المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محاذير موجهةلأهل الهمة العالية - الهمة طريق إلى القمة

[محمد بن موسى الشريف]

فهرس الكتاب

- ‌تمهيد

- ‌مقدمة الطبعة الرابعة

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌معنى الهمّة

- ‌مراتب الهمم

- ‌أهمية علو الهمّة في حياة المسلم

- ‌أولاً: تحقيق كثير من الأمور مما يعده عامة الناس خيالاً لا يتحقق:

- ‌ثانياً: الوصول إلى مراتب عليا في العبادة والزهد:

- ‌ثالثاً: البعد عن سفاسف الأمور ودناياها:

- ‌رابعاً: صاحب الهمّة العالية يُعتمد عليه، وتناط به الأمور الصعبة وتوكل إليه:

- ‌خامساً: صاحب الهمّة العالية يستفيد من حياته أعظم استفادة، وتكون أوقاته مستثمرة بنّاءة:

- ‌سادساً: صاحب الهمّة العالية قدوة للناس:

- ‌سابعاً: تغيير طريقة حياة الأفراد والشعوب:

- ‌وسائل ترقية الهمّة

- ‌1 - المجاهدة:

- ‌2 - الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله تعالى:

- ‌3 - اعتراف الشخص بقصور همته وأنه لا بد له أن يطورها ويعلو بها:

- ‌4 - قراءة سير سلف الأمة:

- ‌5 - مصاحبة صاحب الهمّة العالية:

- ‌6 - مراجعة جدول الأعمال اليومي، ومراعاة الأولويات، والأهم فالمهم:

- ‌7 - التنافس والتنازع بين الشخص وهمته:

- ‌8 - الدأب في تحصيل الكمالات والتشوق إلى المعرفة:

- ‌9 - الابتعاد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمّة وتضييعها:

- ‌أ- كثرة الزيارة للأقارب بدون هدف شرعيّ صحيح

- ‌ب- كثرة الزيارة للأصحاب والإخوان بدعوى الأخوة والتناصح

- ‌ج- الانهماك في تحصيل المال بدعوى التجارة وحيازة المال النافع للإسلام وأهله

- ‌د- تكليف الموظف نفسه بعملين:

- ‌هـ- كثرة التمتع بالمباح، والترف الزائد

- ‌ز- التسويف:

- ‌ح- الكسل والفتور:

- ‌ط- ملاحظة الخلق:

- ‌العلامات الدالةعلى علو همة الشخص

- ‌كيفية استثمار همة الناس

- ‌محاذير موجهةلأهل الهمّة العالية

- ‌المصادر والمراجع

- ‌صدر للمؤلف

الفصل: ‌محاذير موجهةلأهل الهمة العالية

‌محاذير موجهة

لأهل الهمّة العالية

هذه المحاذير التي سأذكرها خاصة بأهل الهمّة العالية فقط وليست لغيرهم من متدنّي الهمم أو متوسطيها، وذلك لأن فيها جملة من الأمور لا يفهمها غيرهم ولا يدركها سواهم.

وقد يقول قائل: إن بعض ما أذكره في هذا الصدد قد يخالف ما تعارف عليه كثير من أهل الصلاح والالتزام والدعوة من أن التوازن مطلوب والهمّة تكون بقدر، وأنا أوافقهم ولا أخالفهم ولكن قد يبدو بعض ما أورده مخالفاً لمنطقهم الصحيح وليس الأمر كذلك:

1 -

صاحب الهمّة تحلق به همته دائماً فتأمره بإنجاز كثير من الأعمال المتداخلة في وقت واحد، فليطعها بقدر ولا يستبعد ما تأمره به، وفي الوقت نفسه لا يقوم به كله بل يأخذ منه بقدر ما يعرف من إسعاف همته له بالقيام به.

وتزاحم الأعمال على الإنسان ومحاولة القيام بها مجتمعةً أمر لا ينكره أهل الهمّة العالية، ومثال ذلك رجل مسافر في قطار مع أهله للترويح والمتعة فهو في أثناء تجواله يتمتع بجمال

ص: 67

الطبيعة، كما أن عليه أن يهتم بأطفاله وينبههم ويوجههم، ولعله بيده كتاب يقرأه أو أمر ينجزه، وهو - أيضاً - يتكلم مع زوجه ويلاطفها، وتدور في مخيلته عدة أفكار وتحدث له كل هذه الأمور في وقت واحد وقد ينجزها على وجه القبول، وكذلك أهل الهمّة تتزاحم عليهم الأعمال الكثيرة فينجزونها كلها أو معظمها.

وهناك محذور آخر خلال ذلك وهو أن:

2 -

صاحب الهمّة العالية معرض لنصائح تثنيه عن همته وتحاول أن تذكره دائماً بأنه (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)(1) ، وأن صاحب الصنعتين كاذب والثالثة سارق، وهكذا، فالحصيف لا يلتفت لهذه النصائح إلا بقدر محدود، وذلك لأن موجهي هذه النصائح قد تنشأ نصائحهم هذه لحسد اعتراهم من حال المنصوح، أو لأنهم يجهلون ما يستطيع عمله هذا الرجل ذو الهمّة العالية من أمور لا تدركها أفهامهم ولا تستطيعها هممهم.

قال ابن نباته السعديّ:

أعاذلتي (2) على إتعاب نفسي

ورعيي في الدجى روضَ السهاد (3)

(1) سورة الأحزاب: 4.

(2)

العذل: اللوم.

(3)

أي تلومه على سهره الليالي.

ص: 68

إذا شام الفتى برق المعالي

فأهون فائت طيب الرقاد

3 -

وصاحب الهمّة معرض لسهام العين والحسد فعليه بالأذكار المأثورة ليدرأ عن نفسه ما قد يصيبه من سهام القدر على يد الحساد.

4 -

وصاحب الهمّة قد تعتريه فَتْرة وضعف قليل لما يراه من تدني همم غالب الخلق فلا يحزن لأجل هذه الفترة، وليوطن نفسه على الإحسان وعلو الهمّة مهما ضعف أو تخاذل مَن حوله، وأياً كان سبب الفترة التي تعتريه فهي أمر طبيعيّ يعتري العاملين والسالكين، وليتذكر حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:

((لكل عمل شِرّة (1) ، ولكل شِرّة فَتْرة)) (2).

5 -

وأهل الهمّة العالية قد يكونون مفرِّطين في بعض الأمور التي قد لا يرون فيها تعلقاً مباشراً بموضوع هممهم، وذلك مثل بعض حقوق الأهل والأقارب، فينبغي على من وقع في هذا المحذور أن يلتفت إلى إصلاحه ولو بالقدر الذي يُبعد عنه سهام اللائمين.

(1) الشرّة: النشاط والهمّة ، والفترة: الضعف والانكسار.

(2)

الترغيب والترهيب للمنذري: 1/ 51، ورواه ابن أبي عاصم وابن حبان.

ص: 69

6 -

وقد تؤدي الهمّة العالية بصاحبها إلى أن يتحمس تحمساً اندفاعياً فيستعجل ويرتكب من الأخطاء ما كان يمكن تلافيه بقليل من التعقل وحساب العواقب، وعلى من وقع في مثل هذا أن يعرف السنن الكونية وأن الأمر لا يحسم بين عشية وضحاها، وليكن مثلُه سيدَ أولي الهمّة العالية صلى الله عليه وسلم فقد كان يوصي أصحابه رضي الله عنهم بالعمل والصبر، فالصبر لا غنى عنه لأهل الهمم.

7 -

وأهل الهمّة العالية قد يتعرضون لأمور تؤثر في هممهم وتطلعهم إلى معالي الأمور، وأعظم مثال على هذا التعرض للخلاف الحاصل بين الفقهاء بعين الذمّ والمقت، ونقدهم والإقلال من شأنهم، ومثاله أيضاً التعرض للجماعات الإسلامية العاملة على الساحة وذمها والتنقص من شأنها وإلصاق التهم بها بدون وجه شرعيّ معتبر في أحيان كثيرة، ويمضي هذا الأخ سحابة يومه وليلته باحثاً عن الأخطاء متصيداً لها، ومثل هذا الشخص إن أصبح هذا الأمر ديدنه فستتخلف همته ولا شك وتقعد به عن معالي الأمور.

يقول الأستاذ محمد الخضر حسين:

((كبير الهمّة يستبين خطأ في رأي عالم أو عبارة كاتب فيكتفي

ص: 70

بعرض ما استبان من خطأ على طلاب العلم ليفقهوه، ويأبى له أدبه أن ينزل إلى سقط الكلام أو يَخفَّ إلى التبجح (1) بما عنده، وقد حدثنا التاريخ عن رجال كانوا أذكياء ولكنهم ابتلوا بشيء من هذا الخُلق المكروه، فكان عوجاً في سِيَرهم ولطخاً في صحفهم، ولو تحاموه لكان ذكرهم أعلى ومقامهم في النفوس أسمى، ومنزلتهم عند الله أرقى)) (2).

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

((أعلى الهمم في طلب العلم طلب علم الكتاب والسنة، والفهم عن الله ورسوله نفس المراد، وعلم حدود المنزل، وأخس همم طالب العلم قصر همته على تتبع شواذ المسائل وما لم ينزل، ولا هو واقع، أو كانت همته معرفة الاختلاف وتتبع أقوال الناس، وليس له همة إلى معرفة الصحيح من تلك الأقوال، وقَلّ أن ينتفع واحد من هؤلاء بعلمه)).

8 -

صاحب الهمّة العالية لا بد له من المداومة على الأعمال التي تدوم ولا تنقطع:

(1) السرور.

(2)

رسائل الإصلاح: 1/ 89.

ص: 71

وليتذكر صاحب الهمّة العالية أن أحبّ الأعمال إلى الله ((أدومها وإن قل)) (1) ، فهمة متوسطة العلو تدوم خير من همة عظيمة متقطعة.

ولنسق إليك أخي ثلاثة أمثلة نهديها إليك فيها دلالة على ما نقول، وبها يختم هذا البحث إن شاء الله تعالى:

أما المثال الأول فهو الإمام أبو القاسم بن عساكر (2) فقد قال عنه أبو المواهب بن صَصْرَي (3):

((لم أرَ مثله، ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر، والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة وأباها بعد أن عرضت عليه، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم)) (4).

وهذا الشيخ كمال العباسيّ الكجراتيّ الهنديّ (5) ، كان ((من عوائده أنه كان يستيقظ في الليل إذا بقي ثلثه فيغتسل ويتهجد،

(1) أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها في كتاب الرقاق: باب القصد والمداومة على العمل.

(2)

الإمام العلامة، الحافظ محدث الشام، ثقة الدين أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الدمشقيّ الشافعيّ، ولد سنة 499، وغلب عليه الحديث فاشتهر به وبالغ في طلبه، ورحل ولقي المشايخ، وكان ديناً، صنف التصانيف المفيدة أجلّلها ((تاريخ دمشق))، توفي رحمه الله تعالى سنة 571 بدمشق. انظر ((وفيات الأعيان)): 3/ 309 - 311.

(3)

الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصري الربعيّ التغلبيّ الدمشقيّ، أبو المواهب، من حفاظ الحديث، وكان محدث دمشق، له بعض المصنفات، توفي سنة 586 عن قرابة 50 سنة رحمه الله تعالى. انظر ((الأعلام)): 2/ 225.

(4)

تذكرة الحفاظ: 4/ 1332.

(5)

الشيخ العالم الكبير المفتي كمال محمد العباس الكجراتيّ الهنديّ، أحد العلماء المبرزين في الفقه والأصول والعربية، ولد ونشأ بأحمد آباد، واشتغل بالعلم من صباه حتى برع وفاق أقرانه، وولي الإفتاء فاشتغل بالفتيا والتدريس 30 سنة، توفي سنة 1013. انظر ((الأعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام)): 5/ 342 - 343.

ص: 72

ويقرأ سبعة أجزاء من القران في الصلاة، ثم يدعو بالأدعية المأثورة، ثم يذكر الله سبحانه وتعالى، ثم يصلي الفجر، ثم يشتغل بتلاوة القرآن إلى صلاة الإشراق، ثم يصلي ويجلس للدرس والإفادة فيدرس إلى زوال الشمس، ثم يتغدى ومعه جماعة من المحصلين عليه، ثم يقيل ساعة، ثم يصلي الظهر، ثم يجلس للإفتاء فيشتغل به إلى العصر، ثم يصلي، ثم يشتغل به (1) ، ثم يصلي ويقبل على أصحابه ، فيتحدث معهم إلى العشاء، ثم يدخل في حجرته ويشتغل بمطالعة كتبه التي يدرسها إلى الثلث الأول من الليل، ثم يدخل في المنزل، وكان من الخامسة عشرة من سنه إلى أربع وخمسين صرف عمره على هذا الطريق)) (2).

وقال أبو العباس ثعلب (3):

((ما فقدت إبراهيم الحربيّ (4) من مجلس لغة ولا نحو، من خمسين سنة)) (5).

وفي الختام أسأل الله تعالى أن يجعلني والقارئين من أهل الهمّة العالية، وأن يبارك لنا في أوقاتنا وأعمالنا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

****

(1) أي بالأفتاء.

(2)

((الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام)): 5/ 342 - 343.

(3)

العلامة المحدِّث، إمام النحو، أبوالعباس أحمد بن يحيى بن يزيد، الشيبانيّ بالولاء، البغداديّ، صاحب التصانيف، ولد سنة 200،

وكان ثقة حجة، ديناً صالحاً، مشهوراً بالحفظ، عُمِّر وأصم، وصدمته دابة فوقع في حفرة، ومات فيها سنة 291 رحمه الله تعالى.

انظر ((سير أعلام النبلاء)): 2/ 982.

(4)

الشيخ الإمام، الحافظ العلامة وشيخ الإسلام، أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم البغداديّ الحربيّ، صاحب التصانيف. ولد سنة 198، كان إماماً في العلم، رأساً في الزهد، عارفاً بالفقه، بصيراً بالأحكام، حافظاً للحديث، مميزاً للعلة، صنف كتباً كثيرة، توفي سنة 258 رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 3/ 356 - 372.

(5)

نزهة الفضلاء: 2/ 982.

ص: 73