الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
أمَّا بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور مُحدثاتها، وكل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
مِمَّا لا يخفي على أحد أن التحقيق من صنعة الكبار الذين يضعون النصوص بين طلاب العلم وأهله في أجود صولة، وأبهى حُلة، لكن مِنْ صغَار طُلَّاب العلم مَنْ لا يُفرق بين التحقيق، وبين الدراسة والتعليق، ممَّا أدَّى بهم إلى الحكم على كثير من الأعمال لاسيما والجيدة منها بأنها لا تَصلح أن تكون تَحقيقًا.
صحيح أن كثيرا من المطبوع يَحتاج إلى طبع من جديد، لكن لا يَمنع ذلك أن في المطبوع أعمالا جيدة كثيرة؛ ولهذا أردت أن أبين لأبنائنا الطلبة ماهية التحقيق، وكيف يكون، وما هي غايته، ونتائجه، وذلك حين حاضرنا في هذا المضمار مُحاضرة في الحرم النبوي الشريف تَحت عنوان:"التحقيق مبادئه وغايته" منذ أكثر من سنتين، ثم جاءت الفرصة لنشر هذه المحاضرة بهذه الصورة، حين أُتيحت لنا فرصة التقدمة لأحد الكتب التي حُققت حديثًا.
فلابد أن تعرف أيها القارئ الكريم أن التحقيق هو السبيل لإبراز التراث القديم في أحسن حلة له، ولولاه ما استطاعَ الكم الهائل من طلبة العلم قراءة ما كتبه أسلافهم الكرام، وما استطاع هؤلاء الطلبة أن يستمروا في هذه النهضة العلمية التي نراها الآن.
فأولًا تجب الإجابة على هذا السؤال: هل التحقيق في مستوى التأليف؟ وهل يُنظر إليه من الناحية العلمية بِمنظار التقدير والأهمية؟
الحق أن التحقيق جهد علمي مشكور، إذا قصد صاحبه خدمة العلم والإخلاص له، وقد يتطلب التحقيق وقتًا أطول من التأليف، كما أن خدمة الكتاب القديم، وإلباسه اللبوس العلمي الجديد أمر لا يقل بِحال عن التأليف، بل إن عمل التحقيق جهد قومي؛ إذ ينير ثقافة الأمة في الأعصر الغابرة، ويثير المعرفة التي اشتهر بها العلماء المسلمون، وما زالت أنظار العلماء تتلفت نَحو الْمُحققين، وتوليهم الاحترام والتقدير الزائدين، ولاسيما من أخلص في عمله منهم، وأصاب في نتاجه.
وفي الحق أن ما وصل إلينا كان تراثًا ضخمًا -وما ضاعَ أو اندثرَ كان أضخم- وخاصة حين تتهيأ الظروف المناسبة لطبع المخطوطات كلها، أو الثمين منها على الأقل، وتتجه الأنظار اليوم إلى إحياء تراثنا العلمي -بعد نشر كثير من التراث الأدبي والتاريخي- في تاريخ الطب والهندسة والبيطرة
والزراعة، فهذا تأكيدٌ على مكانة العرب العلمية في مرحلة سيطروا فيها ثقافيا على عملية الإبداع في العلوم.
ولم يكتف العرب بالحفَاظ على تراثهم، بل كان لهم الفضل الكبير في الحفاظ على تراث الأمم الأخرى، الذي نقله المسلمون إلى حضارتهم، وضاعت أصوله لدى تلك الأمم، كتراث الفرس والهنود والإغريق والرومان.
على أننا نلقى بين الفينة والفينة خصومًا لِهذا التراث العريق، يستخفون به ويعرقلونَ عملية إحيائه ونشره، ويقفونَ حجر عثرة في طريق طلاب الدراسات العليا الراغبين بتقديم دورهم في هذا المضمار، مدعين أن تذكرة العالم بماضينا العريق نوعٌ من التراجع غير المجدي، وأمر لا يدعو إلى الفخار، بقدر ما يحز في النفس ويدعو إلى الأسى، وإلى ضياع الحاضر والمستقبل في التغني بورقات مهترئة نُسيت عبر الزمان. وما دروا أنهم في عدائهم هذا يفصمون عري الحضارة بين الماضي والحاضر، ويضيعون جذورنا، ويريدون أن يغمضوا عين الشمس التي أشرقت يومًا على الغرب، ويفقدونَ الرابط الفكري الذي تَحلى به المسلمون، واعترف به الغربيون، وأفادوا منه كثيرًا، ولو لم تكن قيمة هذا التراث جليلة لما احتفظت به أرقى مكتبات العالم، ولما تسابقت إلى تملكه أعلى المؤسسات العلمية ثقافة.
ونقف اليوم أمام من يشتغلونَ بالمخطوطات وقفة إجلال وتقدير؛ لأنهم وهبوا أحلى ساعات حياتهم بالعيش في رداه الكتبات وبين أروقتها، ينبشون كنوز المسلمين، ويقدمونها للأجيال تنهل منها ما طابَ لها، بعد أن يوجهوا عليها أنوار بصائرهم وبصيراتهم، وكأنَّهم جنود صامتون صامدون، متربصون خلف متاريسهم وداخل خنادقهم.
وسنعمد في هذه التقدمة إلى عرض فكرة موجزة مبسطة بعيدة عن
التعقيد المرهق، والإطناب المزهق، مبينين دور التحقيق ومستلزماته، مستفيدين من تجاربنا الخاصة التي حصدناها منذ سنوات في مضمار التحقيق ودراسة المخطوطات وتدريسها، مستعينين بالملاحظات التي استقيناها من العلماء الذين سبقونا في هذا الميدان، وكل قصدنا أن نضع بين أيدي المحققين من طلاب الدراسات العليا وغيرهم من طلاب العلم المشتغلين بهذا الفن جرعة علمية نافعة، تقوتهم حينًا، وتقودهم إلى تذليل باكورة أعمالهم التحقيقية حينًا آخر.
ولهذا سنشرع في بيان التحقيق غايته ومنهجه، ليعلم الطالب أن الفارق كبير بين التحقيق وبين الدراسة والتعليق.
التحقيق لغةً واصطلاحًا:
شاع في العصر الحديث استعمال كلمة "التحقيق" في نشر الكتب وتصحيحها وخدمتها، بتوثيق نصوصها، وتوضيح غامضها، وضبط مشكلها، وتيسير مادتها للقارئين، والكلمة قديمة لغة واصطلاحًا، ولكنها لَم تكن شائعة الاستعمال شيوعها في العصر الحديث.
ومعنى التحقيق في اللغة: التأكد من صحة الخبر وصدقه، وحقق الرجل القول صدقه، أو قال هو الحق، وفي اللسان:"وتَحقق عنده الْخَبر أي صح، وحقق قوله وظنه تَحقيقًا أي صدق".
أمَّا معناه الاصطلاحي فهو: إثبات المسألة بالدليل، كما يقول الجرجاني في تعريفاته:"التحقيق إثبات المسألة بدليلها"، وكذلك هو عند العلماء، يقول التهانوي في كشاف اصطلاحات الفنون:"التحقيق في عُرف أهل العلم: إثبات المسألة بالدليل"، ويقول ابن المعتز في طبقات الشعراء بعد أن يورد عدة روايات في سبب مقتل صالح بن عبد القدوس:"والله أعلم بتحقيق ذلك".
ويُسمى الْجَاحظ العالم "مُحِقِّا"، ففي رسالة فصل ما بين العداوة والْحَسد:"إنه لَم يخلُ زمن من الأزمان فيما مضى من القرون الذاهبة إلَّا وفيه علماء مُحِقُّون، قرأوا كتب من تقدمهم ودارسوا أهلها". وقال: "واتَّخذهم المعادون للعلماء المحقين عدة"، وما دام التحقيق هو الإثبات بالدليل وتصحيح الأخبار، فإنه صفة من صفات العلماء، ففي الأدب مُحققون وفي النحو والبلاغة وغير ذلك، يقول ابن الأثير كما في الجامع الكبير وهو يعدد ويُسمى جماعة من العلماء ويصفهم بأنَّهم "المحققون":"وأورده جَماعة من العلماء مثل قدامة والْجَاحظ، وأبي هلال العسكري، والغانمي. . في تصانيفهم في باب الاستعارة، ولم يذكروا أن الأصل فيه تشبيه بليغ. . . . وهو الأصلُ المقيس عليه في التشبيه الذي أجمعَ عليه المحققون من علماء البيان"، وكذلك يصفهم ابن أبي الإصبع المصري في بديع القرآن:"المحققون من علماء البيان"، ويصف السيوطي كما في بغية الوعاة أحد الأدباء بأنه:"أحد أفراد أهل الأدب والمحققين به"، ويصف الفيروزآبادي مُحمد بن طلحة النحوي بأنه راسخ في علم العربية وغلب عليه "تَحقيق العربية والقيام عليها"، كما نقل صاحب البُلَغة عنه.
والمراد بالتحقيق الاصطلاح المعاصر كما وضحه العلامة عبد السلام هارون في رسالته: "بذل عناية خاصة بالمخطوطات حتى يُمكن التثبت من استيفائها لشرائط معينة، فالكتاب المحقق هو الذي صح عنوانه واسم مؤلفه ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقرب ما يكون إلي الصورة التي تركها مؤلفه"، وتَحقيق المخطوطة كما يرى الدكتور مصطفى جواد في فن تَحقيق النصوص بأنه:"الاجتهاد في جعلها ونشرها مطابقة لِحقيقتها كما وضعها صاحبها ومؤلفها من حيث الخط واللفظ والمعنى، وذلك بسلوك الطريقة العلمية الْخَاصة بالتحقيق".
تحقيق العنوان:
وأول مهمة تُجابه المحقق هي مدى صحة المخطوطة من حيث نسبتها إلى مؤلفها، ومدى صحة العنوان وانطباقه على موضوع الكتاب، واسم المؤلف ونسبة الكتاب إليه، وكثيرًا ما يَحدث أن مَخطوطًا كتب عليه اسم لا ينطبق على موضوعه، أو مَخطوطًا كتب عليه اسم غير مؤلفه، سواء أحصل ذلك عن جهل وغفلة أم عن قصد خبيث، فإن من الناس من تسول له نفسه بمحو اسم الكتاب واستبداله باسم آخر، واستبدال اسم المؤلف باسم مؤلف آخر، وقد يقع مَخطوط خالٍ من اسم الكتاب واسم المؤلف، فيأتي من يضع له اسمًا بِحسب ما يراه صوابًا.
أمَّا بالنسبة لعنوان المخطوط، فقد يَحدث أن تسقط الورقة الأولَى، أو أن عنوان الكتاب ينطمس، إمَّا لرداءة الخط أو أثر الماء والرطوبة وانسياح الحبر، أو بفعل الأرضة أو العثَّة، أو بدافع التزوير، كما سبق، فيحتاج المحقق في هذه الْحَالة إلى الرجوع إلى فهارس المخطوطات لِمعرفة المخطوطات ذوات الموضوع المشابه، ومقارنة نصوصها بنصوص المخطوطة، والرجوع إلى ترجمة المؤلف لِمعرفة كتبه، ومن ثم دراسة أسلوبه في مؤلفاته الأخرى، وقد يَجد نصوصًا من الكتاب مضمنة في كتب أخرى، ولا شك أن معرفة اسم المؤلف تيسر الأمر، وتهدي إلى معرفة مؤلفاته وأسلوبه، وإذا كان انطماس العنوان جزئيًا، فإنه يساعد كذلك في معرفة المخطوط من خلال الكتب التي فيها شبه بما تبقى من العنوان.
وإذا كان اسم الكتاب واضحًا واسم الكاتب مفقودًا، فإن الوصول إليه يكون عن طريق معرفة الكتب المشتركة بالعنوان نفسه، ومن ثَم معرفة زمن الكتاب من خلال شيوخ المؤلف وتلامذته، والأحداث التي تدل على الاشخاص، وعلى أزمان الأحداث، ومن الممكن الوصول إلى شخصية المؤلف من خلال المادة العلمية للكتاب، وما فيها من دلالات على
العصر، وكذلك دراسة أساليب المؤلفين، فإن لكل عصر أسلوبه ومصطلحاته وعلومه، ولكل مؤلف أسلوب يُمكن التهدي إلى معرفة صاحبه، بِمقارنة أسلوب الكتاب بالأساليب المشابهة في الموضوعات المشابهة في الكتب الأخرى، وإذا عثر المحقق على طائفة من نصوص الكتاب متضمنة في كتب أخرى، فإن ذلك يسهل الوصول إلى حقيقة المؤلف، مع ملاحظة أن وجود اسم المؤلف لا يَمنع من وقوع التصحيف والتحريف فيه؛ ولابد في كل هذه الأحوال من الرجوع إلى فهارس المكتبات وتراجم المؤلفين للتثبت وقطع الشك باليقين.
التحقيق من نسبة الكتاب إلى مؤلفه:
وفي حالة كون المخطوط كاملًا، فيه عنوان الكتاب واسم المؤلف، ينبغي التثبت من صحة نسبة الكتاب إلى مؤلفه، وخاصة بالنسبة للكتب المغمورة التي ليست لها شهرة، فبعض الكتب لا تتناسب مادتها العلمية مع مكانة وعلم مؤلفها، ومن المؤلفين من لم يعرف عنه أنه خاضَ في موضوع بعيد عن اهتماماته، أو أن أسلوب الكتاب لا يوافق أسلوب المؤلف في كتبه الأخرى، وحقِّا إن المؤلف الواحد قد تتفاوت مستويات مؤلفاته باختلاف سني عمره، فإن فترة الشباب يعتريها الضعف، وإن فترة علو السن يتضح فيها النضج والخبرة، ومع اعتبار كل ذلك، فلابد من التثبت والتحقق، فإن هناك مَجموعة من الكتب نسبت إلى مؤلفين معروفين، اتضح بالتحقيق أنها منسوبة إليهم ومَحمولة عليهم، والأمثلة في هذا كثيرة نَجتزيء بذكر بعض منها:
من ذلك كتاب باسم "كتاب تنبيه الملوك والمكايد" المنسوب للجاحظ، وفيه حكايات وأخبار حدثت بعد عصر الجاحظ، من ذلك وجود باب فيه بعنوان (نكت من مكايد كافور الإخشيدي)، و (مكيدة توزن بالمتقى لله)، وبين الْجَاحظ (ت 255 هـ)، وكافور (ت 357 هـ)، وبين
الجاحظ والمتقي (ت 357 هـ) عشرات السنين، ومن ذلك نسبة شرح ديوان المتبني لأبي البقاء عبد الله بن الحسن العكبري، ومؤلف الكتاب هو ابن عدلان الموصلي المتوفي سنة (666 هـ)، وجزء من كتاب باسم (اختلاف الفقهاء للشعراني) وهو لأبي الوفاء علي بن عقيل الحنبلي الظفري المتوفي سنة (513 هـ)، ونُسب كتاب (إعراب القرآن) إلى الزجاج (ت 311 هـ)، ورجح المحقق إبراهيم الإبياري نسبته إلى مكي بن أبي طالب القيرواني المتوفي سنة (437 هـ)، ومِمَّا جاء من خطأ في عنوان الكتاب ونسبته إلى غير صاحبه أيضًا كتاب (توجيه إعراب أبيات ملغزة الإعراب) المنسوب للرماني المتوفي سنة (386 هـ) الذي حققه سعيد الأفغاني، ثم اتضح أن عنوان الكتاب هو (شرح الأبيات المشكلة الإعراب) وأن مؤلفه ليس الرماني وإنَّما هو أَبو نصر الحسن بن أسد الفارقي المتوفي سنة (487 هـ).
تحقيق متن الكتاب:
لقد أوجز العلامة عبد السلام هارون أهم ما يَجب في تَحقيق متن الكتاب في قوله: "أن يؤدي الكتاب أداءً صادقًا كما وضعه مؤلفه كمّا وكيفًا بقدر الإمكان، فليس معنى تَحقيق الكتاب أن نلتمس للأسلوب النازل أسلوبًا هو أعلى منه، أو نُحِل كلمة صحيحة مَحل أخرى صحيحة بدعوى أن أولاهما أولى بمكانها، أو أجمل، أو أوفق، أو ينسب صاحب الكتاب نصّا من النصوص إلى قائل وهو مُخطيء في هذه النسبة، فيبدل ذلك الخطأ ويحل مَحله الصواب، أو أن يُخطيء في عبارة خطأ نَحويّا دقيقًا فيصحح خطأه في ذلك، أو أن يوجز عباراته إيجازًا مُخلّا فيبسط المحقق عبارته بما يدفع الإخلال، أو أن يُخطيء المؤلف في ذكر علم من الأعلام فيأتي به المحقق على صوابه".
ويقول أيضًا: "ليس تَحقيق المتن تَحسينًا أو تصحيحًا، وإنَّما هو أمانة الأداء التي تقتضيها أمانة التاريخ، فإن متن الكتاب حكم على
المؤلف، وحكم على عصره وبيئته، وهي اعتبارات تاريخية لها حرمتها، كما أن ذلك الضرب من التصرف عدوان على حق المؤلف الذي له وحده حق التبديل والتغيير".
ومعنى هذا أن التحقيق أمانة، ويحسن بالمحقق أن يكون حذرًا أمينًا صبورًا، لا يَجترئ على النصوص فيغير أو يُبدل، وأن الجرأة في التحقيق عمل مذموم، ويُمدح المحقق الحذر المشفق المتأني.
مهمات المحقق:
ونُجمل مهمات المحقق في النقاط الآتية:
أولًا: مقابلة النسخ المخطوطة على النسخة الأم، ويُبين في الْهَامش الفروق بعد أن يرمز لكل نسخة برمز خاص.
ثانيًا: عند اختلاف الروايات يثبت في المتن ما يُرجِّح أنه صحيح، بعد دراسة المحقق لكل رواية، ويَجعل المصحف والمحرّف والخطأ في الهامش.
ثالثًا: عند وجود زيادة في نسخة من النسخ لا توجد في النسخة الأم تضاف الزيادة إلى النسخة الأم، ويُشار إلى ذلك في الحاشية، وذلك إذا تَحقق الناشر أن الزيادة هي من أصل الكتاب وليست من الناسخ، أما إذا كانت الزيادة من الناسخ، أو من أحد العلماء، فيُشار إليها وتثبت في الهامش.
رابعًا: إذا وجد المحقق في النص المخطوط نقلًا من مصادر ذكرها المؤلف، يرجع إلى تلك المصادر ويعارض النصوص المنقولة بالأصل المعتمد، ويدون الفروق في الهامش من حيث الزيادة والنقص أو اختلاف اللفظ.
خامسًا: إذا اهتدى المحقق إلى مصادر الأصل المخطوط، ردَّ كل نص فيها إلى مصدره للاطمئنان إلى صحة النص وتوثيقه.
سادسًا: يَجوز للمحقق إضافة حرف أو كلمة سقطت من المتن، يتقوم بها النص، على أن يضع ذلك بين عضادتين، وقد سمح الأقدمون بزيادة ما سقط من سند الحديث أو متنه، وبتجديد ما اندرس من كتاب الحديث
سابعًا: إذا وُجدَ في المخطوط خرمٌ أضاع نصّا، وكان هذا النص في كتاب آخر مَخطوط أو مطبوع -كأن نقل النص عن مصدره الأول- فيمكن إتمام الخرم، والإشارة إلى ذلك في الحاشية، ويوضع المضاف بين عضادتين، أما إذا لَم يجد المحقق ما خُرم أو ما تُرك بياضًا في مصدر آخر، فيُشير إلى مقدار الخرم أو البياض في الهامش.
ثامنًا: من المحققين من يعتمد على عدة نسخ في آن معًا، ولا يعتمد على نسخة واحدة عند وجود نسخ كثيرة، وفي هذه الطريقة حرية للمحقق، وقد يَجوز هذا الأمر بالنسبة للمحقق المتمكن الخبير في معرفة الكتاب، ومؤلف الكتاب ولغته وأسلوبه، ولا يؤمن في هذه الحالة الزلل، والأفضل اعتماد نسخة واحدة ومقابلتها على النسخ الأخرى، وترجيح الرواية الجيدة.
تاسعًا: عند وجود قراءة لعالم ما على النسخة المعتمدة، أو النسخ الأخرى وفيها تصحيح يزيد في قيمة الكتاب، تثبت القراءة في الهامش ويُشار إليه، ومن المحققين من يرى إثبات هذه القراءة في المتن والإشارة إليها في الهامش، ولست مع هذا الرأى، لأن الأصل في الكتاب أن يمثل مؤلفه.
عاشرًا: كل زيادة في جوانب المخطوط أو طُرَّته من تنبيه أو تفسير أو تعليق، يُشار إليها في الهامش ولا تُضاف إلى المتن.
جمع الأصول وترتيبها:
عندما يقع الاختيار على تَحقيق مخَطوط، لابد من البحث عن نسخه في مكتبات العالم واستقصاء كل ما يُمكن اسقصاؤه من فهارس المخطوطات في المكتبات، والمخطوطات العربية منتشرة في مكتبات العالم، شرقية وغربية، وحقًّا إن الباحث لن يستطيع أن يقف على كل ما في المكتبات التي تَحوي الكتب العربية، ولكنه يبذل قصارى جهده في البحث والتنقيب للحصول على كل النسخ المتيسرة، ويعينه على ذلك -بعد النظر في فهارس المكتبات المخطوطة والمطبوعة- بعض الكتب التي تهتم بالمخطوطات والتي منها على سبيل المثال: كتاب بروكلمان "تاريخ الأدب العربي وذيوله"، وقد ترجم إلى العربية من الألمانية، و"تاريخ آداب اللغة العربية" لجرجي زيدان، و"تاريخ التراث العربي" لفؤاد سزكين وقد ترجمت أكثر أجزائه العربية، وكتاب "الذريعة إلى تصانيف الشيعة" لأغابزرك، و"كتاب الخزانة الشرقية" لحبيب الزيات، هذا عدا الرجوع إلى خزائن الكتب الخاصة المنتشرة في البلاد العربية والإسلامية، ولا يستغني الباحث عن سؤال المكتبيين والمهتمين بالمخطوطات من أساتذة وباحثين ومُحققين، أضف إلى ذلك الكتب المحققة والرسائل الجامعية التي تتضمن فهارسها جَمهرة من المخطوطات.
وحين نقف على مواضع النسخ في المكتبات، نسعى إلى نسخها أو تصويرها، فإذا توافرت لدينا كل النسخ، نبدأ بفحصها ودراستها لمعرفة جيدها من التي فيها نقص أو خرم، ويدرس الفاحص الورق للتحقيق من عمر النسخة، وقد تكون بعض النسخ حديثة ولكن أصابها تلف من أثر الرطوبة أو العث أو الأرضة، فيظن العجل المسرع أنها قديمة، وأن البلى ليس دائمًا دليل القدم، فقد تسلم بعض النسخ القديمة من عوادى التلف والبلى، وقد تكون بعض النسخ مزورة بما يكتب عليها من تواريخ قديمة،
وقد تُعَرَّض النسخة لأسباب التلف ليُظن أنها قديمة، كما يفعل بعض تُجار المخطوطات.
ويدرس كذلك الخط والمداد لِمعرفة الزمن الذي كتبت فيه، فلكل عصر نمط خاص في الخط، ويُعرف كذلك المداد القديم من الحديث، ويفطن المحقق إلى وحدة الخط واطراده وطريقة رسمه، ويلاحظ ما على النسخ من إجازات وتَمليكات وقراءات، أو تعليقات لبعض العلماء، ومعرفة أزمان هذه الإجازات وتاريخ وفيات العلماء الذين أجازوا أو امتلكوا أو قرأوا وعلقوا، ويفحص مادة الكتاب ونظام فصوله وأبوابه، ليطمئن إلى أن النسخة كاملة لم تسقط منها أوراق في أولها أو وسطها أو آخرها، وملاحظة التعقيبة التي تكون في أسفل الصفحة اليمني، التي تدل على بدء الصفحة التي تليها، ويستدل بتتبع هذه التعقيبة على تَمام الكتاب وعدم اضطراب أوراقه، ويدرس خاتمة الكتاب ليقف على اسم الناسخ وتاريخ النسخ، وعن أي النسخ نقلت، وبعد هذه الدراسة الفاحصة لكل نسخة، تُرتَّب النسخ حسب أزمانها وصحتها وجودتها، وفق الترتيب الآتى:
الأول: أحسن النسخ التي تعتمد للنشر هي نسخة المؤلف التي كتبها بِخطه، وخاصة إذا كانت سالمة من النقص والتلف، وتكون هذه هي النسخة الأم، ويحسن أن تكون هذه النسخة كاملة، فيها عنوان الكتاب، واسم المؤلف، وجَميع مادة الكتاب، على آخر صورة كتبها المؤلف بنفسه، أو أشار بكتابتها أو أملاها أو أجازها، أو فيها ما يفيد اطلاعه عليها إقراره لها.
ويَحسن التثبت من أن نسخة المؤلف هي آخر تأليفه له؛ لأن من المؤلفين مَن يعيد تأليف الكتاب أكثر من مرة، وفي كل مرة يُضيف أو يَحذف ويعدل وينقح، فمن المنقول أن كتاب الياقوت لأبي عمر الزاهد
(ت 345 هـ) ظهر في ست صور، كل مرة يزيد فيها عند قراءته عليه، وأن الجاحظ ألَّف كتابه "البيان والتبيين" مرتين "أولَى وثانية، والثانية أصح وأجود" كما في الفهرست، وألَّف ابن درستويه كتاب "الكتاب" مرتين كل واحدة منهما مُختلفة عن الأخرى زيادة ونقصانًا، وأن أبا بكر الزبيدي ألَّف كتابه "لحن العامة" مرتين، وألَّف أَبو عمرو الشيباني كتاب "النوادر الكبير" ثلاث مرات، وألَّف الثعالبي "اليتيمة" مرتين، كانت الثانية أوسع وأشمل من الأولى كما نُقل في يتيمة الدهر وغير ذلك كثير.
وعلى المحقق أن يكون فطنًا حذرًا، فقد يَجد في آخر الكتاب عبارة (وكتاب فلان) أي المؤلف، وهي ليست للمؤلف، وإنَّما هي من فعل الناسخ الذي قد ينقل عن نسخة المؤلف، وينقل ما في آخرها من قول المؤلف، وكذلك يَجب أن يفطن إلى تاريخ النسخة، فقد تكون النسخة متأخرة وينقل الناسخ تاريخ النسخة السابقة التي ينسخ عنها، وقد يكون الفرق بين نسخة الأصل والنسخة المنقول عنها قرنًا أو قرونًا، فيحسن هنا أن يحكم المحقق خبرته في الخط والورق والمداد واسم الناسخ الأول والثاني، ليثبت من تاريخ النسخة الصحيح.
الثاني: بعد نسخة المؤلف تأتي في المنزلة الثانية النسخة التي قرأها المؤلف، أو أشار بكتابتها، أو أملاها، أو أجازها.
الثالث: وتأتي بعد ذلك النسخة التي نقلت عن نسخة المؤلف أو عورضت بها، أو قوبلت عليها.
الرابع: ثم النسخة التي كتبت بعصر المؤلف عليها سماعات العلماء، وبعدها التي ليس عليها سماعات العلماء.
الخامس: النسخة التي بخط عالم تفضل غيرها وتقدم عليها، وقد كان القدماء يحرصون على اقتناء مثل هذه النسخ وينزلونها منزلة عالية،
ومن طريف ما يُروى في ذلك أن الجاحظ لما قدم من البصرة إلى بغداد قاصدًا محمد بن عبد الملك الزيات في وزارته للمعتصم، أهدي إليه نسخة من كتاب سيبويه، وقبل أن يَحملها إلى مَجلسه أعلم بها بعض موظفي ابن الزيات، فلما دخل عليه قال له: أو ظننت أن خزائننا خالية من هذا الكتاب؟ فأجابه الجاحظ: ما ظننت ذاك، ولكنها بخط الفراء، ومقابلة الكسائي، وتهذيب عمرو بن بحر الجاحظ، فقال له ابن الزيات: هذه أجل نسخة توجد للكتاب وأغربها، فأحضرها الجاحظ إليه وسُرَّ بها ووقعت منه أجمل موقع، كما نقل شوقي ضيف في كتاب "البحث الأدبي".
السادس: أما النسخ التي كتبت بعد عصر المؤلف، فترتب حسب قدمها، تفضل المتقدمة على المتأخرة، والتي كتبها عالم، أو قُرئت على عالم على ما لم يكتبها أو يقرأها أحد العلماء، وقد نَجد نسخة ما أحدث تاريخًا من الأولى، ولكن كاتبها عالم دقيق يُقيم النص، وتبرأ نسخته من الخطأ والوهم والتحريف، وهي أصح متنًا وأكمل مادة، وهنا يَجب تقديم النسخة الأحدث.
السابع: هذه النسخة عدا النسخة الأم تُعد أصولًا ثانوية، أمَّا إذا لم توجد نسخة المؤلف، فإن أوثق هذه النسخ وأصحها تعد النسخة الأم، ثم يليها الأقل منها وثوقًا، وقد يَحدث أن تكون هناك نسخة متأخرة صحيحة مضبوطة هي أفضل من أختها المتقدمة التي يعتريها النقص أو التحريف أو التصحيف، وقد نَجد نسخة متأخرة نسخت نسخًا جيدًا عن نسخة المؤلف، أو عن نسخة من عصر المؤلف، وحقّا إن النسخ المتأخرة يعتريها التحريف من أيدي الناسخين، ولكن قد نَجد في المتأخر ما لا نَجده في المتقدم.
الثامن: بعض المخطوطات تأتي غفلًا من تاريخ النسخ ولا يعرف
كاتبها أو زمن كتابتها، ويُستعان لمعرفة عصرها من الخط والورق، فإن لكل عصر نوعًا من الخط، وكذلكَ الورق يُمكن معرفة قدمه، والمقصود هنا فحص الأصول المخطوطة وليس المصورة عنها.
التاسع: قد يضطر المحقق أن يُحقق الكتاب على أصل مَخطوط واحد، في حالة عدم وجود نسخة مَخطوطة أخرى، أما إذا وجدت نسخة أو نسخ أخرى، فلا يصح ذلك، ويُعد عيبًا ونقصًا كبيرًا، وإذا كانت النسخة وحيدة، فيجب مقابلتها على مُختصرات الكتاب إن وجدت، والأصول المطبوعة، وما وجد من نصوص في ثنايا الكتب المشابهة.
العاشر: قد تتوافر من بعض الكتب نسخ كثيرة، وقد تتشابه ثلاث أو أربع نسخ في مَحاسنها أو عيوبها، وتكون قد نسخت عن أصل واحد، وفي مثل هذه الحالة تجعل النسخ المتشابهة مَجموعات أو فئات، ويرمز لكل مَجموعة بحرف، وتتخذ من كل مَجموعة نسخة واحدة تمثلها عند المقابلة وبيان اختلاف القراءة.
الحادي عشر: هناك أصول قديمة للكتاب متضمنة فى كتب أخرى للمؤلف نفسه، أو في كتب المؤلفين الآخرين، وتُعد هذه أصولًا ثانوية يُستعان بها في تَحقيق النص، نَجد من ذلك أمثلة كثيرة، منها ما يتضمنه كتاب شرح البلاغة من نصوص كتب أخرى، مثل وقعة صفين لنصر بن مزاحم، ونصوص كثيرة من كتاب المغازي للواقدي، ونصوص من كتاب العثمانية للجاحظ، وقد ضمَّن البغدادي في خزانة الأدب كثيرًا من صغار الكتب النادرة، منها فرحة الأديب للأسود الأعرابي الغندجاني، وكتاب اللصوص للسكري.
الثاني عشر: أمَّا النسخ المطبوعة التي لا يُمكن الحصول على الأصل الذي طُبعت عنه، فإن فريقًا من المحققين يتخذها أصولًا ثانوية، وبعضهم
يُهملها ولا يلتفت إليها، والأوفق أن تُتَّخذ أصولًا ثانوية، وخاصة إذا كانت النسخ المعتمدة قليلة، أو كانت النسخة المعتمدة وحيدة، مع ملاحظة أن يكون ناشر المطبوعة من المحققين المتمكنين الثقات من أعلام العرب والمستشرقين المعروفين بالأمانة والعلم والتثبت، أما ما دون ذلك مِمَّا ينشره المتسرعون أو النشرات التجارية فلا يُلتفت إليه.
الثالث عشر: قد ترد نسخة بخط المؤلف وهي مسودة الكتاب ولم ترد معها المبيضة، وفي هذه الحال تُعد مسودة المؤلف هي النسخة الأم، أما إذا وجدت المسودة مع المبيضة، فتعتبر المسودة أصلًا ثانويًا يستأنس به لتصحيح القراءة، وتعرف المسودة مما يرد فيها من أثر المحو والتغيير واضطراب الكتابة، وترك البياض، والإضافة بحواشي الكتاب وغير ذلك، وبعض المؤلفين يكتب الكتاب ولا يُجرده من المسودة، من ذلك ما نقل من أن ابن دريد صنف كتاب "أدب الكاتب" على مثال ابن قتيبة ولم يُجرده من المسودة، وقد يُتوفي المؤلف قبل أن يتاح له تبييض كتابه، من ذلك ما نقله الزبيدي في "طبقات النحويين واللغويين" ذاكرًا كتاب "البارع" لأبي على القالي، قال:"ولا نعلمُ أحدًا من العلماء المتقدمين والمتأخرين ألّف نظيره في الإحاطة والاستيعاب، وتوفي قبل أن ينقحه، فاستخرج بعده من الصكوك"، وكذلك يقال في شرح شمس الدين البرماوي لصحيح البخاري المسمى بـ "اللامع الصبيح"، قال:"ولَم يُبَيّض إلَّا بعد موته" كما نقل القسطلاني في "إرشاد الساري".
الرابع عشر: النسخة التي عليها سماع علماء معروفين، أو مُجازة كُتبت عليها إجازات من شيوخ ثقات، تفضل النسخة التي تخلو من الإجازة أو السماع.
الإجازة والسماع:
كتب في هذا الباب العلامة صلاح الدين المنجد بحثًا بعنوان:
"إجازات السماع في المخطوطات القديمة" ونشر في مَجلة معهد المخطوطات، وهذا إن دلَّ فيدل على اهتمام أهل العلم بهذا الباب.
فالإجازة: إثبات المؤلف واعترافه بنسبة الكتاب إليه وإقراره بأنه روي عنه، أي الإذن برواية الحديث لوثاقة المجاز، ووجود الإجازة يعني أن النسخة موثقة، بعد أن تم الإقراء أو السماع، وأن النسخة مطابقة لنسخة المؤلف معنى ومبنى.
والإقراء أو القراءة: أن يقرئ الكتاب على المؤلف أو غيره من دون أن يكون هناك شخص آخر يسمع، أو أشخاص يستمعونَ للقراءة.
والسماع: رواية الكتاب عن مؤلفه أو بالسند المتصل إليه أو أن يقري الكتاب على المؤلف أو غيره مع وجود من يسمع أو يسمعون، ويلخص المنجد فائدة السماعات وقيمتها بأنها:
أولًا: أنموذج من أنموذجات التثبت العلمي الذي كان يتبعه العلماء.
ثانيًا: هي وثائق صحيحة تدل على ثقافات العلماء الماضين وما قرأوه أو سمعوه من الكتب.
ثالثًا: هي مصدر للتراجم الإسلامية.
رابعًا: وهي وسيلة من وسائل معرفة مراكز العلم في البلاد الإسلامية، وحركة تنقل الأفراد من بلدان مُختلفة ونَحوها.
خامسًا: وهي دليل على صحة الكتاب وقدمه وضبطه وتاريخه.
نموذج من السماعات:
جاء في خاتمة مَخطوطة تهذيب الكمال للمزي المتوفي سنة (742 هـ): "سمع هذا الجزء بقراءة الإمام جَمال الدين أبي محمد رافع بن أبي محمد ابن محمد بن شافع السلامي ابنه مُحمد، وعلاء الدين طيبرس بن عبد الله الفاروخي، وأولادي: مُحمد وزينب، وابن أخيهما عمر بن
عبد الرحمن، وأخته خديجة، وأمهما: فاطمة بنت محمد بن عبد الخالق البياني، وبنت خالهم: آسية بنت مُحمد بن إبراهيم بن صديق السلمي، وأخوهما: أحمد حاضرًا في الثالثة، وصح ذلك في يوم الجمعة السابع عشر من جمادي الأولى سنة أربع عشرة وسبعمائة، وكتب مصنفه يوسف ابن الزكي عبد الرحمن بن يوسف المزي".
عمل المحقق "معالجة النصوص":
زيادات النسخ:
يفحص المحقق النسخ المخطوطة فحصًا جيدًّا، ويلاحظ الزيادات التي قد توجد في نسخة دون أخرى، وعليه أن يكون فطنًا لِما قد يدخله الناسخون من قراءات العلماء أو تعليقاتهم في الحواشي في صلب النسخة، فإذا تيقن أن هذه الزيادة هي من كلام المؤلف وضعها في مكانها من الكتاب، وأشار إليها في الهامش بأنها من النسخة الفلانية، ولكل نسخة رمزها، وعلى المحقق أن يُميز بين المستدرات التي هي من صحيح الكتاب وبين التعليقات التي يدونها قراء النسخة، فإذا كان الاستدراك للمؤلف نفسه ووضعه في حاشية الكتاب، أدخله المحقق في موضعه من الكتاب وأشار إلى ذلك في الهامش، أما إذا كانت الزيادة من أحد القراء أو العلماء، فيُشير إليها في الهامش، ولا يدخلها في متن الكتاب.
وقد تكون في الكتاب إجازة برواية الكتاب عن مؤلفه، أو عن رواية عنه، مع إثبات قائمة سماعات يعترف بها المؤلف أو الراوي، فلهذه الإجازات والسماعات فوائد تاريخية وتوثيقية، يَجب أن يوليها المحقق عناية ويدونها في موضعها، ويذكرها في مقدمة التحقيق.
تصحيح الأخطاء:
كثيرًا ما تقع أخطاء وتَحريفات وتصحيفات في النسخة المعتمدة، وقد
تكون وحيدة، وقد تكون النسخة متأخرة ومعها نسخ مثلها، فيكثر فيها الوهم والخطأ، وعلى المحقق أن يؤدي النسخة القديمة الأم كما هي، ويُشير إلى ما يظنه خطأ في الهامش، أما في النسخ المتأخرة فله أن يصحح هذه الأخطاء والتصحيفات مستعينًا بالمراجع، وقد يَجد نصف الصواب في نسخة، ونصفه في نسخة ثانية، وعليه أن يبين التصحيحات بعد أن يتوثق منها في الهامش.
الزيادة والحذف:
مر أن النسخة الأم إذا كانت قديمة تؤدي كما هي دون زيادة أو نقص، أما النسخ الثانوية فكذلك لا يزاد فيها ولا يُحذف إلا ما كان ضروريّا، بعد التثبت والرجوع إلى مراجع التحقيق، وقد أجازَ القدماء أن يلحق بالكتاب ما هو ضروري لإقامة النص، فقد أجاز ابن كثير في "الباعث الحثيث" أن يلحق في نصوص الحديث ما سقط منه أو اندرس من الكتاب، قال:"وإذا سقط من السند أو المتن ما هو معلوم فلا بأس بإلحاقه، وكذلك إذا اندرس بعض الكتاب فلا بأس بتجديده على الصواب".
ولا شك أن المراد بالإضافة أو الحذف هو ما كان واضحًا متعينًا، كإضافة (بن) في السند نَحو:"عبد الله مسعود"، وإضافة (على) في "بُني الإسلام خَمس"، وكذلك حذف المتكرر في (بني الإسلام على على خَمس)، وفي كل الأحوال ينبه المحقق في الهامش على الزيادة أو الحذف، ويضع الزيادة بين عضادتين [. . . . .].
أمَّا الزيادة التي يُراد بها توضيح النص وإزالة ما فيه من إبهام، فلا تكون في الأصل وإنَّما مكانها في الهامش، أمَّا التغيير والتبديل فلا يَجوز في النسخة العالية، ويَجوز في النسخ الثانوية إذا تَحقق أن هناك أخطاء
وتحريفات من قبل النساخ، ويتم ذلك بالرجوع إلى مصادر التحقيق، والإشارة إلى كل ذلك في الهامش.
مقابلة النسخ:
وينبغي الاهتمام بإثبات الفروق التي لها أثر في قراءة النص، حيث يترتب على اختلاف رسم الكلمة تغيير المعنى، ومن المحققين -ومنهم المستشرقين- يُدِّونون كل فرق مهما كان واضحًا بينًا أنه من سهو النساخ من كلمات في نسخة (رما) وفي أخرى (رمى)، و (سقا)، و (سقى)، و (سمآ) و (سماء)، و (مآ) و (ماء)، و (الحرث) و (الحارث)، و (خلد) و (خالد)، و (معاوية) و (معوية)، هذا وغيره مِمَّا يدخل ضمن الرسم الإملائي الذي يغير حسب الرسم الحديث ويُنبِّه عَليه في المقدمة، وكذلك يُقال في بعض الفروق الطفيفة كحروف العطف ومَجيء الفاء مكان الواو أو العكس، أو سقوط نقطة من الذال والتاء والياء، وهو من أثر الخط وإهمال الناسخ، كل ذلك يغير ويُشار إليه جُملة في المقدمة أثناء وصف النسخة.
إن المحقق يُقارن بين النسخ ويثبت الاختلافات الواضحة في الْهَامش، وإذا ورد نص فيه أغلاط وآخر يَخلو منه يثبت الصحيح في الأصل، ويُشار إلى النص الآخر المخطوء في الْهَامش، وعلى المحقق حين يرجح نصّا على آخر أن يُبين سبب الترجيح ويُعلل ذلك، ويسوق الأدلة التي تعزز رأيه في ترجيح هذه القراءة أو تلك.
الضبط:
إذا كانت النسخة الأم مضبوطة بالشكل، أو فيها ضبط جزئي، فينبغي أن يلتزم المحقق بذلك ولا يغيره أو يبدله التزامًا بأمانة أداء النص كما أراده المؤلف، وإذا ورد في بعض الكلمات ضبطان، كأن يكون
الحرف مضمومًا ومكسورًا، فيجب أن يؤدي كما هو، وأمَّا النسخ التي يقل فيها الضبط ويَحتاج المحقق إلى ضبطها، فيضبطها مستأنسًا بطريقة المؤلف في الضبط، كأن يَميل المؤلف إلى ضبط بعض الكلمات التي يَجوز في بعض حروفها الكسر والفتح، أو الفتح والضم، فيتبع طريقة المؤلف في الكلمات التي ضبطها، أما الكلمات التي لم تضبط وليس لها مثيل في كلام المؤلف، فيختار في ضبطها أعلى اللغات، ويدع اللغة النازلة، ومِمَّا يُنَبَّه له، أن يفطن المحقق إلى أن المؤلف قد يضبط الكلمة ضبطًا خاطئًا لينبه بعد ذلك على الخطأ ويصححه، فليس للمحقق أن يصحح ذلك الضبط الخاطيء.
ويَجدر أن يتنبه المحقق إلى أن الضبط يَحتاج إلى أن الدقة والحذر، فقد ترد بعض الكلمات لها ضبط يُخالف المألوف، ويُراد بها غير المعنى المتداول، ويَجب هنا معرفة مراد المؤلف في المعنى، فقد ترد عند المؤلف كلمة (الكَهْوَل) بفتح الكاف وسكون الْهَاء وفتح الواو، بمعنى بيت العنكبوت، فيضبطها المحقق (الكُهُول) جَمع كهل مُجاراة للمألوف، وكذلك (العَلْب) بفتح فسكون، بمعنى الوسم والتأثير، فيضبطها (العُلَب) بالضم والفتح جمع عُلبة، بفتح فسكون، بمعنى الوسم والتأثير، فيضبطها (العُلَب) بالضم والفتح جَمع عُلبة، فيفسد بذلك المعنى ويذهب مراد المؤلف.
وعلى المحقق أن يشكل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويُشكل الأشعار والأمثال تشكيلًا يزيل عنها الإبهام والوهم، ويشكل الألفاظ التي يلتبس معناها إذا أهمل شكلها، كالمبني للمجهول، والكلمات التي فيها تصغير أو تشديد، أو حروفًا مهملة تلتبس بالمعجمة. ويُضبط كذلك الأعلام الأعجمية المعربة أو المركبة أو الصعبة، وأن يتخذ الْحَذر في ضبط أعلام الأشخاص والقبائل والبلدان، والرجوع في ذلك إلى مصادر
التحقيق، فقد يلتبس المصغر بالمكبر، والمخفف بالمثقل، والمعجم بالمهمل، كعدي وعُدي، وصديق وصدِّيق، وحَبيب وخُبيب، ونَمير ونُمير، وكَثير وكُثَيِّر، وحبير وجُبير، وسليم وسُليم، ومسلم ومسَلّم.
ويضبط كذلك الكلمات التي تَحتاج إلى شرح، والتي تلتبس بغيرها، أو تكون صعبة غير مألوفة، أو يكثر الخطأ فيها، أو يشيع استعمال المخطوء فيها، ويضبط وسط الفعل في الماضي والمضارع من الثلاثي لأن أكثره يعتمد على السماع، ويضبط الأفعال التي تلزم البناء للمجهول، مثل: حُمَّ، وجُنَّ، وعُنِىَ، وهُرع، ويضبط كذلك أسماء النبات والحيوان والعقاقير، والكلمات التي تتفق صورتها وتَختلف معانيها باختلاف شكل حركاتها، وفي كل ذلك يرجع إلى مصادر اللغة والمعجمات وتراجم الرجال والطبقات وكُتب البلدان وغيرها، ولا يعتمد فيها على الذاكرة فإن ألفة الكلمة كثيرًا ما تؤدي إلى الْخَطأ.
وعلى المحقق أن يصف في المقدمة النص ومقدار ما فيه من شكل، وما أضيفَ إليه.
العلامات:
قد يُصادف المحقق في المخطوطات القديمة، وفي كتب الحديث خاصة، بعض العلامات والحروف الصغيرة التي توضع فوق بعض الألفاظ ينبغي أن يعرف معناها ويفطن إلى مدلولها، من ذلك:
أ) كلمة (صح) توضع فوق اللفظ، ومعناها أن اللفظ على ما هو مثبت صحيح.
ب) رأس حرف (ص) مَمدودة، وتُسمى (ضبَّة) أو علامة التمريض، توضع فوق العبارة التي هي صحيحة في نقلها ولكنها خطأ في ذاتها، وتُسمى هذه العلامة أيضًا علامة التضبيب، قال السيوطي في
"تدريب الراوي": "يسمى ذلك ضبَّة لكون الحرف مقفلًا بها لا يتجه لقراءة، كضبَّة الباب يقفل بها".
وقد يوضع الحرف (ض) في وسط الكلام إشارة إلى وجود بياض في الأصل المنقول عنه.
جـ) إذا ضرب فوق لفظ بِخط، فمعناه أنه مَحذوف، وربما حَوِّق بنصف دائرة فوق الكلام المحذوف.
د) كثيرًا ما يَحدث التباس في قراءة الحروف؛ لأن الكتابة لم تكن معجمة (غير منقوطة)، ولذلك دأب بعض العلماء والنساخ منعًا للتصحيف والتحريف، أن يضعوا بعض إشارات على الحروف لئلا يقع التباس فيها، من ذلك: إنهم كانوا يضعون حرف حاء صغيرة فوق حرف الحاء في الكلمة لئلا يقرأ الحرف خاء معجمة، أو يضعون عينًا صغيرة تَحت حرف العين لئلا يقرأ غينًا معجمة، وكذلك يفعلون في حرف الصاد والطاء والدال والراء.
وقد يضعونَ ثلاث نقاط تحت حرف السين لئلا تقرأ شينًا؛ لأن نقاط الشين فوق الحرف، وكانوا يضعون هذه النقاط إما صفًا واحدًا أو صفين، وكان بعضهم يعجم الشين بنقطة واحدة فوقها، كما في هَمع الهوامع، وبعضهم كان يكتب سينًا صغيرة (سـ) تَحت السين.
ومن الكتَّاب من يضع فوق الحرف المهمل أو تَحته همزة صغيرة (ء)، ومنهم من يضع خطًّا أفقيًّا فوقه (-)، ومنهم من يضع رسمًا أفقيِّا كالهلال (°) ومنهم من يضع علامة شبيهة بالرقم (7)، وفي بعض الكلمات التي تقرأ بالإهمال والإعجام معًا، قد ينقط الحرف من أعلى ومن أسفل معًا وذلك مثل (التسميت) و (التشميت)، أي تشميت العاطس، يضعونَ أحيانًا فوق السين نقطًا ثلاثًا وتَحتها كذلك،
إشارة إلى جواز القراءتين، و (المضمضة) و (المصمصة) تكتب بنقطة فوق الضاد وأخرى تحتها، تَجويزًا لوجهي القراءة.
ومِمَّا يُلاحظ في ضبط الحروف كتابة:
الهَمزة: وهي صورة رأس عين (عـ) توضع فوق ألف القطع، أو على الواو والياء بدلًا من الألف، أو في موضع ألف قد حذفت صورتها مثل: ماء وسماء، كثيرًا ما تهمل كتابتها في المخطوطات فتلتبس ماء بكلمة (ما)، وسماء بالفعل (سما)، والهمزة المكسورة تكتب أحيانًا تَحت الحرف، وتكتب أحيانًا فوقه.
المدة: وهي السحبة التي في آخرها ارتفاع، قد ترد في الكتابة القديمة فيما لم نألفه، نَحو (مآ) التي نكتبها الآن (ماء) بدون مدة.
الشدة: وهي رأس الشين تكتب فوق الحرف، وقد تأتي تَحت الحرف إذا كانت مقرونة بالكسرة، وقد تكتب الفتحة فوق الشدة وأحيانًا تَحتها، ويضع المغاربة الضمة تَحت الشدة، وفي الكتابة المغربية تكتب الشدة كالعدد سبعة (7) شديدة التقويس.
وتَخفيف الحرف، أي غير مشدد، يرمز إليه أحيانًا بالحرف (خ)، أو بإشارة (خف) إشارة الخفَّة.
ومِمَّا يتصل بهذا معرفة الخطوط والتعود على قراءتها، والتنبه إلى كيفيةَ رسم الحروف في كل موضع من الكلمة، وخاصة الخط المغربي، ففيه صعوبة لمن لم يألفه ولم يمارس القراءة فيه، وتتيسر هذه الصعوبة بكثرة القراءة وَالممارسة، فهم يضعونَ نقطة الفاء تَحت الحرف، وينقطون القاف بنقطة واحدة فوق الحرف، ويضعون الفتحة تحت الشدة لا فوقها كما هو في الخطوط المشرقية، ويضعون الكسرة للحرف المشدد تَحت الحرف لا فوقه، ويَميل الكتاب إلى الاستدارة في رسم الحروف، فتتشابه
استدارة الدال والراء، ويتشابه شكل الكاف والظاء، ويبقون الألف التي نَحذفها في كلمات مثل: لكن وهؤلاء وهذا، فيكتبونها (لاكن، وهاؤلاء، وهاذا)، وعلى الرغم من هذه الصعوبات فالخط المغربي جَميل فيه نظام، وأشكال هندسية متناسقة.
وقد يستعمل رأس الحرف عين (عـ) إشارة إلى كلمة (لعله كذا)، والحرف (ظ) في الهامش إشارة إلى كلمة (الظاهر)، وتوضع (ك) في بعض الهوامش إشارة إلى (كذا في الأصل).
وإذا كان في النص زيادة بعض الكلمات وجدت خطأ، فيُشار إلى الزيادة بخط يوضع فوق الكلام منعطفًا عليه من جانبيه، بهذا الشكل (|-|) وأحيانًا توضع الزيادة بين دائرتين صغيرتين (oo)، أو بين نصفي دائرة (())، وأحيانًا توضع كلمة (لا) أو (من) أو (زائدة) فوق أول كلمة من الزيادة، ثم كلمة (إلى) فوق آخر كلمة منها.
أمَّا بالنسبة للأرقام، فقد ترد في بعض المخطوطات القديمة لها شكل خاص يَختلف عما نعهده.
الرسم الإملائي:
إن الرسم الإملائي في المخطوطات يَختلف عن الرسم الإملائي الحديث، وهو في كثرته مشابه لرسم المصحف، وعلى المحقق أن يستبدل الرسم الحديث بالرسم القديم دفعًا للوهم واللبس، وقد أجاز الأقدمون أنفسهم ذلك كما ذكر في مقدمة "الوافي بالوفيات".
وكثير من المخطوطات القديمة ألفاظها مهملة غير معجمة، أو بعضها معجم وبعضها مهمل، فلا يُمكن نشرها اليوم بلا نقط، وكثير من كلمات المخطوطات مُجردة من الحركات والهمزة والتشديد والمدة، فينبغي اليوم أن تضبط بالشكل، وعلى المحقق أن يعني بالرسم وخاصة فيما
يأتى:
رسم هَمزة الابتداء، وكثيرًا ما يؤدي عدم رسمها إلى تغيير المعنى، مثل: أعذار، وإعذار، وأعلام وإعلام، وأنباء وإنباء، وأن وإن. وفي المخطوطات تُحذف الهمزة المتطرفة ويرسم قبلها مدة، مثل: سمآ، وعليآ، وابتدآ، وابتلآ، بدلًا من: سماء، وعلياء، وابتداء، وابتلاء.
ضرورة وضع نقطتي الياء لئلا تلتبس بالألف المقصورة مثل: أبي وأبي، والهَدي والْهُدي، وعليّ، وعلى، وممَّا يُؤخذ على المصريين إهمالهم النقطتين، وتكاد تَخلو مطابعهم من الياَء المنقوطة.
ضرورة الحرص على وضع علامة التشديد في موضعها دائمًا.
تثبت الألف الوسطية في الأسماء التي كانت تُحذف ألفها في كثير من أسماء الأعلام مثل: الْحَارث، ومروان، وخالد، وإبراهيم، وإسحاق، وهارون، ومعاوية، وسليمان، وعثمان، فإنهم كانوا يكتبونها: الحرث، ومرون، وخلد، وإبراهيم، وإسحق، وهرون، ومعوية، وسليمن، وعثمن، وكذلك في غير أسماء الأعلام مثل: السماوات والصلاة وثمانية وثلاثين، والملائكة، وسبحانه، كانت تُكتب بِحذف الألف: السموت، والصلوة، وثمنية وثلثين، والملئكة، وسبحنه، ونحو ذلك.
همزة (ابن) من القدماء من يَحذفها ومنهم من يثبتها سواء أكانت بين علمين أم لم تكن، ولذلك يَجب الالتزام بالرسم الحديث فتحذف الهمزة، إلَّا إذا جاءت في بداية السطر، أو بين علمين ليس أولهما ابنًا للثاني، وقبل الصفات المادحة مثل: ابن الحافظ، ابن الشيخ، ابن الإمام، أو قبل الأنساب مثل: ابن الدمشقي، ابن الدبيثي، ابن الأثير.
من المحققين من أمثال: صلاح الدين المنجد في كتابه "قواعد تَحقيق
المخطوطات" من يرى فصل الأعداد فيثبت، سبع مئة، بدلًا من سبعمئة، أو سبعمائة، وثلاث مئة، بدلًا من ثلثمئة، أو ثلاثمائة، وكذلك إثبات اللف في الألفاظ المحذوفة ألفها مثل: لاكن، بدلًا من لكن، وهاذا بدلًا من هذا، وهاؤلاء بدلًا من هؤلاء، كما يفعل بعض أهل المغرب العربي حيث يثبتون هذه الألف.
وعلى المحقق في كل الأحوال أن يُنبه في المقدمة عند وصف المخطوطة إلى الرسم المتبع والطريقة التي اتبعها في تبديله مع أنموذجات منه.
المختصرات:
وهناك رموز واختصارات لبعض الكلمات أو العبارات جاءت في المخطوطات القديمة، نرى أن تثبت كاملة ولا حاجة إلى هذه الاختصارات الآن إلَّا إذا تكررت كثيرًا، من ذلك الصلاة على النبي والترحم بعد ذكر المتوفي والترضي على الصحابة وألفاظ التحديث والأخبار والأنباء في إسناد الحديث، وهذه أهم المختصرات:
تع: تعالى.
رحه: رحمه الله.
رضه: رضي الله عنه.
رضي: رضي الله عنه.
أمَّا الصلاة على النبي فيجب أن تكتب كاملة وقد كره الفقهاء اختصارها وقد اختصرها بعض العجم على هذا الشكل:
(صلعم، ص م) أي صلى الله عليه وسلم و (ع م) أي عليه السلام.
إلخ: إلى آخره.
اهـ. انتهى.
ثنا: حدثنا.
ثنى: حدثني.
نا: حدثنا أو أخبرنا.
أنا: أخبرنا.
أنبا: أنبأنا.
ش: الشرح.
الشـ: الشارح.
ع: موضع (استعمله صاحب القاموس ومن جاء بعده وكذلك المختصرات التالية).
ج: جمع.
جج: جمع الجمع.
ججج: جمع الجمع الجمع.
ة: قرية.
وفي كتب الحديث جاءت اختصارات لأسماء الكتب الستة وغيرها، وهي:
خ: البخاري، م: مسلم، ت: الترمذي، د: أَبو داود، ن: النسائي، ق: القزويني.
ولهذه العلامات منزلة كبيرة في تيسير فهم النصوص وتعيين معانيها، فإذا وضعت في مواضعها وضح المعنى.
الإشارات وعلامات الترقيم:
توضع علامات الترقيم الحديثة في أماكنها من الكلام كالنقطة والفاصلة وعلامة الاستفهام، والتعجب والنقطتين وغيرها، وهذه العلامة مقتبسة
من نظام الطباعة الأوروبي، وكان لهذا أصلٌ في الكتابة العربية، فالنقطة في آخر الفقرة كانت ترسم مُجوفة هكذا (o)، وكان الناسخ يضعها لتفصل بين الأحاديث النبوية، وكان قارئ النسخة على الشيخ، أو معارضها على النسخ، يضع نقطة أخرى مصمتة داخل هذه الدائرة () ليدل بذلك على أنه انتهى من مراجعته إلى هذا الموضع، قال الخطيب البغدادي: كما نقل عنه ابن كثير في الباعث: "وينبغي أن يترك الدائرة غفلًا، فإذا قابلها نقط فيها نقطة"، فيجب وضع النقطة عند انتهاء المعاني في الجمل، وتوضع الفاصلة بين الجمل، ولا تستعمل النقطة مع الفاصلة، وتستعمل علامة الاستفهام عند السؤال وإشارة التعجب في موضعها، وتستعمل النقطتان بعد القول، وتوضع بعد قال الثانية إذا ورد قولان، مثل:(قال أَبو هريرة، قال ابن عباس: )، وتوضع النقاط إذا كان في الأصل خرم كل ثلاث نقاط مكان كلمة (
…
).
الأقوال والرموز:
تستعمل الأقواس والخطوط والرموز على الوجه الآتي:
- القوسان المزهران لِحصر الآيات القرآنية: {} .
- علامة التنصيص وتحصر بينها النصوص المقتبسة وأسماء الكتب إذا وردت في النص: " ".
- القوسان يستعملان في إبراز بعض الكلمات وإظهارها، ويحصران كذلك وجه الورقة وظهرها:().
- القوسان المربعان (العضادتان) يحصران ما يضاف من نصوص ثانية نقلت النص أو استشهدت به، وما يُضاف من تكملة أو عناوين جديدة:[].
- الخطان القصيران يحصران الجملة المعترضة: --.
- الخطان العموديان المتقابلان يحصران كل زيادة تضاف من نسخة ثانية غير النسخة المعتمدة:// //.
- القوسان المكسوران يحصران ما يضيفه الناشر من عنده حرف أو لفظ يقتضيه السياق: < >.
ومن المحققين من يستعمل العضادتين في هذا الموضع وهو مصيب.
- توضع كلمة (كذا) بين قوسين لما يبهم على المحقق قراءته ويثبت كما ورد، وبعضهم يضع علامة الاستفهام بين قوسين (؟ ) بدلًا من ذلك، والأول أشهر.
- يرمز إلى كل نسخة من النسخ المخطوطة بحرف، يؤخذ من اسم صاحبها، أو من اسم المكتبة التي وجدت فيها، أو من اسم البلد الذي فيه المكتبة، كما يرمز إلى فئات المخطوطات بحروف مثل: فئة أ، فئة ب، فئة ج.
الحواشي والتعليقات:
للمحقق أن يكتب في الحواشي (الهوامش) ما تدعو إليه الضرورة التي تَخدم النص وتوضحه، وتزيل إبهامه، وتثريه بما يترجم لأعلامه، وما يربط فقره وأفكاره من إحالات وإشارات، وبيان للقراءات في النسخ، واختلافها وفروقها، وتوثيق النص بتخريج أشعاره ونصوصه من كتب التراث، وللمحقق طرائق في تنظيم الهوامش، من ذلك:
أولًا: يكون الهامش في أسفل الصفحة، ويكتب بحرف مُخالف لِحرف المتن أصغر منه.
ثانيًا: يكون اختلاف النسخ في حواشي صلب الكتاب، وتلحق بقية الهوامش بنهاية الكتاب، وحُجة من يفعل هذا، عدم إشغال القارئ بغير نص الكتاب ورأى المؤلف، وهذه هي طريقة أكثر المستشرقين.
ثالثًا: أن تُلحق الحواشي كلها، اختلاف النسخ والتعليقات بنهاية الكتاب.
رابعًا: ومنهم من يَجعل الحواشي كلها أسفل الكتاب، اختلاف النسخ أولًا، والتعليقات ثانيًا، ويفصل بينهما خط والأفضل أن يكون الهامش في أسفل الصفحة، بما فيه اختلاف النسخ والتعليقات، اللهم إلَّا إذا كانت تراجم الأعلام كثيرة، فيمكن أن تفرد بملحق في آخر الكتاب وترتب ترتيبًا هجائيّا.
ويتضح موقف المحققين من الحواشي والتعليقات في اتجاهات ثلاثة:
الأول: فمنهم من يكتفي بذكر اختلاف النسخ فقط، وقلما يخدم النص بتعليق أو بيان أو توضيح، وهذا ما عليه جمهور المستشرقين ومن تابعهم في هذا النهج من العرب والمسلمين.
الثاني: ومنهم من يكثر من التعليق والتفسير والشرح والإيضاح والتخريج، وإثقال الحواشي بنصوص ونقول كثيرة، حتى لتصبح الحاشية كتابًا آخر.
الثالث: وفريق وسط يرى النمطين السابقين إفراطًا وتفريطًا، يَجعل في الهامش اختلاف النسخ، وبيان الفروق في القراءات، والتعليق، والترجمة للأعلام، والتنبيه على الأوهام، كل ذلك بقدر، بحيث يخدم النص ويوضحه ويثريه بالفوائد دون إثقال، وهذا هو المنهج الذي يرتضيه كثرة المحققين، ونراه صوابًا.
إن التعليق مطلوب من المحقق في القضايا الضرورية التي توضح النص وتزيل عنه اللبس والوهم، وتصحح ما فيه من خطأ، ويُمكن أن نوجز النقاط التي يشملها التعليق فيما يأتي:
أولا: التعريف بالمغمور والمبهم من أعلام الناس والبلدان، بالقدر
الذي يَخدم النص ويوضحه وييسر الانتفاع به، وعدم التعريف بالمشهورين كأعلام الخلفاء والملوك والأمراء والشعراء والكتاب، ولا ضرر إذا ذكرت سنوات الوفاة.
ثانيًا: شرح الألفاظ الصعبة والغريبة التي تحوج إلى الرجوع إلى المعجمات.
ثالثًا: توضيح الرموز والمصطلحات التي ترد في النص، مع بيان دلالتها في عصرها.
رابعًا: تَخريج الأحاديث النبوية بالرجوع إلى كتب الحديث، مع بيان درجة الحديث من حيث الصحة والسقم، حتى لا تَختلط الأحاديث الموضوعة بالأحاديث الصحيحة، وذلك بالرجوع إلى كتب الحديث وكتب مصطلح الحديث.
خامسًا: تَخريج الأشعار بالرجوع إلى دواوين الشعراء، وعند عدم وجود ديوان للشاعر الرجوع إلى كتب المختارات الشعرية ومَجاميع الشعر وكتب الأدب والشواهد.
سادسًا: مقارنة النص المعتمد بالنصوص في الموضوعات المشابهة سواء ما كان لاحقًا به أو سابقًا عليه.
سابعًا: نقد النص وبيان ما فيه من وهم أو خطأ، والإشارة إلى الصحيح بعد توثيقه بالأدلة الواضحة.
التخريج:
التخريج: توثيق النص وخدمته وتوضيحه، وذلك بتحديد مواطن النقول وضبطها وتصحيحها وإكمالها وعزو النصوص إلى أصحابها، وتتمة ما يقع في النص من نقص وخلل، أو وهم وخطأ، وتَخريج النص يبين صحته وسلامته، ويدل على مصادر المؤلف ونقوله، والمحدثون هم أشد
العلماء عناية بتخريج الأحاديث وإسنادها، وقد كانت كلمة التخريج، خاصة بالْحَديث النبوي، وقد توسع في استعمالها، وشاعت في العصر الحديث مع شيوع التحقيق وكثرته، ومن المحققين من يعدل عن هذه التسمية إلى تسمية أخرى هي (الرواية)، وينبغي التنبيه إلى أن التخريج يكون بالقدر الذي يَخدم النص وفيه فائدة وتوضيح وتقويم، مع عدم الإسراف بنقل الأخبار والروايات التي ليس لها صلة أو فائدة غير الإطالة والتكثير.
والنصوص التي يحرص المحقق على تَخريجها هي:
أولًا: الآيات القرآنية:
ويرجع فيها إلى القرآن الكريم، ويُستعان لمعرفة السورة ورقم الآية بالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي، يذكر اسم السورة ثم رقم الآية، ولا يَجوز ذكرَ رقم السورة فقط دون اسمها كما يفعل المستشرقون، وإذا ورد في النص خطأ في الآية يُصحح الخطأ ويُشار إليه في الهامش، ويرجع للتوثيق إلى القرآن الكريم، ولا يعتمد المحقق على ذاكرته، فكثيرًا ما تخون الذاكرة، أو يَختلط عليه فيحذف حرفًا أو يزيد.
ثانيًا: الأحاديث النبوية:
تُخَرَّج الأحاديث النبوية بالرجوع إلى صحيحي البخاري ومسلم وموطأ مالك، ويذكر الجزء والصفحة، ويُسمى الباب أيضًا، فإن لم يَجد فيها الحديث، يرجع إلى كتب السنن الأربعة (النسائي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة)، فإن لَم يَجد فيها الحديث فيرجع إلى كتب المسانيد مثل مسند أحمد، ومسند الدارمي وغيرها، ولأهمية الحديث ومنزلته في الشريعة الإسلامية ينبغي بيان درجة الحديث من الصحة
والضعف، حتى لا تشيع بين الناس الأحاديث الموضوعة، ويُستعان في معرفة مواضع الحديث بالرجوع إلى كتب الفهارس (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) الذي عمله فنسنك ومنسنيج، و (مفتاح كنوز السنة) الذي عمله فنسنك وترجمه محمد فؤاد عبد الباقي، وكذلك كتاب (تيسير المنفعة بكتابي مفتاح كنوز السنة والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) لمحمد فؤاد عبد الباقي.
ثالثًا: الشعر:
تَخريج الأشعار والأرجاز بالرجوع إلى الدواوين، فإن لَم يكن للشاعر ديوان، يوجع إلى مَجاميع الشعر وكتب الأدب والنحو والنقد والبلاغة والتاريخ والبلدان، التي تستشهد بالشعر، وينسب الشعر إلى قائله إذا كان غير منسوب، وبين اختلاف الرواية، ويصحح النص وينبه إلى صوابه في الهامش، وإذا كان البيت مكسورًا أقامه، ومن المحققين من يحرص على بيان بحور الشعر، وبعض المحققين يكثر من التخريج بالإضافة إلى وجود الديوان، وفي هذا تكثير وإثقال للهوامش لا نفع فيه.
رابعًا: الأمثال:
تخرج الأمثال بالرجوع إلى كتب الأمثال، مثل: مَجمع الأمثال للميداني، والمستقصي للزمخشري، والفاخر للمفضل بن سلمة، وجمهرة الأمثال للعسكري، والأمثال للقاسم بن سلام، وأمثال العرب للضبي.
خامسًا: المأثورات والنصوص المقتبسة:
تخرج النصوص المقتبسة كالخطب والرسائل والوصايا والحِكَم، وهذه النصوص تكشف عن مصادر المؤلف التي نقل عنها، والكتب التي نقلت عن المؤلف أيضًا، وعلى ضوء هذه المصادر يوثق النص ويُصحح، ويبين
ما فيه من زيادة أو نقص أو تغيير، ويرجع في كل ذلك إلى كتب الأدب والأمالي والمجالس، والكتب التي طابعها جَمع الأخبار والحكايات والنوادر والأيام.
نقد النص:
إن عمل المحقق الأساسي هو ضبط النص وتوضيحه، والتنبيه إلى ما فيه من أغلاط وأوهام، وبيان الصواب من الخطأ، والتنبيه إلى الرأي الضعيف، وبيان الرأي الأقوى، معززًا ذلك بالأدلة والشواهد، وموثقًا رأيه بالمصادر المعتمدة، وهذا العمل الذي فيه ترجيح رأي بالدليل، وتقويم معوج، وتصويب خطأ، هو ما يدخل في باب نقد النص، ولا يقوم بهذا إلا المحقق المتمكن الحذر المدقق، الذي خبر النصوص وعرف دقائقها، بحيث لا يصبح نقد النص مركبًا ذلولًا تجرب فيه الآراء، وتطلق فيه الأحكام دون حجة بينة ودليل دافع، وإلا فليس لأحد أن ينقد نصّا معتمدًا على الذوق والمزاج، والرأي الفطير.
والمحقق الجيد هو الذي يحيط بعلوم التراث ولغته وأدبه وله خبرة ومران بنصوصه ودقائقه، وهو الذي يستطيع الحكم على النصوص ونقدها، فيفيد بعمله هذا قارئ الكتاب والباحث والدارس، فيسهل عليهم الفائدة ويوفر لهم الجهد والوقت.
تقديم النص:
بعد الانتهاء من تحقيق الأصل المخطوط، واستكمال كل أسبابه، وإخراجه من المسودة إلى المبيضة، يكتب المحقق مقدمة يقدم فيها النص وتتضمن الآتي:
أولأَ: التعريف بالمؤلف وإلقاء الضوء على عصره بالقدر الذي يتعلق بالمؤلف والكتاب، مع ذكر المصادر والمراجع التي ترجمت له.
ثانيًا: دراسة عن الكتاب وشأنه بين الكتب التي ألفت في موضوعه، والجديد الذي يتميز به الكتاب.
ثالثًا: موضوع الكتاب وما ألف فيه قبله وبعده.
رابعًا: وصف المخطوط الذي اعتمد عليه في النشر، ويتضمن الوصف النقاط الآتية:
الأولى: ما أثبت على الورقة الأولى من اسم الكتاب واسم مؤلفه والتحقق من صحة اسم الكتاب ونسبته إلى مؤلفه.
الثانية: تاريخ النسخ واسم الناسخ، ويُشار إلى من ترجم له إذا كان معروفًا.
الثالثة: إذا كان الكتاب غفلًا من اسم المؤلف فيحاول المحقق عرفانه من الموضوع، والأسلوب، والأعلام المذكورة، ممن يذكر أنه رآهم أو اجتمعَ بهم، وإذا لَم يكن على الكتاب تاريخ نسخ، فيقدر عمر المخطوط بالخط والورق.
الرابعة: عدد ورقات المخطوط وقياسها، وعدد السطور في الورقة وطول كل سطر، وما فيها من هوامش وأبعادها.
الخامسة: نوع الخط الذي كتبت النسخة به، وهل كتبت النسخة بخط واحد أو خطين مختلفين.
السادسة: الرسم الذي تبعه الناسخ، تذكر أنموذجات من الألفاظ التي سيبدل المحقق رسمها في النص.
السابعة: المداد واختلاف ألوانه، فقد يكتب النص بالأسود، والعناوين بالأحمر، وقد تكون فواصل بالأحمر والأزرق، فيُشار إلى ذلك كله.
الثامنة: الورق ونوعه.
التاسعة: التعقيبات، أي الكلمات التي تثبت في آخر كل صفحة لتدل على أول كلمة في الصفحة القادمة، وهي تدل على تتابع النص.
العاشرة: التعليقات في الهوامش.
الحادية عشرة: الإجازات (المناولات، إجازات الإقراء، إجازات السماع) ينوه بها في المقدمة ويثبت نصها في آخر الكتاب.
الثانية عشرة: التملكات، أي من ذكر اسمهم من العلماء أو غيرهم الذي تملكوا المخطوطة.
الثالثة عشرة: يثبت صورة الورقة الأولى والورقة الأخيرة، أو أى ورقة ثانية من الكتاب، ويُشار في ذيلها إلى موضعها من النص المطبوع، وإذا وجد خط المصنف فمن المستحسن وضع صورة عنه.
الرابعة عشرة: إذا كانت النسخ التي اعتمدَ عليها عديدة فتثبت أوصافها.
الخامسة عشرة: يعقب وصف النسخ قائمة بالرموز: رموز النسخ، ورموز الأقواس.
ويحسن أيضًا أن يذكر المحقق منهجه في التحقيق، والعقبات التي اعترضته، وأية فوائد أخرى يرى أن من المفيد ذكرها، وينبغي أن يذكر بالخير من أعانه في مهمته من الباحثين والمحققين الذين أمدوه بمعلومة أو ساعدوه في الحصول على صورة لِمخطوط، أو غير ذلك.
الفهارس:
إن صنع الفهارس في الكتب العلمية ضرورة، وهى أكثر ضرورة في كتب التراث وإحيائه، والكتاب المجرد من الفهارس تقل فائدته وتصعب قراءته، والفهارس توفر الوقت والجهد وتيسر الفائدة، وهناك فهارس عامة لكل كتاب، وفهارس خاصة منبثقة من طبيعة الكتاب نفسه، حسب
ما يستوجبه موضوعه، وأهم هذه الفهارس:
أولًا: فهرس الآيات القرآنية.
ثانيًا: فهرس الأحاديث النبوية.
ثالثًا: فهرس الأعمال.
رابعًا: فهرس القبائل والأمم والجماعات.
خامسًا: فهرس المواضع والبلدان.
سادسًا: فهرس الأمثال.
سابعًا: فهرس الشعر (القوافي والأرجاز والبحور).
ثامنًا: فهرس الكتب الواردة في الكتاب.
تاسعًا: فهرس المصطلحات الفنية والألفاظ الحضارية.
عاشرًا: فهرس المفردات اللغوية.
حادي عشر: فهرس المصادر والمراجع.
ثاني عشر: فهرس موضوعات الكتاب.
ويُمكن أن يُضاف في الكتب التاريخية فهرس للأحداث والسنين، وفي كتب الخيل فهرس لشيات الخيل وصفاتها، وفهرس لألفاظ البيطرة، وفي كتب اللغة فهرس للألفاظ التي لم ترد في المعاجم.
مع ملاحظة أن بعض الناشرين يبالغ في صنع الفهارس، حتى لتطغى على الكتاب نفسه، فتقارب حجمه أو تزيد عليه، أما ترتيب الفهارس، فتقدم الفهارس المهمة التي لها صلة وثيقة بالكتاب، فكتاب في الأدب تقدم فهارس الشعر والمصطلحات الأدبية، وكتاب في البلاغة يقدم فهرس المصطلحات البلاغية، وكتاب في التراجم يقدم فهرس الأعلام، وهكذا ثم تأتي بعد ذلك الفهارس الأخرى مرتبة حسب أهميتها.
ومن الناشرين من يختصر هذه الفهارس جَميعًا في فهرس واحد هو كشاف للكتاب، فهو فهرس للأعلام والقبائل والمواضع والألفاظ الحضارية وغيرها، وقد يكون هذا نافعًا في الرسائل والكتب الصغيرة، أما في الكتب الكبيرة فهو قليل الفائدة ولا يُغني شيئًا.
أولويات التحقيق:
التراث العربي المخطوط ثروة نفيسة، تُمثل فكر الأمة وتاريخها وحياتها، وهو موزع في مكتبات العالم شرقيها وغربيها، وفي هذا التراث الضخم مَخطوطات قديمة نادرة، يرجع عهدها إلى القرون الهجرية الأولَى، ويرجع الكثير منها إلى زمن التأليف والنضج الفكرى في العصور العباسية في القرون الثالث والرابع والخامس، ويتضاعف عددها في القرون المتأخرة.
وحين بدأت الأمة العربية تنهض من سباتها بعد العصر العثماني، التفت فريق من العلماء لأهمية إحياء هذا التراث العزيز، ورأوا أن المستشرقين قد نشطوا في تَحقيق التراث العربي، مستخدمين الطريقة العلمانية في النشر، فكان أول كتاب طبع هو القرآن الكريم، طبع في البندقية سنة (1530 م)، ثم طبع كتاب الكافية في النحو لابن الحاجب (عثمان بن عمرو ت 646 هـ)، طبع في روما سنة (1000 هـ)، (1592 م)، أما أول كتاب يصح أن يُسمى تَحقيقًا فهو كتاب الفلاحة لابن العوام الإشبيلي (ق 6 هـ) حققه جوزيف بانكري وطبع في مدريد سنة (1217 هـ)(1802 م)، ثم حقق جارلس لايل شرح ديوان الحماسة للتبريزي (ت 502 هـ)، وطبع في بون سنة (1828 م)، وحقق وليم رايت كتاب الكامل للمبرد (ت 286 هـ) ونشر في لندن سنة (1860 م)، وحقق وستنفيلد كتاب الاشتقاق لابن دريد (ت 321 هـ)، ونشر في كوتنكن سنة (1853 هـ)، ثم كثر التحقيق بعد ذلك.
فأقبلوا على تَحقيق التراث ونشره، فمن أوائل الكتب التي نشرت وفق تَحقيق علمي جيد: كتاب الإكليل للهمداني (ت 521 هـ)، حققه الأب أنستاس ماري الكرملي، ونشر في بغداد سنة (1931 م)، وكتاب نخب الذخائر في أصول الجواهر لابن الأكفاني (ت 749 هـ)، حققه الكرملي أيضًا، ونشر في بغداد سنة (1939 م)، وكتاب إمتاع الأسماع للمقريزي (ت 845 هـ) حققه الأستاذ محمود شاكر، ونشر في القاهرة سنة (1941 م)، ورسائل الجاحظ حققها طه الحاجري وكراوس ونشرت في مصر سنة (1943 م)، وكتاب الديارات للشبابشتي (ت 388 هـ) حققه كوركيس عواد ونشر ببغداد سنة (1951 م) وغيرها من الكتب التي تعتبر من أوائل التحقيق العربي.
ويتساءل الباحثون ماذا نحقق من هذا التراث الضخم، لا شك أن التراث كله عزيز ونفيس، وحقيق بالنشر، ولا يَخلو أي كتاب منه من فائدة، سواء أكانت هذه الفائدة علمية، أم تاريخية، أم لها دلالة على العصر، أم فيها فائدة تدل على صناعة وخبرة من خلال ما يستنبط من الخط والورق والحبر، وحتى في المخطوطات التي يظن فيها ضرر أو سلبيات، ففيها فوائد تستنتج وفيها دلالات على العصر، ولها نفع تاريخي أو اجتماعي، ولكن يبقى السؤال: من أين نبدأ، وأي المخطوطات أولى بالتقدم ولها الأولوية؟
قال فريق من أهل العلم كما نقل صاحب "فتح المغيث": أنه لا حاجة بنشر مَخطوط ما لم يكن فيه جدة وإبداع وابتكار، وقد سبق بعض المتقدمين فنادى بهذا الرأي وهو القاضي ابن العربي، إذ قال في صفة الكتاب الجيد:"إمَّا أن يخترع معنى، أو يبتدع وضعًا ومبنى، وما سوى هذين الوجهين فهو تسويد الورق والتحلي بحلية السَّرَق"، ولا شك أن المخطوطات القديمة التي كتبها علماء القرن الثاني والثالث لها الصدارة،
لقدمها ولأن العلم كان في شبابه، وكان فيه طابع الجدة والابتكار، وكلما تأخر العصر كثر التكرار وغلبت الشروح والمختصرات، ولكن هل هذا حكم عام؟ لا أظن ذلك، فقد يكون للمتأخر فضل على المتقدم بما يفيد من علم الأوائل، ويضيف إلى الخبرات الناضجة والعلم الرصين.
إن المخطوطات التي وصلت بخط مؤلفيها، وخاصة إذا كان المؤلف من العلماء المعروفين المتميزين، أو كتبها علماء معروفون، هذه المخطوطات لها مكانة خاصة، وهناك كتب متأخرة حفظت وجمعت معلومات ونصوصًا من كتب قديمة فُقدت أصولها، وقد عرف بعض المؤلفين بتضمين مؤلفاتهم رسائل وكتبًا وأشعارًا كثيرة، من أولئك ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة الذي ضمَّن كتابه كتبًا كثيرة، وكذلك فعل البغدادي في خزانة الأدب، فهذه الكتب لا يقعد بها تأخرها، بل لها الفضلُ في حفظ ما ضاعَ من كتب قيمة قديمة، ولذلك فهي تأتي في أهمية النشر بالمرتبة الثانية بعد كتب الصدر الأول.
وهناك كتب لمصنفين تناولت موضوعات سبق إليها الأولون وطرقها غيرهم من المؤلفين، ولكنها تَمتاز عن سابقاتها بحسن العرض وجودة المعنى وبراعة التنسيق، والترتيب، بالإضافة إلى أنها تصحح أخطاء السابقين، وتستدرك عليهم، وتشرح الغامض المستغلق، وتجمع المتفرق، وتتم الناقص، فهذه الكتب تفضل ما سبقها من الموجز أو المخل أو المبهم أو المستغلق، ولهذه الكتب منزلة وتأتي في المرتبة الثالثة في أولويات التحقيق والنشر.
وهناك ضربُ رابع ممَّا يَجب أن يولي عناية في التحقيق، تلك الكتب النافعة التي طبعت طباعة رديئة، ولم يرجع ناشروها إلى النسخ المخطوطة، وظهرت ناقصة ومملوءة بالأخطاء والأوهام، وتكون الفائدة منها قاصرة، هذه الكتب إذا توافرت نسخها المخطوطة أهل للعناية
والتحقيق العلمي الجيد، إن نشر هذه الكتب لا يحول دون بذل العناية في تَحقيقها ونشرها مرة أخرى.
على أن من المهم أن ننبه إلى أن من الخطأ أن تترك المخطوطات ذات الموضوعات الجيدة النافعة، وينشر ما دونها من موضوعات متأخرة مكررة، ومن الخطأ أيضًا أن يترك كتاب متوافر نسخه وينشر مُختصر أو شرح له.
وفي حالات كثيرة يحجم المحققون عن تناول مَخطوطات مهمة بحجة كبر حجمها أو صعوبة خطها، كأن يكون الخط مغربيّا أو أندلسيّا، فإن المران والدربة والأنفة تيسر الصعب وتقرب البعيد.
ثقافة المحقق وعُدَّته:
ينبغي لِمن يتصدى للتحقيق أن يكون على مستوى علمي وثقافي ولغوي متميز، وخاصة في الموضوع الذي يُحققه، ملمًا بعلومه، عارفًا بمصطلحاته، مطلعًا على كتبه ومصادره، ضليعًا باللغة والنحو، خبيرًا بَالكشف عن المفردات وأنواعها وأزمانها، وبالورق وأنواعه وصناعته، فمن يتول نشر كتاب أدبي يَجب أن يكون ملمًا بقضايا الأدب، وعصوره، ورجاله، وشعرائه، وأساليب الأدباء، قارئًا للشعر، ضابطًا لعروضه، خبيرًا بمصادره، ومن يتول نشر كتاب من كتب التاريخ والأخبار يَحسن أن يكون مطلعًا على العصور التاريخية، عارفًا بأحداثها، متقنًا لتراجم الرجال والقبائل والأنساب، خبيرًا بأسماء المواضع والمدن والمعارك قارئًا لكتب الحضارة مدققًا فيها محيطًا بمصادر التاريخ مَخطوطها ومطبوعها، وكذلك الحال فيمن يتصدى لتحقيق كتاب في الخيل والبيطرة والبيزرة أن يكون خبيرًا بهذه العلوم كثير الاطلاع على كتبها، وهكذا الحال في كل علم وفن، ولكل علم ثقافته وخبرته وأدواته.
وعلى هذا فعلى من يعتزم نشر كتاب أن يلم بموضوعه ويدرس الكتب
التي تعالج الموضوع نفسه، أو الموضوعات المشابهة له، حتى تكون له خبرة بهذا العلم، ويستطيع بعدها أن يفهم نصوصه، ويقف على مصطلحاته فيتجنب المزالق والأخطاء التي قد يقع فيها من يظن الخطأ صوابًا، والصواب خطأ.
وقبل البدء بالتحقيق ونسخ الأصول، ينبغي قراءة المخطوطة والتمرس بها، والتعود على رسم حروفها، وخط الناسخ، وخاصة الخطوط المغربية والأندلسية، فإن لها رسمًا خاصّا متميزًا، ولكل كاتب طريقة في رسم الحروف والكلمات، فينبغي التعود على طريقة الناسخ ومقارنة الحروف بعضها ببعض وفق مواضعها من الكلمة، ومعرفة كيفية وضع النقط والكلمات المهملة والمعجمة، فكثير من المخطوطات تهمل إعجام بعض الكلمات، حتى في العصور المتأخرة.
وينبغي كذلك التمرس بأسلوب المؤلف، وذلك بقراءة المخطوطة مرات حتى يقف على صفات أسلوبه وخصائصه، ولكل مؤلف لوازم لفظية وعبارات تتكرر، وينبغي أيضًا أن يطلع على كتب المؤلف الأخرى، ليزداد خبرة بأسلوبه واهتماماته، وقد يَجد في تلك الكتب نصوصًا متشابهة ونقولًا متكررة، وإشارات تدل على شخصية المؤلف وثقافته.
بعد أن يَجمع المحقق كل ما تصل إليه يده من نسخ الكتاب المخطوطة، ويصنفها إلى مراتب، ويقرأها قراءة جيدة متمرسة، ويلم بأسلوب المؤلف وبموضوع الكتاب، يستطيع بعدها أن يمضي في تَحقيق الكتاب على بينة وهدي وبصيرة.
لابد للمحقق أن تكون له مكتبة ثرية بالمصادر والمراجع الأساسية، وخاصة المعجمات، وأن تكون بين يديه عند التحقيق، والكتب التي ينبغي أن تكون بين يدى المحقق هي:
أولًا: كتب المؤلف نفسه المخطوط منها والمطبوع.
ثانيًا: شروح الكتاب ومُختصراته، يستعين بها في القراءة والمقابلة، والأفضل أن يرجع إلى الأصول المخطوطة لهذه الشروح والمختصرات، ولا يعتمد على المطبوع، إلَّا إذا كان مُحقق المطبوع من المحققين الثقات.
ثالثًا: الكتب التي اعتمدت في تأليفها على الكتاب المراد تَحقيقه، فهي تَحتفظ بنقول ونصوص من الكتاب تعين على فهم الأصل وتوضيحه، وقد تسد ما ضاع منه وما سقط.
رابعًا: الكتب التي استقى منها المؤلف، فهي كذلك تعين على فهم النص وتوضيحه وتقييمه، وبعض المؤلفين يذكرون المصادر التي انتفعوا بها، أو نقلوا عنها، وبعضهم يعتمد على كتاب أو كتب دون أن يُشير إليها، كما فعل التبريزي في نقله معظم شرحه للحماسة من شرح المرزوقي، وكذلك في شرحه للقصائد العشر، حيث اعتمدَ في شرحه على شرح ابن الأنباري للمعلقات.
خامسًا: الكتب المعاصرة للمؤلف التي تعالج الموضوع نفسه، أو موضوعًا قريبًا منه.
سادسًا: أن تكون للمحقق خبرة بمصادر التراث يستعين بها على التوثيق والمراجعة والتعليق والتخريج والتفسير والترجمة.
ولهذا كله قلنا في مقدمتنا هذه: "إن التحقيق من صنعة الكبار".
ولضخامة هذا العمل وأهميته سلك كبار المحققين المعاصرين هذا المنهج من أمثال العلامة محمد حامد الفقي، والعلامة أحمد شاكر، والعلامة عبد السلام هارون، والعلامة محمد أَبو الفضل إبراهيم، وشيخنا العلامة محمد رشاد سالم، وشيخنا العلامة محمود شاكر، وغيرهم من أهل العلم والفضل.
وهذا؛ ونَجد من طلبة العلم من ينحى منحى أولئك الذين سبق ذكرهم ليلحق بركبهم، ويتأسى بهم في النهج الذي رسموه للتحقيق، ومن هؤلاء الطلبة الأخ:
أحمد بن علي الدمياطي، سلمه الله وحفظه من كل سوء.
فحقق هذا المنهج في تحقيقه لكتاب الرجراجى المسمى: "مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة، وحل مشكلاتها".
وها هو -حفظه الله- يُخرج لنا كتابًا آخر للإمام "عبد الرحيم الإسنوي" المسمى بـ (المهمات في شرح الروضة والرافعي) وهو الكتاب الذي نحن بصدد كتابة المقدمة له.
فضبط نصه من مخطوطه، وخرج أحاديثه ووثق أصوله، فجزاه الله خيرًا على هذا الجهد الذي كانت نتيجته إخراج سفر في الفقه لم يخرج من قبل، فلو لم يفعل إلا هذا لكفاه فأحسن الله إليه وسدد خطاه ووفقه لِما يُحبه ويرضاه.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وصلي الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فجر يوم الأربعاء الرابع من رجب لعام ثمان وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة الموافق الثامن عشر من شهر يوليو لعام ألفي وسبعة من الميلاد
كتبه
أحمد بن منصور آل سبالك
حفظه الله
مقدمة المحقق