساليب دعوتها وسياستها، فخطرها على الدعوة يفوق كل خطر يهدد الدعوة من خارجها.

فعلى هذه الجماعات أن تدرس تاريخ الدعاة الأولين من الصحابة والتابعين الذين نطق بهم القرآن، وبه نطقوا، والذين انتشر الإسلام بدعوتهم، بل عليهم أن يفهموا الدين كما فهم أولئك السادة، ويسيروا سيرتهم، وينسجوا على منوالهم، مع ملاحظة الأساليب المناسبة في العصرالحديث، والملابسات والظروف وأحوال الناس، وإن لم يسلكوا هذا المسلك فسوف لا يكتب للدعوة أي نجاح أو أي تقدم لا نه عمل لم يستوف الشروط، وهو عمل غير صالح1.

ثانياً: الإخلاص:

إن من أهم مايجب على الداعية إلى الله تعالى أن يكون مخلصاً لله في دعوته، وأمره ونهيه، بحيث لا يرجو إلا الجزاء من الله تعالى وحده، فلا يكون هدفه طمعاً مادياً أو غرضاً دنيوياً، ولا يكون هدفه من ذلك الرياء أو السمعة وطلب الشهرة أو شيء من حطام الدنيا، أو أن يظهر فضله في دينه أو علمه أو عمله أو عقله على من يدعوه أو يا مره وينهاه، مما يزينه الشيطان، ويكيد به الإنسان ليبطل عمله ويفسد سعيه.

وقد أمر الله سبحانه المؤمنين بإخلاص نياتهم وأعمالهم وعباداتهم لله تعالى وحده، قال تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وآمراً له أن يخاطب أمته بذلك:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 2.

1 أضواء على طريق الدعوة إلى الإسلام، 218-219.

2 سورة الزمر، الآية (11) .

ص: 153

وقال عز وجل: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} 1.

وقال جل شأنه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"3.

قال الإمام ابن حجر رحمه الله: "ومعناه كل عمل بنية، فلا يقبل عمل بدون نية"4.

وعن جابر رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: "إنَّ بالمدينة لرجالاً ماسرتم مسيراً ولا قطعتم واديا إلاكانوا معكم حبسهم المرض" 5 فهؤلاء كتب الله لهم من الأجر ماكتب لا خوانهم المجاهدين في سبيل الله وذلك بسبب صلاح نياتهم واخلاصهم لله وحده.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" 6.

1 سورة الزمر، الآية (14) .

2 سورة هود، الآيتان (15-16) .

3 صحيح البخاري مع الفتح، 1/9، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحيح مسلم، 3/1515، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنية"، وأحمد في المسند، 1/25.

4 فتح الباري، 1/11.

5 صحيح مسلم، 3/1518، كتاب الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر.

6 صحيح مسلم،4/2289، كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله، رقم 2985.

ص: 154

وقد وردت بعض الآثار عن بعض السلف تبين أهمية النية ودورها في قبول العمل منها ماورد عن مطرف بن عبد الله قال: "صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية"1.

وعن ابن المبارك قال: "رُبَّ عمل صغير تُعظمه النية، ورُب عمل كبير تصغره النية"2.

وعن أبي سليمان: "طوبى لمن صحت له خطوة لا يريد بها إلا الله تعالى"3.

فعلى الداعية إلى الله تعالى أن يخلص نيته لله تعالى، وأن يتجرد من حظوظ النفس ومن نزغات الشيطان، وأن يكون قصده وهدفه ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، وفي أنبياء الله ورسله عليهم السلام القدوة الحسنة، فإن القصد من دعوتهم إصلاحهم، وابتغاء الأجر والمثوبة من الله وحده.

قال تعالى عن نوح عليه السلام: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4وهكذا بقية الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لا يريدون من دعوتهم إلا مرضاة الله تعالى.

لذا فإن على الداعية إلى الله تعالى على بصيرة أن يهتم بالإخلاص، ويحذر على نفسه من الرياء والسمعة، فإن الشيطان حريص على أن يفسد عليه عمله، وقد تدعوه النفس الأمارة بالسوء إلى حب الظهور أو الشهرة أو ماشابههما من أغراض الدنيا الفانية، ومن ثم يقع في المحذور والعياذ بالله.

1 انظر جامع العلوم والحكم، 10/71.

2 المرجع السابق، نفس الصفحة.

3 انظر مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة، 370-371.

4 سورة الشعراء، الآية (109) .

ص: 155

نسأل الله تعالى لنا ولجميع الدعاة إلى الله تعالى الإخلاص في القول والعمل.

ثالثاً: المتابعة:

لما كانت الدعوة إلى الله تعالى من أجل العبادات فإنه لا بد فيها من توفر الشرطين الأساسيين لصحتها وهما: الإخلاص، والمتابعة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حديثه عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر:"وإذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين: أن يُراد بها وجه الله، وأن تكون موافقة للشريعة، فهذا في الأقوال والأفعال، في الكلم الطيب والعمل الصالح، في الأمور العلمية، والأمور العملية العبادية"1.

فالمتابعة شرط في قبول الأعمال، ومنها الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} 2.

والعمل الصالح هو العمل الموافق لهديه صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان أئمة السلف رحمهم الله يجمعون هذين الأصلين - أي الإخلاص والمتابعة - كقول الفضيل بن عياض في قوله تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 3، قال: أخلصه وأصوبه، فقيل له: يا أبا عليّ ما أخلَصُه وأصوبه؟ فقال: إنَّ العمل إذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، وإذا كان خالصاًولم يكن صواباً لم يُقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله والصواب: أن يكون على السُّنة4.

1 انظر الاستقامة، 1/297، 2/297.

2 سورة الكهف، الآية (110) .

3 سورة الملك، الآية (2) .

4 الاستقامة، لابن تيمية، 2/308-309.

ص: 156

وقد روى ابن شاهين واللالكائي، عن سعيد بن جبير قال:"لا يُقبل قول إلا بعمل، ولا يُقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يُقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة"1.

فعلى الداعية إلى الله تعالى على بصيرة أن يكون مقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يسلك مسلكه في الدعوة، فإن الله تعالى أمرنا بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم في قوله:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 2.

وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3.

ولقد بدأ - صلوات الله وسلامه عليه - كغيره من الأنبياء قبله بإصلاح عقائد الناس وجمعهم على عقيدة التوحيد، وأمرهم بالتأسي به في جميع الأقوال والأفعال.

فإذا بدأ الداعية إلى الله تعالى أو المحتسب بعكس ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لو بدأ بالجهاد أو إقامة الدولة مثلاً فإنه لا يفلح في دعوته، لمخالفته متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، فكل دعوة إلى الإصلاح لا تنتهج نهج الرسول صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح فإن مصيرها الفشل الذريع لا محالة.

يقول شيخنا فضيلة الدكتور ربيع بن هادي المدخلي: "هل يجوز للدعاة إلى الله في أي عصر من العصور العدول عن منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله؟.

1 المرجع السابق، 2/309.

2 سورة الأحزاب، الآية (21) .

3 سورة آل عمران، الآية (31) .

ص: 157

الجواب: في ضوء ماسبق وما سيأتي، لا يجوز شرعاً ولا عقلاً العدول عن هذا المنهج واختيار سواه.

أولاً: أن هذا هو الطريق الأقوم الذي رسمه الله لجميع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم.

والله واضع هذا المنهج هو خالق الإنسان والعالم بطبائع البشر ومايصلح أرواحهم وقلوبهم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1.

وهو الحكيم العليم في خلقه وشرعه، وقد شرع لا فضل خلقه هذا المنهج.

ثانياً: إن الأنبياء قد التزموه وطبقوه مما يدل دلالة واضحة أنه ليس من ميادين الاجتهاد، فلم نجد:

1-

نبياً افتتح دعوته بالتصوف.

2-

وآخر بالفلسفة والكلام.

3-

وآخرين بالسياسة.

بل وجدناهم يسلكون منهجاً واحداً، واهتمامهم واحد بتوحيد الله أولاً، وفي الدرجة الأولى.

ثالثاً: إن الله قد أوجب على رسولنا الكريم الذي فرض الله علينا اتباعه أن يقتدي بهم، ويسلك منهجهم، فقال بعد أن ذكر ثمانية عشر نبياً منهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 2وقد اقتدى بهداهم في البدء بالتوحيد، والاهتمام الشديد به.

1 سورة الملك، الآية (14) .

2 سورة الأنعام، من الآية (90) .

ص: 158

رابعاً: ولما كانت دعوتهم في أكمل صورها تتمثل في دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، زاد الله الأمر تأكيداً، فأمر نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم باتباع منهجه فقال:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1.

والأمر باتباعه يشمل الأخذ بملته التي هي التوحيد ومحاربة الشرك ويشمل سلوك منهجه في البدء بالدعوة إلى التوحيد، وزاد الله تعالى الأمر تأكيداً – أيضاً - فأمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، باتباع ملة هذا النبي الحنيف، فقال تعالى:{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2.

إذن، فالأمة الإسلامية مأمورة باتباع ملته، فكما لا يجوز مخالفة ملته، لا يجوز العدول عن منهجه في الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك ومظاهره ووسائله.

خامساً: قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 3.

فإذا رجعنا إلى القرآن أخبرنا أن كل الرسل كانت عقيدتهم عقيدة التوحيد وأن دعوتهم كانت تبدأ بالتوحيد وأن التوحيد أهم وأعظم ماجاءوا به.

ووجدنا أن الله قد أمر نبينا باتباعهم وسلوك مناهجهم، وإذا رجعنا إلى الرسول نجد أن دعوته من بدايتها إلى نهايتهاكانت اهتماماً بالتوحيد ومحاربة للشرك ومظاهره وأسبابه

"4.

1 سورة النحل، الآية (123) .

2 سورة آل عمران، الآية (95) .

3 سورة النساء، الآية (59) .

4 منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل، 91-92.

ص: 159

رابعاً: الحكمة:

إن الحكمة من أهم الدعائم التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة

إلى الله تعالى، ومن أهم مقومات الداعية الناجح، ومن نظر في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وجد أنه كان ملازماً للحكمة في أموره كلها، وخاصة في دعوته إلى الله جلَّ وعلا، وقد أمره ربه تبارك وتعالى بالدعوة إلى الله بالحكمة في قوله:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 1.

وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} 2.

إن الحكمة إتقان الأمور وإحكامها، بأن تُنزل الأمور منازلها، وتوضع في مواضعها. وليس من الحكمة التعجل في الدعوة إلى الله تعالى، وأن ينقلب الناس عن حالهم التي هم عليها إلى الحال التي كان عليها الصحابة بين عشية وضحاها، ومن أراد ذلك فهو سفيه في عقله، بعيد عن الحكمة، لا ن حكمة الله عز وجل تأبى أن يكون هذا الأمر. ويدلل لهذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي ينزل عليه الكتاب - نزل عليه الشرع متدرجاً حتى استقر في النفوس وكمل.

فالدعوة إلى الله تعالى تكون على أربع مراتب:

1-

بالحكمة.

2-

ثم بالموعظة الحسنة.

3-

ثم بالجدال بالتي هى أحسن لغير الظالم.

4-

ثم بالفعل الرادع للظلم3.

1 سورة النحل، الآية (125) .

2 سورة العنكبوت، من الآية (46) .

3 انظر الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات، للشيخ محمد بن عثيمين، 35.

ص: 160

ومن الأمثلة التي ضربها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس بالحكمة موقفه مع الأعرابي الذي بال في المسجد.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه1، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه2 دعوه" فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعاه فقال له: "إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنَّه عليه"3.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة وقمنا معه فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: "لقد حجرت واسعا" يريد: رحمة الله4.

وفي رواية أخرى قال: "يقول الأعرابي بعد أن فقه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم إليَّ بأبي وأمي فلم يسب ولم يؤنب ولم يضرب"5.

1 مه: كلمة زجر، لسان العرب، لابن منظور، 13 /542.

2 لا تزرموه أي لا تقطعوا عليه بوله، والازرام: القطع. انظر شرح النووي على صحيح مسلم، 3/190.

3 صحيح مسلم، 1/237، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، رقم 286، ومعنى شنه عليه: أي صبه عليه.

4 صحيح البخاري مع الفتح، 10/438، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم 6010.

5 هذه الرواية عند أحمد في المسند بترتيب أحمد شاكر، برقم 10540، 20/134.

ص: 161

ومن الأدلة كذلك ماجاء عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: "بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكْلَ أمَّياه1 ! ماشأنكم تنظرون إلىَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمّتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي، مارأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ماكهرني2ولا ضربني ولا شتمني، قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

"الحديث3.

إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة التي تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل الناس في دعوته بالحكمة واللين، لذلك فإنه لا بد للداعية إلى الله تعالى أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته وفي أمره ونهيه، وفي تعامله مع الناس، ولابد له من الصبر وطول النفس، والتدرج مع المدعو شيئاً فشيئاً حتى يمكن إعادته للحق والصواب.

خامسا: الرفق والحلم:

إنَّ من الواجب على الداعية إلى الله تعالى أن يكون رفيقاً رحيماً، حليماً ليناً، مشفقاً على الناس، فإنَّ ذلك مدعاة لقبول الناس منه، وانتفاعهم بدعوته، وهذا هو خلق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته للناس، ولهذا امتن الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:

1 واثكْلَ أُمياه: معناه فقدان المرأة لولدها، ويجوز أن يكون من الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب ولا يراد بها الدعاء، كقولهم: تربت يداك. انظر النهاية، لابن الأثير، 1/216.

2 ماكهرني: يعني ما نهرني.

3 صحيح مسلم، 1/381، كتب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، رقم 537.

ص: 162

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لا نْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 1.

وامتن الله تبارك وتعالى على عباده المؤمنين ببعثة رسوله الكريم إليهم، وبما هو عليه من الخلق العظيم، فقال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2.

ولقد أمضى النبي صلى الله عليه وسلم حياته بمكة والمدينة وغيرهما، يدعو ويذكر وينذر في غاية من اللطف واللين، ويقصد نواديهم، يدعوهم إلى الهدى، ويتحمل منهم ألوان الأذى، ويزيد على ذلك فيقول:"رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"3.

فهذا دَيْدنُهُ صلى الله عليه وسلم في دعوته، وأمره ونهيه، يا خذ بالرفق واللين، ولم يستعمل الغلظة والشدة، إلا حين لم يجد ذلك مع المخاطبين - مع تحقيق القدرة وانتفاء المفسدة - كما هو واضح من سيرته، وقد قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 4.

فمن قرأ سيرته صلى الله عليه وسلم ولزم طريقته في دعوة أمته، كان أكمل الناس في متابعته، وأولاهم بوراثته، وأسعدهم بشفاعته، وأنصحهم لا مته، ولهذا لما كان صاحبه

1 سورة آل عمران، من الآية (159) .

2 سورة التوبة، الآية (128) .

3 صحيح البخاري مع الفتح، 12/282، كتاب استتابة المرتدين، باب إذا عرض الذمي أو غيره بسب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصرح، رقم 6929، وصحيح مسلم، 3/1417، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، رقم 1792، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

4 سورة الأحزاب، الآية (21) .

ص: 163

أبو بكر الصديق في ذلك كذلك أسلم على يديه من لا يحصون، وانتفع به من الخلق كثيرون1.

ولما أرسل الله سبحانه وتعالى موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون - طاغية مصر وجبارها - أمرهما أن يخاطباه باللين واللطف.

قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 2.

قال الإمام ابن كثير رحمه الله !: "هذه الآية فيها عبرة عظيمة وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه، إذ ذاك ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين"3.

وقد ورد في هذا المعنى استدلال المأمون عندما وعظه رجل وعنّف له في القول، فقال: يا رجل ارفُقْ فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، وأمره بالرفق، قال تعالى:{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} 4 5.

ومن الأحاديث النبوية التي تبين فضل الرفق واللين وتحثُّ عليه مايلي:

1-

عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه"6.

1 انظر تذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للشيخ عبد الله القصّير، 31-34.

2 سورة طه، الآيتان (43-44) .

3 تفسير ابن كثير، 3/163.

4 سورة طه، الآية (43) .

5 انظر إحياء علوم الدين، للغزالي، 2/334.

6 صحيح مسلم، 4/2004، كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق، رقم 2594.

ص: 164

2-

وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من يحرم الرفق، يحرم الخير"1.

3-

وقال صلى الله عليه وسلم لا شج عبد القيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناه"2.

لذا فإنه ينبغي للداعية إلى الله تعالى، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتقي الله في عباد الله، وأن يلزم الرفق بهم واللين معهم والحلم والعفو عنهم، فيما يدعوهم إليه، ويأمرهم به، وينهاهم عنه، حتى لا يصدهم عن الهدى أو يوردهم الردى.

ولا ينبغي للداعية إلى الله تعالى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتسم بالشدة، ويأخذ بالغلظة، ما وجد مندوحة عن ذلك، فإذا اشتبه عليه الأمر، فعليه بمراجعة نصوص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة، وكلام أهل العلم المعتبرين، إن كانت لديه الأهلية لذلك، لمعرفة الراجح بالدليل، وإلا فعليه بما وجه الله تعالى إليه أمثاله بقوله سبحانه:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 3 4.

سادساً: الصبر:

إن نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الواردة في الصبر لا تكاد تُحصى لكثرتها.

1 صحيح مسلم، 4/2003، كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق، رقم 2592.

2 صحيح مسلم، 1/48، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله، وشرائع الدين والدعاء إليه والسؤال عنه

، رقم 18.

3 سورة النحل، الآية (43) .

4 انظر تذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للشيخ عبد الله القصير، 36.

ص: 165

وقد أخبر الله تعالى عن لقمان الحكيم بأنه أوصى ابنه بقوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 1.

فأتبع حثه له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر، وما ذلك إلا لأن القيام بهذا يتطلب الكثير من المجاهدة، ولحوق الأذى بالمحتسب، وهذا لا يثبت معه إلا من كان متحلياً بالصبر.

ولهذا نجد أن الله تعالى أمر رسله - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - وهم أئمة الدعوة إلى الله تعالى بالصبر، كما قال تعالى لخاتمهم صلى الله عليه وسلم:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} 2.

وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} 3.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 4.

ومن الأدلة من السنة التي ترغب في الصبر وتحث عليه مايلي:

1-

ماورد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زِيدَ في بلائه، وإن كان في دينه رقة خُفِّفَ عنه، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة"5.

1 سورة لقمان، الآية (17) .

2 سورة الأحقاف، من الآية (35) .

3 سورة البقرة، من الآية (45) .

4 سورة آل عمران، من الآية (200) .

5 أخرجه الترمذي، 4/601، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، رقم 2398، وقال هذا حديث حسن صحيح، وسن ابن ماجه، 2/1334، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم 4023، والإمام أحمد في المسند، 1 /172،174،180،185، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم 143.

ص: 166

2-

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: "إنَّ عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط"1.

3-

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى نَفِدَ ما عنده قال: "مايكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى الله أحداً عطاءً هو خير وأوسع من الصبر" 2

ومما تقدم من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية وغيرها التي تدل على فضل الصبر وتحث عليه، يتبين أن المؤمن معرض للابتلاء، ولكن على حسب قوة إيمانه أو ضعفه، وإذا صبر المؤمن واحتسب أجره عند الله كفر الله من ذنوبه وسيئاته، وعظم له الأجر، وإذا كان عامة الناس معرضين لهذا الابتلاء والامتحان، فإنَّ

1 أخرجه الترمذي، 4/601، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، رقم 2396، وقال حسن غريب، وسنن ابن ماجه، 2/1334، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم 4023، وحسنه الشيخ الألباني، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم 146.

2 صحيح البخاري مع الفتح، 3/335، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، رقم 1469، وصحيح مسلم، 2/729، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، رقم 1053.

ص: 167

أشدهم بلاء الدعاة إلى الله، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وهم أَوْلَى بالصبر والاحتساب، وخاصة ما يصيبهم بسبب دعوتهم من الأذى.

وفي صبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى المشركين أمثلة رائعة يجدر بالدعاة إلى الله تعالى أن يقفوا عندها ويتأملوها، ليتأسَّوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الأمثلة:

1-

ماكان مشركو مكة يلقون على عتبته صلى الله عليه وسلم من الأنتان والأقذار، ومع ذلك كان يصبر ويحتسب، ويقول:"أي جوار هذا"1؟ .

2-

بعد أن اشتد أذى قريش للنبي صلى الله عليه وسلم عقب وفاة عمه أبي طالب، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، للدعوة وطلب النصرة من ثقيف، ولكنها لم تستجب له، وأمروا صبيانهم وسفهاءهم أن يصطفوا على الطريق صفين، وأن يرجموه بالحجارة، فرجموه صلى الله عليه وسلم بالحجارة حتى أدموا عقبه2.

فهذه الأمثلة وغيرها كثير تبين لنا شدة صبر النبي صلى الله عليه وسلم واحتسابه على مالاقاه أثناء دعوته من أذى المشركين، فعلى الداعية إلى الله أن يتحلى بالصبر، ويتحمل المشاق في سبيل الدعوة إلى الله.

سابعاً: التحلي بالأخلاق الفاضلة:

إن من الأمور المهمة في حياة الداعية إلى الله تعالى أو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون متمسكاً بأخلاق الداعية، بحيث يظهر عليه أثر العلم في

1 انظر سيرة ابن هشام، 1/416 وتاريخ الطبري، 2/343.

2 انظر سيرة ابن هشام، 1/419-420، والطبقات الكبرى، لابن سعد، 1/212، والدلائل للبيهقي، 2/414، ومختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، 83، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق الله، 227.

ص: 168

معتقده وفي عباداته من صلاة وصيام وتلاوة قرآن وفي هيئته وجميع مسلكه مبتعداً عن الأخلاق الذميمة حتى يُمثّل دور الداعية إلى الله تعالى.

وقد شنّع الله تعالى على الذين يدعون الناس إلى الصلاح وينسون أنفسهم بقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 1.

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} 2

وإن كان القول الراجح من أقوال العلماء رحمهم الله أن للإنسان أن يأمر بالمعروف ولو لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن كان يفعله.

إلَاّ أنَّ هناك أمراً مهماً يجب التنبه إليه. ألا وهو قبول دعوة الداعي أو أمر الآمر بالمعروف ونهي الناهي عن المنكر. وتأثير ذلك في الناس.

لذلك فإن الداعي إلى الله تعالى أو الآمر الناهي إذا كان قدوة صالحة في عقيدته وفي عباداته ومنهج حياته فحريٌ أن يُقبَلَ قوله، وتسمع كلمته، ويكون له تأثير طيب على المجتمع.3

وقد مثلت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أعمالاً كثيرة متنوعة، بحيث تكون فيها الأسوة الصالحة، والمنهج الأعلى للحياة الإنسانية في جميع أطوارها، لأنها جمعت بين الأخلاق العالية والعادات الحسنة، والعواطف النبيلة المعتدلة

1 سورة البقرة، الآية (44) .

2 سورة الصف، الآيتان، (2-3) .

3 انظر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، د. عبد العزيز المسعود، 1/223، وحاجة البشر إلى الأمر بالمعروف ووالنهي عن المنكر، للشيخ عبد الله الجبرين، 67-68.

ص: 169

وقد كان صلى الله عليه وسلم، معلماً مخلصاً، وواعظاً ناصحاً، ومرشداً أميناً، وكان مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.

وكان صلى الله عليه وسلم عابداً شاكراً لربه، وقد غفر له ماتقدم من ذنبه وما تأخر.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لكماتقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبداً شكورا" 1.

لذا فإنه ينبغي للداعية إلى الله تعالى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يلتزم بأوامر الإسلام ويتخذها زاداً يستعين به في دعوته وأمره ونهيه، وأن يتخذ من الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرته القدوة الحسنة، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 2.

إلى غير ذلك من الدعائم والمقومات التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى كالصدق، والعدل، والتواضع، والجود، والكرم، والتثبت وعدم العجلة وغيرها مما هي من لوازم الداعية الناجح.

1 صحيح البخاري، 3/14، كتاب التهجد، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل، رقم 1130، وصحيح مسلم، 4/2172، كتاب صفات المنافقين، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، رقم 2820.

2 سورة الأحزاب، الآية (21) .

ص: 170