الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التاسعة والثلاثون: قال الغزالي إذا أعطى السلطان من خزانته شيئا لإنسان استحق في بيت المال شيئا
، وعلم أنه في الخزانة الحلال والحرام كما هو الغالب في هذه الأزمان، ويحتمل أن يكون العطاء من واحد منها، فقال قوم: بجواز أخذه ما لم يتيقن أنه حرام، لأن جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم أخذوا من أموال السلاطين ونوابهم الظلمة، كأبي هريرة وأبي سعيد الخدري، وابي أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وجرير بن عبد الله، وابن عمرو، وابن عباس، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والشافعي أخذ من هارون الرشيد، وكذا مالك، وإنما ترك من ترك الأخذ منهم تورعا، كما زهد بعضهم في الحلال المطلق.
وقال آخرون: لا يجوز حتى يتحقق أنه حلال، ويحمل أخذ من أخذ على أنهم علموا أنه من الحلال، أو على أنهم أخذوه وصرفوه في مصارفه من بيت المال.
وقد قال جماعة أخذنا له، وصرفنا إياه في المحتاجين خير من تركه في يد السلاطين.
والشافعي رضي الله تعالى عنه لما أخذ من هارون الرشيد فرقه في الحال، ولم يأخذ منه حبة، أو على أن الغالب كان الحلال، بخلاف ما في يد السلطان اليوم فإن غالبه حرامن وكلا القولين إسراف.
والأعدل أنه إن كان الأكثر حراما حرم الأخذ، وإن كان الأكثر حلالا ففيه توقف. انتهى.
ونقله القمولي في جواهره، واعترض قوله وإن كان الأكثر حراما، خرج الآخذ بأنه مبني على ما تقدم، من أنه يحرم معاملة من أكثر ماله حرام، والمذهب خلافه كما في المجموع، فإنه قال: ومذهبنا أنه إذا كان الأكثر حراما كره الأخذ منه بالابتياع وغيرهس.
قال القمولي: فانفرد الغزالي بالتحريم وهو شاذ. انتهى.
واعترض بعضهم قول الغزالي: إن كان الأكثر حلالا ففيه توقف، بأنه لا وجه له،
ويرد بأن له وجها، لأن كون الأكثر حلالا لا ينافي احتمال الوقوع في الحرام، وإن كان أبعد مما إذا استويا، أو كان الحرام أكثر فوجه التوقف هذا الاحتمال اللائق بالوقوع مراعاته وأنه لا مجزم بالحل، فاتجه أن لا توقفه، وهما، وإن كان المعتمد الحل ولو فيما إذا كان الأكثر حراما.
وفي الجواهر عن الغزالي أيضا: لو بعث السلطان إلى إنسان مالا ليفرقه على المساكين فإن عرف أنه مغصوب من إنسان بعينه، لم يجز له الأخذ إلا ليوصله إلى صاحبه، وإن لم يعرفه جاز أخذه وتفرقته، لكن يكره إن قارنته مفسدة، بحيث يغتر به جهال، ويعتقدون طيب أموال السلاطين، وينبغي أن يتجنب معاملة السلطان وغلمانه وأعوانه وعماله. انتهى.
وما ذكره هنا يجري في أخذه لنفسه أيضا كما هو ظاهر.
وحكى القمولي وغيره عن الغزالي أربعة مذاهب فيما لو لم يدفع السلطان إلى كل المستحقين حقوقهم من بيت المال، وإنما دفع لبعضهم فقط، فهل له أن يستأثر بما دفع إليه، وإن أعدل تلك المذاهب أن له أخذ جميع المدفوع إليه وإن أكثر حيث كان قدر حقه، أو أقل عنهز وقيد العز بن عبد السلام كراهة معاملة من اشتملت يده على حلال وحرام، بما إذا كان ما بيده من جنس الحرام الذي يكتسبه، قال: فإن كان من غير جنسه فلا باس المعاملة، وإن تردد في أنه اشتراه به، وقياسه أنه لا كراهة هنا في الأخذ من مال بيت المال الذي أكثره حرام، إلا إذا كان ما فيه من جنس ذلك الحرام، وإلا فلا كراهة، وإن احتمل أن ناظره استبدله به.
وقال الغزالي: الورع أربعة أقسام لأنه: إما ورع الشهادة وهو الامتناع مما يسقطها، وإما ورع المتدين وهو ترك ما يتطرق إليه احتمال التحريم الذي له موقع وإن أفتى المفتي بحله عملا بالظاهر، ولا أثر للاحتمال البعيد، كمن ترك الاصطياد لاحتمال أن الذي يصطاده قد اصطاده غيره وانفلت منه - فهذا وسواس لا ورع، وأما ورع المتقين وهو ترك ما يخاف انجراره إلى الحرام وإن كان حلالا لا شبهة فيه.
وأما ورع الصديقين وهو ترك ما ليس فيه شيء مما سبق، ولكن تناوله من غير نية التقوى على العبادة، ويتطوع إلى أسبابه كراهة، فإذا اختلط ببلد حرام غير منحصر بحلال، كذلك كان ترك الشراء والأكل من ذلك ورعا محبوبا.
وكلما كثر الحرام تأكد الورع والامتناع من كل حلال لكون فاسق أو كافر حمله، وسواس لا ورع.
قال: ولو اشترى طعاما في الذمة وقضى ثمنه من حرام ينظر فإن كان البائع سلمه له قبل أن يقبضه الثمن بطيب قلب، حل له أكله إجماعا، وليس تركه ورعا مؤكدا، وإن قضى ثمنه من حرام لكنه باق في ذمته حتى يبرئه منه، مع علمه بأن قبضه حرام، لأنه يبرأ بخلاف ما لوظن حل ما قبضه، فإنه لا يبرأ بإبرائه، لأنه لا يقصد حقيقة إبرائه، ومتى أخذ ذلك الطعام قبل أن يقبض البائع الثمن حرم عليه أكله، لأن للبائع حق الحبس، إن كان الثمن حالا، ولو وفى الثمن من حرام، ثم قبض المبيع ثم يحل له أكله، إلا إن علم البائع أن ما قبضه حرام، ثم أقبضه إياه، لأن إقباضه له إسقاط لحقه من الحبس، ويبرأ بإبرائه، إن علم أن ما قبضه حرام ثم أبرأه منه، وإلا لم يبرأ كما مر.
قال: وله شراء دار من دور بلد، علم أن فيها دارا مغصوبة أو وقف لا يعرفها، وجب السؤال. انتهى.
وكأن الفرق بين هاتين الصورتين، أن الدور في الثانية محصورة فلا مشقة في السؤال، بخلافه في الأولى، قال: ولو كان ببلد مدائين ورباطات، وبعضها مخصوص بأهل مذهب معين، لم يجز أن يسكن شيئا منها، ولا يأكل من وقفها، حتى يسأل ولو نهب متاع فصادف من نوعه شيئا يباع، فإن كان مع معروف بالصلاح جاز شراؤه، وتركه ورع، أو مع مجهول فإن كثر مماثل المنهوب في البلد جاز الشراء منه، وإن ندر، فالورع تركه، وفي أخذ منه نظر. انتهى. والقياس عدم الحرمة كما علم مما في المعاملة من أكثر ماله حرام، قال: وإذا أردت شراء طعام، أو أهدي لك، أو ضيفت به لم تكلف أنك تسأل عن حله، ولا تترك لأن فيه تفضيلا، هو أن المالك
جهل حاله ولا علامة تدل على طيب ماله، من غير سؤال فإن رأى فيه علامة تدل على الفساد كهيئة الظلمة، أو تساهله في فصل الحرام وجب السؤال، أو دلت العلامة على أن أكثر ماله حرام وإلا كان السؤال ورعا. انتهى.
والقياس عدم وجوب السؤال، وإن دلت العلامة على أن أكثره حراسم، وإيجاب الغزالي به مبني على طريقته، أنه حرام معاملة من أكثر ماله حرام، ومر أنه طريقة شاذة، فإن عرف من حاله ما يحصل ظن حل ماله، حرام السؤال، أو ظن حرمته وجب السؤال. انتهى. والقياس أن لا وجوب نظير الذي قبله، قال: ولو تعلق الشك بالمال بأن اختلط حلال بحرام في سوق فلا يلزم المشتري من أهله السؤال إلا إن غلب الحرام. انتهى.
والقياس عدم الوجوب، وإن غلب الحرام ثم رأيت بعضهم أشار في بعض تلك الصور إلى ما ذكرته من بناء السؤال على رؤية حرمة معاملة من أكثر ماله حرام، والمذهب خلافه في الأنوار: لا يجوز مبايعة من حرم ماله كله، كالخمار، والمكاس، والبغي، ويجب السؤال ممن يعرف حال أمواله، ولا تسأل عنه إذ لا ثقة بقوله، والورع لمن يشتري شيئا للأكل أوغيره أن يشتري بثمن في ذمته، فإنه يملكه قطعا وعند الشراء بالعين لا يقطع بذلك. وظاهر: أنه إنما يقطع بملك المبيع إذا قطع بملك بائعه له، لكونه اصطاده مثلا، بخلاف من ملكه بمعاوضة، أو مجانا، وإنما يأتي الشك في الثمن العين، حيث لم يقطع بملك المشتري به لكونه أخذه من معدن مثلا، وإلا فلا شك وإن أخذ من غيره مالا بتمليك بعوض أو بغيره أو بإباحة ظانا أنه ملكه اعتمادا على الظاهر، وأكله وهو مغصوب في الباطن، فهل يطالب بما أكله في الآخرة؟ أفتى البغوي بأن المأخوذ منه إن كان ظاهره الخير فأرجو أن لا يطالب، أو ممن يلطخ ماله بالحرام طولب به. انتهى.