الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس
في الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ومعراجه إلى السماء وذكر فرض الصلوات الخمس وذكر قصة قبة المعراج والدعاء عندها وفي مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وفضل قبته وصلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء والملائكة ليلة
أُسري به عندها واستحباب قصد القبلتين الشريفتين المذكورتين، والصلاة فيهمها، والاجتهاد في الدعاء المعين عندهما واستحباب الوقوف في موضع العروج به وفي مقامه صلى الله عليه وسلم والدعاء بالدعاء المعين والكلام على صلواته إلى القبلتين، وما جاء في ذلك من الأخبار والآثار" رويناه في كتاب دلائل النبوة للبيهقي من حديث حبيشى بن شريف قال. حدثنا شداد بن أوس قال:"قلنا يا رسول اللَّه! كيف أُسري بك قال: "صليت بأصحابي صلاة العتمة بمكة مغتما فأتاني جبريل بدابة بيضاء فوق الحمار ودون البغل فقال: اركب فاستصعب علي فسارها في أذنها ثم حملني عليها فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك
طرفها حتى بلغنا أرضًا ذات نخل فأنزلني. فقال لي صلِّ فصليت، ثم قال: أتدري أين صليت؟ قلت: اللَّه أعلم قال: صليت بمدين ثم صليت بطيبة، ثم ركبت عند صخرة موسى، ثم انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها ثم بلغنا أرضا بدت لنا قصورًا فقال: انزل فنزلت فقال: صلِّ فصليتا، ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ قلت اللَّه أعلم قال "ببيت لحم حيث ولد عيسى ابن مريم، ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني وأتى قبلة المسجد فربط فيها الدابة، ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر فصليت في المسجد ما شاء اللَّه فأخذني العطش أشد ما أخذني فأتيت بإناءين في أحداهما لبن والآخر عسل أرسل بهما جميعا فعدلت بينهما ثم
هداني اللَّه عز وجل فأخذت اللبن فشربتا منه حتى قرعت به جبيني وبين يدي شيخ متكئ على متكإٍ له فقال أخذ صاحبك الفطرة إنه ليهدي ثم انطلق بي حتى أتينا الوادي الذي في المدينة، وإذا جهنم تتكشف عن مثل الروابي" قلت: يا رسول اللَّه! كيف وجدتها، قال:"مثل الحمة السخنة ثم انصرف بي فمررنا بعير من قريش بمكان كذا وكذا وقد أضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان فسلمت عليهم فقال بعضهم هذا صوت محمد ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة فأتاني أبو بكر، فقال: يا رسول اللَّه! أين كنت الليلة فقد التمستك في مكانك فلم أجدك فقال: أعلمت أني أتيت بيت المقدس الليلة"، فقال: يا رسول اللَّه! إنه مسيرة شهر فصفه لي قال: "ففتح لي صراطا كأني أنظر إليه لا يسألني أحد عن شيء إلا أنبأتهم عنه" فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول اللَّه فقال المشركون: انظروا إلى ابن أبي كبشة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة قال: فقال: "إن من آية ذلك أني مررت ببعيركم بمكان كذا
وكذا وقد أضلوا بعيرا لهم وإنهم ينزلون اليوم بكذا وكذا، ويأتونكم يوم كذا آدم عليه مسح أسود عليه غرارتان سودوان" فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون، فما مر عليهم قريبا من نصف النهار حتى أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصفه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: وأخرجه أبو الحسين على بن بشران في الثاني من فوائده من رواية جبير وفي لفظ آخر في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "وقد رأيت في جماعة من الأنبياء" وفيه "فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد! هذا مالك صاحب النار فسلم عليه، فالتفت إليه فبدأني بالسلام" وروينا في سنن النسائي عن طريق يزيد بن مالك قال: حدثنا أنس بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بدابة دون البغل، وفوق الحمار خطوتها عند منتهى طرفها فركبتها ومعي جبريل عليه السلام فسرت فقال: انزل فصلِّ ففعلت فقال: تدري أين صليت بطيبة وإليها المهاجرة، ثم قال: انزل فصلِّ ففعلت. فقال:
تدري أين صليت؟ بطور سيناء حيث كلم اللَّه موسى عليه السلام ثم قال: انزل فصلِّ فنزلت فصليت فقال: تدري أين صليت؟ ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام، ثم دخلت بيت المقدس، فجمع لي الأنبياء، فقدمني جبريل حتى أممتهم، ثم صعد بي إلى السماء الدنيا" الحديث وإسناده صحيح وعن عبد اللَّه بن المبارك عن سعيد بن أبي عروة، عن قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لما أسري بي إلى بيت المقدس مر بي جبريل على قبر إبراهيم فقال: انزل فصلِّ ههنا ركعتين فإن ههنا ولد أخوك عيسى عليه السلام، ثم أتى
إلى الصخرة فصليت بالنبيين ثم عرج بي إلى السماء" وروينا من طريق آخر: "أن جبريل عليه السلام قام أمامه صلى الله عليه وسلم حتى كان من شامى الصخرة فأذن جبريل عليه السلام ونزلت الملائكة من السماء وحشر اللَّه المرسلين وأقام جبريل الصلاة وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالملائكة والمرسلين ثم تقدم به إلى الكعبة التى عن يمين الصخرة فوضعت له مرقاة من ذهب، ومرقاة من فضة، وهو المعراج ثم عرج جبريل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من أنت؟ قال: جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد فقيل: وقد بعث إليه؟ ففتح لنا، فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثانية واستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل ومن معك؟ فال محمد قيل: وقد بعث إليه قال نعم قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا صلوات اللَّه عليهما فرحبا بي ودعيا لي بخير ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه قال قد بعث إليه؟ ففتح فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم إذا هو قد أعطي شطر الحسن قال فرحب ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقيل من "هو"؟ فقال جبريل وقيل من معك؟ قال محمد قيل: وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير قال تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]. ثم عرج إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال
جبريل قيل ومن معك قال
محمد قيل وقد بعث إليه قال بعث إليه ففتح لنا فإذا بهارون صلى الله عليه وسلم فرحب بي ودعا لى بخير ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل قيل ومن معك قال: محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل قيل ومن هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم مسند ظهره إلى البيت المعمور فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلا في يوم القيامة ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا لفرها كالقلال وقد غشيها من أمر اللَّه ما غشى فما أحد من خلق اللَّه يستطع أن ينعتها من حسنها فأوحى اللَّه إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة فنزلت إلى موسى فقال ما فرض ربك على أمتك قلت خمسين صلاة قال ارجع إلى ربك فسله التخفيف فإن أمتك لا تطق ذلك فإني بلوت بني إسرائيل وخبرتهم قال فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفف على أمتي فحط عني خمسا فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمسا قال: إن أمتك لا يطقون ذلك فارجع إلى ربك فسله التخفيف وإني لم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى حتى قال يا محمد انهض خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة ومن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا فإن عملها كتبت سيئة واحدة، قال: فنزلت حتى أتيت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه. قال: كعب لصفية
زوج النبي صلى الله عليه وسلم يا أم المؤمنين صلي ههنا فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالنبيين حين أسري به إلى السماء. وأشار على القبة القصوى دبر الصخرة ويُروى من أتى القبة قاصدا وله حاجة من حوائج الدنيا والأخرة فصلى ركعتين أو أربعًا تبينت له سرعة الإجابة وعرف بركة الموضع لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بها وتسمى قبة النبي صلى الله عليه وسلم أعني القبة التي شرقي الصخرة، وتسمى الآن قبة السلسلة وهى التي بناها عبد الملك بن مروان وتقدم ذكرها وهي التي
لقي النبي صلى الله عليه وسلم فيها حور العين ليلة أسري به، كما رواه عبد اللَّه بن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد عن جابر عن أبي زكريا قال:"حدثنا بعض إخواننا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن رأى الحور العين عيانا حتى كان ليلة أسري به، فبينما هو يمشي في صحن المسجد إذ لقيه جبريل عليه السلام فقال أتحب أن ترى الحور العين قال نعم فادخل الصخرة ثم اخرج إلى الصفة فخرج عليهن فإذا نسوة جلوس فسلم عليهن فقلن وعليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته قال: من أنتن رحمكن اللَّه؟ قلن خيرات حسان أزواج قوم أبرار قاموا فلم يضعفوا فلم يكبروا "وأبقوا" فلم يذهبوا".
عن سليمان بن عامر قال: لما أسري برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له جبريل عليه السلام: "أتريد يا محمد أن تنظر إلى الحور العين؟ قال نعم. قال فادخل هذا الباب وعليه ستر فانظر عن يمينك فإنك ستراهن قال فدخلت فنظرت عن يمينى فإذا بنسوة قعود فقلت؟ السلام عليكن ورحمة اللَّه وبركاته فأجبننى وقلن وعليك السلام ورحمة اللَّه" فقلت من أنتن رحمكن اللَّه؟ فقلن نحن خيرات
حسان أزواج أخيار أبرار ينظرون إلى قرة أعيان" أقول: وهذه منقبة عظيمة لهذا المسجد المشرف باجتماع هذا الجمع الكبير والجمع الغفير من الأنبياء والمرسلين والملائكة وصلاتهم به مأمومين يؤمهم المصطفى صلى الله عليه وسلم، آدم فمن دونه وهذا لم يتفق في سائر الأرضين. واختلف العلماء رضي اللَّه تعالى عنهم في صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء تلك الليلة فقال بعضهم إنها صلاة لغوية وهى دعاء وذكر وقيل هي الصلاة المعروفة وهذا أصح القولين لأن اللفظ يحمل على حقيقته الشرعية وقد جاء في رواية في الأحاديث الطوال "أنه ذهب به جبريل إلى بيت المقدس عقب صعوده إلى السماء وأنه أم النبيين فصلى بهم الظهر والعصر والعشاء".
وقد صح أن جبريل أذن وأقام ثم صلى بهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهذا صريح في أن المراد بالصلاة حقيقتها الشرعية لأن الدعاء لا أذان له "قال المشرف: ويستحب أن يقصد فيه المعراج ويصلى فيها ويجتهد في الدعاء فإن موضعه مجمع على إجابة الدعاء فيه قال: ويستحب أن يدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو به فى جوف الليل وهو
ما رواه بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنه قال: بعثني العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته وهو في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث قال فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فلما صلى الركعتين قبل الفجر قال: "اللهم إني أسألك رحمة من
عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها شملي وتلم بها شعثي وترد بها ألفتي، وتصلح بها ديني، وتحفظ بها غايتي، وترفع بها شاهدي وتزكي بها عملي وتبيض بها وجهي، وتلهمني بها رشدي، وتعصمني بها من كل سوء، اللهم أعطنى إيمانا صادقا، ويقينا ليس بعده كفر ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة اللهم أسألك الفوز عند القضاء، ومنازل الشهداء، وعيش السعداء ومرافقة الأنبياء، والنصر على الأعداء، اللهم أنزل بك حاجتي وإن قصر رأيي وضعف عملي وافتقرت إلى رحمتك، فأسألك يا قاضي الأمور ويا شافي الصدور كما تجير بين البحور أن تجيرني من عذاب السعير ومن دعوة الثبور ومن فتنة القبور اللهم ما قصر عنه رأيي وضعف عنه عملى ولم تبلغه أمنيتى". أو قال:"منيتي -شك عاصم أحد رواته-" من خير وعدته أحدا من عبادك أو خيرا أنت معطيه أحدا من خلقك فإني أرغب إليك فيه وأسألك هو يا رب العالمين اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين حربًا لأعدائك، سلما لأوليائك، نحب بحبك الناس، ونعادي بعداوتك من يخالفك من خلقك، اللهم! هذا الدعاء دعائى وعليك الإجابة ولك الحمد وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا باللَّه اللهم يا ذا الحبل الشديد والأمر الرشيد أسألك الأمن يوم الوعيد والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود الركع السجود الموفون بالعهود، إنك رحيم ودود وأنت تفعل ما تريد، سبحان الذي تعطَّف بالعزة وقال به، سبحان الذي لبس المجد وتكرم به، سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له، سبحان ذي الفضل والنعم، سبحان ذي القوة والكرم، سبحان الذي أحصى
كل شيء بعلمه، اللهم! اجعل لى نورا في قلبي ونورا في سمعي، ونورا في بصري، ونورا في شعري، ونورا في بشري، ونورا في لحمي، ونورا في دمي، ونورا في عظامي، ونورا من بين يدي، ونورا من خلفي، ونورا عن يميني، ونورا عن شمالي، ونورا من فوقي، ونورا من تحتي، اللهم! أعطني نورا، وزدني نورا، واجعل لي نورا"
قال ويستحب أن يقصد قبة النبي صلى الله عليه وسلم وراء قبة المعراج ويصلي فيها ويجتهد في الدعاء وإن أحب دعا بالدعاء الذي علمه اللَّه لنبيه صلى الله عليه وسلم حين قال له "فيمَ يختصم الملأ الأعلى" ثم يدعو بما شاء من الدعوات المأثورة.
والذي أقول: إنه ليس في المسجد الأقصى وراء قبة المعراج اليوم إلا قبتان إحداهما على طرف الأقصى والصخرة من جهة الغرب عن يمين السلم الشمالي الواصل إلى طرف سطح الصخرة الغربي وأظنها اليوم بيد خدام المسجد ينتفع بها ولم يذكر أحد ببيت المقدس أنها قبة النبي صلى الله عليه وسلم والقبة الأخرى في آخر باب المسجد من جهة الشمال بالقرب من باب الدوادارية تسمى قبة سليمان وليس هو سليمان النبي ولعله سليمان بن عبد الملك بن مروان، وأما قبة المعراج فهي ظاهرة في سطح الصخرة معروفة مقصودة بالزيارة، ولعل المراد من قول المشرف وصاحب المستقصى وصاحب كتاب الأنس وصاحب كتاب باعث النفوس بقبة النبي صلى الله عليه وسلم قبة السلسلة التي بناها عبد الملك بن مروان الموجودة الآن، والمقام الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء والملائكة فإنه يقال إنه كان إلى جانب قبة المعراج في سطح الصخرة قبة لطيفة فلما بلط صحن الصخرة أزيلت تلك
القبة وجعل مكانها محراب لطيف في الأرض محوط بالرخام الأحمر في دائرة على سمت بلاط صحن الصخرة، ويقال إن موضع ذلك المحراب موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء والملائكة ثم تقدم قدام ذلك الموضع فوضعت له مرقاة من ذهب ومرقاة من فضة وهو المعراج كما قدمناه، ويوافقه قول كعب من أنه صلى الله عليه وسلم تقدم حتى كان من شامي الصخرة فصلى بالمرسلين والملائكة ثم تقدم قدام ذلك الموضع فوضعت له مرقاة من ذهب وهو المعراج قال وهى القبة التي عن يمين الصخرة ثم قال مر إلى القبة يعني قبة المعراج، ويوافقه قوله لصفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم يا أم المؤمنين صلِّ ههنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالنبيين ههنا حين أسري به إلى السماء، فعلى هذا تكون قبة المعراج هي قبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينافي ما تقدم، وعن المشرف عن صاحب المستقصى قال المشرف رحمه اللَّه تعالى لم يختلف اثنان أنه عرج به صلى الله عليه وسلم من عند القبة
التي يقال لها قبة المعراج وحكاه في مثير الغرام وأقره والذي يستحب من الدعاء فيه ما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم ما رواه نافع عن ابن عمر أنه كان إذا جلس مجلسا لم يقم حتى يدعو لجلسائه بهذه الكلمات وزعم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذه لجلسائه وهي: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا والآخرة، اللهم! أمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوينا أبدًا ما حيينا
واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على ما عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
وفي لفظ النسائي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يكاد أن يقوم من مجلس إلا دعا بهذه الدعوات وعن المشرف رضي الله عنه ويستحب أن يقف على مقام النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو بهذا الدعاء الذي كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يكاد يقوم من مجلس إلا دعا به اقتداء به صلى الله عليه وسلم (انتهى واللَّه أعلم).
ومن فوائده المتعلقة بالكلام على القبلتين وما جاء في ذلك من الأخبار والآثار ما حكاه الإمام العلامة قاضي القضاة خطب الخطاء جمال الدين بن جماعة الشافعي رحمه اللَّه تعالى حيث قال: وقد تنازع عندنا رجلان زعم أحدهما أن بيت المقدس لم يستقبله أحد من الأنبياء إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وزعم الآخر أن جميع الأنبياء استقبلوه ولم يستقبل الكعبة أحد منهم إلا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل في الصواب وبيان ذلك وإيضاح القول فيه فقال رحمه اللَّه تعالى: ولا شك أن الكعبة قبلة الأنبياء كلهم وسمع الثاني قول الزهري لم يبعث اللَّه منذ أهبط آدم إلى الدنيا نبيا إلا جعل قبلته صخرة بيت المقدس ومعلوم أن القولين متعارضين وشأن العلماء فيما يبدأ سبيله سلوك سبيل التأويل إلا أن يحصل به الجمع فإن تعذر أجروها مجرى البيتين المتعارضين في التساقط وأقبلوا على كلام غيرهما من علماء المحققين وها أنا إن شاء اللَّه تعالى أوقفك على كلامهم على ما هو حق اليقين وأسوقه لك سياق التاريخ المرتب على السنين فأقول وباللَّه التوفيق.
أول من خصه اللَّه تعالى بشرف النبوة ومنحه رتبه
الاصطفاء أبونا آدم عليه
السلام ولا يعلم أنه كان لبيت المقدس في حياته وجود أصلا إلا في علم اللَّه ويدل لذلك ما أسنده الحافظ أبو محمد القاسم بن عساكر في كتابه: "المستقصى في فضائل المسجد الأقصى" عن كعب الأحبار أنه قال: الأساس القديم الذي كان لبيت المقدس إنما وضعه سام بن نوح ثم بناه داود وسليمان على ذلك الأساس، وقد ثبت في الصحيح أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون هذا أقدم ما بلغنا في تأسيس بيت المقدس منقولا، أما ما ذكره القرطبي من أنه يجوز لبعض أولاد آدم وضعه ويجوز أن يكون الملائكة أيضا بنته بعد بنائها البيت الحرام فمراده أنه لم يرد ما يخالفه أما الوقوع فإنه لم يأت فيه شيء وأما البيت الحرام فإنه كان موجودًا ظاهرا لمن يقصده بالحج والزيارة آدم عليه السلام ممن حجه وطاف به ففي كتاب الأم لإمامنا الشافعى رضي الله عنه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن:"أن آدم لما حج والبيت تلقته الملائكة وقالوا بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألف عام" وفي تاريخ ابن جرير بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما:
"أن آدم حج البيت على قدميه من الهند أربعين حجة" وفي تاريخ الأزرقى أنه أقام بمكة حتى مات وأنه كان يطوف بالبيت سبعة أسابيع بالليل وفي النهار جميعه وهذه الآثار لا يدفعها إلا من يرى أن الكعبة لم تكن قبل إبراهيم، وأنه الذي أنشأها بعد أن لم تكن وهذا اختيار بعض المتأخرين لكن الأكثرين على خلافه فإن قلت هل كانت الصلاة مشروعة في زمن آدم عليه السلام؟ قلنا: نعم وما خلا شرع قط من صلاة.
وقد روى عبد اللَّه بن الإمام أحمد في زيادات المسند عن أبي بن كعب: "أن آدم لما احتضر اشتهى قطعا من عنب الجنة" فذكر الحديث إلى أن قال في آخره: "فغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلى عليه جبريل عليه السلام ودفنوه".
وفي تاريخ مكة للفاكهي عن عروة بن الزبير أن الملائكة حملته حتى وضعته بباب الكعبة وصلى عليه جبريل وفي تاريخ ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "كبرت الملائكة على آدم أربع".
في تاريخ ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا أن شيثا عليه الصلاة والسلام قال لجبريل صل على آدم فقال تقدم أنت فصل على أبيك فكبر عليه ثلاثين تكبيرة فأما خمس فهي للصلاة وحفس وعشرون تفضيلا لآدم وهذه آثار متعاضدة
على أن صلاة الجنائز كانت مشروعة ويبعد أن يكون قد شرع سواها قال ثم رأيت في شرح مسند الشافعي للإمام الرافعي أن صلاة الصبح صلاة آدم والظهر لداود والعصر لسليمان والمغرب ليعقوب والعشاء ليونس وورد فيه خبر بعيد من الصحة لكن إلى الآن لم أقف في كلام أحد من الأئمة على تعيين ما كانوا يستقبلونه والذي يقع في ظني أنهم كانوا يستقبلون الكعبة لأن اللَّه
تعالى يقول: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] قال مجاهد وغيره لكل أهل ملة أو لكل قوم ولا شك أن آدم أول داخل في هذا العموم إذا كانت له قبلة مخصوصة فالظاهر أنها الكعبة فإنه لم يكن إذ ذاك موضع معظم مقصود بالزيارة، منسوب إلى اللَّه تعالى نسبة ظاهرة سواها وقد قدمنا أنه كان يحج إليها ويطوف بها ولا يبعد أنه كان يصلي إليها وقال: وأما الأنبياء الذين كانوا من بعده إلى زمان إبراهيم الخليل عليه السلام فإنه لم يبلغنا عنهم في الاستقبال إلا ما قدمنا عن أبي العالية، ومعلوم أنهم كانوا يعظمون البيت ويحجونه ويطوفون به ويصلون عنده ويدعون، وقد جاءت الروايات بذلك صريحة عن نوح وهود وصالح وشعيب وقصة عاد وفي إرسالهم من يستسقي لهم بالحرم مشهورة وقد روي ما من نبي هلك قومه إلا وذهب بعدهم إلى مكة فأقام بها يعبد اللَّه حتى دموت وقبورهم حول البيت فبمقتضى هذا لا يبعد أنهم كانوا يصلون إليه وقد ذكر أبو العالية أنه رأى مسجد صالح وهو منحوت وقبلته إلى البيت الحرام وكذا قبلة دانيال، وإن قلت أنى يكون هذا وقد خرب الطوفان ما في البيت وأزال رسومه قلت: قد قال مجاهد: خفي موضع الكعبة ودرس من الغرق وبقي مكانه أكمة حمراء لا تعلوها السيول غير أن الناس كانوا يعلمون أن موضع البيت فيما هناك فكان يأتيه المظلوم والمعبود من أقطار الأرض ويدعو عنده المكروب فيستجاب له،
وهذا أصح مما رواه الفاكهي عن حذيفة أنه رفع ولم يحجه أحد بين نوح وبين إبراهيم عليهما السلام، قال: وأما أبونا إبراهيم عليه السلام فإنه لما بعثه اللَّه تعالى إلى نمرود وهو بأرض بابل وكان من أمره ما قصه اللَّه تعالى في كتابه العزيز حين نجاه منه وخلصه من كيده ومكره هاجر عند ذلك إلى الشام واستقر بالأرض المقدسة متخليا لعبادة اللَّه متوجها إليها وأهل الكتاب يزعمون أنه خرب قبته شرقي بيت المقدس وفي هذه المدة حملت منه هاجر وولدت إسماعيل وكان من أمرها مع سارة ما هو مشهور فنقلها إبراهيم بابنها
إلى وادي مكة شرفها اللَّه تعالى وكان يزورهم على السراق المرة بعد المرة ثم يرجع إلى الأرض المقدسة وفي هذه المدة لم يبلغنا أين كان يستقبل فلما أمره اللَّه تعالى ببناء البيت الحرام بناه واستقبله بنوه بعده إلى زمن موسى عليه السلام لا أعلم في ذلك خلافا بين الممسلمين وإنما خالف اليهود، ففي تفسير الواحد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]، أن ضمير قبلتهم وكانوا يعودون إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط لأنهم كانوا يزعمون أن قبلة إبراهيم كانت بيت المقدس وليس ذلك بأول فريتهم ومكابرتهم قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى:{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] قالوا الكعبة لأنها كانت قبلة إبراهيم فإني قلت لو كان إبراهيم وبنوه يستقبلون الكعبة لدفنوا
إليها وها أنت ترى نصائب قبورهم الشريفة دالة على أنهم موضوعون إلى الصخرة قلت الظاهر أنهم موضوعون على صفة الاستلقاء كما يوضع المحتضر في أحد الوجهين وقد قيل إن شخصا نزل المغارة ووصل إليهم فوجد سيدنا الخليل عليه السلام مستلقيا على سريره قال: وأما موسى عليه السلام فالروايات عنه مضطربة وحاصل ما وقفت عليه من كلام الناس فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كان يصلي للصخرة ويدل لذلك ما روى في فتح بيت المقدس أن عمر رضي الله عنه استشار كعبا أن يضع المسجد فقال اجعله خلف الصخرة فتجتمع القبلتان قبلة موسى وقبلة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ضاهيت اليهودية.
الثاني: أنه كان يستقبل الكعبة وهذا قول أبي العالية في مناظرته لبعض اليهود قال اليهود: كانوا يستقبلون الصخرة وقال أبو العالية: بل كان يصلي إلى المسجد الحرام وبهذا جزم بعض أئمة النقل ممن عاصرنا عنه الكلام على قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، والقولان عندي محتملان لأنه عليه السلام كان يعظم المكانين قطعا أما تعطمه الكعبة فيما ثبت من حجه إليها وأما تعظمه لبيت المقدس فلسؤاله عليه السلام عند الموت إلا دنا منه ولو رمية بحجر.
والثالث: أنه كان يستقبل قبة الزمان وتسمى قبة العهد وهي التي أمر اللَّه تعالى
بعملها من خشب السمار مزينة بالحرير والذهب والفضة، فلما توفي وقام بالأمر بعده فتاه يوشع بن نون واستقرت يده على بيت المقدس نصب القبة المذكورة على الصخرة هو وجميع بني إسرائيل يصلون اليها وجرى عكس ذلك من بعدهم جيل بعد جيل فلما بادت لطول الزمان صلوا إلى مكانها الذي كانت فيه وهو الصخرة، والظاهر أن ذلك كان بوحي من اللَّه تعالى وإلا لم يوافقهم سيدنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. فمن ثمَّ كان قبلة الأنبياء الذين سكنوا الأرض
المقدسة وكانوا مع ذلك يعظمون البيت الحرام ويحجونه، كما قال ابن إسحاق ما بعث اللَّه نبيا بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا وقد حج البيت وقد جاء في كثير من الروايات التنصيص على موسى وعيسى ويونس عليهم السلام تلبيتهم صلوات اللَّه وسلامه عليهم، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جمع اللَّه تعالى له بين القبلتين قطعا. وإنما كان وقع الخلاف في كيفية ذلك والذي صححه الإمام أبو عمر بن عبد البر أنه صلى الله عليه وسلم كان بدء مقامه بمكة يستقبل الكعبة فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم تحول إلى الكعبة، فيكون النسخ قد وقع مرتين وفي تفسير الطبري عن ابن جريج أنه أول ما صلى بمكة إلى الكعبة ثم صرف عنها إلى بيت المقدس فصلت فيه الأنصار بالمدينة ثلاث حجج وفي رواية أخرى له عن قتادة حولين. فلما هاجر صلوا معه تلك المدة ثم تحولوا إلى الكعبة والصحيح الذي أطبق عليه الأكثرون أنه لم يصل بمكة إلا إلى بيت المقدس. ولكنه كان يصلي بين الركن اليماني والحجر الأسود فتكون الكعبة أمامه فيظن من يراه أنه يصلي إليها ولعله إنما كان يفعل ذلك حبًا لاستقبالها لكونها قبلة أبيه إبراهيم أو تألفا لقريش. فلما قدم المدينة والجمع بين القبلتين فيها متعذر صلى إلى بيت المقدس تألفا لليهود، فلما رآهم على غيهم لا ينزعون تحول إلى الكعبة، ثم القائلون بهذا اختلفوا فأكثرهم على أن استقبالهم بيت المقدس وهو بالمدينة كان حتما من اللَّه تعالى ويدل له قوله:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143]، وقالت طائفة إنه لما قدم المدينة خيره اللَّه تعالى بين القبلتين وقيل بين الجهات كلها يتوجه حيث شاء فاختار بيت المقدس ثم وجه إلى الكعبة واستشهد ابن زيد على هذا بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللَّهِ} [البقرة: 115]، وقد انعقد الإجماع على أن استقبال الكعبة إلا في شدة الخوف وثقل السفر حسبما هو مقرر بأدلته في كتب الفقه وأجمعوا على أن آية التحويل إليها قوله تعالى:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] الآية واختلفوا في أيام نزولها فقيل في رجب أو شعبان من السنة الثانية وبسبب ذلك وقع الشك في مدة استقبال بيت المقدس هل كان ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرا، وقد رواه البخاري في صحيحه عن البراء هكذا بصيغة الشك وأسنده الدارقطني عنه فقال ستة عشر عن غير شك وكذلك جزم به الشافعي رضي الله عنه في أحكام القرآن، وزعم ابن أبي حاتم أنها سبعة عشر شهرًا وثلاثة أيام فقال لأن التحويل كان يوم النصف من شعبان. قال الواقدي وكان يوم الثلاثاء قال وأما وقت نزولها فقيل نزلت بين
الصلاتين وأول صلاة إلى الكعبة العصر وهذا هو الثابت في صحيح البخاري عن البراء، وقيل إنها نزلت قبل الظهر في أول صلاة صليت كذلك أخرجه النسائي عن أبي سعيد بن المعلى والثابت أنها نزلت وقد صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الظهر ركعتين وذلك بمسجد بني سلمة فاستداروا ووفى بهم الصلاة، فلذلك سمي مسجد القبلتين، قال: وقد خطر لي عند وصولي إلى هذا الموضع أن جميع الأنبياء صلوات اللَّه عليهم أجمعين صلوا إلى بيت المقدس لكن لا بالمعنى الذي أراده الزهري بل لأنهم كلهم جمعوا له صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فأمهم وكان ذلك قبل الهجرة فهو قبل التحويل. انتهى كلام ابن جماعة رحمه اللَّه تعالى.
وعلى ذكر تعارض الأدلة وتحقيق المناط في تحويل القبلة أقول حدث عطاء بن زيد عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب، قال: لقد صلينا بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة نحو البيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا وكان اللَّه يعلم أنه يحب أن يوجه نحو الكعبة فلما وجه إليها صلى رجل معه ثم أتى قوما من الأنصار وهم ركوع: نحو بيت المقدس فقال لهم وهم ركوع أشهد أن رسول اللَّه قد وجه نحو الكعبة فاستداروا وهم ركوع فاستقبلوها رواه البخاري من حديث أبى إسحاق عن البراء، وروى عن طريق ابن سعد عن البراء وفيه أنه صلى الله عليه وسلم أول صلاة صلاها العصر وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلى قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك وفيه أنه مات على القبلة قبل أن دخول قبل البيت رجال وقتلوا فلم
ندر ما نقول فيهم فأنزل اللَّه تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] الآية، وقد اتفق العلماء على أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة كانت إلى بيت المقدس وإن تحويل القبلة إلى الكعبة كان بها.
وعن الواقدي من طريق ابن سعد عن ابن عباس رضي الله عنه قال ابن سعد: وأخبرنا عبيد اللَّه بن جعفر الزهري عن عثمان بن محمد الأخنسي وعن غيرهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا وكان يحب أن يصرف إلى الكعبة فقال: يا جبريل! وددت أن اللَّه صرف وجهي عن قبلة اليهود، فقال جبريل: إنما أنا عبد، فادع ربك وأسأله، وجعل إذا صلى إلى بيت المقدس يرفع رأسه إلى السماء فنزل قوله تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]، الآية فوجه إلى الكعبة إلى الميزاب رأسه ويقال: صلى صلى الله عليه وسلم ركعتين من الظهر في مسجد المسلمين ثم أمر أن يوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه ودار معه المسلمون ويقال: زار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أم بشر بن البراء بن معروف في بني سلمة فصنعت له طعامًا وحانت الظهر فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأصحابه ركعتين ثم أمر أن يوجه إلى الكعبة فاستقبل الميزابي فسمي المسجد وروى إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن أبيه عن السنري في كتاب الناسخ والمنسوخ له قال: قوله
تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] قال ابن عباس: أول ما نسخ اللَّه تعالى من القرآن حديث القبلة، ذلك أن اللَّه تعالى فرض على رسوله الصلاة ليلة أسري به إلى بيت المقدس صلى الظهر والعصر ركعتين وركعتين للعشاء والغداة والمغرب ثلاثا فكان يصلي إلى الكعبة ووجهه إلى بيت المقدس قال ثم زيد في الصلاة بالمدينة حين صرفه اللَّه تعالى إلى الكعبة ركعتين إلا المغرب فنزلت كما هي قال وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصلون إلى بيت المقدس
وفيه قال فصلاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة سنة، حتى هاجر إلى المدينة وكان يعجبه أن يصلي قِبَل الكعبة: لأنها قبلة آبائه إبراهيم وإسماعيل وكانت صلاته إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا وكان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء ينتظر لعل أن يصرفه إلى الكعبة وقال لجبريل: وددت أنك سألت اللَّه تعالى أن يصرفني إلى الكعبة فقال جبريل لست أستطيع أن أبتدئ اللَّه جل وعلا بالمسألة، ولكن إن سألني أخبرته قال فجعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه إلى السماء ينتظر جبريل ينزل عليه وقد صلى الظهر ركعتين الى بيت المقدس وهم ركوع فصرف اللَّه تعالى القبلة إلى الكعبة الحديث وفيه فلما صرف اللَّه القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة اختلف الناس في ذلك فقال المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها. وقال بعض المؤمنين: فكيف بصلاتنا التي صليناها نحو بيت المقدس وكيف من مات من إخواننا وهم يصلون إلى بيت المقدس، هل قبل اللَّه عز وجل منا ومنهم أم لا؟ وقال ناس من المؤمنين كان ذلك طاعة، قالت اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه ويريد أن يرضي
قومه ولو ثبت على قبلتنا لرجونا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان ينتظر أن يأتي، وقال المشركون من قريش: تحير على محمد دينه فاستقبل قبلتكم وعلم أنكم أهدى منه ويوشك أن يدخل في دينكم فأنزل اللَّه في جميع الفرق كلها بيان ما اختلفوا فيه فأنزل اللَّه في المنافقين وقولهم: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]، إلى دين الإسلام.
وأنزل اللَّه في المؤمنين {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]، إلا لنبتلي بها وإنما كانت قبلتك التي بعثت بها الى الكعبة ثم تلي {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]، قال المؤمنون: كانت القبلة لأنكم الأولى طاعة وهذه طاعة فقال اللَّه تعالى، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أي صلاتكم لأنكم كنتم مطعين في ذلك كله ثم قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] أي تنتظر جبريل حتى ينزل عليك {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] أي تحبها {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] أي نحو الكعبة وأنزل اللَّه في
اليهود: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145] يقول: لئن جئتهم بكل آية أنزل اللَّه في التوراة في بيان القبلة أنها إلى الكعبة لما تبعوا قبلتك.
وأنزل اللَّه في أهل الكتاب: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 146، 147] أي من الشاكين.
ثم أنزل في قريش وما قالوا: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] يعني قريش حيث قالوا قد عرف محمد أنكم أهدى منه فاستقبل قبلتكم ثم قال فلا تخشوهم حيث قالوا يوشك أن يرجع إلى دينكم أي لا تخشوا أن أردكم في دينكم {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] أي أظهر دينكم على الأديان كلها قال السهيلى وكرر الباري سبحانه وتعالى الأمر بالتوجه على البيت الحرام في ثلاث آيات وذلك لأن المنكرين لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ثلاثة أصناف: من اليهود لأنهم لا يقبلون بالنسخ في أصل مذهبهم وأهل الريب والنفاق فاشتد إنكارهم لذلك لأنه أول نسخ نزل وكفار قريش قالوا: قدم محمد على فراق ديننا فكانوا يجتمعون عليه فيقولون يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم وإسماعيل وقد فارق قبلة إبراهيم وإسماعيل وآثر عليها قبلة اليهود فقال اللَّه تعالى له حين أمره بالصلاة إلى الكعبة {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] على الاستثناء المنقطع إلى لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون في ذكر الآيات إلى قوله {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] أي يكتمون ما علموا من أن الكعبة هي قبلة الأنبياء. وروي من طريق أبي داود وفي كتاب الناسخ والمنسوخ عن يونس عن ابن شهاب قال كان
سليمان بن عبد الملك يعظم إيليا كما يعظمها أهل بيته فسره معه وهو ولي عهد ومعه خالد بن يزيد بن معاوية فقال سليمان وهو جالس فيها واللَّه إن في هذه القبلة التي صلى إليها المسلمون وأهل الكتاب لعجبا قال خالد بن يزيد أما واللَّه لأقرأ الكتاب الذي أنزل اللَّه على محمد صلى الله عليه وسلم وفيه من أمر القبلة ما علمت وأما اليهود فإنهم لم يجد ما هم عليه من
ذلك في كتابهم ولكن تابوت السكينة كان على الصخرة فلما غضب اللَّه تعالى على بني إسرائيل رفعه وكان صلاتهم إلى الصخرة على مشاورة منهم.
روى أبو داود أن يهوديا خاصم أبا العالية في القبلة فقال أبو العالية: إن موسى صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الصخرة متجها إلى البيت الحرام فكانت والكعبة قبلته وكانت الصخرة بين يديه، وقال اليهودي: بينى وبينك مسجد صالح النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو العالية إني صليت في مسجد صالح وقبلته إلى الكعبة وصليت في مسجد ذي القرنين وقبلته الى الكعبة" انتهى واللَّه أعلم.