الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: أسباب انحراف الأمة عن المنهج الصحيح
المبحث الأول: الغلو في الدين
لقد بدأت البشرية على التوحيد لله تعالى منذ أن أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما:"كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام"1.
إلا أن الناس بعد ذلك تعلقوا بالصالحين، وغَلَواْ فيهم، وبدأ الانحراف في العقيدة، في أولئك القوم الذين بعث الله فيهم نوحاً عليه السلام، بعد أن زين لهم الشيطان عبادة الأصنام، بسبب الغلو في الصالحين.
فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 2. قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم فعبدت 3.
1 أخرجه الحاكم في المستدرك، 2/546، كتاب التاريخ، وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، 1/101، وعزاه إلى البخاري، وانظر تفسير ابن كثير، 1/259، وفتح الباري، 6/372، وتفسير ابن جرير الطبري، 3/334.
2 سورة نوح، الآية (23) .
3 صحيح البخاري مع الفتح، 8/667، كتاب التفسير، سورة نوح، رقم 4920.
إن الغلو داء عضال وسرطان فتاك، يفسد العقيدة، ويهلك الشعوب، وما ذاك إلا لأنه تعدٍّ لما أمر الله به، وتجاوز للمشروع الذي شرعه الله، ولهذا حذر الله عباده من الغلو في الدين، والإفراط بالتعظيم، سواء بالاعتقاد أو القول أو الفعل، قال تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 1.
أي لَا تَتَعَدَّوْا ما حد الله لكم، وأهل الكتاب هنا: اليهود والنصارى، فنهاهم عن الغلو في الدين، وهذه الأمة كذلك، كما قال تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين"3.
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور، لأن عبادة الله عند قبور الصالحين وسيلة إلى عبادتهم، ولهذا لما ذكرت أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال:"إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصّور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة"4.
1 سورة النساء، من الآية (171) .
2 سورة هود، الآية (112) .
3 أخرجه النسائي، 5/286، كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، وابن ما جه، 2/1008، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، والحاكم 1/466، والبيهقي 5/127، وأحمد 1/215،347، وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/278، رقم 1283.
4 صحيح البخاري مع الفتح، 1/523، كتاب الصلاة، باب هل نبش قبور مشركي الجاهلية..، ومسلم 1/375، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور.
كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم عن الإطراء فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"1.
والإطراء مجاوزة الحد بالباطل في المدح، والكذب فيه، ومعنى لا تطروني أي: لا تمدحوني بالباطل، أو لا تجاوزوا الحد في مدحي2.
والغلو كثير في النصارى فإنهم غَلَواْ في عيسى عليه السلام فنقلوه من حيّز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاً من دون الله، يعبدونه كما يعبدون الله، بل غلوا فيمن زعم أنه على دينه من أتباعه، فادعوا لهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أو باطلاً، وناقضتهم اليهود في أمر عيسى عليه السلام فحطوا من منزلته، حتى جعلوه وَلَدَ بغيَّ3.
وقد وقعت الأمة فيما حذرها منه النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو، حيث غلا كثير من الناس في دين الله، وتجاوزا الحد المشروع لهم، وتشبهوا بمن قبلهم من اليهود والنصارى وغيرهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى، وغلا في الدين بإفراط أو تفريط، وضاهاهم في ذلك فقد شابههم، كالخوارج المارقين من الإسلام الذين خرجوا في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقاتلهم حين خرجوا على المسلمين، وكان قتالهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك من عشرة أوجه في الصحاح والمسانيد وغير ذلك، وكذلك من غلا
1 صحيح البخاري مع الفتح، 6/478، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} . رقم الحدث 3445، عن عمر رضي الله عنه.
2 تيسير العزيز الحميد، 314.
3 تيسير العزيز الحميد، 306-307.
في دينه من الرافضة والقدرية والجهمية والمعتزلة" وقال أيضاً: "فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام وقد مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان، قد يمرق أيضاً من الإسلام، وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 12.
ومن هذا يتبين لنا أن أعظم فتنة ابتُليت بها البشرية إنما هي فتنة الغلو، وأن من أسباب انحراف الأمة عن المنهج الصحيح، والفطرة السليمة، إنما هو مجاوزة الحد الذي أدى ببعض الناس إلى صرف العبادة إلى غير الله تعالى، وذلك بالتقرب والتوسل إلى ما يسمونه بالأولياء والصالحين، والعكوف عند قبورهم بالصلاة أو الدعاء أو الذبح أو النذر أو الطواف أو التبرك بها ونحو ذلك مما هو من الشرك الذي حذرنا الله ورسوله منه، أشد التحذير.
1 سورة النساء، من الآية (171) .
2 انظر تيسير العزيز الحميد، 307.