المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف - تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار - جـ ٣

[الجبرتي]

الفصل: ‌ سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف

وصل إلى حماة فلم يتمكن من الدخول إليها ومنعه أهلها عنها وطردوه فذهب إلى سيجر وارتحل منها إلى بلدة يعمل بها البارود ومنها إلى بلدة تسمى ريمة ونزل عند سعيد اغا فأقام عنده ثلاثة أيام ثم توجه إلى نواحي انطاكية بصحبته جماعة من عند سعيد اغا المذكور ثم إلى السويدة ولم يبق معه سوى فرس واحد ثم أنه أرسل إلى محمد علي باشا صاحب مصر وأستاذنه في حضوره إلى مصر فكاتبه بالحضور إليه والترحيب به فوصل إلى مصر في التاريخ المذكور فلاقاه صاحب مصر واكرمه وقدم إليه خيولا وقماشا ومالا وانزله بدار واسعة بالازبكية ورتب له خروجا زائدة من لحم وخبز وسمن وأرز وحطب وجميع اللوازم المحتاج إليها وانعم عليه بجوار وغير ذلك وأقام بمصر هذه المدة وأرسل في شانه الدولة وقبلت شفاعة محمد علي باشا فيه ووصله العفو والرضا ما عدا ولاية الشام وحصلت فيه علة ذات الصدر فكان يظهر به شبه السلعة مع الفواق بصوت يسمعه من يكون بعيداغ عنه ويذهب إليه جماعة الحكماء من الافرنج وغيرهم ويطالع في كتب الطب مع بعض الطلبة من المجاورين فلم ينجع فيه علاج وانتقل إلى قصر الاثار بقصد تبديل الهواء ولم يزل مقيما هناك حتى اشتد به المرض ومات في ليلة السبت العشرين من شهر ذي القعدة وحملت جنازته من الاثار إلى القرافة من ناحية الخلاء ودفن بالحوش الذي انشأه الباشا واعده لموتاه وكان مدة اقامته بمصر نحو ستة سنوات فسبحان الحي الذي لا يموت الدائم الملك السلطان.

ص: 546

ودخلت‌

‌ سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف

واستهل المحرم بيوم الخميس وحاكم مصر والمتولي عليها وعلى ضواحيها وثغورها من حد رشيد ودمياط إلى اسوان واقصى الصعيد واسكاسة القصير والسويس وساحل القلزم وجدة ومكة والمدينة والاقطار الحجازية بأسرها محمد علي باشا القوللي ووزيره وكتخداه محمد اغا لاظو والدفتردار محمد بك صهر الباشا وزوج ابنته واغات الباب إبراهيم اغا ومدبر أمور البلاد والاطيان والرزق والمساحات وقبض الأموال الميرية.

ص: 546

وحساباتها ومصاريفها محمود بك الخازندار والسلحدار سليمان اغا حاكم الوجه القبلي محمد بك الدفتردار صهر الباشا عوض إبراهيم باشا ولد الباشا لانفصاله عن إمارة الوجه القبلي وسفره إلى الحجا انفار لمحاربة الوهابيين وباقي أمراء الدولة مثل عابدين بك وإسمعيل باشا ابن الباشا وخليل باشا وهو الذي كان حاكم الاسكندرية سابقا وشريف اغا وحسين بك دالي باشا وحسين بك الشماشرجي وحسن بك الشماشرجي الذي كان حاكما بالفيوم وغير هؤلاء وحسن اغا اغات الينكجرية وعلي آغا الوالي وكاتب الروزنامة مصطفى أفندي وحسن باشا بالديار الحجازية وشاة بندر التجار السيد محمد المحروقي وهو المتعين لمهات الاسفار وقوافل العربان ومخاطباتهم وملاقاة الأخبار الواصلة من الديار الحجازية والمتوجه إليها واجر المحمول وشحنة السفن ولوازم الصادرين والواردين والمتجعين والمقيمين والراحلين والمتعهد بجميع فرق القبائل والعشير وغوائلهم ومحاكماتهم وارغابهم وارهابهم وسياستهم على اختلاف اخلاقهم وطباعهم وهو المتعين أيضا لفصل قضايا التجار والباعة وأرباب الحرف البلدية وفصل خصوماتهم ومشاجرتهم وتأديب المنحرفين منهم والنصابين وبعوثات الباشا ومراسلاته ومكاتباته وتجارته وشركاته وابتداعاته واجتهاده في تحصيل الأموال من كل وجه واي طريق ومتابعة توجيه السرايا والعساكر والذخائر إلى نواحي الحجاز للاغارة على بلاد الوهابية وأخذ الدرعية مستمر لا ينقطع والعرضي منصوب خارج باب النصر وباب الفتوح وإذا ارتحلت طائفة خرجت أخرى مكانها.

وفيه سومحت أرباب الحرف والباعة والزياتون والجزارون والخضرية والخبازون ونحوهم من المسانهات والمشاهرات واليوميات الموظفة عليهم للمحتسب ونودي برفعها إمام المحتسب في الأسواق وعوض المحتسب عنها بخمسة أكياس كل شهر يستوفيها من الخزينة وعملوا تسعيرا بترخيص اسعار المبيعات بدلا عما كانوا يعرفونه للمحتسب من غير مراعاة النسبة

ص: 547

والمعادلة في غالب الأصناف فإن العادة عند اقبال وجود الفاكهة أو الخضراوات تباع بأغلى ثمن لعزتها وقلتها حينئذ وشهوة الطباع واشتياق النفوس لجديد الأشياء وزهدها في القديم الذي تكرر استعماله وتعاطيه كما يقال: لكل جديد لذة فلم يراعوا ذلك ولم ينظروا في أصول الأشياء أيضا فإن غالب الأصناف داخل في المحتكرات وزيادة المكوس الحادثة في هذه السنين وما يضاف إلى ذلك من طمع الباعة والسوقة وغشهم وقبحهم وعدم ديانتهم وخبث طباعهم فلما نودي بذلك وسمع الناس رخص المبيعات ظنوا بغفلتهم حصول الرخاء ونزلوا على المبيعات مثل الكلاب السعرانة وخطفوا ما كان بالأسواق بموجب التسعيرة من اللحم وأنواع الخضراوات والفاكهة والادهان فلما أصبح اليوم الثاني لم يوجد بالأسواق شئ من ذلك واغلقت الفكهانية حوانيتهم واخفوا ما عندهم وطفقوا يبيعونه خفية وفي الليل بالثمن الذي يرتضونه والمحتسب يكثر الطواف بالأسواق ويتجسس عليهم ويقبض على من اغلق حانوته أو وجدها خالية أو عثر عليه أنه باع بالزيادة وينكل بهم ويسحبهم مكشوفين الرؤوس مشنوقين وموثقين بالحبال ويضربهم ضربا مؤلما ويصلبهم بمفارق الطرق مخزومين الانوف ومعلق فيها النوع المزاد في ثمنه فلم يرتجعوا عن عادتهم ثم أن هذه المناداة والتسعيرة ظاهرها الرفق بالرعية ورخص الاسعار وباطنها المكر والتحيل والتوصل لما سيظهر بعد عن قريب وذلك أن ولي الأمر لم يكن له من الشغل إلا صرف همته وعقله وفكرته في تحصيل المال والمكاسب وقطع أرزاق المسترزقين والحجر والاحتكار لجميع الأسباب ولا يتقرب إليه من يريد قربه إلا بمساعدته على مراداته ومقاصده ومن كان بخلاف ذلك فلا حظ له معه مطلقا ومن تجاسر عليه من الوجهاء بنصح أو فعل مناسب ولو على سبيل التشفع حقد عليه وربما اقصاه وابعده وعاداه معاداة من لا يصفوا ابدا وعرفت طباعه واخلاقه في دائرته وبطانته فلم يمكنهم إلا الموافقة والمساعدة في مشروعاته أما رهبة أو خوفا على سيادتهم ورياستهم

ص: 548

ومناصبهم وأما رغبة وطمعا وتوصلا للرياسة والسيادة وهم الأكثر وخصوصا اعداء الملة من نصارى الارمن وأمثالهم الذين هم الآن اخصاء لحضرته ومجالسته وهم شركاؤه في أنواع المتاجر وهم أصحاب الراي والمشورة وليس لهم شغل ودرس إلا فيما يريد حظوتهم ووجاهتهم عند مخدومهم وموافقة اغراضه وتحسين مخترعاته وربما ذكروه ونبهوه على أشياء تركها أو غفل عنها من المبتدعات وما يتحصل منها من المال والمكاسب التي يسترزقها أرباب تلك الحرفة لمعاشهم ومصاريف عيالهم ثم يقع الفحص على أصل الشئ وما يتفرع منه وما يؤل إذا احكم أمره وانتظم ترتيبه وما يتحصل منه بعد التسعير الذي يجعلونه مصاريف الكتبة والمباشرين ابرزت مبادية في قالب العدل والرفق بالرعية ولما وقع الالتفات إلى أمر المذابح والسلخانة وما يتحصل منها وما يكتسبه الموظفون فيها فأول ما بدؤا به ابطال جميع المذابح التي بجهات مصر والقاهرة وبولاق خلاف السلخانة السلطانية التي خارج الحسينية وتولى رياستها شخص من الاتراك ثم سعرت هذه التسعيرة فجعل الرطل الذي يبيعه القصاب بسبعة انصاف فضة وثمنه على القصاب من المذبح ثمانية انصاف ونصف وكان يباع قبل هذه التسعيرة بالزيادة الفاحشة فشح وجود اللحم واغلقت حوانيت الجزارين وخسروا في شراء الاغنام وذبحها وبيعها بهذا السعر وانهي أمر شحة اللحم إلى ولي الأمر وأن ذلك من قلة المواشي وغلوا ثمان مشترواتها على الجزارين وكثرة رواتب الدولة والعساكر واشيع أنه أمر بمراسيم إلى كشاف الاقاليم قبلي وبحري لشراء الاغنام من الارياف لخصوص رواتبه ورواتب العسكر والخاصة وأهل الدولة ويترك ما يذبحه جزار والمذبح لأهل البلدة وعند ذلك ترخص الاسعار ثم تبين خلاف ذلك وأن هذه الاشاعة توطئة وتقدمة لما سيتلى عن قريب.

وفي منتصفه وصلت اغنام وعجول وجواميس من الارياف هزيلة وازدادت باقامتها هزالا من الجوع وعدم مراعاتها فذبحوا منها بالمذابح

ص: 549

أقل من المعتاد وزعت على الجزارين فيخص الشخص منهم الاثنان أو الثلاثة فعند ما يصل إلى حانوته وهو مثل الحرامي فيتخاطفها العساكر التي بتلك الخطة وتزدحم الناس فلا ينوبهم شئ وتذهب في لمح البصر ثم امتنع وجودها واستمر الحال والناس لا يجدون ما يطبخونه لعيالهم وكذلك امتنع وجود الخضراوات فكان الناس لا يحصلون القوت إلا بغاية المشقة واقتاتوا بالفول والمصلوق والعدس والبيصار ونحو ذلك وانعدم وجود السمن والزيت والشيرج وزيت البزر وزيت القرطم لاحتكارها لجهة الميري واغلقت المعاصر والسيارج وامتنع وجود الشمع العسل والشمع المصنوع من الشحم لاحتكار الشحم والحجز على عمال الشمع فلا يصنعه الشماعون ولا غيرهم ونودي على بيع الموجود منه بأربعة وعشرين نصفا وكان يباع بثلاثين وأربعين فاخفوه وطفقوا يبيعونه خفية بما احبوا وانعدم وجود بيض الدجاج لجعلهم العشرة منه بأربعة انصاف وكان قبل المناداة اثنان بنصف وكل ذلك والمحتسب يطوف بالأسواق والشوارع ويشدد على الباعة ويؤلمهم بالضرب والتجريس وفقد وجود الدجاج فلا يكاد يوجد بالأسواق دجاجة لأنه نودي على الدجاجة باثني عشرة نصفا وكان الثمن عنها قبل ذلك خمسة وعشرين فأكثر.

واستهل شهر صفر الخير سنة 1232

فيه حضر المعلم غالي من الجهة القبلية ومعه مكاتبات من محمد بك الدفتردار الذي تولى إمارة الصعيد عوضا عن إبراهيم باشا ابن الباشا الذي توجه إلى البلاد الحجازية لمحاربة الوهابية يذكر فيها نصح المعلم غالي وسعيه في فتح أبواب تحصيل الأموال للخزينة وأنه ابتكر أشياء وحسابات يتحصل منها مقادير كثيرة من المال فقوبل بالرضا والاكرام وخلع عليه الباشا واختص به وجعله كاتب سره ولازم خدمته وأخذ فيما ندب إليه وحضر لاجله التي منها حسابات جميع الدفاتر واقلام المبتدعات ومباشريها وحكام الأقاليم

ص: 550

وفيه تجردت عدة عساكر اتراك ومغاربة إلى الحجاز وصحبتهم أرباب صنائع وحرف.

وفيه أرسل الباشا إلى بندر السويس اخشابا وادوات عمارة وبلاط كذان وحديدا وصناعا بقصد عمارة قصر لخصوصة إذا انزل هناك.

واستهل شهر ربيع الأول سنة 1232.

فيه شحت المبيعات والغلال والادهان وغلا سعر الحبوب وقل وجودها في الرقع والسواحل فكان الناس لا يحصلون شيئا منها إلا بغاية المشقة.

وفيه عزل الباشا حكام الاقاليم والكشاف ونوابهم وطلبهم للحضور وأمر بحسابهم وما أخذوه من الفلاحين زيادة على مافرضه لهم وأرسل من قبله أشخاصا مفتشين للفحص والتجسس على ماعسى يكون أخذوه منهم من غير ثمن فأخذوا يقررون المشايخ والفلاحين ويحررون أثمان مفرق الأشياء من غنم أو دجاج أو تبن أو عليق أو بيض أو غير ذلك في المدة التي اقامها احدهم بالناحية فحصل للكثير من قائم مقاماتهم الضرر وكذلك من انتمى إليهم فمنهم من اضطر وباع فرسه واستدان.

وفيه حضر علي كاشف من شرقية بلبيس معزولا عن كشوفيتها وقلدها خلافه وكان كاشفا بالإقليم عدة سنوات وكذلك جرى لكاشف المنوفية والغربية وحضر أيضا حسن بك الشماشرجي من الفيوم معزولا ووجهه الباشا إلى ناحية درنة لمحاربة أولاد علي.

واستهل شهر ربيع الثاني سنة 1232

فيه حصل الحجز والمنع على من يذبح شيئا من المواشي في داره أو غيرها ولا يأخذ الناس لحوم اطعمتهم إلا من المذبح واوقفت عساكر بالطرق رصدا لمن يدخل المدينة بشيء من الاغنام وذلك أنه لما نزلت المراسيم إلى الكشاف بمشترى المواشي من الفلاحين وارسالها إلى المكان الذي اعده الباشا لذلك ويؤخذ منها مقدار ما يذبح بالسلخانة في كل يوم لرواتب الدولة

ص: 551

والبيع طلب كشاف النواحي شراء الاغنام والعجول والجواميس بالثمن القليل من أربابها فهرب الكثير من الفلاحين باغنامهم فيخرجون من القرية ليلا ويدخلون المدينة ويمرون بها في الأسواق ويبيعونها بما احبوا من الثمن على الناس فانكب الناس على شرائها منهم لجودتها ويشترك الجماعة في الشاة فيذبحونها ويقسمونها بينهم وذلك لقلة وجدان اللحم كما سبقت الاشارة إليه وأن تيسر وجوده فيكون هزيلا رديئا فإن في كل يوم ترد الجملة الكثيرة من بحرى وقبلي إلى المكان المعد لها ولم يكن ثم من يراعيها بالعلف والسقي فتهزل وتضعف فلما كثر ورود الفلاحين بالأغنام وشراء الناس لها ووصل خبر ذلك إلى الباشا فأمر بوقوف عساكر على مفارق الطرق خارج المدينة من كل ناحية فيأخذون الشاة من الفلاحين أما بالثمن أو يذهب صاحبها معها إلى المذبح فتذبح في يومها ومن الغد ويوزن اللحم خالصا ويعطى لصاحبها ثمنه عن كل رطل ثمانية فضة ونصف ويوزن على الجزارين بذلك الثمن بما فيه من القلب والكبد والمنحر والمذاكير والمخرج بما فيه من الزبل أيضا والجزارون يبيعونها على من يشتري لشدة الطلب بزيادة النصف والنصفين بل والثلاثة والأربعة أن كان به نوع جودة وأما الاسقاط من الرؤوس والجلود والكروش فهو للميري وكذلك يفعل فيما يرد لخاصة الناس من الاغنام يفعل بها كذلك ولايأخذ إلا قدر راتبه في كل يوم من المذبح.

وفيه شح وجود الغلال في الرقع والسواحل حتى امتنع وجود الخبز في الأسواق فأخرج الباشا جانب غلة ففرقت على الرقع وبيعت على الناس وهي ألف اردب انفضت في يومين ولا يبيعون ازيد من كيلة أو كيلتين وبيع الاردب بألف ومائتين وخمسين نصفا.

وفيه افرد محل لعمل الشمع الذي يعمل من الشحوم بعطفة ابن عبد الله بك جهة السروجية واحتكروا لأجل عمله جميع الشحوم التي من المذبح وغيره وامتنع وجود الشحم من حوانيت الدهانين ومنعوا من يعمل

ص: 552

شيئا من الشمع في داره أو في القوالب الزجاج وتتبعوا من يكون عنده شيء منها فأخذوها منه وحذروا من عمله خارج المعمل كل التحذير وسعروا رطله بأربعة وعشرين نصفا.

واستهل شهر جمادي الأولى سنة 1232

وفيه حول معمل الشمع إلى الحسينية عند الدرب الذي يعرف بالسبع والضبع.

وفيه ارتحلت عساكر مجردة إلى الحجاز.

وفيه برزت أوامر إلى كشاف النواحي باحصاء عدد اغنام البلاد والقرى ويفرض عليها كل عشرة شياه واحدة من اعظمها أما كبش أو نعجة بأولادها يجمعون ذلك ويرسلون به إلى مجمع اغنام الباشا وفرض أيضا على كل فدان رطلا من السمن يجمع الارطال مشايخ البلاد من الفلاحين عند كشاف النواحي ويرسلونها إلى مصر وسبب هذه المحدثه أنه لما عملت التسعيرة وتسعر رطل السمن بستة وعشرين نصفا ويبيعه السمان والزيات بزيادة نصفين امتنع وجوده وظهوره فيأتي به الفلاح ليلا في الخفية ويبيعه للزبون أو للمتسبب بما احب ويبيعه المتسبب أيضا بالزيادة لمن يريده سرا فيبيعون الرطل بأربعين وخمسين ويزيد على ذلك غش المتسبب وخلطه بالدقيق والقرع والشحم وعكر اللبن فيصفو على النصف ولايقدر مشتريه على رد غشه للبائع لأنه ما حصله إلا بغاية المشقة والعزة والانكار والمنع وأن فعل لا يجد من يعطيه ثانيا وتقف الطائفة من العسكر بالطرق ليلا وفي وقت الغفلات يرصدون الواردين من الفلاحين ويأخذونه منهم بالقهر ويعطونهم ثمنه بالسعر المرسوم ويحتكرونه هم أيضا ويبيعونه لمن يشتريه منهم بالزيادة الفاحشة فامتنع وروده إلا في النادر خفية مع الغرر أو الخفارة والتحامي في بعض العساكر من أمثالهم واشتد الحال في انعدام السمن حتى على أكابر الدولة فعند ذلك ابتدع الباشا هذه البدعة وفرض على كل فدان من طين الزراعات رطلا من السمن ويعطى في ثمن الرطل عشرين

ص: 553

نصفا فاشتغلوا بتحصيل ما دهمهم من هذه النازلة وطولب المزارع بمقدار ما يزرعه من الافدنة ارطالا من السمن ومن لم يكن متاخرا عنده شيء من سمن بهيمته أو لم يكن له بهيمة أو احتاج إلى تكملة موجود عنده فيشتريه ممن يوجد عنده باغلى ثمن ليسد ما عليه اضطرار اجزاء وفاقا.

وفيه حصل الاذن بدخول ما دون العشرة من الاغنام إلى المدينة وكذلك الاذن لمن يشتري شيئا منها من الأسواق وسبب اطلاق الاذن بذلك مجيء بعض اغنام إلى أكابر الدولة ولا غنى عن ذلك لا دني منهم أيضا وحجزوا عن وصولها إلى دورهم فشكوا إلى الباشا فأطلق الاذن فيما دون العشرة.

وفيه أيضا امتنع وجود الغلال بالعرصات والسواحل بسبب احتكارها واستمرار انجرارها ونقلها في المراكب قبلي وبحري إلى جهة الاسكندرية للبيع على الافرنج بالثمن الكثير كما تقدم ووجهت المراسيم إلى كشاف النواحي بمنع بيع الفلاحين غلالهم لمن يشتري منهم من المتسببين والتراسين وغيرهم وبأن كل ما احتاجوا لبيعه مما خرج لهم من زراعتهم يؤخذ لطرف الميري بالثمن المفروض بالكيل الوافي واشتد الحال في هذا الشهر وما قبله حتى قل وجود الخبز من الأسواق بل امتنع وجوده في بعض الأيام واقبلت الفقراء نساء ورجالا إلى الرقع بمقاطفهم ورجعوا بها فوارغ من غير شيء وزاد الهول والتشكي وبلغ الخبر الباشا فأطلق أيضا ألف اردب توزع على الرقع ويباع على الناس أما ربع واحد وكيلة فقط وكل ربع ثمنه قرش فيكون الاردب بأربعة وعشرين قرشا.

وفيه حضر حسن بك الشماشرجي من ناحية درنة وبلد أخرى يقال لها: سيوة وصحبته فرقة من أولاد علي وذلك أن أولاد علي افترقوا فرقتين احدهما طائعة والأخرى عاصية عن الطاعة ومنحازون إلى هذه الناحية فجرد الباشا عليهم حسن بك المذكور فحاربهم فهزمهم وهزموه ثانيا فرجع إلى مصر فضم إليه الباشا جملة من العساكر وأصحب معه الفرقة الأخرى الطائعة فسار الجمع ودهموهم على حين غفلة وتقدم لحربهم اخوانهم

ص: 554

الطائعة وقتلوا منهم واغاروا على مواشيهم واباعرهم واغنامهم فأرسلوا المنهوبات إلى جهة الفيوم وفي ظن العرب أن الغنائم تطيب لهم وحضر حسن بك وصحبته كبار العرب من أولاد علي الطائعين وفي ظنهم الفوز بالغنيمة وأن الباشا لا يطمع فيها لكون النصرة كانت بأيديهم وأنه يشكرهم ويزيدهم انعاما وكانوا نزلوا ببر الجيزة وحضر حسن بك إلى الباشا فطلب كبار العرب ليخلع عليهم ويكسوهم فلما حضروا إليه أمر بحبسهم واحضار الغنيمة من ناحية الفيوم بتمامها فأحضروها بعد أيام واطلقهم فيقال: إن الاغنام ستة عشر ألف رأس أو أكثر ومن الجمال ثمانية الاف جمل وناقة وقيل أكثر من ذلك.

وفيه نجزت عمارة السواقي التي انشأها الباشا بالأرض المعروفة برأس الوادي بناحية شرقية بلبيس قيل أنها تزيد على ألف ساقية وهي سواقي دواليب خشب تعمل في الأرض التي يكون منبع الماء فيها قريبا واستمر الصناع مدة مستطيلة في عمل آلاتها عند بيت الجبجي وهو بيت الرزاز الذي جهة التبانة بقرب المحجر وتحمل على الجمال إلى الوادي هناك المباشرون للعمل المقيدون بذلك وغرسوا بها اشجار التوت الكثيرة لتربية دود القز واستخراج الحرير كما يكون بنواحي الشام وجبل الدروز ثم برزت الأوامر إلى جميع بلاد الشرقية بأشخاص انفار من الفلاحين البطالين الذين لم يكن لهم اطيان فلاحة يستوطنون بالوادي المذكور وتبنى لهم كفور يسكنون فيها ويتعاطون خدمة السواقي والمزارع ويتعلمون صناعة تربية القز والحرير واستجلب اناسا من نواحي الشام والجبل من أصحاب المعرفة بذلك ويرتب للجميع نفقات إلى حين ظهور النتيجة ثم يكونون شركاء في ربع المتحصل ولما برزت المراسيم بطلب الأشخاص من بلاد الشرق اشيع في جميع قرى الاقاليم المصرية اشاعات وتقولوا اقاويل منها: أن الباشا يطلب من كل بلدة عشرة من الصبيان البالغين وعشرة من البنات يزوجهم بهن ويمهرهن من ماله ويرتب لهم نفقات إلى بدو صلاح

ص: 555

المزارع ثم اشاعوا الطلب للصبيان الغير مختونين ليرسلهم إلى بلاد الافرنج ليتعلموا الصنائع التي لم تكن بأرض مصر وشاع ذلك في أهل القرى وثبت ذلك عندهم فختن الجميع صبيانهم ومنهم من أرسل ابنه أو بنته وغيبها عند معارفه بالمدينة إلى غير ذلك من الاقاويل التي لم يثبت منها إلا ما ذكر أولا من أن المطلوب جلب الفلاحين البطالين من بلدة الشرقية لاغير وقد تعمر هذا الوادي بالسواقي والاشجار والسكان من جميع الاجناس وانتشأ دنيا جديدة متسعة لم يكن لها وجود قبل ذلك بل كانت برية خرابا وفضاء واسعا.

وفيه سافر جملة من عساكر الاتراك والمغاربة وكبيرهم إبراهيم اغا الذي كان كتخدا إبراهيم باشا ثم تولى كشوفية المنوفية وصحبته خزينة وجبخانة ومطلوبات لمخدومه.

واستهل شهر جمادي الثانية بيوم الثلاثاء سنة 1232

في أوائله حضر إلى مصر بن يوسف باشا حاكم طرابلس ومعه اخوه اصغر منه يستأذنان الباشا في حضور والدهما إلى مصر فارا من والده وكان ولاه على ناحية درنة وبنى غازي فحصل منه ما غير خاطر والده عليه وعزم على أن يجرد عليه فأرسل أولاده إلى صاحب مصر بهدية ويستأذن في الحضور إلى مصر والإلتجاء إليه فأذن له في الحضور وهو ابن اخي الذي بمصر أولا وسافر مع الباشا إلى الحجاز ورجع إلى مصر واستمر ساكنا بالسبع قاعات.

وفيه وصل الخبر بأن إبراهيم اغا الذي سافر مع الجردة لما وصل إلى العقبة أمر من بصحبته من المغاربة والعسكر بالرحيل فلما ارتحلوا ركب هو في خاصته وذهب على طريق الشام.

وفي ليلة الأربعاء سادس عشره وصل جراد كثير ليلا ونزل ببستان الباشا بشبرا وتعلق بالاشجار والزهور وصاحت الخولة والبستانجية وأرسل الباشا إلى الحسينية وغيرها فجمعوا مشاعل كثيرة واوقدوها

ص: 556

وضربوا بالطبول والصنوج النحاس لطرده وأمر الباشا لكل من جمع منه رطلا فله قرشان فجمع الصبيان والفلاحون منه كثيرا.

ثم في ليلة السبت تاسع عشرة قبل الغروب وصل جراد كثير من ناحية المشرق مارا بين السماء والأرض مثل السحاب وكان الريح ساكنا فسقط منه الكثير على الجنائن والمزارع والمقاثيء فلما كان في نصف الليل هبت رياح جنوبية واستمرت واشتد هبوبها عند انتصاف النهار واثارت غبارا اصفر وعبوقا بالجو ودامت إلى بعد العصر يوم السبت فطردت ذلك الجراد واذهبته فسبحان الحكيم المدبر اللطيف.

وفي يوم الأحد طاف مناد اعمى يقوده آخر بالأسواق ويقول في ندائه: من كان مريضا أو به رمدا وجراحه وادارة فليذهب إلى خان بالموسكي به أربعة من حكماء الافرنج اطباء يداوونه من غير مقابلة شيء فتعجب الناس من هذا وتحاكوه وسعوا إلى جهتهم لطلب التداوي.

وفيه حضر ابن باشت طرابلس ودخل إلى المدينة وصحبته نحو المائتي نفر من اتباعه فانزله الباشا في منزل أم مرزوق بك بحارة عابدين واجرى عليه النفقات والراواتب له ولأتباعة.

وفي يوم الخميس حادي عشرينه وصل خبر الاطباء ومناداتهم إلى كتخدا بك فأحضر حكيم باشا وسأله فأنكر معرفتهم وأنه لاعلم عنده بذلك فامر باحضارهم وسألهم فخلطوا في الكلام فأمر بإخراجهم من البلدة ونفوهم في الحال وذهبوا إلى حيث شاء الله ولو فعل مثل هذه الفعلة بعض المسلمين لجوزي بالقتل أو الخازوق وكان صورة جلوسهم أن يجلس احدهم خارج المكان والآخر من داخل وبينهما ترجمان ويأتي مريد العلاج إلى الأول وهو كأنه الرئيس فيجس نبضه أو بيضه وكأنه عرف علته ويكتب له ورقة فيدخل مع الترجمان بها لآخر بدخل المكان فيعطيه شيئا من الدهن أو السفوف أو الحب المركب ويطلب منه أما قرشا أو قرشين أو خمسة بحسب الحال وذلك ثمن الدواء لا غير وشاع ذلك وتسامع به الناس وأكثرهم

ص: 557

معلول من طبيعتهم التقليد والرغبة في الوارد الغريب فتكاثروا وتزاحموا عليهم فجمعوا في الأيام القليلة جملة من الدراهم واستلطف الناس طريقتهم هذه بخلاف ما يفعله الذي يدعون التطبيب من الافرنج واصطلاحهم إذا دعى الواحد منهم لمعالجة المريض فأول ما يبدا به نقل قدمه بدراهم يأخذها أما ريال فرانسة أو أكثر بحسب الحال والمقام ثم يذهب إلى المريض فيجسه ويزعم أنه عرف علته ومرضه وربما هول على المريض داءه وعلاجه ثم يقأول على سعيه في معالجته بمقدار من الفرانسة أما خمسين أو مائة أو أكثر بحسب مقام العليل ويطلب نصف الجعالة ابتداء ويجعل على كل مرة من التردادات عليه جعالة أيضا ثم يزاوله بالعلاجات التي تجددت عندهم وهي مياه مستقطرة من الاعشاب أو ادهان كذلك يأتون بها للمرضى في قوارير الزجاج اللطيفة في المنظر يسمونها بأسماء بلغاتهم ويعربونها بدهن البادزهر واكسير الخاصة ونحو ذلك فإن شفى الله العليل أخذ منه بقية ما قاوله عليه أو اماته طالب الورثة بباقي الجعالة وثمن الادوية طبق ما يدعيه وإذا قيل له أنه قد مات قال في جوابه: إني لم اضمن اجله وليس على الطبيب منع الموت ولا تطويل العمر وفيهم من جعل له في كل يوم عشرة من الفرانسة.

وفيه راى رايه حضرة الباشا حفر بحر عميق يجري إلى بركة عميقة تحفر أيضا بالإسكندرية تسير فيها السفن بالغلال وغيرها ومبدؤها من مبدأ خليج الاشرفية عند الرحمانية فطلب لذلك خمسين ألف فاس ومسحة يصنعها صناع الحديد وأمر بجمع الرجال من القرى وهم مائة ألف فلاح توزع على القرى والبلدان للعمل والحفر بالأجرة وبرزت الأوامر بذلك فارتبك أمر الفلاحين ومشايخ البلاد لأن الأمر برز بحضور المشايخ وفلاحيهم فشرعوا في التشهيل وما يتزودون به في البرية ولا يدرون مدة الإقامة فمنهم من يقدرها بالسنة ومنهم باقل أو أكثر.

واستهل شهر رجب بيوم الأحد سنة 1232

في ثانيه يوم الإثنين الموافق لثاني عشر بشنس القبطي وسابع آيار الرومي

ص: 558

قبل الغروب بنحو ساعة تغير الجو بسحاب وقتام وحصل رعد متتابع واعقبه مطر بعد الغروب ثم انجلى ذلك والسبب في ذكر مثل هذه الجزئية شيئان الأول وقوعها في غير زمانها لما فيه من الاعتبار بخرق العوائد والثاني الاحتياج إليها في بعض الاحيان في العلامات السماوية وبالأكثر في الوقائع العامية فإن العامة لا يؤرخون غالبا باللأعوام والشهور بل بحادثة ارضية أو سماوية خصوصا إذا حصلت في غير وقتها أو ملحمة أو معركة أو فصل أو مرض عام أو موت كبير أو أمير فإذا سئل الشخص عن وقت مولده أو مولد ابنه أو ابنته أو موت أبيه أو سنة بولغه سن الرشد يقول: كان بعد الحادثة الفلانية بكذا من الأيام ثم لا يدري في أي شهر أو عام وخصوصا إذا طال الزمان بعدها وقد تكرر الاحتياج إلى تحرير الوقت في مسائل شرعية في مجلس الشرع في مثل الحضانة والعدة والنفقة وسن اليأس ومدة غيبة المفقود بأن يتفق قولهم على أن الصبي ولد يوم السيل الذي هدم القبور أو يوم موت الأمير فلان أو الواقعة الفلانية ويختلفون في تحقيق وقتها عند ذلك يحتاجون إلى السؤال ممن عساه يكون ارخ وقتها وفي غير وقت الاحتياج يسخرون بمن يشغل بعض أوقاته بشيء من ذلك لاعتيادهم اهمال العلوم التي كان يعتني بتدوينها الأوائل إلا بقدر إقامة الناموس الذي يحصلون به الدنيا ولولا تدوين العلوم وخصوصا علم الأخبار ما وصل الينا شيء منها ولا الشرائع الواجبة ولا يشك شاك في فوائد التدوين وخصائصه بنص التنزيل قال تعالى: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} .

وفي عاشره وصلت هجانة وأخبار عن إبراهيم باشا من الحجاز بأنه وصل إلى محل يسمى الموتان فوقع بينه وبين الوهابية وقتل منهم مقتلة عظيمة وأخذ منهم أسرى وخياما ومدفعين فضربوا لتلك الأخبار مدافع سرورا بذلك الخبر.

ص: 559

وفي يوم الأربعاء ثامن عشره سافر الباشا إلى اسكلة السويس وصحبته السيد محمد المحروقي ليتلقى سفائنه الواصلة بالبضائع الهندية.

واستهل شهر شعبان بيوم الإثنين سنة 1232

وفيه رجع الباشا من السويس واخلوا للبضائع الواصلة ثلاث خانات توضع في حواصلها ثم توزع على الباعة بالثمن الذي يفرضه.

وفيه وصل الخبر اياضا بوصول سفائن إلى بندر جدة وفيها ثلاثة من الفيلة.

وفيه قوى اهتمام الباشا لحفر الترعة الموصلة إلى الاسكندرية كما تقدم وأن يكون عرضها عشرة اقصاب والعمق أربعة اقصاب بحسب علو الأراضي وانخفاضها وتعينت كشاف الاقاليم لجمع الرجال وفرضوا اعدادهم بحسب كثرة أهل القرية وقلتها وعلى كل عشرة أشخاص شخص كبير وجمعت الغلقان ولكل غلق فأس وثلاثة رجال لخدمته واعطوا كل شخص خسمة عشر قرشا ترحيلة ولكل شخص ثلاثون نصفا في اجرته كل يوم وقت العمل وحصل الاهتمام لذلك في وقت اشتغال الفلاحين بالحصيدة والدراس وزراعة الذرة التي هي معظم قوتهم وشرعوا في تشهيل احتياجاتهم وشراء القرب للماء فإن بتلك البرية لا يوجد ماء إلا ببعض الحفائر التي يحفرها طالب الماء وقد تخرج مالحة لأنها اراض مسبخة وتعين جماعة من مهندسخانة ونزلوا مع كبيرهم لمساحتها وقياسها فقاسوا من فم ترعة الاشرفية حيث الرحمانية إلى حد الحفر المراد بقرب عمود السواري الذي بالاسكندرية فبلغ ذلك ستة وعشرين ألف قصبة ثم قاسوا من أول الترعة القديمة المعروفة بالناصرية وابتداؤها من المكان المعروف بالعطف عند مدينة فوة فكان أقل من ذلك ينقص عنه خمسة آلاف قصبة وكسر فوقع الاختيار على أن يكون ابتداؤها هناك.

وفي اثناء ذلك زاد النيل قبل المناداة عليه بالزيادة وذلك في منتصف بؤنة القبطي وغرق المقاثيء من البطييخ والخيار والعبدلاوي واهمل امر

ص: 560

الحفر في الترعة المذكورة إلى ما بعد النيل واستردت الدراهم التي اعطيت للفلاحين لأجل الترحيلة وفرحوا بذلك الاهمال وقد كان اطلق الباشا لمصارفها أربعة آلاف كيس من تحت الحساب ورجع المهندسون إلى مصر وقد صوروا صورتها في كواغد ليطلع عليها الباشا عيانا وكان رجوعهم في ثامن عشرة شعبان.

وفيه تقلد إبراهيم اغا المعروف بآغات الباب أمر تنظيم الأصناف والمحدثات وعمل معدلاتها لبيان سرقات ومخفيات المتقلدين أمر كل صنف من الأصناف بعد البحث والتفتيش والتفحص على دقائق الأشياء.

وفيه وصل نحو المائتي شخص من بلاد الروم أرباب صنائع معمرين ونجارين وحدادين وبنائين وهم مابين ارمني واجريجي ونحو ذلك.

وفيه أيضا اهتم الباشا ببناء حائطين بحري رشيد عند الطينة على يمين البغاز وشماله لينحصر فيما بينهما الماء ولاتطمى الرمال وقت ضعف النيل ويقع بسبب ذلك العطب للمراكب وتلف أموال المسافرين وقد كمل ذلك في هذا الشهر وهذه الفعلة من اعظم الهمم الملوكلة التي لم يسبق بمثلها.

وفي عشرينه شنق شخص بباب زويلة بسبب الزيادة في المعاملة وعلقوا بأنفه ريال فرانسة مع أن الزيادة سارية في المبيعات والمشتروات من غير انكار.

وفيه أيضا خزم المحتسب آناف أشخاص من الجزارين في نواحي وجهات متفرقة وعلق في آنافهم قطعا من اللحم وذلك بسب الزيادة في ثمن اللحم وبيعهم له بما احبوه من الثمن في بعض الأماكن خفية لأن الجزارين إذا نزلوا باللحم من المذبح وأكثره هزيل ونعاج ومعز والقليل من المناسب الجيد فيعلقون الرديء بالحوانيت ويبيعونه جهارا بالثمن المسعر ويخفون الجيد ويبيعونه في بعض الأماكن بما يحبون.

وفي يوم الخميس خامس عشرينه وصلت الافيال الثلاثة من السويس احدها كبير عن الإثنين ولكن متوسط في الكبر فعبروا بها من باب النصر

ص: 561

وشقوا من وسط المدينة وخرجوا بها من باب زويلة على الدرب الاحمر وذهبوا بها إلى قراميدان وهرولت الناس والصبيان للفرجة عليها وذهبوا خلفها وازدحموا في الأسواق لرؤيتها وكذلك العسكر والدلاة ركبانا ومشاة وعلى ظهر الفيل الكبير مقعد من خشب.

واستهل شهر رمضان بيوم الثلاثاء سنة 1232

وعملت الرؤية تلك الليلة وركب المحتسب وكذا مشايخ الحرف كعادتهم واثبتوا رؤية الهلال تلك الليلة وكان عسر الرؤية جدا.

وفي صبح ذلك اليوم عزل عثمان اغا الورداني من الحسبة وتقلدها مصطفى كاشف كرد وذلك لما تكرر على سمع الباشا افعال الوقة وانحرافهم وقلة طاعتهم وعدم مبالاتهم بالضرب والايذاء وخزم انوف والتجريس قال في مجلس خاصته: لقد سرى حكمي في الاقاليم البعيده فضلا عن القريبة وخافني العربان وقطاع الطريق وغيرهم خلاف سوقه مصر فأنهم لا يرتدعون بما يفعله فيهم ولاة الحسبة من الاهانة والايذاء فابدلهم من شخص يقهرهم ولا يرحمهم ولا يهملهم فوقع اختياره على مصطفى كاشف كرد هذا فقلده ذلك اطلق له الاذن فعند ذلك ركب في كبكبة وخلفه عدة من الخيالة وترك شعار المنصب من المقدمين والخدم الذين يتقدمونه وكذلك الذي إمامه بالميزان ومن بأيديهم الكرابيج لضرب المستحق والمنقص في الوزن وبات يطوف على الباعة ويضرب بالدبوس هشما بأدنى سبب ويعاقب بقطع شحمة الاذن فأغلقوا الحوانيت ومنعوا وجود الأشياء حتى ما جرت به العادة في رمضان من عمل الكعك والرقاق المعروف بالسحير وغيره فلم يلتفت لامتناعهم وغلقهم الحوانيت وزاد في العسف ولم يرجع عن سعيه واجتهاده ولازم على السعي والطواف ليلا ونهارا لا ينام الليل بل ينام لحظة وقت ما يدركه النوم في أي مكان ولو على مصطبة حانوت وأخذ يتفحص على السمن والجبن ونحوه المخزون في الحواصل ويخرجه ويدفع ثمنه لأربابه بالسعر المفروض ويوزعه لأرباب الحوانيت ليبيعوه

ص: 562

على الناس بزيادة نصف أو نصفين في كل رطل وذهب إلى بولاق ومصر القديمة فاستخرج منهما سمنا كثيرا ومعظم ذلك في مخازن العسكر فإن العسكر كانوا يرصدون الفلاحين وغيرهم فيأخذونه منهم بالسعر المفروض هو مائتان وأربعون في العشرة منه ثم يبيعونه على المحتاجين إليه بما احبوا من الزيادة الفاحشة فلم يراع جانبهم واستخرج مخباتهم قهرا عنهم ومن خألف عليه منهم ضربه وأخذ سلاحه ونكل به وذهب في بعض الأوقات إلى بولاق فاخرج من حاصل ببعض الوكائل ثلثمائة وخمسين ماعونا لكبير من العسكر فحضر إليه بطائفته فلم يلتفت إليه ووبخه وقال له: أنتم عساكر لكم الرواتب والعلائف واللحوم والاسمان وخلافها ثم تحتكرون أيضا اقوات الناس وتبيعونها عليهم بالثمن الزائد واعطاه الثمن المفروض وحمل المواعين على الجمال إلى الامكنة التي اعدها لها عند باب الفتوح وعندما رأى أرباب الحوانيت الجد وعدم الاهمال والتشديد عليهم فتح المعلق منهم حانوته واظهروا مخباتهم إمامهم وملؤا السدريات والطسوت من السمن وأنواع الجبن خوفا من بطش المحتسب وعدم رحمته بهم ويقف بنفسه على باعة البطيخ والقاوون.

وفي منتصف شهر رمضان وصلوا برمة إبراهيم بك الكبير من دنقلة وذلك أنه لما وصل خبر موته أستاذنت زوجته أم ولده الباشا في ارسالها امرأة تدعى نفيسة لإحضار رمته فأذن بذلك واعطى المتسفرة فيما بلغنا عشرة أكياس وكتب لها مكاتبات لكشاف الوجه القبلي بالمساعدة وسافرت وحضرت به في تابوت وقد جف جلده على عظمه لنحافته وذلك بعد موته بنحو ستة شهور وعملوا له مشهدا وإمامه كفارة ودفنوه بالقرافة الصغرى عند ابنه مرزوق بك.

وفي ليلة الخميس سابع عشره طلب المحتسب حجاجا الخضري الشهير بنواحي الرميلة فأخذه إلى الجمالية شنقه على السبيل المجاور لحارة المبيضة وذلك في سادس ساعة من الليل وقت السحور وتركوه معلقا لمثلها من الليلة القابلة ثم اذن برفعه فأخذه أهله ودفنوه وحجاج هو

ص: 563

الذي تقدم ذكره غير مرة في واقعة خورشيد باشا وغيرها وكان مشهورا بالإقدام والشجاعة طويل القامة عظيم الهمة وكان شيخا على طوائف الخضرية صاحب صولة وكلمة بتلك النواحي ومكارم اخلاق وهو الذي بنى البوابة باخر الرميلة عند عرصة الغلة أيام الفتنة واختفى مرار بعد تلك الحوادث وانضم إلى الالفي ثم حضر إلى مصر بامان ولم يزل على حالته في هدوء وسكون ولم يؤخذ في هذه بجرم فعله يوجب شنقه بل قتل مظلوما لحقد سابق وزجرا لغيره.

وفي يوم الإثنين ثامن عشرين شهر رمضان الموافق السادس مسرى القبطي اوفي النيل أذرعه فنودي بالوفاء وكسر السد صبح يوم الثلاثاء بحضرة كتخدا بك والقاضي وغيره وجرى الماء في الخليج ولم يقع فيه مهرجان مثل العادة هذا والمحتسب مواظب على السروح ليلا ونهارا ويعاقب بجرح الآذان والضرب بالدبوس واقعد بعض صناع الكنافة على صوانيهم التي على النار وأمر بكنس الأسواق ومواظبة رشها بالماء ووقود القناديل على أبواب الدور وعلى كل ثلاثة من الحوانيت قنديل ويركب آخر الليل ثم يذهب إلى بولاق ليتلقى الواردين بالبطيخ الاخصر والاصفر ويعرف عدة الشروات ويأمرهم بدفع مكوسها المفروضة ثم يأمرهم بالذهاب إلى مراكز بيعهم ولا يبيعون شيئا حتى يأتيهم بنفسه أو بحضرة من يرسله من طرفه ثم يعود طائفا عليهم فيحصى ما في فرش احدهم عددا ويميز الكبير بثمن والصغير بثمن ويترك عند البائع من يباشره أو يقف هو بنفسه ويبيع على الناس بما فرضه ويعطي لصاحبه الثمن والربح فيراه وقد ربح العشرة قروش وأكثر بعد مكسه ومصارفه فيقول له: أما يكفي مثلك ربح هذا القدر حتى تطمع أيضا في الزيادة عليه وهو مع ذلك يكر ويطوف على غيرهم ويحلق على ما يرد من السمن الوارد الذي تقرر على المزارعين فيزنه منهم بالسعر المفروض وهو أربعة وعشرون نصفا الرطل ويرد عليهم الفوارغ ويعطيه للبائع بالثمن المقرر وهو ستة

ص: 564

وعشرون وهم يبيعونه بزيادة نصفين في كل رطل وهو ثمانية وعشرون ويناله الناس بأسهل وجدان سالما من الخلط والغش ويامرهم باعادة ما عسى يوجد فيه من المرته والعكار إلى مواعينه ليوزن مع فوارغه ورصد أيضا ما يرد للناس ولو لأكابر الدولة من السمن فيطلق البعض ويأخذ الباقي بالثمن وكذلك ما يأتيهم من البطيخ والدجاج ولو كان لصاحب الدولة حسب اذنه له بذلك كل ذلك للحرص على كثرة وجدان الأشياء وتعدت احكامه إلى بضائع التجار والاقمشة الهندية وأهل مرجوش والمحلاوية وخلافهم وطلب قوائم مشترواتهم والنظر في مكايلهم فضاق خناق أكثر الناس من ذلك لكونهم لم يعتادوه من محتسب قبله وكأنه وصله خبر ولاة الحسبة واحكامهم في الدول المصرية القديمة فإن وظيفة امين الاحتساب وظيفة قضاء وله التحكم والعدالة والتكلم على جميع الأشياء وكان لا يتولاها إلا المتضلع من جميع المعارف والعلوم والقوانين ونظام العدالة حتى على من يتصدر لتقرير العلوم فيحضر مجلسه ويباحثه فإن وجد فيه أهلية للإلقاء اذن له بالتصدر أو منعه حتى يستكمل وكذلك الاطباء والجراحية حتى البياطرية والبزدرية ومعلموا الأطفال في المكاتب ومعلموا السباحة في الماء والنظر في وسق المراكب في الاسفار واحمال الدواب في نقل الأشياء ومقادير روايا الماء مما يطول شرحه وفي ذلك مؤلف للشيخ بن الرفعة وقد يسهل بعض ذلك مع العدالة وعدم الاحتكار وطمع المتولي وتطلعه لما في أيدي الناس وأرزاقهم.

ومما يحكى أن الرشيد سأل الليث بن سعد فقال له: يا ابا الحرث ما صلاح بلدكم يعني مصر فقال له: أما صلاح أمرها ومزارعها فبالنيل وأما احكامها فمن رأس العين يأتي الكدر.

وفي أواخر رمضان زاد المحتسب في نغمات الطنبور وهو أنه أرسل مناديه في مصر القديمة ينادي على نصارى الارمن والاروام والشوام باخلاء البيوت التي عمروها وزخرفوها وسكنوا بها بالانشاء والملك

ص: 565

والمؤاجرة المطلة على النيل وأن يعودوا إلى زيهم الأول من لبس العمائم الزرق وعدم ركوبهم الخيول والبغال والرهونات الفارهة واستخدامهم المسلمين فتقدم اعاظمهم إلى الباشا بالشكوى وهو يراعي جانبهم لأنهم صاروا اخصاء الدولة وجلساء الحضرة وندماء الصحبة.

وأيضانادى مناديه على المردان ومحلقي اللحي بأنهم يتركونها ولا يحلقونها وجميع العسكر وغالب الاتراك سنتهم حلق اللحي ولو طعن في السن فاشيع فيهم أن يامرهم بترك لحاهم وذلك خرم لقواعدهم بل يرونه من الكبائر وكذلك السيد محمد المحروقي بسبب تعرضه إلى بضائع التجار وأهل الغورية فإن ذلك منوط به.

وفي اثناء ذلك ورد إلى عابدين بك مواعين سمن فأرسل الجمال إلى حملها من ساحل بولاق فبلغ خبرها المحتسب فأخذها وادخلها مخزنه وعادت الجمال فارغة وأخبروا مخدومهم بحجز المحتسب لها فأرسل عدة من العسكر فأخرجوها من المخزن وأخذوها ولم يكن المحتسب حاضرا واتفق أنه ضرب شخصا من عسكر المذكور ارنؤدي بالدبوس حتى كاد يموت فاشتد بعابدين بك الحنق وركب إلى كتخدا بك وشنع على المحتسب وتعددت الشكاوي وصادفت في زمن واحد فانهى الأمر إلى الباشا فتقدم إليه بكف المحتسب عن هذه الافعال فأحضره الكتخدا وزجره وأمره أن لا يتعدى حكمه الباعة ومن كان يسري عليهم احكام من كان في منصبه قبله وا يكون إمامه الميزان ويؤدب المستحق بالكرابيج دون الدبوس.

واستهل شهر شوال بيوم الخميس سنة 1232

فترك السروح في أيام العيد واشيع بين السوقة عزله فأظهروا الفرح ورفعوا ما كان ظاهرا بين أيديهم من السمن والجبن واخفوه عن الاعين ورجعوا إلى حالتهم الأولى في الغش والخيانة وغلاء السعر واغلق بعضهم الحانوت وخرجوا إلى المنتزهات وعملوا ولائم.

وفي رابعه شنقوا عدة أشخاص في أماكن متفرقة قيل أنهم سراق

ص: 566

وزغلية وكانوا مسجونين في أيام رمضان ولم يركب المحتسب حسب الأمر بل اركب خازنداره وشق بالميزان عوضا عنه ثم ركب هو أيضا وبيده الدبوس لكن دون الحالة الأولى في الجبروت ولم يسر حكمه على النصارى فضلا عن غيرهم.

وفي عاشره يوم السبت نزلوا بكسوة الكعبة من القلعة وشقوا بها من وسط الشارع إلى المشهد الحسيني.

وفي يوم السبت سابع عشره اداروا المحمل وخرج أمير الركب إلى خارج باب النصر ووصلت حجاج كثيرة من ناحية المغرب إلى برانبابة وبولاق وطفقوا يشترون الاغنام من الفلاحين ويذبحونها ويبيعونا ببولاق وطرقها على الناس جزافا من غير وزن ويذهب الكثير من الناس إلى الشراء منهم فيقعون في الغبن الفاحش والزيادة على السعر بالضعف وأكثر ضرورتهم في الشراء منهم رداءة ما يحمله القصابون من المذبح من اغنام الباشا المحضرة من البلاد والقرى وقد هزلت من السفر والإقامة بالجوع والعطش ويموت الكثير منها فيسلمونه ويزنونه على الجزارين بالبيع للناس وفيه المتغير الرائحة وما تعافه النفوس فبسبب ذلك اضطر الناس إلى الشراء من هؤلاء الاجناس بالغبن وتحمل سوء اخلاقهم وحصل بينهم وبين بعض العسكر شرور وقتل بينهم قتلى ومجاريح والباشا وحكام الوقت يتغافلون عنهم خوفا من وقوع الفتن ثم ارتحلوا لأنهم كثروا وملؤا الازقة والنواحي وحضر أيضا الركب الفاسي وفيه ولدا السلطان سليمان ومن يصحبهما فاحسن الباشا نزلهم وتقيد السيد محمد المحروقي بملاقاتهم ولوازمهم وانزلوهم في منزل بجوار المشهد الحسيني واجريت عليهم نفقات تليق بهم واهديا للباشا هدية وفيها عدة بغال وبرانس حرير وغير ذلك.

وفي ثامن عشرينه ارتحل الحج المصري من البركة وكانت الحجوج في هذه السنة كثيرة من سائر الاجناس اتراك وططر وبشناق وجركس

ص: 567

وفلاحين ومن سائر الاجناس ورجع الكثير من المسافرين على بحر القلزم إلى الحجاز من السويس لقلة المراكب التي تحملهم وغصت المدينة من كثرة الزحام زيادة على ما بها من ازدحام العساكر واخلاط العالم من فلاحي القرى المشيعين والمسافرين ومن يرد من الافاق والبلاد الشامية ونصارى الروم والارمن والدلاة والواردين والذين استدعاهم الباشا من الدروز والمتاولة والنصيرية وغيرهم لعمل الصنائع والمزارع وشغل الحرير وما استجده بوادي الشرق حتى أن الإنسان يقاسي الشدة والهول إذا مر بالشارع من كثرة الازدحام ومرور الخيالة وحمير الاوسية والجمال التي تحمل الاتربة والانقاض والاحجار لعمائر الدولة سوى ما عداها من حمول الاحطاب والبضائع والتراسين حتى الزحمة في داخل العطف الضيقة وزيادة على ذلك كثرة الكلاب بحيث يكون في القطعة من الطريق نحو الخمسين ثم صياحها ونباحها المستمر وخصوصا في الليل على المارين وتشاجرها مع بعضها مما يزعج النفوس ويمنع الهجوع وقد احسن الفرنساوية بقتلهم الكلاب فإنهم لما استقروا وتكرر مرورهم ونظروا إلى كثرة الكلاب من غير حاجة ولا منفعة سوى الهبهبة والعواء وخصوصا عليهم لغرابة أشكالهم فطاف عليها طائف منهم باللحم المسموم فما أصبح النهار إلا وجميعها موتى مطروحة بجميع الشوارع فكان الناس والصغار يسحبونها كذا بالحبال إلى الخلاء واستراحت الأرض ومن فيها منها فالله يكشف عنها مطلق الكرب في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه.

واستهل شهر ذي القعدة سنة 1232

وفي خامسه يوم الأربعاء وليلة الخميس ارتحل ركب الحجاج المغاربة من الحصوة.

وفي أواخره حصل الأمر للفقهاء بالأزهر بقراءة صحيح البخاري فاجتمع الكثير من الفقهاء والمجاورين وفرقوا بينهم اجزاء وكراريس من البخاري يقرؤون فيها في مقدار ساعتين من النهار بعد الشروق فاستمروا

ص: 568

على ذلك خمسة أيام وذلك بقصد حصول النصر لإبراهيم باشا على الوهابية وقد طالت مدة انقطاع الأخبار عنه وحصل لأبيه قلق زائد ولما انقضت أيام قراءة البخاري نزل للفقهاء عشرون كيسا فرقت عليهم وكذلك على أطفال المكاتب.

واستهل شهر ذي الحجة بيوم الأحد سنة 1232

في رابعه شنقوا أشخاصا قيل أنهم خمسة ويقال: أنهم حرامية.

وفيها ارسلت الافيال الثلاثة إلى دار السلطنة صحبة الهدايا المرسلة ثلاثة سروج ذهب وفيها سرج مجوهر وخيول وكباش ونقود واقمشة هندية وسكاكر وارز.

وفيه وصل فيل آخر كبير مروا به من وسط المدينة وذهبوا به إلى رحبة بيت السيد محمد المحروقي وقفوا به في أواخر النهار والناس تجتمع للفرجة عليه إلى أواخر النهار ثم طلعوا به إلى القلعة واوقفوا بالطبخانة وهي محل عمل المدافع وحضر بصحبته شخص يدعي العلم والمعرفة بالطب والحكمة ومعه مجلد كبير في حجم الوسادة يحتوي على الكتب الستة الحديثية وخطه دقيق قال: إنه نسخه بيده ونزل ببيت السيد محمد المحروقي وركب له معجون الجواهر انفق فيه جملة من المال وكجلا وركب أيضا تراكيب لغيره وشرط عليهم في الاستعمال بعد مضي ستة اشهر وشيء منها بعد شهرين وثلاثة وأقام أياما ثم سافر راجعا إلى صنعاء.

وفي يوم الثلاثاء عاشره كان عيد النحر ولم يرد فيه مواش كثيرة كالأعياد السابقة من الاغنام والجواميس التي تأتي من الارياف فكانت تزدحم منها لأسواق لكثرتها والوكائل والرميلة فلم يرد إلا النزر القليل قبل النحر بيومين ويباع بالثمن الغالي ولم يذبح الجزارون في أيام النحر للبيع كعادتهم إلا القليل منهم مع التحجير على الجلود وعلى من يشتريها وتباع لطرف الدولة بالثمن الرخيص جدا وانقضت السنة مع استمرار ما تجدد فيها من الحوادث التي منها ما حدث في آخر السنة من الحجر وضبط انوال الحياكة وكل ما يصنع بالمكوك وما ينسج على نول أو نحوه

ص: 569

من جميع الأصناف من ابريسم أو حرير أو كتان إلى الخيش والفل والحصير في سائر الإقليم المصري طولا وعرضا قبلي وبحري من الاسكندرية ودمياط إلى اقصى بلاد الصعيد والفيوم وكل ناحية تحت حكم هذا المتولي وانتظمت لهذا الباب دواوين ببيت محمود بك الخازندار وأياما ببيت السيد محمد المحروقي وبحضرة من ذكر والمعلم غالي ومتولي كبر ذلك والمفتتح لأبوابه المعلم يوسف كنعان الشامي والمعلم منصور ابو سربمون القبطي ورتبوا الضبط ذلك كتابا ومباشرين يتقررون بالنواحي والبلدان والقرى وما يلزم لهم من المصاريف والمعليم والمشاهرات ما يكفيهم في نظير تقيدهم وخدمتهم فيمضي المتعينون لذلك فيحصون ما يكون موجودا على الانوال بالناحية من القماش والبزوالأكسية الصوف المعروفة بالزعابيط والدفافي ويكتبون عدده على ذمة الصانع ويكون ملزوما به حتى إذا تم نسجه دفعوا لصاحبه ثمنه بالفرض الذي يفرضونه وأن أرادها صاحبها أخذها من الموكلين بالثمن الذي يقدرونه بعد الختم عليها من طرفيها بعلامة الميري فإن ظهر عند شخص شئ من غير علامة الميري أخذت منه بل وعوقب وغرم تأديبا على اختلاسه وتحذيرا لغيره هذا شأن الموجود الحاصل عند النساجين واستئناف العمل المجدد فإن الموكل بالناحية ومباشريها يستدعون من كل قرية شخصا معروفا من مشايخها فيقيمونه وكيلا ويعطونه مبلغا من الدراهم ويأمرونه باحصاء الانوال والشغالين والبطالين منهم في دفتر فيأمرون البطالين بالنسج على الانوال التي ليس لها صناع بأجرتهم كغيرهم على طرف الميري ويدفع المتوكل لشخصين أو ثلاثة دراهم يطوفون بها على النساء اللاتي يغزلن الكتان بالنواحي ويجعلنه اذرعا فيشترون ذلك منهن بالثمن المفروض ويأتون إلى النساجين ثم تجمع أصناف الاقمشة في أماكن للبيع بالثمن الزائد وجعلوا لمبيعها امكنة مثل خان ابو طقية وخان الجلاد وبه يجلس المعلم كنعان ومن معه وغير ذلك وبلغ ثمن الثوب القطن الذي يقال له: البطانة إلى ثلثمائة نصف فضة بعد ما كان يشترى بمائة نصف

ص: 570

وأقل وأكثر بحسب الرداء والجودة وادركناه يباع في الزمن السابق بعشرين نصفا وبلغ ثمن المقطع القماش الغليظ إلى ستمائة نصف فضة وكان يباع باقل من ثلث ذلك وقس على ذلك باقي الأصناف وهذه البدعة اشنع البدع المحدثه فإن ضررها عم الغني والفقير والجليل والحقير والحكم لله العلي الكبير.

ومنها أن المشار إليه هدم القصر الذي بالآثار وانشأه على الهيئة الرومية التي ابتدعوها في عمائرهم بمصر وهدموه وعمروه وبيضوه في أيام قليلة وذلك أنه بات هناك ليلتين فاعجبه هواؤه فاختار بناءه على هواه وعند تمامه وتنظيمه بالفرش والزخارف جعل يتردد إلى المبيت به بعض الاحيان مع السراري والغلمان كما يتنقل ما قصر الجيزة وشبرا والازبكية والقلعة وغيرها من سرايات أولاده واصهاره والملك لله الواحد القهار.

ومنها أن طائفة من الافرنج الانكليز قصدوا الاطللاع على الاهرام المنهورة الكائنة ببر الجيزة غربي الفسطاط لأن طبيعتهم ورغبتهم الاطلاع على الأشياء المستغريات والفحص عن الجزئيات وخصوصا الآثار القديمة وعجائب البلدان والتصاوير والتماثيل التي في المغارات والبرابي بالناحية القبلية وغيرها ويطوف منهم أشخاص في مطلق الاقاليم بقصد هذا الغرض ويصرفون لذلك جملا من المال في نفقاتهم ولوازمهم ومؤاجريهم حتى أنهم ذهبوا إلى اقصى الصعيد وأحضروا قطع احجار عليها نقوش واقلام وتصاوير ونواويس من رخام أبيض كان بداخلها موتى باكفانها أو اجسامها باقية بسبب الاطلية والادهان الحافظة لها من البلاد ووجه المقبور مصور على تمثال صورته التي كان عليها في حال حياته وتماثيل آدمية من الحجر السماقي الأسود المنقط الذي لا يعمل فيه الحديد جالسين على كراسي واضعين أيديهم على الركب وبيد كل واحد شبه مفتاح بين اصابعه اليسرى والشخص مع كرسيه قطعة واحدة مفرغ معه اطول من قامة الرجل الطويل وعلو رأسه نصف دائرة منه في علوا الشبر وهم شبه العبيد المشوهين

ص: 571

الصور وهم ستة على مثال واحد كإنما افرغوا في قالب واحد يحمل الواحد منهم الجملة من العتالين وفيهم السابع من رخام أبيض جميل الصورة وأحضروا أيضا راس صنم كبير دفعوا في اجرةالسفينة التي أحضروه فيها ستة عشر كيسا عنها ثلثمائة وعشرون ألف نصف فضة وارسلوها إلى بلادهم لتباع هناك بأضعاف ما صرفوه عليها وذلك عندهم من جملة المتاجر في الأشياء الغريبة ولما سمعت بالصور المذكورة فذهبت بصحبة ولدنا الشيخ مصطفى باكير المعروف بالساعاتي وسيدي إبراهيم المهدي الانكليزي إلى بيت قنصل بدرب البرابرة بالقرب من كوم الشيخ سلامة جهة الازبكية وشاهدت ذلك كما ذكرته وتعجبنا من صناعتهم وتشابههم وصقالة ابدانهم الباقية على مر السنين والقرون التي لا يعلم قدرها الاعلام الغيوب وأرادوا الاطلاع على أمر الاهرام واذن لهم صاحب المملكة فذهبوا إليها ونصبوا خيمة وأحضروا الفعلة والمساحي والغلقان وعبروا إلى داخلها واخرجوا منها اتربة كثيرة من زبل الوطواط وغيره ونزلوا إلى الزلاقة ونقلوا منها ترابا مربع من الحجر المنحوت غير مسلوك هذا ما بلغنا عنهم وحفورا حوالي الرأس العظيمة التي بالقرب من الاهرام التي تسميها الناس رأس ابي الهول فظهر أنه جسم كامل عظيم من حجر واحد ممتد كأنه راقد على بطنه رافع رأسه وهي التي يراها الناس وباقي جسمه مغيب بما أنهال عليه من الرمال وساعداه من مرفقية ممتدان إمامه وبينهما شبه صندوق مربع إلى استطالة من سماق أحمر عليه نقوش شبه قلم الطير في داخله صورة سبع مجسم من حجر مدهون بدهان أحمر رابض باسط ذراعيه في مقدار الكلب رفعوه أيضا إلى بيت القنصل ورايته يوم ذاك وقيس المرتفع من جسم ابي الهول من عند صدره إلى اعلى رأسه فكان اثني وثلاثين ذراعا وهي نحو الربع من باقي جسمه واقاموا في هذا العمل نحو من أربعة اشهر.

وأما من مات في هذه السنة من المشاهير فمات العالم العلامة الفاضل الفهامة صاحب التحقيقات الرائقة والتأليفات الفائقة شيخ شيوخ أهل العلم

ص: 572

وصدر صدور أهل الفهم المتفنن في العلوم كلها نقليها وعقليها وادبيها إليه انتهت الرياسة في العلوم بالديار المصرية وباهت مصر ما سواها بتحقيقاته البهية استنبط الفروع من الاصول واستخراج نفائس الدور من بحور المعقول المنقول واودع الطروس فوائد وقلدها عوائد فرائد الأستاذ الشيخ محمد بن محمد بن أحمد بن عبد القادر بن عبد العزيز بن محمد السنباوي المالكي الازهري الشهير بالأمير وهو لقب جده الأدنى أحمد وسببه أن أحمد واباه عبد القادر كان لهما امرة بالصعيد وأخبرني المترجم من لفظه أن أصلهم من المغرب نزلوا بمصر عند سيدي عبد الوهاب ابي التخصيص كما أخبر عن ذلك وثائق لهم التزموا بحصة بناحية سنبوا وارتحلوا إليها وقطنوا بها وبها ولد المترجم وكان مولده في شهر ذي الحجة سنة أربع وخمسين ومائة وألف بأخبار والديه وارتحل معهما إلى مصر وهو ابن تسع سنين وكان قد ختم القران فجوده على الشيخ المنير على طريقة الشاطبية والدرة وحبب إليه طلب العلم فأول ما حفظ متن الاجرومية وسمع سائر الصحيح والشفاء على سيدي علي بن العربي السقاط وحضر دروس أعيان عصره واجتهد في التحصيل ولازم دروس الشيخ الصعيدي في الفقه وغيره من كتب المعقول وحضر على السيد البليدي شرح السعد على عقائد النسفي والأربعين النووية وفقع الموطأ على هلال المغرب وعالمه الشيخ محمد التاودي بن سودة بالجامع الأزهر سنة وروده بقصد الحج ولازم المرحوم الوالد حسنا الجبرتي سنين وتلقى عنه الفقه الحنفي وغير ذلك من الفنون كالهيئة والهندسة والفلكيات والاوفاق والحكمة عنه وبواسطة تلميذه الشيخ محمد ابن إسمعيل النفراوي المالكي وكتب له اجازة مثبتة في برنامج شيوخه وحضر الشيخ يوسف الحفني في آداب البحث وبانت سعاد وعلى الشيخ محمد الحفني أخيه مجالس من الجامع الصغير والشمايل والنجم الغيطي في المولد وعلى الشيخ أحمد الجوهري في شرح الجوهرة للشيخ عبد السلام وسمع منه المسلسل بالأولية وتلقى

ص: 573

عنه طريق الشاذلية من سلسلة مولاي عبد الله الشريف وشملته اجازة الشيخ الملوي وتلقى عنه مسائل في أواخر أيام انقطاعه بالمنزل ومهر وانجب وتصدر لالقاء الدروس في حياة شيوخه ونما أمره واشتهر فضله خصوصا بعد موت أشياخه وشاع ذكره في الافاق وخصوصا بلاد المغرب وتأتيه الصلات من سلطان المغرب وتلك النواحي في كل عام ووفد عليه الطالبون للأخذ عنه والتلقي منه وتوجه في بعض المقتضبات إلى دار السلطنة والقى هناك دروسا حضره فيها علماؤهم وشهدوا بفضله واستجازوه واجازهم بما هو مجاز به من أشياخه وصنف عدة مؤلفات اشتهرت بايدي الطلبة وهي غاية التحرير منها مصنف في فقه مذهبه سماه المجموع حاذى به مختصر خليل جمع فيه الراحج في المذهب وشرحه شرحا نفيسا وقد صار كل منهما مقبولا في أيام شيخه العدوي حتى كان إذا توقف شيخه في موضع يقول: هاتوا مختصر الأمير وهي منقبة شريفة وشرح مختصر خليل وحاشية على المغنى لابن هشام وحاشية على الشيخ عبد الباقي على المختصر وحاشية على الشيخ عبد السلام على الجوهرة وحاشية على شرح الشذور لابن هشام وحاشية على الازهرية وحاشية على الشنشوري على الرحبية في الفرائض وحواش على المعراج وحاشية على شرح املوي على السمرقندية ومؤلف سماه مطلع النيرين فيما يتعلق بالقدرتين واتحاف الانس في الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس ورفع التلبيس عما يسئل به ابن خميس وثمر الثمام في شرح آداب الفهم والافهام وحاشية على المجموعة وتفسير سورة القدر وكان رحمه الله رقيق القلب لطيف المزاج ينزعجطبعه من غير انزعاج يكاد الوهم يؤلمه وسماع المنافر يوهنه ويسقمه وبآخره ضعفت قواه وتراخت اعضاه وزاد شكواه ولم يزل يتعلل ويزداد انينه ويتململ والامراض به تسلسل وداعي المنون عنه لا يتحول إلى أن توفي يوم الإثنين عاشر ذي القعدة الحرام وكان له مشهد حافل جدا ودفن بالصحراء بجوار مدفن الشيخ عبد الوهاب العفيفي بالقرب من عمارة السلطان

ص: 574

قايتباي وكثر عليه الاسف والحزن وخلف ولده العلامة النحرير الشيخ محمد الأمير وهو الآن أحد الصدور كوالده يقرأ الدروس ويفيد الطلبة ويحضر الدواوين والمجالس العالية بارك الله فيه.

ومات الشيخ الفقيه العلامة الشيخ خليل المدابغي لكونه يسكن بحارة المدابغ حضر دروس الأشياخ من الطبقة الأولى وحصل الفقه والمعقول واشتهر فضله مع فقره وانجماعه عن الناس متقشفا متواضعا ويكتسب من الكتابة بالأجرة ولم يتجمل بالملابس ولا بزي الققهاء يظن الجاهل به أنه من جملة العوام توفي يوم الإثنين ثامن عشر ذي القعدة من السنة.

ومات الشيخ الفقيه الورع الشيخ علي المعروف بأبي زكرى البولاقي لسكنه ببولاق وكان ملازما لإقراء الدروس ببولاق ويأتي إلى الجامع الأزهر في كل يوم يقرأ الدروس ويفيد الطلبة ويرجع إلى بولاق بعد الظهر ومات حماره الذي كان يأتي عليه إلى الجامع الأزهر فلم يتخلف عن عادته ويأتي ماشيا ثم يعود مدة حتى اشفق عليه بعض المشفقين من أهالي بولاق واشتروا له حمارا ولم يزل على حالته وانكساره حتى توفي يوم الخميس ثامن شهر ذي القعدة من السنة رحمه الله وايانا وجمعنا في مستقر رحمته آمين.

ومات من أكابر الدولة المسمى ولي افندي.

وقال له ولي خوجا وهو كاتب خزينة الباشا وانشأ الدار العظيمة التي بناحية باب اللوق وادخل فيها عدة بيوت ودورا جليلة تجاهها وملاصقة لها من الجهتين وبعضها مطل على البركة المعروفة ببركة ابي الشوارب وتقدم في أخبار العام الماضي أن الباشا صاهره وزوج ابنته لبعض اقارب الباشا الخصيصين به مثل الذي يقال له: شريف آغا وآخر وعمل له مهما عظيما احتفل فيه إلى الغاية وزفة وشنكا كل ذلك وهو متمرض إلى أن مات في ثاني عشرين ربيع الثاني وضبطت تركته فوجد له كثير من النقود والجواهر والامتعة وغير ذلك فسبحان الحي الذي لا يموت.

ص: 575