المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثانيفي مبدأ وضعه وبناء داود إياه وبناء سليمان عليه السلام على الصورة التى كانت من عجائب الدنيا، وذكر دعائه الذي دعا به بعد إتمامه "لمن دخله" ومكان "الدعاء - إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى - جـ ١

[المنهاجي الأسيوطي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي أسماء المسجد الأقصى وفضائله وفضل زيارته وما ورد في ذلك على العموم والتخصيص والإفراد والاشتراك

- ‌الباب الثانيفي مبدأ وضعه وبناء داود إياه وبناء سليمان عليه السلام على الصورة التى كانت من عجائب الدنيا، وذكر دعائه الذي دعا به بعد إتمامه "لمن دخله" ومكان "الدعاء

- ‌الباب الثالثفي فضل الصخرة الشريفة والأوصاف التي كانت بها في زمن سليمان عليه السلام وارتفاع القبة المبنية عليها يوم ذلك وذكر أنها من الجنة وأنها تحول يوم القيامة مرجانة بيضاء

- ‌الباب الرابعفي فضل الصلاة في بيت المقدس ومضاعفتها وهل المضاعفة فى فضل الصلاة تعم الفرض والنفل أم لا؟ وهل المضاعفة تشتمل الحسنات والسيئات؟ وفضل الصدقة والصوم والأذان فيه والإهلال بالحج والعمرة منه وفضل إسراجه وأنه يقوم مقام زيارته عند الفجر، عن قصده

- ‌الباب الخامسفي ذكر الماء الذي يخرج من أصل الصخرة وأنها على نهر من أنهار الجنة وأنها انقطعت في وسط المسجد من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وفي أدب دخولها وما يستحب أن يدعى به عندها، ومن أين يدخلها إذا أراد الداخل

- ‌الباب السادسفي الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ومعراجه إلى السماء وذكر فرض الصلوات الخمس وذكر قصة قبة المعراج والدعاء عندها وفي مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وفضل قبته وصلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء والملائكة ليلة

- ‌الباب السابعفي ذكر السور المحيط بالمسجد الأقصى وما كان في داخله من المعابد والمحاريب المقصودة بالزيارة والصلاة فيها كمحراب داود عليه السلام ومحراب زكريا ومحراب مريم عليهما السلام ومحراب سيدنا عمر بن الخطاب ومحراب معاوية رضي الله عنهما، وما يشرع

- ‌الباب الثامنفي ذكر عين سلوان والعين التي كانت عندها والبئر المنسوبة إلى سيدنا أيوب عليه السلام وذكر البرك والعجائب التي كانت في بيت المقدس وما كان به عند قتل الإمام عليّ رضي الله عنه وولده الحسين رضي الله عنه ومن قال إنه كالأجمة ورغب عن أهله

- ‌الباب التاسعفي ذكر فتح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيت المقدس، وما فعله من كشف التراب "والزبل" عن الصخرة الشريفة

الفصل: ‌الباب الثانيفي مبدأ وضعه وبناء داود إياه وبناء سليمان عليه السلام على الصورة التى كانت من عجائب الدنيا، وذكر دعائه الذي دعا به بعد إتمامه "لمن دخله" ومكان "الدعاء

‌الباب الثاني

في مبدأ وضعه وبناء داود إياه وبناء سليمان عليه السلام على الصورة التى كانت من عجائب الدنيا، وذكر دعائه الذي دعا به بعد إتمامه "لمن دخله" ومكان "الدعاء

".

روى عن ابن مبارك عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: لما أمر اللَّه تعالى داود عليه السلام أن يبني مسجد القدس قال: يارب وأين أبنيه؟ قال: حيث ترى الملك شاهرا سيفه، قال: فرآه داود في ذلك المكان فأخذ داود وأسس قواعده ورفع حائطه فلما ارتفع انهدم فقال داود "عليه السلام": يا رب أمرتني أن أبني لك بيتا فلما ارتفع هدمته فقال يا داود إنما جعلتك خليفتي في خلقي، فلم أخذت المكان من صاحبه بغير ثمن؟ إنه سيبنيه رجل من ولدك.

وقيل إن معنى الهدم بعد "ارتفاع" البناء أن المكان كان لجماعة من بني إسرائيل

ولكل واحد منهم فيه حق فطلبه داود منهم

ص: 113

فانضم به البعض "باللفظ" والبعض بالسكوت ففهم داود "عليه السلام" من الساكنين الرضا، وكان بعضهم غير راض في "الباطن" فحمل داود "عليه السلام" الأمر على ظاهره فبناه فجاء بعض أصحاب الحق إلى بني إسرائيل فقال لهم: إنكم تريدون أن تبنوا على حقي وأنا مسكين وإنه موضع "بيدي" أجمع فيه طعامي فأرتفق بحمله إلى منزلي لقربه، فإن بنيتم عليه أضررتم (بحالي)، فانظروا في أمري "فقال" له: كل من بني إسرائيل له مثل حقك وأنت أبخلهم "بالخير" فإن أعطيت طوعا وإلا أخذناه على كره منك. فقال: أتجدون هذا في حكم داود؟ ثم انطلق وشكاهم إليه، فدعاهم وقال لهم: تريدون أن تبنوا بيت اللَّه تعالى بالظلم! ما أراكم يا بنى إسرائيل تشتكون للَّه عز وجل ولا أرى إلا أمن "البلاء" يضعفكم ثم قال: له داود عليه السلام أتطب نفسك عن حقك فتبيعه بحكمك؟ فقال: وما تعطيني فيه؟ قال: أملؤه لك إن شئت غنمًا، وإن شئت بقرًا، وإن شئت إبلًا فقال: يا نبي اللَّه زدني فإن ما تشريه للَّه تعالى، فلا تبخل علي فقال له داود عليه السلام احتكم فإنك لا تسألني إلا أعطيتك فقال: ابن عليه حائطًا قدر قامتي ثم املأه لي ذهبا فقال له داود عليه السلام نعم وهو في اللَّه قليل، فالتفت

ص: 114

الرجل إلى بني إسرائيل وقال: هذا واللَّه التائب الصادق المخلص. ثم قال: يا نبي اللَّه قد علم اللَّه "عز وجل مني" لمغفرة ذنب من ذنوبي "هؤلاء" أحب إلي من ملء الأرض ذهبا فكيف يظن هؤلاء أني أبخل عليهم وعلى نفسي؟ بما أرجو به المغفرة لذنوبي وذنوبهم ولكني جزيتهم رحمة لهم وشفقة عليهم، وقد جعلته للَّه تعالى.

فأقبلوا على عمل بيت المقدس، وباشر داود العمل بنفسه، وجعل ينقل الحجر على عاتقه، ويصنعه بيده "في مواضعه" ومعه أحبار بني إسرائيل، والسبب في بناء داود عليه السلام بيت المقدس ما رواه ابن إسحاق أن اللَّه تعالى أوحى إلى داود عليه السلام لما كثر طغيان بني إسرائيل: (إني أقسمت بعزتي لأبتلينهم بالقحط سنين أو أسلطن عليهم العدو شهرين أو الطاعون ثلاثة أيام. قال: فجمعهم داود، وخيرهم بين إحدى الثلاث فقالوا له: أنت نبينا وأنت أنظر لنا من أنفسنا. فاختر لنا فقال: أما الجوع فإنه "بلاء" فاضح لا يصبر عليه أحد، وأما العدو والموت فإني أخيركم إن أخذت تسليط" العدو فإنه لا يبقي لكم والموت بيد اللَّه -تعالى- تموتون بآجالكم في

بيوتكم ففوضوا "كل ذلك" إلى اللَّه تعالى فهو أرحم بكم فاختار لهم الطاعون وأمرهم أن يتجهزوا ويلبسوا أكفانهم ويخرجوا نساءهم وأموالهم وأولادهم وهم خلفهم على الصخرة والصعيد الذي بني عليه بيت المقدس وهو يومئذ صعيد واحد ففعلوا ثم نادى يا رب أنت أمرتنا بالصدقة وأنت تحب المتصدقين فتصدق علينا برحمتك.

اللهم إنك أمرتنا بعتق الرقاب فنسألك

ص: 115

برحمتك أن تعتقنا اليوم اللهم وقد أمرتنا أن لا نرد "السائل" إذا وقف بأبوابنا وأنت تحب من لا يرد السائل وقد جئناك سائلين فلا تردنا "ثم" خروا سجدا من حين طلع الصبح فسلط اللَّه عليهم الطاعون في ذلك الوقت إلى أن زالت الشمس، ثم رفعه عنهم، ثم أوحى إلى داود عليه السلام أن ارفعوا رؤوسكم فقد شفعتك فيهم. فرفعوا رؤوسهم وقد مات منهم مائة ألف وسبعون ألفا أصابهم الطاعون وهم سجود فنظروا إلى الملائكة يمشون بينهم بأيديهم الخناجر ثم عمد داود عليه السلام فارتقى الصخرة رافعا يديه يحدث اللَّه شاكرا ثم إنه جمع بنى إسرائيل بعد ذلك وقال إن اللَّه -تعالى- قد رحمكم وعفا عنكم "فاسجدوا" للَّه شكرا بقدر ما أبلاكم فقالوا له: مرنا بما شئت قال: إني لا أعلم أمرا أبلغ في شكركم من بناء مسجد نعبد اللَّه تعالى فيه ونقدسه أنتم ومن بعدكم قالوا نفعل وسأل داود ربه فأذن له فأقبلوا على بنائه.

وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الطاعون رجس أرسله اللَّه على بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم" الحديث أخرجه البخاري ومسلم وقال "غير" ابن إسحاق أصاب بني إسرائيل طاعون في زمن داود عليه السلام وهو داود بن أبشا من ذرية يهود بن يعقوب فخرج بهم إلى موضع بيت المقدس يدعون اللَّه تعالى ويسألون كشف البلاء عنهم، فاستجاب اللَّه لهم فاتخذوا ذلك الموضع مسجدا وذلك لإحدى عشرة سنة خلت من ملكه، وتوفي قبل أن يتم بناؤه فأوصى إلى سليمان عليه السلام فبناه فى ثماني سنين ولما فرغ من بنائه أطعم فيه بنى إسرائيل اثني عشر ألف ثور قيل: إن سببه أن داود عليه السلام رأى الملائكة سالين سيوفهم يغمدونها ويرتقون في سلم من ذهب من الصخرة إلى السماء فقال داود عليه السلام: هذا مكان ينبغي أن يبنى فيه مسجد

للَّه تعالى قاله

ص: 116

وهب بن منبه.

وقول ابن المسيب حيث قال لما أمر اللَّه داود عليه السلام: أن يبني مسجد بيت المقدس قال: رب وأين أبنيه؟ قال: حيث ترى الملك شاهرا سيفه ويمكن الجمع بين هذه الأقوال أن يكون داود هَمَّ ببنائه لما كشف عن بني إسرائيل البلاء ورفع عنهم الطاعون ورأى الملائكة عقب ذلك وقال لهم عن البناء وسأل اللَّه تعالى أن يبني مسجدا. فأوحى اللَّه تعالى إليه أن يبنيه فسأله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رب أين أبنيه؟ قال حيث ترى الملك شاهرا سيفه فبناه ثم توفي قبل إتمامه فأوصى سليمان عليه السلام ببنائه فبناه وأتمه.

وكان من أمر سليمان عليه السلام في بنائه ما رواه عبد اللَّه بن الزبير الحميدي عن سفيان عن بشر بن عاصم عن كعب قال: إن اللَّه تعالى لمَّا أوحى إلى سليمان عليه السلام أن ابن بيت المقدس جمع حكماء الإنس والجن وعفاريت الأرض وعظماء الشياطين وجعل منهم فريقا يبنون وفريقا يقطعون الصخور والعمد من معادن الرخام وفريقا يغوصون في البحر، يخرجون منه الدر والمرجان وكان في الدر ما هو مثل بيضة النعامة وبيضة الدجاجة وأخذ في "بناء" بيت المقدس فلم يثبت البناء فأمر بهدمه. ثم حفر الأرض حتى بلغ الماء، فأسسه على الماء وألقوا فيه الحجارة فكان الماء "يلفظها" فدعا. سليمان عليه السلام الحكماء الأخيار ورئيسهم أصف

ص: 117

بن برخيا وقال لهم: أشيروا علي. فقالوا: إنا نرى أن نتخذ قلالا من نحاس ثم نملؤها حجارة، ثم تكتب عليها "الكتاب" الذي في خاتمكم، ثم تلقى القلال في الماء ففعلوا فثبتت القلال في الماء، فألقوا المون والحجارة عليها، وبني حتى ارتفع بناؤه وفرق الشياطين في أنواع العمل، فدأبوا في عمله وجعل فرقة منهم يقطعون معادن الياقوت بأنواع الجواهر وجعل الشياطين صفًّا مرصوصا من معادن الرخام إلى حائط المسجد، فإذا قطعوا من المعادن حجرا أو أسطوانة تلقاه الأول منهم "ثم الذي يليه" ويلقيه بعضهم إلى بعض حتى ينتهي إلى المسجد، وجعل فرقة لقطع الرخام الأبيض الذي منه ما هو مثل بياض اللبن بمعدن يقال له السامور ليس هو هذا السامور الذي هو في يدي الناس الآن ولكن هذا به يسمى.

والذي دلهم على معدن السامور عفريت من الشياطين كان في جزيرة من جزائر

البحر فذكره سليمان عليه السلام "عليه"، فأرسل إليه بطابع من حديد وكان خاتمه يرسخ في الحديد والنحاس فيطبع إلى الجن بالنحاس وإلى الشياطين بالحديد وكأن خاتما نزل عليهم من السماء حلقته بيضاء وطابعه كالبرق الخاطف، لا يستطيع أحد أن يملأ بصره منه فلما وصل الطابع إلى العفريت وجيء به قال له: هل عندك من حيلة أقطع بها "الصخور"؟ فإني أكره صوت الحديد في مسجدنا هذا فقال له العفريت: إني لا أعلم في السماء طيرا أشد من العقاب، ولا أكثر حيلة منه. وذهب يبتغي "وكر" عقاب فوجد وكرا "فيه أفراخ العقاب" فغطى عليه بترس "غليظ من حديد"، فجاء

ص: 118

العقاب "إلى وكره فوجد الترس الحديد" فنفخه برجله ليزيحه أو ليقطعه فلم يقدر عليه، فحلق في السماء ولبث يومه وليله ثم أقبل ومعه قطعة من السامور فتفرقت عليه الشياطين حتى أخذوها منه وأتوا بها إلى سليمان عليه السلام فكان يقطع بها "الصخرة العظيمة".

وقال وهب: لما أراد سليمان عليه السلام أن يبني بيت المقدس قال للشياطين: إن اللَّه تبارك وتعالى أمرني أن أبني بيتا لا يقطع فيه حجر بحديدة. فقالوا: لا يقدر على هذا إلا شيطان في بحر له مشربة يردها. قال: فانطلقوا إلى مشربته، فأخرجوا ماءها، واجعلوا مكانه خمرا ففعلوا "فجاء ذلك الشيطان يشرب". فوجد ريحا فقال: شرا. ولم يشرب، فلما اشتد ظمؤه جاء وشرب فأخذ فبينما هم في الطريق إذا هم برجل يبيع الفوم بالبصل، فضحك "ثم مر بامرأة تكهن بقوم فضحك" فلما انتهي به إلى سليمان عليه السلام أخبر بضحكه فسأله فقال: مررت برجل يبيع الدواء ومررت "بامرأة" تكهن وتحتها كنز لا تعلم به. قال: فذكر له شأن البناء فأمر أن يؤتى بقدر من نحاس لا تعملها النفس، فأتي بها فقال: اجعلوها على أفراخ النسور، ففعلوا ذلك فأقبلت النسور إلى أفراخها فلم تصل إليها فارتفعت وعلت في جو السماء ثم نزلت فأقبلت بعود في منقارها فوضعته على القدر، فانشق فعمدوا إلى ذلك العود فأخذوه وجعلوا يقطعون به الحجارة.

قال: وكان عدد من عمل معه في بناء بيت المقدس ثلاثين ألف رجل؛ عشرة

آلاف منهم عليهم قطع الخشب وكان الذين يعملون في الحجارة سبعين ألف رجل، وعدد الأمناء عليهم ثلاثمائة غير المسخرين

ص: 119

من الجن والشياطين، قال: وعمل فيه سليمان عليه السلام عملا يوصف ولا يبلغ كنهه أحد وزينه بالذهب والفضة والدر والياقوت والمرجان وأنواع الجواهر في سمائه وأرضه وأبوابه وجدرانه وأركانه، مما لا يرى مثله وأسقفه بالعود إلا ليخرج وصنع له ما يضيء سكرة من الذهب زنة كل سكرة منها عشرة أرطال وأولج فيه تابوت موسى وهارون.

قال الكلبي: ولما فرغ سليمان عليه السلام من بناء بيت المقدس أنبت اللَّه تعالى شجرتين عن باب الرحمة "إحداهما" تنبت الذهب والأخرى "تنبت" الفضة. فكان كل يوم ينزع من كل واحدة مائتي رطل ذهبا وفضة.

قال: وفرش المسجد بلاطة من ذهب وبلاطة من فضة وروى

ص: 120

النسائي بسننه صحيح عن عبد اللَّه بن عمر -رضى اللَّه "عنهما"- عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أن سليمان عليه السلام بن داود عليه السلام لما بنى "مسجد" بيت المقدس سأل اللَّه تعالى خلال "ذلك" ثلاثًا سأل اللَّه حكما يصادف حكمه فأوتيه وسأل اللَّه تعالى مُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه وسأل اللَّه حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد إلا للصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه" وزاد ابن ماجه على هذه الرواية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الاثنتين فقد أعطيهما وأرجو أن يكون أعطي الثالثة" وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال على شرط الشيخين البخاري ومسلم ويوافق الحديث في دعائه بالملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده القرآن العظيم في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]، والحديث الآخر الصحيح

ص: 121

وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث العفريت الذي تغلب عليه في الصلاة وقال: "فأمكنني اللَّه تعالى منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان رب اغفر لي وهب لي

ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي".

ولما رفع سليمان عليه السلام يده من البناء بعد الفراغ منه وإحكامه، جمع الناس وأخبرهم أنه مسجد للَّه -تعالى- وهو أمره ببنائه وإن كل شيء فيه للَّه تعالى من انتقصه أو شيئًا منه فقد خان اللَّه تعالى وإن داود عهد إليه ببنائه وأوصاه بذلك من بعده ثم اتخذ طعاما وجمع الناس جمعا لم ير مثله قط ولا طعام أكثر منه ثم أمر بالقرابين فقربت إلى اللَّه تعالى وجعل القربان في "رحبة" المسجد وميز ثورين وأوقفهما قريبا من الصخرة "ثم قام على الصخرة" فدعا بدعائه المقدم ثم قام على الصخرة ذكره أو زاد عليه زيادة هي (اللهم أنت وهبت لى هذا الملك منًّا منك وطولا علي وعلى والدي من قبلي وأنت ابتدأتني وإياه بالنعمة والكرامة وجعلته حكما بين عبادك وخليفة في أرضك وجعلتني وارثه من بعده وخليفة في قومه وأنت الذي خصصتني بولاية مسجدك "هذا" وكرمتني به قبل أن تخلقني ذلك فلك الحمد على ذلك، ولك المن ولك "الفضل" ولك الطول "اللهم وأسألك" لمن دخل هذا المسجد خمس خصال أن لا يدخل إليه مذنب لا يعمده إلا لطلب التوبة أن تتقبل منه توبته وتغفر له ولا يدخله خائف لا يعمده إلا

ص: 122

لطلب الأمن أن تؤمنه من خوف وتغفر له ولا يدخله مقحط لا يعمده إلا لطلب الاستسقاء أن تسقي بلاده وأن لا تصرف بصرك عمن دخله حتى يخرج منه اللهم إن أجبت دعوتي وأعطيتني مسألتي فاجعل علامة ذلك أن تقبل قرباني فتقبل القربان (وروي أن أبا العوام سئل ما كان "يقال" في الصلاة في بيت المقدس قال ذكر لنا أن نبي اللَّه سليمان عليه السلام لمَّا فرغ من بنائه ذبح ثلاثة آلاف بقرة وسبعة آلاف شاة ثم أتى المكان الذي في مؤخر المسجد مما يلي باب الأسباط وهو الموضع الذي يقال له كرسي سليمان وقال: "اللهم من آتاه من ذي ذنب فاغفر له" وذي ضرٍ فاكشف ضره "قال فلا يأتيه أحد إلا أصاب من دعوة سليمان عليه السلام وهذا الذي هو معروف بكرسي سليمان من الأماكن المعروفة بإجابة الدعاء.

"وروي" عن ابن المسيب أنه قال: إن سليمان عليه السلام لما بنى مسجد بيت المقدس وفرغ منه تغلقت أبوابه فعالجها سليمان عليه السلام ليفتحها فلم تنفتح

حتى قال في دعائه بصلوات أبي داود إلا انفتحت فانفتحت الأبواب، قال: وفرغ له سليمان عليه السلام عشرة آلاف "نفر" من قراء بني إسرائيل حفسة آلاف بالليل وخمسة آلاف بالنهار حتى لا يأتي ساعة من ليل ولا نهار إلا واللَّه تعالى يعبد فيه. وروي عن زيد بن أسلم أنه قال:

ص: 123

إن مفتاح بيت "المقدس" كان يكون عند سليمان عليه السلام لا يأمن عليه أحد فقام ذات ليلة ليفتحه فعسر عليه فاستعان عليه بالإنس فعسر عليهم فجلس "حزينا" يظن أن ربه قد منعه "منه فهو كذلك إذا أقبل شيخ يتكئ على عصى له وقد طعن في السن وكان من جلساء داود عليه السلام فقال: يا نبي اللَّه أراك حزينا فقال قمت إلى هذا الباب لأفتحه فعسر علي فاستعنت عليه بالإنس والجن فلم يفتح فقال الشيخ: ألا أعلمك بكلمات كان أبوك يقولهن عند كربه فيكشف اللَّه عنه. قال: بلى قال: قل "اللهم بنورك اهتديت وبفضلك استغنيت "وبفضلك" أصبحت وأمسيت. ذنوبي بين يديك، أستغفرك وأتوب إليك يا حنان يا منان. فلما قالها فتح له الباب.

قال المشرف: فيستحب أن يدعو الزائر وغيره بهذا الدعاء إذا دخل من باب الصخرة وكذلك من باب المسجد قال: وكان فراغ "بناء" بيت المقدس لمضي إحدى عشرة سنة من ملك سليمان عليه السلام لمضي خمسمائة سنة وست وأربعين "سنة" من وفاة موسى عليه السلام ومن هبوط آدم إلى ابتداء سليمان في بيت المقدس أربعة آلاف وأربعمائة وست وسبعون سنة ولم يزل المسجد الأقصى على تلك الهيئة التي كانت من العجائب إلى أن "خربه" بخت نصر في ستمائة ألف فدخل بيت المقدس

ص: 124

بجنوده ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرب بيت المقدس واحتمل منه ثمانين عجلة ذهبا وفضة فطرحه برومية وأمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه

ترابا ويقذفه بيت المقدس وكان خروجه بعد قتل شيعا.

وفي زمن أرميا وبعد موت بخت نصر رجع عزير "إلى الشام ووضع لبني إسرائيل التوراة من حفظه ثم قبض. قالوا وكان من بناء داود عليه السلام المسجد "بيت" الأقصى إلى وقت تخريب بخت نصر إياه وانقطاع دولة بني إسرائيل أربعمائة سنة وأربع وخمسون سنة. قال أبو عبد اللَّه البكري: ولم يزل بيت المقدس خرابا إلى أن بناه ملك من ملوك الفرس يقال له كوشك.

ص: 125

وقال البغوي بناه كوشك بن كوشك بن أخورش بعد تخريب بخت نصر بسبعين سنة ثم تغلبت ملوك غسان على الشام بتمليك ملوك الروم لهم ودخولهم في نصرانيتهم إلى أن جاء اللَّه تعالى بالإسلام وملك الشام منهم جبلة بن الأيهم ففتح اللَّه تعالى الشام على المسلمين في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم كان فتح المقدس صلحا على يد عمر رضي الله عنه واستمر في أيدي المسلمين بيت المقدس من حين الفتح العمري إلى أن تغلب عليه الفرنج واقتلعوه من أيدي المسلمين واستولوا عليه في دولة الفاطميين إلى أن فتحه اللَّه على يد سلطان الإسلام والمسلمين صلاح الدنيا والدين أبي المظفر يوسف بن أيوب -رحمه اللَّه تعالى- على ما سنذكره إن شاء اللَّه من الفتحين العزيزين في بابه من هذا الكتاب.

ص: 126