الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في ذكر وفاته صلى الله عليه وسلم ودفنه وصفة قبره
وقد رأيت أن ألحق بوصف زيارته، ذكر وفاته صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بذلك، وصفة قبره وما انتهى إلي علمه، لتتم الفائدة، وتحصل الصلة في الذي أوردته والعائدة.
أخبرنا الحسين بن المبارك رحمه الله، أخبرنا عبد الأول بن عيسى، أخبرنا عبد الرحمن بن المظفر، أخبرنا أبو محمد عبد الله، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثني محمد بن عبيد، حدثنا عيسى بن يونس، عن عمر بن سعيد، قال: أخبرني ابن أبي مليكة، أن أبا عمرو ذكوان مولى عائشة أخبره، أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول:((إن من نعم الله تعالى علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عبد الرحمن وبيده سواك وأنا مسندةٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم، فتناولته فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم، فلينته بأمره، وبين يديه ركوة -أو علبة فيها ماء، يشك عمرو- فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه، ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قبض ومالت يده)) .
كذا أورده (يشك عمرو) وصوابه أبو عمرو، وهو ذكوان مولى عائشة المذكور في الحديث.
السحر: ما لصق بالحلقوم من المري، والسحر الرئة أيضاً، يقال: انفتح سحره.
والرفيق الأعلى قيل: اسم من أسماء الله تعالى، كأنه قال: ألحقني بالله.
وقال الأزهري: غلط هذا القائل، والرفيق هاهنا: جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، اسمٌ جاء على فعيل ومعناه الجماعة، وهو منتزعٌ من قوله سبحانه:{وحسن أولئك رفيقاً} ، وقد يجوز أن يقال في الجماعة: هم لي صديق وعدو، فيفرد، لأنه صفةٌ لفريق وحزب، ويقبح أن يقول: قومك صاحبك، أو أبوك، وإنما يحسن هذا إذا وصف بصديقٍ وفريق وعدو، لأنها صفةٌ تصلح للفريق والحزب، لأن العداوة والصداقة صفتان متضادتان، فإذا كان على أحدهما الفريق الواحد، كان الآخر على ضدها، وكانت قلوب أحد الفريقين في تلك الصفة على قلب رجلٍ واحدٍ في عرف العادة، فحسن الإفراد، وليس يلزم مثل هذا في القيام والقعود ونحوه حتى يقال: هم قائم أو قاعد.
كما يقال: هم لي صديق، لما قدمناه من الاتفاق والاختلاف، وأهل الجنة يدخلونها على قلب واحد. جعلنا الله معهم ومنهم، بفضله وجوده.
وهذه الكلمة آخر كلمةٍ تكلم بها صلى الله عليه وسلم وهي تتضمن معنى التوحيد الذي يجب أن يكون آخر كلام المؤمن لأنه صلى الله عليه وسلم قال:
((مع الذين أنعمت عليهم)) ، وهم أصحاب الصراط المستقيم، وهم أهل لا إله إلا الله، ويؤكد ذلك قول عائشة رضي الله عنها ((ثم نصب يده)) .
وفي رواية عنها: ((فأشار بإصبعه)) ، وفي رواية ((اللهم الرفيق الأعلى)) وأشار بالسبابة يريد التوحيد.
وروينا من حديث أنس ما قرأت على الشيخ أبي المعالي هبة الله بن الحسن بن هبة الله –صاحب الباب بمنزلة من بغداد-، وقرئ على الشيخ أبي البركات عبد الرحيم بن القاضي أبي حفص عمر بن علي القرشي بالجانب الغربي منها رحمهما الله، قلت: وقيل لهما: أخبرتكما أم عتب تجني بنت عبد الله الوهبانية قراءةً، فأقرا به، قال القرشي: وأنا حاضر. (ح) وأخبرنا الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب الحنبلي الفقيه الواعظ رحمه الله، قال: أنبأتنا الكاتبة شهدة بنت أحمد بن الفرج بن عمر الإبري، قالت: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن طلحة النعالي، أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله الفارسي البزاز، حدثنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، حدثنا يوسف بن موسى القطان، حدثنا جرير، عن سليمان
القيسي، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: كان آخر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغرغر بها في صدره، ما يكاد يفيص بها لسانه:((الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)) .
في قوله صلى الله عليه وسلم: ((فيما ملكت أيمانكم)) قولان، قيل: أراد الرفق بالمملوكين، وقيل: أراد الزكاة لأنها في القرآن مقرونة بالصلاة، وهي من ملك اليمين، قاله الخطابي.
وفي أخذه السواك من الفقه: التنظف والتطهر للموت، لأن الميت قادمٌ على ربه، كما أن المصلي مناج لربه، والنظافة من شأنهما، وكذلك يستحب الاستعداد لمن استشعر القتل والموت، كما فعل خبيب رضي الله عنه.
وروى الترمذي: ((إن الله نظيف يحب النظافة)) .
والإفاصة: الإبانة والإفصاح، يقول: هو ذو إفاصةٍ إذا تكلم، أي ذو بيانٍ وفصاحة.
وقوله: (يغرغر بها) أي: قد بلغت روحه الحلقوم، فهو بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به المريض، والغرغرة أن يجعل المشروب في الفم ويردد إلى أصل الحلقوم ولا يبلع، والله أعلم.
وروى بعضهم أن السواك المذكور في الحديث كان من عسيب نخل، كذلك جاء في ((الصحيح)) مصرحاً به من حديث عائشة رضي الله عنها:((ومر عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدةٌ رطبة)) .
والعرب تستاك بالعسيب، وكان أحب السواك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرع الأراك، وواحدها ضريع، وهو قضيبٌ ينطوي من الأراكة حتى يبلغ التراب فيبقى في ظلها، فهو ألين من فروعها.
وقد روي في قول عائشة رضي الله عنها: ((ما بين شجري ونحري))
بشين وجيم معجمتين، وسئل عمارة بن عقيل عن معناه، فشبك بين أصابع يديه وضمها إلى نحره.
والشجر –بفتح-: الفم، وقيل: هو الذقن، وقيل في حديث عائشة رضي الله عنها: هو التشبيك، أي أنها ضمته إلى صدرها مشبكةً أصابعه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
وفي ((الصحيح)) من حديثها: ((فقلت: أعطني هذا السواك فأعطانيه فقصمته ثم مضغته)) –أي كسرته- فأبنت منه الموضع الذي كان استن به عبد الرحمن.
وقناةٌ قصمةٌ: أي متكسرة، والقصامة ما يكسر من رأس السواك.
يقال: والله لو سألتني قصامة سواكٍ ما أعطيتك، وأصل القصم الدق، والله أعلم، حكاه أبو سليمان رحمه الله.
أخبرنا أبو عبد الله الأديب، أخبرنا أبو روح ونبأني به، أخبرنا تميم بن أبي سعيد، أخبرنا علي بن محمد، أخبرنا الزوزني، أخبرنا أبو حاتم، أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، حدثنا سعيد بن يحيى ابن سعيد الأموي، حدثني أبي، حدثنا أبو الحسين، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نساؤه: انظر حيث تجب أن تكون فيه فنحن نأتيك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أوكلكن على ذلك؟ قلن: نعم، فأرسل إلى بيت عائشة فمات فيه صلى الله عليه وسلم) .
أخبرنا أبو عبد الله ابن أبي بكر، أخبرنا عبد الأول ابن أبي مريم، أخبرنا أبو الحسن، أخبرنا أبو محمد، أخبرنا أبو عبد الله، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إسماعيل، حدثنا أبو سليمان، عن هشام، عن عروة، عن عائشة قالت:((إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعذر في مرضه: أين أنا اليوم؟ أين أنا غداً؟ استبطاءً ليوم عائشة، فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري، ودفن في بيتي)) .
وفي رواية: ((بين حاقنتي وذاقنتي)) .
والحاقنة: نقرة الترقوة وهما ذاقنتان أي نقرتا الترقوتين.
والذاقنة: ما يناله الذقن من الصدر، والله سبحانه أعلم.
التعذر كالتمنع والتعسر. قال امرؤ القيس:
ويوماً على ظهر الكثب تعذرت
…
علي وآلت حلفة لم تحلل
وبه أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثنا سعيد بن عفير، قال: حدثني الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:((لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد وجعه، استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي، فأذن له. فلما دخل بيتي واشتد وجعه قال: أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس، فأجلسناه في مخضبٍ لحفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتن، ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم)) .
قولها: (فطفقنا) وطفق هو بمعنى أخذ في الفعل، وجعل يفعل، وهو من أفعال المقاربة.
أخبرنا جدي رحمه الله، أنبأنا أبومحمد عبد الله بن رفاعة، ثم حدثنا الشيخ أبو الحسن علي بن أحمد الفقيه من لفظه، أنه أخبره عبد القوي بن عبد العزيز بن الحسين، أخبرنا أبو محمد بن رفاعة، أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسن، أخبرنا عبد الرحمن بن عمر، أخبرنا عبد الله بن جعفر، أخبرنا أبو سعيد، أخبرنا عبد الملك بن هشام، أخبرنا زياد بن عبد الله، أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق، حدثني يحيى بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عبد الله، قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: ((مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري
ونحري، وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً، فمن سفهي وحداثة سني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي)) .
الالتدام: ضرب النساء وجوههن في النياحة، واللادم: المرأة التي تلدم، والجمع اللدم بتحريك الدال، وقد لدمت المرأة تلدم لدماً.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي الهيثم بن التيهان في حديث العقبة: ((اللدم اللدم اللدم والهدم الهدم الهدم)) بتحريك الدال: القبر، وقيل المنزل، وبسكونها وفتحها إهدار دم القتيل.
أخبرنا الحسن بن محمد قراءةً، وأخوه أبو المنصور عبد الرحمن الفقيه الزاهد، والحسين بن هبة الله في إذنهما، قالوا: أخبرنا عبد الواحد بن محمد بن المسلم، أخبرنا عبد الكريم بن المؤمل إجازةً، أخبرنا عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم بن معروف، أخبرنا خيثمة بن
سليمان بن حيدرة، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن زكريا، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، عن الزهري قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ((آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف الستارة والناس صفوفٌ خلف أبي بكر، فلما رأوه كأنهم –أي تحركوا- فأشار إليهم أن اثبتوا، فنظرت إلى وجهه كأنه ورقة مصحف، وألقى الستر، وتوفي في آخر ذلك اليوم)) .
صحيح وقد رواه مسلم في ((صحيحه)) أتم من هذا.
كما أخبرناه الشيخان أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الأزهر الحافظ، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن عمر المستملي في آخرين قراءةً، أخبرنا المؤيد بن محمد بن علي وكتب به إلينا، أخبرنا محمد بن الفضل بن أحمد، أخبرنا أبو الحسين الفارسي، أخبرنا أبو أحمد، أخبرنا أبو إسحاق، أخبرنا أبو الحسين، حدثني عمرو الناقد، وحسن الحلواني، وعبد بن حميد، قال عبد: أخبرني،
وقال الآخران: حدثنا يعقوب –وهو ابن إبراهيم بن سعد- قال: حدثني أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوفٌ في الصلاة، كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة، فنظر إلينا وهو قائمٌ كأن وجه ورقة مصحف، ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً.
قال: فبهتنا ونحن في الصلاة من فرحٍ بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجٌ للصلاة، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرخى الستر.
[قال:] فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك.
وأخبرني أبو المنجى عبد الله بن عمر بن علي رحمه الله في إذنه، أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب بن إبراهيم بن إسحاق الهروي، أخبرنا جمال الإسلام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي، أخبرنا أبو إسحاق بن خزيم الشاشي، حدثنا عبد بن حميد بن نصر الكشي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((لما كان يوم
الاثنين كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة، فرأى أبو بكر يصلي بالناس.
قال: فنظرت إلى وجهه كأنه ورقة مصحف وهو يبتسم، فكدنا أن نفتتن في صلاتنا فرحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وأراد أبو بكر أن ينكص فأشار إليه كما أنت، فأرخى الستر، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك)) وذكر بقية الحديث.
أخرجه مسلم في ((صحيحه)) عن عبد بن حميد، فوقع لنا موافقة عالية والحمد لله.
وقد روى أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس جماعةٌ من الصحابة غير عائشة رضي الله عنها، منهم علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب، وزيد بن أرقم، وعبد الله بن عباس، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن زمعة، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وغيرهم رضي الله عنهم. وأكثر رواياتهم مخرجةٌ في ((الصحيح)) .
وفي حديث ابن إسحاق: ((أنه خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصبح يوم الاثنين عاصباً رأسه، وتفرج له الناس، فعرف أبو بكر رضي الله عنه، فنكص عن مصلاه، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظهره وقال: صل بالناس، وجلس إلى جنبه، فصلى قاعداً عن يمينه صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من الصلاة أقبل الناس فكلمهم رافعاً صوته حتى خرج صوته من المسجد، يقول: أيها الناس! سعرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل، والله ما تمسكون علي بشيء، إني لم أحل إلا ما أحل القرآن، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن.
فلما فرغ من كلامه قال له أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! أراك قد أصبحت بنعمةٍ من الله وفضلٍ كما نحب، فاليوم يوم ابنة خارجة أفآتيها؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع أبو بكر إلى أهله بالسنح)) .
وهذا الحديث رواه ابن إسحاق في ((السيرة)) مرسلاً، وقد أسندنا من الأحاديث المتصلة قبله ما فيه كفاية.
وروى الدارقطني الحافظ من حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما مات نبي حتى يؤمه رجلٌ من أمته)) .
وبنت خارجة اسمها حبيبة: وقيل مليكة، وخارجة هو ابن زيد بن أبي زهير، وابن خارجة هو زيد بن خارجة بن زيد الذي تكلم بعد الموت، والسنح بضم السين والنون، وقيل بسكونها موضع بعوالي المدينة فيه منازل بني الحارث بن الخزرج.
وذكر شيخنا أبو عبد الله محمد بن محمود النجار أن السنح هو الموضع الذي فيه مساجد الفتح، والله أعلم.
أخبرنا الحسين، أخبرنا عبد الأول، أخبرنا أبو الحسن، أخبرنا أبو محمد، أخبرنا أبو عبد الله، أخبرنا أبو عبد الله، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عنبسة، حدثنا يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبي بن كعب بن مالك، أن ابن عباس رضي الله عنهما أخبره: ((أن علي ابن أبي طالب خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن! كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: أصبح بحمد الله بارئاً، فأخذ بيده العباس فقال: إلي تراه أنت بعد ثلاثٍ عبد العصا. والله إني لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتوفى في وجعه، وإني لأعرف في وجوه بني عبد المطلب الموت، فاذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله فيمن يكون الأمر، فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا، أمرناه فأوصى بنا.
قال علي رضي الله عنه: والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمنعنا لا يعطيناها الناس أبداً، إني لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً)) .
وفي حديث ابن إسحاق عن يعقوب بن عقبة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:((لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم دخل من المسجد، فاضطجع في حجري، فوجدته يثقل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه، فإذا بصره قد شخص وهو يقول: بل الرفيق الأعلى من الجنة، قالت: فقلت: خيرت فاخترت، والذي بعثك بالحق، قالت: وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
قال: وحدثني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ((لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر بن الخطاب فقال: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى بن عمران إلى ربه،
فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إلى قومه بعد أن قيل قد مات)) .
قال: وأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر، وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إلى شيءٍ حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، ورسول الله مسجى في ناحية البيت عليه برد حبرةٍ، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل عليه فقبله، ثم قال: بأبي أنت وأمي [والله لا يجمع الله عليك موتتين] ، أما الموتة التي كتبت عليك، فقد ذقتها فلن يصيبك بعدها موتة أبداً، ثم رد البرد على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج وعمر رضي الله عنه يكلم الناس.
فقال: على رسلك يا عمر أنصت، فأبى إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت، أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه، أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، ثم تلا هذه الآية:
قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ، فأخذها الناس عن أبي بكر رضي الله عنه، فإنما هي في أفواههم.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال عمر: فوالله ما هو إلا أن سمعت أبا بكرٍ تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي، وعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
قوله: (عقرت) يقال: عقر الرجل: إذا سقط إلى الأرض من قامته.
وحكاه يعقوب بالفاء من العفر وهو التراب، وصوب ابن كيسان الروايتين معاً، وقيل معنى عقرت: أي تحيرت.
قال ابن الأعرابي يقال: عقر وبحر، وهو إذا تحير فلم يهتد لوجه الأمر.
أخبرنا أبو عمرو الفقيه رحمه الله، أخبرنا أبو القاسم، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أبو عثمان، أخبرنا محمد بن عمر، أخبرنا محمد، أخبرنا أبو محمد، أخبرنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، ((أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي سجي ببرد حبرة)) .
وأخبرنا أبو عبد الله محمد بن أبي المنذر بن فتيان بن مطر بخطه ببغداد، ومنها أخبرنا عبد المنعم بن كليب، أخبرنا أبو طالب الزينبي،
أنبأتنا كريمة بنت أحمد المروزية، أخبرنا أبو الهيثم الكشميهني، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثنا مسدد، حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن حميد بن هلال، عن أبي بردة، قال:
((أخرجت إلينا عائشة كساءً وإزاراً غليظاً فقالت: قبض روح رسول الله صلى الله عليه وسلم في هاذين)) .
أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن طلحة، وأبو عبد الله محمد بن الحسن بن محمد الكاتب البغداديان، وأحمد بن سلامة بن أحمد بن سلمان قراءةً عليهم قالوا: أخبرنا أبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن سعد بن كليب، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد بن
محمد بن بيان الرزاز، أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مخلد العطار، أخبرنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن صالح الصفار، أخبرنا الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي، حدثنا مرحوم بن عبد العزيز العطار، عن أبي عمران الجوني، عن يزيد بن بابنوس، عن عائشة رضي الله عنها:((أن أبا بكر دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فوضع فاه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه فقال: وانبياه، واصفياه، واخليلاه)) .
وروينا في ((مسند أبي داود الطيالسي)) عن حماد والمبارك بن فضالة، عن ابن عمران، عن يزيد، وزاد: فذكرنا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت
رضي الله عنها: ((دخل أبو بكر فجعل يراوح بين خديه قبلاً وهو يقول: يا نبياه! يا صفياه!)) .
أخبرنا المشايخ أبو بكر محمد بن عبد الوهاب بن عبد الله بن علي الأمين، وأبو محمد عبد الملك بن عبد الحق بن عبد الواحد الأنصاريان، وشيخ القراء والنحاة أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الأحد بن عبد الغالب بن عبد الأعلى الهمداني بدمشق، وأبو يعقوب يوسف بن أبي الثناء محمود بن الحسين بن الحسن الساوي الصوفي، وأبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد العزيز السعدي –بالمعزية- ونسيبه أبو إبراهيم محمد بن أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله، وأبو القاسم عبد الرحمن بن أبي الحرم مكي بن
عبد الرحمن بن أبي سعيد بن عيسى بقرآءتي عليهما بثغر الإسكندرية، قالوا: أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد، حدثنا أبو القاسم محمود بن سعادة بن أحمد الألهاني بسلماس، أخبرنا أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني، أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي، أخبرنا جدي، حدثنا موسى، ومحمد بن يسار، ومحمد بن الوليد، قالوا: أخبرنا يحيى بن سعيد، حدثنا سفيان، حدثنا موسى بن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم:((أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قبل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما مات)) .
أخرجه البخاري في ((صحيحه)) عن عبد الله بن أبي أنيسة، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان به.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتفعت الرنة، دهش الناس وطاشت عقولهم، وانجمعوا واختلطوا، فمنهم من خبل، ومنهم من أصمت، ومنهم من أقعد إلى الأرض.
فكان عمر رضي الله عنه ممن خبل، فجعل يحلف ويصيح: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان ممن أقعد علي رضي الله عنه فلم يستطع حراكاً.
وكان ممن أخرس عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى جعل يذهب به ويجاء ولا يستطيع كلاماً.
وأما عبد الله بن أنيس رضي الله عنه فأضنى حتى مات كمداً.
وبلغ أبا بكر الخبر وهو بالسنح، فأقبل وعيناه تهملان، وزفراته تتردد في صدره وغصة ترتفع كقطع الجرة وهو في ذلك جلد العقل والمقالة، حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكب عليه، وكشف عن وجهه ومسحه، وقبل جبينه، وجعل يبكي ويقول: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحدٍ من الأنبياء، فعظمت عن الصفة، وجللت عن البكاء، وخصصت حتى صرت مسلاة، وعممت حتى صرنا فيك سواء، ولولا أن موتك كان اختيارً لجدنا لموتك بالنفوس، ولولا أنك نهيت عن البكاء لأنفدنا عليك الشؤون، فأما ما لا نستطيع نفيه، فكمدٌ وإدنافٌ يتحالفان لا يبرحان، اللهم فأبلغه عنا، اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك، فلولا ما خلفت من السكينة لم نقم لما خلفت من الوحشة. اللهم أبلغ نبيك عنا واحفظه فينا.
ثم خرج لما قضى الناس عبراتهم، وقام خطيباً بخطبةٍ جلها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال فيها:
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم أنبيائه، وأشهد أن الكتاب كما أنزل، وأن الدين كما شرع، وأن الحديث كما حدث، وأن القول كما قال، وأن الله هو الحق المبين، -في كلام طويل-.
ثم قال رضي الله عنه: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لم يموت، إن الله قد تقدم لكم في أمره
فلا تدعون جزعاً، وإن الله تعالى قد اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم ما عنده على ما عندكم، ما عندكم ينفد وما عند الله باق، وقبضه إلى ثوابه، وخلف فيكم كتابه، وسنة رسوله، فمن أخذ بهما عرف، ومن فرق بينهما أنكر، يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ولا يشغلنكم الشيطان بموت نبيكم، ولا يلفتنكم عن دينكم، وعاجلوا الشيطان بالخزي تعجلوه، ولا تستنظروه فيلحق بكم.
ولما مات صلى الله عليه وسلم قالوا: والله لا يدفن وما مات، وإن لحي يوحى إليه، فأخروه حتى أصبحوا من يوم الثلاثاء.
وقال العباس رضي الله عنه: إنه قد مات، وإني لأعرف منه موت بني عبد المطلب، وكان قد قال أيضاً: إن ابن أخي قد مات لا شك، وهو من بني آدم يأسن كما تأسنون، فواروه.
وكان مما زاد العباس رضي الله عنه يقيناً بموته صلى الله عليه وسلم، أنه رأى قبل ذلك بيسير، كأن القمر رفع من الأرض إلى السماء، فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم!! فقال صلى الله عليه وسلم:((هو ابن أخيك)) .
وقال القاسم بن محمد: ما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الموت في أظفاره، ثم أخذ الناس في جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء.
وولي غسله وتكفينه العباس وعلي والفضل وقثم وأسامة وشقران رضوان الله عليهم، ونادى أوس بن خولي –أحد بني عوف بن الخزرج- فقال: أنشدك الله يا علي، وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ادخل، فدخل وجلس وحضر غسله صلى الله عليه وسلم.
وغسله صلى الله عليه وسلم علي والعباس، وابناه الفضل وقثم يقلبونه معه، وأسامة وشقران يصبان عليه الماء، وعلي يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حياً وميتاً.
كتب إلينا عبد المعز بن محمد –من هراة- يخبرنا أن تميم بن أبي سعيد أخبره قراءةً عليه، وأخبرنا عن عبد المعز الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الله، أخبرنا علي بن أحمد، أخبرنا محمد بن أحمد، أخبرنا أبو حاتم الحافظ، أخبرنا عمران بن موسى بن مجاشع، حدثنا هناد بن السري، حدثنا عبدة بن سلميان، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:
((لما أجمعوا لغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا بينهم، فقالوا: والله ما ندري، أنجرد رسول لله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟
قالت: فأرسل الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في
صدره، ثم نادى منادٍ من جانب البيت ما يدرون ما هو: أن اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قميصه.
قالت: فوثبوا وثبة رجل واحدٍ، فغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قميصه، يصبون عليه الماء ويدلكونه من وراء القميص، وكان الذي أجلسه في حجره علي بن أبي طالب أسنده إلى صدره.
قالت: فما رئي من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء مما يرى من الميت)) .
وكان ذلك من كراماته صلى الله عليه وسلم وآيات نبوته بعد الموت، فقد كان له صلى الله عليه وسلم كراماتٌ ومعجزاتٌ في حياته، وقبل مولده، وبعد وفاته.
وروى أبو عمر بن عبد البر حافظ أهل المغرب، أن أهل بيته سمعوا وهو مسجى قائلاً يقول: السلام عليكم يا أهل البيت، إن في الله عوضاً من كل تالف، وخلفاً من كل هالك، وعزاءً من كل مصيبة، فاصبروا واحتسبوا إن الله مع الصابرين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قال: فكان يرون أنه الخضر عليه السلام.
ومما أظهره الله عز جل من كراماته صلى الله عليه وسلم بعد موته، أن الفضل لما كان مع علي رضي الله عنهما يصب عليه الماء، جعل الفضل يقول: أرحني أرحني، فإني أجد شيئاً يتنزل على ظهري.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لم يظهر منه شيءٌ مما يظهر من الموتى، ولا تغيرت له رائحة، وقد طال مكثه في البيت قبل أن يدفن، فكان صلى الله عليه وسلم طيباً حياً وميتاً.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم سجته الملائكة.
ومنها: ما رواه يونس بن بكير في ((السيرة)) أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: وضعت يدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ميت، فجرت علي جمعٌ لا آكل ولا أتوضأ، إلا وجدت ريح المسك في يدي.
ومنها: أن علياً رضي الله عنه نودي وهو يغسله: أن ارفع طرفك إلى السماء.
ومنها: أن علياً والفضل رضي الله عنهما لما انتهيا في الغسل إلى أسفله، سمعوا منادياً يقول: لا تكشفوا عن عورة نبيكم صلى الله عليه وسلم.
وروينا من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل من بئر غرس، وهي بئرٌ معروفةٌ من آبار المدينة، بغين معجمة مفتوحة وراء ساكنة، وبعدها سين مهملة.
قال الواقدي رحمه الله: كانت منازل بني النضير بناحية الغرس.
فلما فرغ من غسله كفن صلى الله عليه وسلم، والاختلاف في كفنه كم كان ثوباً، وفي الذين دخلوا قبره ونزلوا: كثير.
وأصح ما روي في ذلك: أنه كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، وأنها كانت من كرسف، -والكرسف القطن- وقد جعله وصفاً للثياب وإن
لم يكن مشتقاً، لقولهم: مررت بحية ذراع، وإبل مئة، ونحو ذلك.
كما أخبرنا الحسين بن هبة الله، أخبرنا أبو الحسين هبة الله، أخبرنا علي بن إبراهيم، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، أخبرنا أبو بكر الميانجي، أخبرنا أبو يعلى الموصلي، حدثنا المؤمل، حدثنا سهيل ابن حبيب الأنصاري أبو محمد المؤدب، حدثنا عاصم بن هلال، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
((كفن النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية)) .
حديثٌ صحيحٌ، ورويناه في ((صحيح البخاري)) من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها، ((في ثلاثة أثواب بيض سحول كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة)) .
وفي بعض الروايات: ((في ثلاثة أثواب بيض سحولية، أدرج فيها إدراجاً)) .
وروى الزهري: ((أنه صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب أحدها برد حبرة)) ، ولكنه مرسلٌ لا تقوم به حجةٌ.
كما أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحمن المقدسي رحمه الله، أخبرنا عبد الحق بن عبد الخالق بن
يوسف، والكاتبة شهدة بنت أحمد بن الفرج، أخبرنا أبو عبد الله هبة الله بن أحمد بن محمد الموصلي، أخبرنا أبو القاسم عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن بشران، أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان، أخبرنا أبو يحيى عبد الكريم بن الهيثم، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري قال: أخبرني علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب –وكان أقصد أهل بيته وأحسنهم طاعة- ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن
في ثلاثة أثواب: أحدها برد حبرة، وأنهم لحدوا له في القبر ولم يشقوا)) .
قال مكحول رحمه الله: أخطأ الزهري وأصاب، حدثنا عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كفن في ثلاثة أثواب رباط يمانية. وسمعنا أنهم جاءوا ببرد حبرة، ثم ردوه.
وقال ابن إسحاق رحمه الله: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب، ثوبين صحاريين، وبرد حبرة أدرج فيه إدراجاً.
كما حدثني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، والزهري عن علي بن الحسين.
ووقع في ((السيرة)) من غير رواية البكائي: أنها كانت إزاراً ورداءً ولفافة، وهو موجود في كتب الحديث، وفي الشروحات، وكان ثوبه الذي غسل صلى الله عليه وسلم من قطن.
قوله: (سحولية) هو بفتح السين وضمها، فمن فتحها فهي نسبة إلى السحول، وهو القصار، لأنه يسحلها أي يغسلها، أو نسبة إلى سحول، وهي قرية باليمن.
وبالضم هو جمع: سحل، وهو الثوب الأبيض النقي، ولا يكون إلا من قطن، وفي هذه النسبة شذوذ لأنها نسبة إلى الجمع، وقيل: اسم القرية بالضم أيضاً.
وصحار قرية باليمن ينسب إليها الثوب، بضم الصاد، وقيل: هو من الصحرة، وهي حمرةٌ خفية كالغبرة، يقال: ثوب أصحر، وصحاري.
والريطة كل ملاءة ليست بلفقين، وقيل: كل ثوب رقيق لين، والجمع ريطٌ ورياطٌ.
(وبرد حبرة) بوزن عنبة، على الوصف والإضافة، وهو بردٌ يمان،
والجمع حبرٌ وحبرات، وهو الموشى المخطط، والله سبحانه أعلم.
فلما فرغ من غسله وتكفينه، اختلفوا في دفنه صلى الله عليه وسلم؟ فقال قائلٌ: ندفنه في مسجده، وقال قائلٌ: ندفنه مع أصحابه.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض)) .
أخبرنا أبو القاسم بن أبي الحسن في إذنه، أنبأنا محمد بن عمر القاضي، أخبرنا عبد الصمد بن علي الهاشمي، أخبرنا علي بن عمر السكري، حدثنا جعفر بن محمد بن الصباح، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، عن ابن
إسحاق، عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض)) .
أخرجه الترمذي في ((جامعه)) أتم من هذا.
كما أخبرنا محمد بن الحسين، أخبرنا محمد بن أسعد، أخبرنا الحسين بن مسعود، أخبرنا أبو محمد الجوزجاني، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب (ح) وأخبرنا أبو المنجى عبد الله بن عمر بخطه، أخبرنا عبد الأول بن عيسى، أخبرنا عبد الله ابن محمد بن منصور، أخبرنا عبد الجبار بن محمد بن عبد الله، أخبرنا
محمد بن أحمد بن محبوب، قالا: أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى، أخبرنا أبو بكر محمد بن العلاء، حدثنا أبو معاوية، عن عبد الرحمن بن أبي بكر –هو المليكي- عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ما نسيته قال: ((ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه)) .
ادفنوه في موضع فراشه. فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي عليه فحفر تحته.
أخبرنا جدي رحمه الله قراءةً، أنبأنا أبو طاهر الحافظ، أخبرنا أبو الفضل محمد بن عبد السلام بن أحمد الأنصاري، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان، أخبرنا أبو بكر مكرم بن أحمد بن محمد بن مكرم القاضي البزاز، حدثنا عبد الله بن روح المدائني، حدثنا سلمان بن سليمان، حدثنا سوادة بن
سلمة بن نبيط، عن أبيه سلمة بن نبيط، عن نبيط بن شريط، عن سالم بن عبيد الأشجعي، قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجزع الناس كلهم عليه عمر بن الخطاب رحمه الله.
قال: فأخذ بقائم سيفه قال: لا أسمع أحداً يقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ضربته بسيفي.
قال: فقال الناس: يا سالم! اطلب لنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت إلى المسجد، فإذا أنا بأبي بكر رضوان الله عليه، فلما رأيته أجهشت بالبكاء، فقال لي: مالك يا سالم! أمات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
فقلت: إن هذا عمر يقول: لا أسمع أحداً يقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ضربته بسيفي هذا.
قال: فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى دخل، فلما رآه الناس أوسعوا له، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى، فرفع الثوب عن وجهه ووضع فاه على فيه واستنشأ الريح، ثم سجاه والتفت إلينا فقال:{وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبل الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} ، وقال جل وعز:{إنك ميتٌ وإنهم ميتون} .
يا أيها الناس! من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات.
قال عمر رضي الله عنه: فوالله لكأني لم أقرأ هؤلاء الآيات قط.
قالوا: يا صاحب رسول الله! أمات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: نعم مات، قالوا: يا صاحب رسول الله! فمن يغسله؟ قال: رجالٌ من أهل بيته الأدنى
فالأدنى، قالوا: يا صاحب رسول الله! صلى الله عليه وسلم فأين ندفنه؟ قال: ادفنوه في البقعة التي قبضه الله عز وجل فيها، لم يقبضه إلا في أحب البقاع إليه.
فلما أرادوا أن يحفروا له؛ دعا العباس رضي الله عنه رجلين، ثم قال: اذهب أنت إلى أبي عبيدة، واذهب أنت إلى طلحة، اللهم خر لرسولك صلى الله عليه وسلم، فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة، فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو طلحة يلحد لهم، وكان أبو عبيدة يضرح لأهل المدينة.
أخبرنا محمد بن هبة الله الفقيه القاضي رحمه الله، أخبرنا علي بن الحسن الحافظ، أخبرنا أبو محمد السيدي الفقيه، أخبرنا أبو عثمان البحيري، أخبرنا أبو علي الفقيه السرخسي، أخبرنا إبراهيم بن عبد الصمد، أخبرنا أبو مصعب، حدثنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال:((كان بالمدينة رجلان: أحدهما يلحد، والآخر لا يلحد، فقالوا: أيهما جاء أول عمل عمله، فجاء الذي يلحد، فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم) .
اسم أبي طلحة: زيد بن سهل، واسم أبي عبيدة: عامر.
واللحد: الشق الذي يعمل في جانب القبر لموضع الميت، وسمي لحداً لأنه أميل عن وسط القبر إلى جانبه، يقول: لحدت وألحدت، وأصل الإلحاد الميل والعدول عن الشيء.
والضريح: فعيل بمعنى مفعول، من الضرح يعني: الشق في الأرض، والضريح أيضاً: البيت الذي في السماء بحيال الكعبة، من المضارحة وهي المقابلة والمضارعة، وهو الضراح أيضاً، ومن رواه بالصاد مهملة فقد صحف، والله أعلم.
أخبرنا إسماعيل بن ظفر –من طرق قراءةً- قال: أخبرنا أحمد بن محمد، أخبرنا أبو علي الحداد، أخبرنا أحمد بن عبد الله، أخبرنا عبد الله بن جعفر، أخبرنا يونس، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها:((أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحد له)) .
ولما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، وضع صلى الله عليه وسلم على سريره في بيته، ثم دخل الناس يصلون عليه أرسالاً، الرجال حتى إذا فرغوا أدخل النساء، حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان، ولم يؤم الناس في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ.
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما صلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أدخل الرجال فصلوا عليه بغير إمام أرسالاً حتى فرغوا، ثم النساء فصلين عليه، ثم الصبيان فصلوا عليه، ثم العبيد فصلوا عليه، لم يؤمهم أحدٌ.
قال الشافعي رحمه الله: وذلك لعظم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وأمي، وتنافسهم في أن لا يتولى الإمامة في الصلاة عليه أحد، وصلوا عليه مرةً بعد مرة، وكان أول من دخل للصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بنو هاشم، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم بعدهم الرجال، ثم النساء، ثم الصبيان، ودخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ومعهما نفرٌ من المهاجرين والأنصار.
فقالا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وسلم الناس كما سلما، ثم قالا: نشهد أن قد بلغ ما أنزل الله، ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمته، فاجعلنا يا إلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى يعرفنا وتعرفه بنا، فإنه كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، لا نبتغي بالإيمان بدلاً، ولا نشتري به ثمناً أبداً.
فقال الناس: آمين آمين.
ثم دخل الناس بعدهم فوجاً بعد فوج، فصلوا عليه لم يؤمهم أحدٌ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان إمام الأمة حياً وميتاً.
قال الشيخ أبو القاسم رحمه الله: ولا تكون صلاتهم عليه أفراداً إلا عن توقيفٍ، وهو خصوصٌ به صلى الله عليه وسلم.
ووجه الفقه فيه: أن الله سبحانه افترض عليه الصلاة بنص القرآن وحكم الصلاة التي تضمنتها الآية أن لا تكون بإمام، والصلاة عليه عند موته داخلةٌ في لفظ الآية، وهي متناولةٌ لها، وللصلاة عليه على كل حال، وأيضاً فإن الرب سبحانه وتعالى قد أخبر أنه يصلي عليه وملائكته، فإذا الرب سبحانه هو المصلي والملائكة قبل المؤمنين، وجب أن تكون صلاة المؤمنين تبعاً لصلاة الملائكة، وأن تكون الملائكة هم الإمام والأمام.
وقد روى الطبراني في ذلك حديثاً مسنداً فيه طول: أنه صلى الله عليه وسلم أوصى
بذلك، ورواه البزار من طريق مُرَةَ، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
قلت: وليس في ((الصحيح)) من الحديث ما يشهد لما روياه –على ما لا يخفى- ولا ما يعضده، والله سبحانه أعلم.
ثم دفن صلى الله عليه وسلم ونزل في قبره أربعة، اثنان متفق عليهما، وهما علي والفضل، واثنان مختلف فيهما، قيل: العباس وعبد الرحمن بن عوف، وقيل: قثم وأسامة بن زيد.
أخبرنا أبو عبد الله ابن أبي بكر قراءةً بدمشق، وأبو بكر ابن محمد بيده ببغداد بعد خطه منها وبها قالا: أخبرنا طاهر بن محمد، أخبرنا أبو الحسن، أخبرنا أبو بكر الحيري، أخبرنا أبو العباس
الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا الثقة عن عمر بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:((سل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل رأسه)) .
وقد عد ابن إسحاق فيمن لحد رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاه شقران، واسمه صالح، وكان قد شهد بدراً قبل أن يعتق، وكان عبداً حبشياً لعبد الرحمن بن عوف، فوهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه، وقيل: كان أوس بن خولي معهم أيضاً، ونضد في قبره تسع لبناتٍ نصبن عليه نصباً، وهالوا التراب على لحده، وكان قثم آخر الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان آخر الذين دخلوا قبره خروجاً منه، ذكر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما وغيره.
قال ابن عبد البر رحمه الله: وقد ذكر عن المغيرة بن شعبة في ذلك خبرٌ لا يصح، أنكره أهل العلم ودفعوه.
قال: وطرح في قبره سمل قطيفةٍ كان يلبسها، فلما فرغوا من وضع اللبن أخرجوها.
أخبرنا يعيش بن علي النحوي قراءةً بحلب، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن محمد الخطيب، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن
عبد القادر بن محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن المهتدي بالله، حدثنا الحسين بن علي بن محمد النيسابوري، حدثني أبو بكر أحمد بن محمد بن يحيى الواسطي، حدثنا محمد بن سليمان لوين، حدثنا أبو معشر البراء، عن يونس بن عبيد، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه قال:((دخل قبر النبي صلى الله عليه وسلم أربعة، وبسط تحته قطيفةٌ حمراء)) .
القطيفة: كساءٌ له خملٌ، قوله:(سمل قطيفة) أي خلق قطيفة، والسمل: الخلق من الثياب، وقد سمل الثوب وأسمل، إذا صار خلقاً.
حدثنا أبو موسى عبد الله بن الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي رحمه الله، أن أبا الحسن مسعود بن أبي منصور بن الحسن أخبره قراءةً، أخبرنا الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد، أخبرنا الحافظ أبو نعيم، أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر بن الهيثم الأنباري، حدثنا محمد بن أبي العوام، قال: حدثنا [أبو] عاصم، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي خالد، عن الشعبي، عن أبي مرحب أو ابن
أبي مرحب قال: ((دخلوا أربعة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيهم عبد الرحمن بن عوف)) .
قوله: (دخلوا أربعة) يجوز على لغة من قال: أكلوني البراغيث، أو على البدل، من قوله سبحانه:{وأسروا النجوى الذين ظلموا} ، والله أعلم.
أخبرنا محمد بن عبد الله أبو عبد الله النحوي رحمه الله، قال: أخبرنا عبد المعز بن [محمد بن] أحمد أجازنيه، أخبرنا تميم بن أبي سعيد، أخبرنا علي بن محمد، أخبرنا محمد بن أحمد، أخبرنا أبو حاتم الحافظ، أخبرنا عمران بن موسى بن مجاشع، أخبرنا مجاهد بن موسى، حدثنا شجاع بن الوليد، حدثنا زياد بن خيثمة قال: حدثني إسماعيل السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:
((دخل قبر النبي صلى الله عليه وسلم العباس وعلي والفضل، وسوى لحده رجل من الأنصار)) .
وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحد له ونصب عليه اللبن نصباً، ورفع قبره عن الأرض نحواً من شبر)) .
وقال ابن عبد البر رحمه الله: جعل قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسطوحاً. وسنذكر الخلاف في صفة قبره صلى الله عليه وسلم، فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وروى جابر رضي الله عنه قال: ((رش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الذي رش الماء على قبره بلال بن رباح بقربةٍ، بدأ من قبل رأسه حتى انتهى إلى رجليه، ثم ضرحه بالماء إلى الجدار)) ، لم يقدر على أن يدور من الجدار، لأنهم جعلوا بين قبره صلى الله عليه وسلم وبين حائط القبلة نحواً من سوط.
قال عروة رحمه الله: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ودفن في آخر الليل من ليلة الأربعاء، أو مع الصبح.
وقال عكرمة رحمه الله: دفع من وسط الليل ليلة الأربعاء.
وقال القاسم رحمه الله: ما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الموت في أظفاره.
وتوفي صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، عن ثلاث وستين سنة من عمره، وكمل له بالمدينة من يوم دخوله إلى يوم وفاته صلى الله عليه وسلم عشر سنين كوامل، وكان بدء مرضه يوم الأربعاء لاثنتين بقيتا من صفر، وقيل لواحدة، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوماً.
وحكى أبو القاسم في كتابه أن في ((مراسيل الحسن)) ؛ أنه صلى الله عليه وسلم مرض عشرة أيام، وصلى أبو بكر رضي الله عنه بالناس تسعة أيام، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم العاشر منها، قال: وكانت وفاته في شهر أيلول.
أخبرنا أبو نصر الفقيه، قال: أخبرنا أبو القاسم الحافظ، أخبرنا أبو محمد الفقيه، أخبرنا أبو عثمان البحيري، أخبرنا أبو علي الفقيه، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب الزهري، حدثنا مالك أنه بلغه أن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول:((ما صدقت بموت النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعت صوت وقع الكرازين)) .
الكرازين: جمع كرزنٍ، وهو الفأس.
ويقال فيه بالفتح والكسر، وتجمع على: كرازن أيضاً، والله سبحانه أعلم.
أخبرنا إسماعيل بن ظفر أبو طاهر قراءةً، أخبرنا أبو المكارم ابن اللبان قراءةً بأصبهان، أخبرنا الحسن بن أحمد، أخبرنا أبو نعيم الحافظ، أخبرنا أبو محمد بن جعفر، حدثنا أبو بشر بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: قالت لي فاطمة رضوان الله عليها: يا أنس! أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟!
صحيح أخرجه البخاري في ((الصحيح)) .
قال ثابت: وقالت فاطمة رضي الله عنها ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الموت أو قالت –وهو ثقيل-: واأبتاه، إلى جبريل ننعاه، يا أبتاه، من ربه ما أدناه، يا أبتاه، جنان الفردوس مأواه، يا أبتاه، أجاب رباً دعاه.
وقد رويناه في ((صحيح البخاري)) موصولاً.
كما أخبرنا أبو ذر سهيل بن [محمد بن] عبد الله الطائي البوشنجي –منها- وجماعة غيره بغيرها في إذنهم، قالوا: أخبرنا ابن أبي مريم، أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا عبد الله، أخبرنا محمد، أخبرنا محمد، أخبرنا سليمان بن حرب، أخبرنا حماد، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال:((لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه، فقالت فاطمة: واكرباه، فقال لها: ((ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم)) فلما مات قالت: يا أبتاه، أجاب رباً دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه، فلما دفن قالت فاطمة رضي الله عنها: أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب)) ؟!
قوله: (ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم) يعني –والله أعلم- أنه بمجرد انتقاله من الدنيا، لا يصيبه نصبٌ ولا وصبٌ يجد له ألماً، لأنه يفضي إلى دار الكرامة والعافية، والراحة والسلامة الدائمة صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ونبئ
يوم الاثنين، ورفع الحجر يوم الاثنين، وخرج مهاجراً يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين.
قال أبو القاسم رحمه الله: واتفقوا أنه صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين، قالوا كلهم وفي ربيع الأول، غير أنهم قالوا أو قال أكثرهم: في الثاني عشر من ربيع الأول، ولا يصح أن يكون توفي في يوم الاثنين إلا في الثاني من الشهر، والثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، لإجماع المسلمين على أن وقفة عرفة في حجة الوداع كانت يوم الجمعة، وهو التاسع من ذي الحجة، فدخل ذو الحجة يوم الخميس، فكان المحرم، إما الجمعة، وإما السبت، فإن كان الجمعة، فقد كان صفراً إما السبت وإما الأحد، فإن كان السبت، فقد كان ربيع الأول إما الأحد وإما الاثنين، فكيف ما دارت الحال على هذا الحساب، فلم يكن الثاني عشر من ربيع الأول يوم الاثنين بوجه.
وذكر الطبري عن ابن الكلبي وأبي مخنفٍ أنه صلى الله عليه وسلم توفي في الثاني من ربيع الأول، وهذا القول وإن كان خلاف قول الجمهور –كذا هو أوجه عندي-، فإنه لا يبعد إن كانت الثلاثة الأشهر التي قبلها من تسعة وعشرين، فتدبره فإنه صحيح.
ولم أر أحداً تفطن له، وقد رأيت الخوارزمي حكى أنه صلى الله عليه وسلم توفي أول يوم من ربيع الأول، وهذا أقرب إلى القياس مما ذكره الطبري عن ابن الكلبي وأبي مخنف، والله سبحانه أعلم.
وكان موته صلى الله عليه وسلم خطباً كالحاً، ورزءاً لأهل الإسلام فادحاً، كادت تهد له الجبال وترجف الأرض، وتكسف النيرات لانقطاع خبر السماء وفقد من لا عوض منه، مع ما آذن به موته صلى الله عليه وسلم من إقبال الفتن السحم.
فلولا ما أنزل الله سبحانه من السكينة على المؤمنين، وأسرج في
قلوبهم من نور اليقين، وشرح له صدورهم من فهم كتابه المبين، لانقصفت الظهور، وضاقت عن الكرب الصدور، ولعاقهم الجزع عن تدبير الأمور، فقد كان الشيطان أطلع إليهم رأسه، ومد إلى إغوائهم مطامعه، فأوقد نار الشنآن ونصب راية الخلاف، لكن أبى الله إلا أن يتم نوره، ويعلي كلمته، وينجز موعوده، فأطفأ نار الردة، وحسم مادة الخلاف والفتنة على يد الصديق رضي الله عنه، ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه: لولا أبو بكر، لهلكت أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد نبيها.
وروينا عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، لفقدهم نبيهم صلى الله عليه وسلم) .
وقالت أيضاً رضي الله عنها: ((توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو نزل بالجبال الصم ما نزل بأبي لهاضها، ارتدت العرب، واشرأب النفاق، فما اختلفوا في نقطةٍ إلا طار أبي يخطها وعنا بها)) .
الارتداد: الرجوع إلى الكفر بعد الإسلام –أعاذنا الله منه-، ومعنى (اشرأب) أي ارتفع وعلا، ونجم النبت ينجم إذا طلع، وكل ما طلع وظهر فقد نجم، وخص ما لا يقوم على ساق من النبات باسم النجم، كما خص القائم منه على ساق باسم الشجر.
قولها ((في نقطة)) : أي في أمرٍ وقضية، وهو بالنون، وقيده الهروي بالباء الموحدة، وأخذ عليه.
قال بعض المتأخرين: المضبوط عند علماء النقل أنه بالنون، وهو من كلامٍ مشهورٍ، ويقال عند المبالغة في الموافقة، وأصله في الكتابين يقابل أحدهما بالآخر فيقال: ما اختلفا في نقطة، يعني من نقط الحروف والكلمات، أي بينهما من الاتفاق ما لم يختلفا معه في هذا القدر اليسير.
وقولها: لهاضها، يقال: هاض العظم يهيضه هيضاً إذا كسره بعد
الجبور فهو مهيض، وهو أشد لوجعه، وكل وجعٍ على وجعٍ فهو هيض، ويقال: هاضني الشيء إذا رده في مرضه، والله أعلم.
أخبرنا أبو عبد الله ابن أبي الفضل قال: أخبرنا أبو روح بن محمد بن أبي الفضل وأجازنيه، قال أبو القاسم: أخبرنا أبو الحسن البحاثي، أخبرنا محمد بن أحمد الزوزني، أخبرنا أبو حاتم الحافظ، أخبرنا محمد بن أحمد بن عبيد بن فياض بدمشق، قال حدثنا هشام، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثني عبد الله بن العلاء بن زبرٍ، أنه سمع بشر بن عبيد الله يحدث، عن أبي إدريس الخولاني، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في خباءٍ من أدم، فجلست في فناء الخباء، فسلمت فرد، وقال: ادخل يا عوف، فقلت: كلي، قال: كلك، فدخلت فوافقته يتوضأ، ثم قال: احفظ خلالاً ستاً بين الساعة، إحداهن موتي. قال عوف: فوجمت عندها وجمة
شديدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل إحدى، فقلت: إحدى، ثم قال: فتح بيت المقدس، ثم يظهر فيكم داءٌ، ثم استفاضة المال فيكم حتى يعطى الرجل مئة دينار فيظل ساخطاً، ثم فتنة تكون بينكم، لا تبقي بيت مؤمن إلا دخلته، ثم صلح يكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون بكم، فيسيرون إليكم في ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً)) .
(الغاية والراية سواء، ومن رواه بالباء الموحدة معناه الأجمة، فشبه كثرة رماح العسكر بها.
قوله: (فوجمت وجمة) ، الواجم الساكت لأمر يكرهه كالمهتم به، وقال ابن الأعرابي: وجم بمعنى حزن، يقال: وجم يجم وجوماً.
وقد روينا في ((صحيح البخاري)) بأسانيدنا قال: حدثنا الحميدي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الله بن العلاء بن زبر، قال: سمعت بشر بن عبيد الله، أنه سمع أبا إدريس، قال: سمعت عوف بن مالك قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فقال:((اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم)) ، وذكر الحديث.
قوله: (موتان) هو بضم الميم وسكون الواو، على وزن بطلان، الموت الكثير الوقوع.
(وقعاص الغنم) داءٌ يأخذ الغنم لا يلبثها أن تموت، والله سبحانه أعلم.
أخبرنا أبو عبد الله بن أبي بكر قراءةً بدمشق، وأبو بكر محمد بيده وإذنه ببغداد، قالا: أخبرنا أبو زرعة، أخبرنا مكي. (ح) وأنبأنا
أبو المعالي علي بن محمود بن علي الشعري –في كتابه من هراة- قال: أخبرنا السيد أبو الحسن علي بن حمزة الموسوي قراءةً، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي العميري، قالا: أخبرنا أحمد بن الحسن، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا القاسم بن عبد الله بن عمر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال:((لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية، سمعوا قائلاً يقول: إن في الله عزاءً من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب)) .
أخبرنا أبو القاسم بن أبي عبيد الله، أخبرنا أحمد بن محمد، أخبرنا أبو غالب محمد بن الحسن بن أحمد، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن جعفر الحرقي، أخبرنا أبو القاسم عمر بن محمد بن عبد الله الترمذي، أخبرنا جدي أبو بكر محمد بن عبيد الله بن مرزوق بن دينار، أخبرنا عفان بن مسلم الصفار، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس
رضي الله عنه: أن أبا بكر رضي الله عنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، قال:((فشهدته يوم دخل المدينة، فما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوء من يوم دخل علينا فيه، قال: وشهدته يوم موته فما رأيت يوماً كان قط أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
أخبرنا أبو الغنائم المسلم بن أحمد بن علي المازني النصيبي، قال أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الحسن بن إبراهيم، أخبرنا سهل بن بشر ابن أحمد، أخبرنا علي بن محمد بن علي، أخبرنا محمد بن أحمد بن عبد الله الذهلي، حدثنا أبو أحمد محمد بن عبدوس بن كامل، حدثنا محمد بن عباد، حدثنا سفيان، عن عمرو قال: قال ابن عمر رضي الله عنه: ((ما وضعت لبنةً على لبنةٍ ولا غرست نخلةً منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
وقد رويناه بأسانيدنا في ((صحيح البخاري)) قال: أخبرنا علي بن عبد
الله، قال: حدثنا سفيان قال عمرو: قال ابن عمر: ((والله ما وضعت لبنةً على لبنة ولا غرست نخلةً منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
قال سفيان: فذكرته لبعض أهله، قال: والله لقد بنى.
قال سفيان: قلت: لعله قال قبل أن يبني.
أخبرنا عبد الله بن الحسين، أخبرنا أبو طاهر الحافظ، أخبرنا محمد بن الحسن، أخبرنا محمد بن عمر بن جعفر، أخبرنا محمد بن عبيد الله، حدثنا أبو عثمان، أخبرنا جعفر بن سليمان، أخبرنا ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال:((ما نفضنا أيدينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا)) .
وحق لهم ولمن بعدهم ذلك، وكيف لا يكونون كذلك؟!
ومن العجيب كيف لم تتصدع قلوبهم بفقده، وتغط نفوسهم حزناً عليه صلى الله عليه وسلم، وتتفطر كبودهم أسفاً من بعده، وقد كانت مصيبتهم بموته المصيبة العظمى، ورزيتهم بوفاته الرزية الكبرى، ولم يروا خطباً أفدح من رزئهم بفقدانه، ولا وجدوا مصيبةً أوجع لقلوبهم من مصيبتهم بعدمه بعد وجدانه!!
لانقطاع أخبار السماء، وعدم تنزل الملائكة صلى الله عليه وعليهم وسلم عليه بالأنباء.
وعلى ما شملهم به من رأفته بهم، ورحمته وشفقته عليهم، ونصيحته لهم وهدايته، ووسعهم من بره وعرفه، وعمهم من فضله ولطفه.
مع ما حباهم به على فرط الخصاصة من الإيثار، وهداهم من الضلالة؛ وبصرهم بعد العمى، وأنقذهم من النار، حتى صار لهم كالوالد المتحنن المشفق، والأب الحدب الذي يألم لما يألم له بنوه ويرأف.
فحق لقلوبهم أن تكمد، ولعيونهم حزناً عليه أن لا تجمد، ولنيران أسفهم على فقده أن لا تخمد، وإن حمد الصبر في موطن مصيبة يوماً، فإن الصبر بمصيبة سيدنا أحمد صلى الله عليه وسلم لا يحمد.
فالصبر يحمد في المواطن كلها
…
إلا عليك فإنه مذموم
هذا جبريل قد قال له عند وفاته صلى الله عليه وسلم: يا أحمد! هذا آخر وطئي في الأرض، ولا أنزل بعد اليوم أبداً، إنما كنت أنت حاجتي من الدنيا.
أخبرنا أبو نصر الفقيه قال: أخبرنا أبو القاسم الحافظ (ح) ونبأني أبو الحسن الطوسي، قالا أخبرنا أبو محمد السيدي الفقيه، أخبرنا البحيري، أخبرنا السرخسي، أخبرنا الهاشمي، أخبرنا الزهري، أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليعز المسلمين في مصائبهم المصيبة بي)) .
أنشدنا أبو نصر عبد الرحيم بن محمد بن الحسن عم أبي رحمهما الله، بالعاصي، قال أنشدنا عمي الحافظ أبو القاسم رحمه الله –في كتابه الذي صنفه في ((الصبر والجلد، عند مصاب المرء المسلم بالولد)) ، بأسانيده فيه:
اصبر لكل مصيبة وتجلد
…
واعلم بأن المرء غير مخلد
وإذا ذكرت مصيبة تسلو بها
…
فاذكر مصابك بالنبي محمد
وقال أبو جعفر محمد بن علي رضي الله عنه: ما رئيت فاطمة عليها السلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ضاحكةً، ومكثت بعده ستة أشهر رضي الله عنها وسلم عليها.
أخبرني محمد بن محمود النجار بخطه، أنبأنا أبو جعفر الواسطي، عن أبي طالب بن يوسف، أخبرنا أبو الحسين بن الأبنوسي، عن عمر بن شاهين، أخبرنا محمد بن موسى، حدثنا أحمد بن محمد الكاتب، حدثني طاهر بن يحيى، حدثني أبي، عن جدي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال:((لما رمس صلى الله عليه وسلم جاءت فاطمة رضي الله عنها فوقفت على قبره وأخذت قبضة من تراب القبر، فوضعت على عينها وبكت)) ، وأنشأت تقول:
ماذا على من شم تربة أحمد
…
أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت علي مصائب لو أنها
…
صبت على الأيام عدن لياليا
أخبرنا الشيخ أبو صادق الحسن بن يحيى رحمه الله قراءة عليه، قال أخبرنا عبد الله بن رفاعة قراءة عليه، أخبرنا علي بن الحسن القاضي، أخبرنا شعيب بن عبد الله بن أحمد، أخبرنا أحمد بن الحسن بن إسحاق، عن عتبة الرازي، أخبرنا أبو الزنباع روح بن الفرج، حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن يحيى بن سعيد، أنه سمع سعيد بن المسيب يخبر عن عائشة رضي الله عنها: ((أنها رأت في المنام أنها سقط في حجرها، أو في
حجرتها ثلاثة أقمار، فذكرت ذلك لأبي بكر رضي الله عنه فقال: خير.
قال يحيى: فسمعت بعد ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي دفن في بيتها، قال لها أبو بكر رضي الله عنها: هذا أحد أقمارك يا بنية، وهو خيرها)) .
أخبرنا عتيق بن أبي الفضل رحمه الله، أخبرنا علي بن الحسن الحافظ، أخبرنا علي بن إبراهيم الخطيب، أخبرنا رشاء بن نظيف، أخبرنا الحسن بن إسماعيل، أخبرنا أبو بكر المالكي، حدثنا عامر بن عبد الله الزبيري، حدثنا مصعب بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن هشام بن عروة أنه أنشد هذه الأبيات لصفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها في رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات:
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا
…
وكنت بنا براً ولم تك جافيا
وكان بنا براً رؤوفاً نبينا
…
ليبك عليه اليوم من كان باكيا
كأن على قلبي لذكر محمد
…
وما خفت من بعد النبي المكاويا
أفاطم صلى الله رب محمد
…
على جدث أمسى بيثرب ثاويا
فداً لرسول الله أمي وخالتي
…
وعمي ونفسي قصرةً وعياليا
صدقت وبلغت الرسالة ناصحاً
…
ومت صليب الدين أبلج صافيا
فلو أن رب الناس أبقاك بيننا
…
سعدنا ولكن أمره كان ماضيا
عليك من الله السلام تحية
…
وأدخلت جنات من العدن راضيا
أرى حسناً أيتمته وتركته
…
يبكي ويدعو جده اليوم نائيا
وروي أن امرأة من المتعبدات جاءت إلى عائشة رضي الله عنها، فقالت لها: اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكشفت لها عنه، فبكت حتى ماتت.
كتب إلينا أبو عبد الله بن أبي محمد الحافظ يخبرنا أن بعض شيوخه أنشده لبعض زوار النبي صلى الله عليه وسلم:
أتيتك زائراً وودت أني
…
جعلت سواد عيني أمتطيه
ومالي لا أسير على جفوني
…
إلى قبر رسول الله فيه؟!
قرئ على أبي البركات بن أبي عبد الله رحمه الله وأنا أسمع، أنبأك أبو محمد السعدي (ح) حدثني أبو الحسن علي بن أحمد من لفظه قال: أخبرنا عبد القوي السعدي، أخبرنا ابن أبي الذيال، أخبرنا علي بن الحسن، أخبرنا أبو محمد، أخبرنا عبد الله، أخبرنا البرقي، أخبرنا عبد الملك، عن أبي زيد الأنصاري، أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال –يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بطيبة رسمٌ للرسول ومعهدٌ
…
منيرٌ وقد تعفو الرسوم وتهمد
ولا تمتحي الآيات من دار حرمة
…
بها منبر الهادي الذي كان يصعد
وواضح آثار وباقي معالم
…
وربعٌ له مصلى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها
…
من الله نور يستضاء ويوقد
معارف لم تطمس على العهد آيها
…
أتاها البلى فالآي منها تجدد
عرفت بها رسم الرسول وعهده
…
وقبراً بها واراه في الترب ملحد
أطالت وقوفاً تذرف العين جهدها
…
على طلل القبر الذي فيه أحمد
فبوركت يا قبر النبي وبوركت
…
بلادٌ ثوى فيها الرشيد المسدد
وبورك لحدٌ منك ضمن طيباً
…
عليه بناء من صفيح منضد
تهيل عليه الترب أيدٍ وأعين
…
عليه وقد غارت بذلك أسعد
لقد غيبوا حلماً وعلماً ورحمةً
…
عشية علوه الثرى لا يوسد
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم
…
وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكي السموات يومه
…
ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد
وهل عدلت يوماً رزية هالك
…
رزية يوم مات فيه محمد
وروي أن فاطمة رضوان الله عليها، لما رجعت إلى بيتها بعد دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع المهاجرون والأنصار إلى رحالهم، اجتمع إليها نساؤها فقالت:
اغبر آفاق السماء وكورت
…
شمس النهار وأظلم العصران
فالأرض من بعد النبي محمدٍ
…
أسفاً عليه كثيرة الرجفان
فليبكه شرق البلاد وغربها
…
ولتبكه مضرٌ وكل يمان
وليبكه الطود المعظم جوده
…
والبيت ذو الأستار والأركان
يا خاتم الرسل المبارك ضوؤه
…
صلى عليك منزل الفرقان
وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب –واسم أبي سفيان جعفر- يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أرقت فبات ليلي لا يزول
…
وليل أخي المصيبة فيه طول
وأسعدني البكاء وذاك مما
…
أصيب المسلمون به قليل
لقد عظمت مصيبته وجلت
…
عشية قيل قد قبض الرسول
وأضحت أرضنا مما عراها
…
تكاد بنا جوانبها تميل
فقدنا الوحي والتنزيل فينا
…
يروح به ويغدو جبرئيل
وذاك أحق ما سالت عليه
…
نفوس الناس أو كربت تسيل
نبي كان يجلو الشك عنا
…
بما يوحى إليه وما يقول
ويهدينا فلا نخشى ضلالاً
…
علينا والرسول لنا دليل
أفاطم إن جزعت فذاك عذرٌ
…
وإن لم تجزعي ذاك السبيل
فقبر أبيك سيد كل قبر
…
وفيه سيد الناس الرسول.
أخبرنا أبو عبد الله الزبيدي، أخبرنا أبو الوقت الصوفي، أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا عبد الله، أخبرنا محمد، أخبرنا محمد، حدثنا إبراهيم بن موسى، قال: أخبرنا هشام، عن معمر، عن الزهري، قال: ((أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر –وذلك الغد من يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم، قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا –يريد بذلك أن يكون آخرهم-، فإن يك محمدٌ صلى الله عليه وسلم قد مات، فإن الله جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به بما هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم، وإن أبا بكر صاحب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين، فإنه أولى المسلمين بأموركم فقوموا فبايعوه)) .
حديث صحيح أخرجه البخاري في ((مسنده)) كما تراه.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما كان منه:
لعمري لقد أيقنت أنك ميتٌ
…
ولكنما أبدى الذي قلته الجزع
وقلت: يغيب الوحي عنا لفقده
…
كما غاب موسى ثم يأتي كما رجع
وكان هواي أن تطول حياته
…
وليس لحي في بقا ميت طمع
فلما كشفنا البرد عن حر وجهه
…
إذا الأمر بالجذع المرحب قد وقع
فلم يك لي عند المصيبة حيلة
…
أرد بها أهل الشماتة والفزع
سوى آذن الله الذي في كتابه
…
وما آذن الله العباد به يقع
وقد قلت من بعد المقالة قولة
…
لها في حلوق الشامتين به بشع
ألا إنما كان النبي محمد
…
إلى أجل وافى به الموت فانقطع
ندين على العلات منا بدينه
…
ونعطي الذي يعطي ونمنع ما منع
ووليت محزوناً بعين سخينةٍ
…
أكفكف دمعي والفؤاد قد انصدع
وقلت لعيني كل دمع ذخرته
…
فجودي به إن الشجي له دفع
قوله: (بشع) شيء بشعٌ أي كريه يأخذ بالحلق فهو بين البشاعة، ورجلٌ بشعٌ بين البشع إذا أكله فبشع منه، واستبشع الشيء أي عده بشعاً.
وفي الحديث ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل البشع)) أي: الخشن الكريه الطعم، يريد أنه لم يكن يذم طعاماً، والله سبحانه أعلم.
وروى أبو ذؤيب الهذلي، واسمه خويلد بن خويلد، وقيل: ابن محرث قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليلٌ فاستشعرت حزناً، فبت بأطول ليلة لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها، فظللت أقاسي طولها، حتى كان قرب السحر، أغفيت فهتف بي هاتفٌ وهو يقول:
خطب أجل أناخ بالإسلام
…
بين النخيل ومعقد الأطام
قبض النبي محمدٌ فعيوننا
…
تذري الدموع عليه بالتسجام
قال أبو ذؤيب: فوثبت من نومي فزعاً فنظرت في السماء، فلم أر إلا سعد الذابح، فتفاءلت به ذبحٌ يقع في العرب، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض وهو ميتٌ من علته، فركبت ناقتي وسرت، فلما أصبحت طلبت شيئاً أزجر به، فعن لي شيهمٌ –يعني: القنفذ- قد قبض على صل –يعني: الحية- فهي تلتوي عليه، والشيهم يقضمها حتى أكلها، فزجرت ذلك وقلت: شيهمٌ شيء مهمٌ، والتواء الصل: التواء الناس عن الحق القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أكل الشيهم إياها: غلبة القائم بعده على الأمر، فحثثت ناقتي حتى إذا كنت بالغابة زجرت الطائر، فأخبرني بوفاته، ونعب غرابٌ سانح، فنطق مثل ذلك، فتعوذت بالله من شر ما عن لي في طريقي، وقدمت المدينة ولها ضجيجٌ بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام، فقلت: مه؟ فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت المسجد فوجدته خالياً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت بابه مرتجاً، وقيل: هو مسجى قد خلا به أهله، فقلت: أين الناس؟ فقيل: في سقيفة بني ساعدة صاروا إلى الأنصار.
فجئت إلى السقيفة فأصبت أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح وسالماً رضي الله عنهم وجماعة من قريش، ورأيت الأنصار وفيهم سعد بن عبادة، وفيهم شعراؤهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وملأٌ منهم. فآويت إلى قريش، فتكلمت الأنصار فأطالوا الخطاب، وأكثروا الصواب، فتكلم أبو بكر رضي الله عنه، فلله دره من رجلٍ لا يطيل الكلام، ويعلم مواقع فصل الخطاب، والله لقد تكلم بكلام، لا يسمعه أحدٌ إلا انقاد له ومال إليه، ثم تكلم عمر رضي الله عنه بعده دون كلامه، ومد يده فبايعه وبايعوه، ورجع أبو بكر رضي الله عنه ورجعت معه.
قال أبو ذؤيب: فشهدت الصلاة على [سيدنا] محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت دفنه، ثم أنشد أبو ذؤيب يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لما رأيت الناس في عسلانهم
…
ما بين ملحود وبين مضرح
متبادرين لشرجع بأكفهم
…
نص الرقاب لفقد أروع أروح
فهناك صرت إلى الهموم ومن يبت
…
جار الهموم يبيت غير مروح
فتزعزعت أجبال يثرب كلها
…
ونخيلها لحلول خطب مفدح
كسفت لمصرعه النجوم وبدرها
…
وتزعزعت ألهام بطن الأبطح
ولقد زجرت الطير قبل وفاته
…
بمصابه وزجرت سعد الأذبح
وروى ابن هشام عن غير واحد من أهل العلم: أن أكثر أهل مكة لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم هموا بالرجوع عن الإسلام، وأرادوا ذلك حتى خافهم عتاب بن أسيد، فتوارى، فقام سهيل بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوةً، فمن رابنا ضربنا عنقه.
فتراجع الناس وكفوا عن ما هموا به، فظهر عتاب بن أسيد.
(أسيد) بفتح الهمزة، ذكر أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد النمري الحافظ في كتاب ((الاستذكار)) : ليس في المهاجرين أسيد، ولا في الأنصار أسيد، والله أعلم.
وهذا المقام لسهيل بن عمرو هو الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله في قصته لعمر بن الخطاب –لما كثر عليه يوم الحديبة في أمره حيث رد إليه ولده أبا جندل، وقد جاء مسلماً حيث كتب كتاب الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وشاقهم في أنه لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((إنه عسى أن يقوم مقاماً لا تذمه)) والله سبحانه أعلم.
قوله (شرجع) الشرجع: سرير الجنازة، والشرجع أيضاً: الطويل، ومطرقة مشرجعة: أي طويلة لا حروف لها، والله سبحانه أعلم.
ونقل أهل السير: أن سواد بن قارب الدوسي –قول ابن الكلبي،
السدوسي، في قول غيره –لما بلغه وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قام في الأزد.
فقال: يا معشر الأزد! إن من سعادة القوم أن يتعظوا بغيرهم، ومن شقائهم أن لا يتعظوا إلا بأنفسهم، وإنه من لم تنفعه التجارب ضرته، ومن لم يسعه الحق لم يسعه الباطل، وإنما تسلمون اليوم بما أسلمتم به أمس، وقد علمتم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد تناول قوماً أبعد منكم فظفر بهم، وأنه أوعد قوماً أكثر منكم فأخافهم ولم يمنعه منكم عدةً ولا عدد، وكل بلاء منسي إلا ما بقي أثره في الناس، ولا ينبغي لأهل البلاء أن يكونوا أذكر من أهل العافية للعافية، وإنما كف نبي الله صلى الله عليه وسلم عنكم ما كفكم عنه، فلم تزالوا خارجين مما فيه أهل البلاء، داخلين فيما فيه أهل العافية، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبكم ونقيبكم، فعبر الخطيب عن الشاهد، ونقب النقيب عن الغائب، ولست أدري لعله تكون للناس جولة، فإن تكن فالسلامة منها الأناة، والله يحبها فأحبوها، فأجابه القوم وسمعوا قوله، فقال في ذلك:
جلت مصيبتك الغداة سواد
…
وأرى المصيبة بعدها تزداد
أبقى لنا فقد النبي محمدٍ
…
صلى الإله عليه ما يعتاد
حزناً لعمرك في الفؤاد مخامراً
…
أو هل لمن فقد النبي فؤاد
كنا نحل به جناباً ممرعاً
…
جف الجناب فأجدب الوراد
فبكت عليه أرضنا وسماؤنا
…
وتصدعت وجداً به الأكباد
قل المتاع به فكان عيانه
…
حلماً تضمن سكرتيه رقاد
كان العيان هو الطريف وحزنه
…
باقٍ لعمرك في الفؤاد تلاد
إن النبي وفاته كحياته
…
الحق حق والجهاد جهاد
لو قيل تفدون النبي محمداً
…
بذلت له الأموال والأولاد
وتسارعت فيه النفوس ببذلها
…
هذا له الأغياب والأشهاد
هذا وهذا لا يرد نبينا
…
لو كان يفديه فداه سواد
إني أحاذر والحوادث جمعة
…
أمراً لعاصف ريحه إرعاد
إن حل منه ما يخاف فأنتم
…
للأرض إن رجفت بنا أطواد
لو زاد قوم فوق منية صاحب
…
زدتم وليس لمنية مزداد