الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمواهب والجلالين ولم يزل على حالته حتى توفي ثاني عشر ذي الحجة.
ومات الشيخ المفيد محمد الاسناري الشهير بجاد المولى ممن جاور بالأزهر وحضر دروس وبه تخرج وواظب عليه في مجالس الذكر وتلقى عنه طريقة الخلوتية والبسه التاج وتقدم في خطابة الجمعة والاعياد بالجامع الأزهر بدلا عن الشيخ عبد الرحمن البكري عندما رفعوها عنه وخطب بجامع عمر وبمصر العتيقة يوم الاستسقاء عندما قصرت زيادة النيل في سنة ثلاث وعشرين وتأخر في الزيادة عن أوانه ولما حضر محمد باشا خسرو إلى مصر وصلى صلاة الجمعة بالأزهر في سنة سبع عشرة خلع عليه بعد الصلاة فروة سمور فكان يخرجها من الخزنة ويلبسها وقت خطبة الجمعة والاعياد وواظب على قراءة الكتب للمبتدئين كالشيخ خالد والازهرية ثم قرأ شرح الاشموني على الخلاصة واشتهر ذكره ونما أمره في أقل زمن وكان فصيحا مفوها في التقرير والالقاء لتفهيم الطلبة ولم يزل على حالة حميدة في حسن السلوك والطريقة حتى توفي في شهر الحجة وقد ناهز الأربعين.
سنة ثلاثين ومائتين والف
استهل المحرم بيوم الثلاثاء
وفي خامسه وصل نجاب من الحجاز وعلى يده مكاتبات بالأخبار عن الباشا والحجاج بأنهم حجوا ووقفوا بعرفة وقضوا المناسك.
وفي تاسعه حضر إبراهيم باشا من الجهة القبلية إلى داره بالجمالية.
وفي عاشره يوم الخميس وصل في ليلته قابجي وعلى يده تقرير للباشا من الحجاز إلى ساحل القصير فضربوا لذلك مدافع من القلعة.
وفي صبحها خرج ابن الباشا واخوه وكذلك أكابر دولتهم إلى ناحية البساتين ومنهم من عدى النيل إلى البر الغربي لملاقاته على مقتضى عادته في عجلته في الحضور وعلى حساب مضي الأيام من يوم وصوله إلى
القصير فغابوا في انتظاره حتى انقضى النهار ثم رجعوا.
وفي صبح اليوم الثاني خرجوا ثم عادوا إلى دورهم آخر النهار واستمروا على الخروج والرجوع ثلاثة أيام ولم يحضر زكثر لغط الناس عند ذلك واختلفت رواياتهم وأقاويلهم مدة أيام وليلا ونهارا ثم ظهر كذب هذا الخبر وأن الباشا لم يزل بأرض الحجاز وقيل أن سبب اشاعة خبر مجيئه أنه وصل إلى ساحل القصير سفينة بها سبعة عشر شخصا من العسكر فسألهم الوكيل الكائن بالقصير عن مجيئهم فأجابوه أنهم مقدمة الباشا وأنه وأصل في أثرهم فعندما سمع جوابهم أرسل خطابا إلى كاتب من الاقباط بقنا يعرفه بقدوم الباشا فكتب ذلك القبطي خطابا إلى وكيل شخص من أعيان كتبة الاقباط بأسيوط يسمى المعلم بشارة فعندما وصله الجواب أرسل جوابا إلى موكله بشارة المذكور بمصر ذلك الخبر وفي الحال طلع به إلى القلعة واعطاه لإبراهيم باشا فانتقل به إبراهيم باشا إلى مجلس كتخدا بك فخلع كتخدا بك على بشارة خلعة وأمر بضرب المدافع ونزلت المبشرون وانتشروا بالبشائر إلى بيوت الأعيان وأخذ البقاشيش ولما حصل التراخي والتباطؤ والتأخر في الحضور بعد الاشاعة أخذ الناس في اختلاف الروايات والاقاويل كعادتهم فمنهم من يقول: إنه حضر مهزوما ومنهم من يقول: مجروحا ومنهم من يثبت موته والشىء الذي اوجب في الناس هذه التخليطات وما شاهدوه من حركات أهل الدولة وانتقال نسائهم من المدينة وطلوعهم إلى القلعة بمتاعهم واخلاء الكثير منهم البيوت وانتقال طائفة الارنؤد من الدور المتباعدة واجتماعهم وسكناهم بناحية خطة عابدين وكذلك انتقل إبراهيم باشا إلى القلعة ونقل إليها الكثير من متاعه واغرب من هذا كله اشاعة اتفاق عظماء الدولة على ولاية إبراهيم باشا على الاحكام عوضا عن أبيه في يوم الخميس ويرتبوا له موكبا يركب فيه ذلك اليوم ويشق من وسط المدينة واجتمع الناس للفرجة عليه واصطفوا على المساطب والدكاكين فلم يحصل وظهر كذب ذلك كله وبطلانه واتفق
في اثناء ذلك من زيادة الأهموم والتخيلات أن رضوان كاشف المعروف بالشعراوي سد باب داره التي بالشارع بخط باب الشعرية وفتح له بابا صغيرا من داخل العطفة التي بظاهره فأوشى بعض مبغضيه إلى كتخدا بك فعلته في هذا الوقت والناس يزداد بهم الوهم ويعتقدون صحة ما دار بينهم من الاكاذيب وخصوصا كونه من الأعيان المعروفين فطلبه كتخدا بك وقال له: لأي شىء سددت باب دارك وما الذي قاله المنجم لك فقال: إن طائفة من العسكر تشاجروا بالخطة ودخلوا إلى الدار وازعجونا فسددتها من ناحية الشارع بعدا من الشر وخوفا مما جرى على داري سابقا من النهب فلم يلتفت لكلامه وأمر بقتله فشفع فيه صالح بك السلحدار وحسن أغا مستحفظان فعفا عنه من القتل وأمر بضربه فبطحوه وضربوه بالعصي ثم نزل بصحبته الاغا إلى داره وفتح الباب كما كان.
وفي رابع وعشرينه وصلت مكاتبات من الديار الحجازية من عند الباشا وخلافه مؤرخة في ثالث عشر ذي الحجة يذكرون فيها أن الباشا بمكة وطوسون باشا ابنه بالمدينة وحسن باشا واخاه عابدين بك وخلافهم بالكلخة ما بين الطائف وتربة.
واستهل شهر صفر الخير بيوم الخميس سنة 1230
وفي خامس عشرينه نودى بنقص مصارفة أصناف المعاملة وقد وصل صرف الريال الفرانسة من الفضة العددية إلى ثلثمائة وأربعين نصفا عنها ثمانية قروش ونصف فنودى عليه بنقص نصف قرش والمحبوب وصل إلى عشرة قروش فنودى عليه بتسعة قروش وشددوا في هذه المناداة تشديدا زائدا وقتل كل من زاد على ذلك من غير معارضة وكتبوا مراسيم إلى جميع البنادر وفيها التشديد والتهديد والانتقام ممن يزيد.
وفي أواخره التزم المعلم غالي بمال الجزية التي تطلب من النصارى على خمسة وثمانين كيسا وسبب ذلك أن بعض اتباع المقيد لقبض الجوالي قبض على شخص من النصارى وكان من قسوسهم وشدد عليه في الطلب
وأهانه فأنهوا الأمر إلى المعلم غالي ففعل ذلك قصد المنع الايذاء عن ابناء جنسه ويكون الطلب منه عليهم ومنع المتظاهرين بالإسلام عنهم.
واستهل شهر ربيع الأول بيوم السبت سنة 1230
وفي تاسعه وصلت قافلة طياري من الحجاز قدم صحبتها السيد عبد الله القماعي ومعها هجانة من الحجاز وعلى يدهم مكاتبات وفيها الأخبار والبشرى بنصرة الباشا على العرب وأنه استولى على تربة وغنم منها جمالا وغنائم وأخذ منهم أسرى فلما وصلت الأخبار بذلك انطلق المشردون إلى بيوت الأعيان لأخذ البقاشيش وضربوا في صبحها مدافع كثيرة من القلعة.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشره كان المولد النبوي فنودى في صبحه بزينة المدينة ببولاق ومصر القديمة ووقود القناديل والسهر ثلاثة أيام بلياليها فلما أصبح يوم الأربعاء والزينة بحالها إلى بعد اذان العصر نودى برفعها ففرح أهل الأسواق بإزالتها ورفعها لما يحصل لهم من التكاليف والسهر في البرد والهواء خصوصا وقد حصل في آخر ليلة رياح شديدة باردة.
وفي هذه الأيام سافر محمود بك والمعلم غالي ومن يصحبهما من النصارى الاقباط وأخذوا معهم طائفة من الكتبة الافندية المختصين بالروزنامة ومنهم محمد أفندي بن حسين أفندي المنفصل عن الروزنامة ونزلوا لاعادة قياس الأراضي وتحرير الري والشراقي وسبقهم القياسون بالاقصاب نزلوا وسرحوا قبلهم بنحو عشرة أيام وشرع كشاف النواحي في قبض الترويجة من المزارعين وفرضوا على كل فدان الأدنى تسعة ريالات إلى خمسة عشر بحسب جودة الأراضي ورداءتها وهذا الطلب في غير وقته لأنه لم يحصل حصاد للزرع وليس عند الفلاحين ما يقتاتون منه ومن العجب أنه لم يقع مطر في هذه السنة ابدا ومضت أيام الشتاء ودخل فصل الربيع ولم يقع غيث ابدا سوى ما كان يحصل في بعض الأيام من غيوم واهوية غربية ينزل مع هبوبها بعض رشاش قليل لا تبتل الأرض
منه ويجف بالهواء بمجرد نزوله.
وفي أواخره ورد لحضرة الباشا هدية من بلاد الانكليز وفيها طيور مختلفة الاجناس والأشكال كبار وصغار وفيها ما يتكلم ويحاكي واله مصنوعة لنقل الماء يقال له: الطلمبة وهي تنقل الماء إلى المسافة البعيدة ومن الأسفل إلى العلو ومرآة زجاج نجف كبيرة قطعة واحدة وساعة نضرب مقامات موسيقى في كل ربع يمضي من الساعة بأنغام مطربة وشمعدان به حركة غريبة كلما طالت فتيلة الشمعة غمز بحركة لطيفة فيخرج منه شخص لطيف من جانبه فيقط رأس الفتيلة بمقص لطيف بيده ويعود راجعا إلى داخل الشمعدان هذا ما بلغني ممن ادعى أنه شاهد ذلك.
وفيه عملوا تسعيرة على المبيعات والمأكولات مثل اللحم والسمن والجبن والشمع ونادوا بنقص اسعارها نقصا فاحشا وشددوا في ذلك بالتنكيل والشنق والتعليق وحرم الآناف فارتفع السمن والزبد والزيت من الحوانيت واخفوه وطفقوا يبيعونه في العشيات بالسعر الذي ختارونه على الزبون وأما السمن فلكثرة طلبه لأهل الدولة شح وجوده وذا ورد منه شىء خطفوه وأخذوه من الطريق بالسعر الذي سعره الحاكم وانعدم وجود عند القبانية وإذا بيع منه شىء بيع سرابا قصى الثمن وأما السكر والصابون فبلغا الغاية في غلو الثمن وقلة الوجود لأن إبراهيم باشا احتكر السكر بأجمعه الذي يأتي من الصعيد وليس بغير الجهة القبلية شىء منه فيبيعه على ذمته وهو في الحقيقة لابيه ثم صار نفس الباشا يعطي لأهل المطابخ بالثمن الذي يعينه عليهم ويشاركهم في ربحه فزاد غلو ثمنه على الناس وبيع الرطل من السكر الصعيدي الذي كان يباع بخمسة انصاف فضة بثمانين نصفا وأما الصابون ففرضوا على تجاره غرامة فامتنع وجوده وبيع الرطل الواحد منه خفية بستين نصفا وأكثر وفي هذه الأيام غلا سعر الحنطة والفول وبيع الاردب بألف ومائتي نصف فضة خلاف الكلف والاجرة مع أن الاهراء والشون ببولاق ملانة بالغلال ويأكلها السوس
ولا يخرجون منها لبيع شيئا حتى قيل الكتخدا بك في اخراج شئ منها يباع في الناس فلم يأذن وكأنه لم يكن مأذونا من مخدومه.
واستهل شهر ربيع الثاني يوم الإثنين سنة 1230
وفي وثامنه عمل محرم بك الكورنتينه بالجيزة على نسق السنة الماضية من اخراج الناس وازاعاجهم تطيرا وخوفا من الطاعون.
وفيه خوزفوا شيخ عرب بلى فيما بين العزب والهلايل بعد حبسه أربعة اشهر.
وفي يوم الجمعة ثامن عشرينه ضربت مدافع واشيع الخبر بوصول شخص عسكري بمكاتبات من الباشا وخلافه والخبر بقدوم الباشا وانتشرت المبشرون إلى بيوت الأعيان وأصحاب المظاهر على عادتهم لأخذ البقاشيش فمن قائل أنه وصل إلى القصير من قائل أنه نزل إلى السفينه بالبحر ومنهم من يقول: إنه حضر إلى السويس ثم اختلفت الروايات وقالوا: إن الذي وصل إلى السويس حريم الباشا فقط ثم تبين كذب هذه الاقاويل وأنها مكاتبات فقط مؤرخة أواخر شهر صفر يذكرون فيها أن الباشا حصل له نصر واستولى على ناحية يقال لها: بيشة ورينة وقتل الكثير من الوهابين وأنه عازم على الذهاب إلى ناحية قنفدة ثم ينزل مد ذلك إلى البحر ويأتي إلى مصر ووصل الخبر بوفاة الشيخ إبراهيم كاتب الصرة.
واستهل شهر جمادي الأولى بيوم الثلاثاء سنة 1230.
في سادسه يوم الأحد ضربت مدافع بعد الظهيرة لورود مكاتبة بان الباشا استولى على ناحية من النواحي جهة قنفذة.
وفي يوم الجمعة ثامن عشره وصل المحمل إلى بركة الحج وصحبته من بقي من رجال الركب مثل خطيب الجبل والصيرفي والمحملجية ووردت مكاتبات بالقبض على طامي الذي جرى منه ما جرى في وقائع قنفذة السابقة وقتله العساكر فلم يزل راجح الذي اصطلح مع الباشا ينصب له الحبائل حتى صاده وذلك أنه عمل لابن أخيه مبلغا من المال أن هو أوقعه
في شركه فعمل له وليمة ودعاه إلى محلة فأتاه امنا فقبض عليه واغتاله طمعا في المال واتوا به إلى عرضي الباشا فوجهه إلى بندر جدة في الحال وانزلوه السفينة وحضروا به إلى السويس وعجلوا بحضوره فلما وصل إلى البركة والمحمل إذ ذاك بها خرجت جميع العساكر في ليلة الإثنين حادي عشرينه وانجروا في صبحها طوائف وخلفهم المحمل وبعد مرورهم دخلوا بطامي المذكور وهو راكب على هجين وفي رقبته الحديد والجنزير مربوط في عنق الهجين وصورته رجل شهم عظيم اللحية وهو لابس عباءة عبدانية ويقرا وهو راكب وعملوا في ذلك اليوم شنكا ومدافع وحضر أيضا عابدين بك وتوجه إلى داره في ليلة الاثنين.
واستهل شهر جمادي الثانية بيوم الخميس سنة 1230
في خامسه وصلت عساكر في داوات إلى السويس وحضوروا إلى مصر وعلى رؤوسهم شلنجات فضة اعلاما واشارة بأنهم مجاهدون وعائدون من غزو الكفار وانهم افتتحوا بلاد الحرمين وطردوا المخالفين لدينانتهم حتى أن طوسون باشا وحسن باشا كتبا في امضائهما على المراسلات بعد اسمهما لفظه المغازي والله اعلم بخلقه.
وفي تاسعه اخرجوا عساكر كثيرة وجوههم إلى الثغور ومحافظة الاساكل خوفا من طارق يطرق الثغور لأنه اشيع أن بونابارته كبير الفرنساوية خرج من الجزيرة التي كان بها ورجع إلى فرانسا وملكها واغار على بلاد الجورنه وخرج بعمارة كبيرة لا يعلم قصده إلى اي جهة يريد فربما طرق ثغر الاسكندرية أو دمياط على حين غفلة وقيل غير ذلك وسئل كتخدا بك عن سبب خروجهم فقال خوفا عليهم من الطاعون ولئلا يوخموا المدينة لأنه وقع في هذه السنة موثان بالطاعون وهلك الكثير من العسكر وأهل البلدة والأطفال والجواري والعبيد خصوصا السودان فإنه لم يبق منهم إلا القليل النادر وخلت منهم الدور.
وفي منتصفه اخرج كتخدا بك صدقة تفرق على الأولاد الايتام الذين
يقرؤون بالكتاتيب ويدعون برفع الطاعون فكانوا يجمعونهم ويأتي بهم فقهاؤهم إلى بيت حسين كتخدا الكتخدا عند حيضان مصلى ويدفعون لكل صغير ورقة بها ستون نصفا فضة يأخذ منها جزا الذي يجمع الطائفة منهم ويدعي أنه معلمهم زيادة عن حصته لأن معظم المكاتب مغلوقة وليس بها أحد بسبب تعطيل الاوقاف وقطع ايرادهم وصار لهذه الأطفال جلبه وغوغاء في ذهابهم ورجوعهم في الأسواق وعلى بيت الذي يقسم عليهم.
واستهل شهر رجب بيوم الجمعة سنة 1230
في سادسه يوم الأربعاء وصلت هجانة من ناحية قبلي وأخبروا بوصول الباشا إلى القصير فخلع عليهم كتخدا بك مساوي ولم يامر بعمل شنك ولا مدافع حتى يتحقق صحة الخبر.
وفي ليلة الجمعة ثامنه احترق بيت طاهر باشا بالازبكية والبيت الذي بجواره أيضا.
وفي يوم الجمعة المذكور قبل العصر ضربت مدافع كثيرة من القلعة والجيزة وذلك عندما ثبت وتحقق ورود الباشا إلى قنا وقوص ووصل أيضا حريم الباشا وطلعوا إلى قصر شبرا وركب للسلام عليها جليع نساء الأكابر والأعيان بهداياهم وتقاديمهم ومنعوا المارين من المسافرين والفلاحين الواصلين من الارياف المرور من تحت القصر الذي هو الطريق المعتاد للمسافرين فكانوا يذهبون ويمرون من طريق استحدثوها منعطفة خلف تلك الطريق ومستبعدة بمسافة طويلة.
وفي ليلة الخميس رابع عشره انخسف جرم القمر جمعيه بعد الساعة الثالثة وكان في آخر برج القوس.
وفي ليلة الجمعة خامس عشرة وصل الباشا إلى الجيزة ليلا فأقام بها إلى آخر الليل ثم حضر إلى داره بالازبكية فأقام بها يومين وحضر كتخدا بك وأكابر دولته للسلام عليه فلم يأذن لاحد وكذلك مشايخ الوقت ذهبوا ورجعوا ولم يجتمع به أحد سوى ثاني يوم وترادفت عليه التقادم.
والهدايا من كل نوع من أكابر الدولة والنصارى بأجناسهم خصوصا الارمن وخلافهم بكل صنف من التحف حتى السراري البيض بالحلي والجواهر وغير ذلك واشيع في الناس في المصر وفي القرى بأنه تاب عن الظلم وعزم على إقامة العدل وأنه نذر على نفسه أنه إذا رجع منصورا واستولى على أرض الحجاز افرج للناس عن حصصهم ورد الازراق الاحباسية إلى أهلها وزادوا على هذه الاشاعة أنه فعل ذلك في البلاد القبلية ورد كل شئ إلى أصله وتناقلوا ذلك في جميع النواحي وباتوا يتخيلونه في احلامهم ولما مضى من وقت حضوره ثلاثة أيام كتبوا أوراقا لمشاهير الملتزمين مضمونها أنه بلغ حضرة افندينا ما فعله الاقباط من ظلم الملتزمين والجور عليهم في فائظهم فلم يرض بذلك والحال انكم تحضرون بعد أربعة أيام وتحاسبون على فائظكم وتقبضونه فإن افندينا لا يرضى بالظلم وعلى الأوراق امضاء الدفتردار ففرح أكثر المغفلين بهذا الكلام واعتقدوا صحته واشاعوا أيضا أنه نصب تجاه قصر شبرا خوازيق للمعلم غالي وأكابر القبط.
وفي رابع عشرينه حضر الكثير من أصحاب الأرزاق الكائنين بالقرى والبلاد مشايخ واشرافا وفلاحين ومعهم بيارق واعلام مستبشرين وفرحين بما سمعوه واشاعوه وذهبوا إلى الباشا وهو يعمل رماحة بناحية القبة برمي بنادق كثيرة وميدان تعليم فلما رآهم وأخبروه عن سبب مجيئهم فأمر بضربهم وطردهم ففعلوا بهم ذلك ورجعوا خائبين.
وفيه حضر محمود بك والمعلم غالي من سرحتهما وقابلا الباشا وخلع عليهما وكساهما والبسهما فراوي سمور فركب المعلم غالي وعليه الخلعة وشق من وسط المدينة وخلفه عدة كثيرة من الاقباط ليراه الناس ويكمد الاعداء ويبطل ما قيل من التقولات ثم أقام هو ومحمود بك أياما قليلة ورجعا لاشغالهما وتتميم افعالهما من تحرير القياس وجبي الأموال وكانا ارسلا قبل حضورهما عدة كثيرة من الجمال الحاملة للأموال في كل يوم
قطارات بعضها أثر بعض من الشرقية والغربية والمنوفية وباقي الاقاليم.
وفيه حضر شيخ طرهونة بجهة قبلي ويسمى كريم بضم الكاف وفتح الراء وتشديد الياء وسكون الميم وكان عاصيا على الباشا ولم يقابله ابدا فلم يزل يحتال عليه إبراهيم باشا ويصالحه ويمنيه حتى أتى إليه وقابله وامنه فلما حضر الباشا ابوه من الحجاز اتاه على أمان ابنه وقدم معه هدية وأربعين من الابل فقبل هديته ثم أمر برمي عنقه بالرميلة.
واستهل شهر شعبان سنة 1230
والناس في أمر مريج من قطع أرزاقهم وأرباب الالتزامات والحصص التي ضبطها الباشا ورفع أيديهم عن التصرف في شئ منها خلاطين الاوسية فإنه سامحهم فيه سوى ما زاد عن الروك الذي قاسوه فإنه لديوانية ووعدهم بصرف المال الحر المعين بالسند الديواني فقط بعد التحرير والمحاققة ومناقضة الكتبة الاقباط في القوائم واقاموا منتظرين انجاز وعده أياما يغدون ويروحون ويسالون الكتبة ومن له وصلة بهم وقد ضاق خناقهم من التفليس وقطع الايراد ورضوا بالاقل وتشوقوا لحصوله وكل قليل يعدون بعد أربعة أيام أو ثلاثة أيام حتى تحرر الدفاتر فإذا تحررت قيل أن الباشا أمر بتغييرها وتحريرها على نسق آخر ويكرر ذلك ثانيا وثالثا على حسب تفاوت المتحصل في السنين وما يتوفرا في الخزينة قليلا أو كثيرا.
وفيه وصل رجل تركي على طريق دمياط يزعم أنه عاش من العمر زمنا طويلا وأنه ادرك أوائل القرن العاشر ويذكر أنه حضر إلى مصر مع السلطان سليم وادرك وقته وواقعته مع السلطان الغوري وكان في ذلك الوقت تابعا لبعض البيرقدارية وشاع ذكره وحكي من راه أن ذاته نخألف دعواه وامتحنه البعض في مذاكرة الأخبار والوقائع فحصل منه تخليط ثم أمر الباشا بنفيه وابعاده فأنزلوه في مركب وغاب خبره فيقال: أنهم اغرقوه والله اعلم.
وفي خامس عشرينه عملوا الديوان ببيت الدفتردار ووفتحوا باب صرف الفائظ على أرباب حصص الالتزام فجعلوا يعطون منه جانبا وأكثر ما يعطونه نصف القدر الذي قرروه واقل وازيد قليلا.
وفيه أمر الباشا لجميع العساكر بالخروج إلى الميدان لعمل التعليم والرماحة خارج باب النصر حيث قبة العزب فخرجوا من ثلث الليل الاخير وأخذوا في الرماحة والبندقة المتواصلة المتتابعة مثل الرعود على طريقة الافرنج وذلك من قبيل الفجر إلى الضحوة ولما انقضى ذلك رجعوا داخلين إلى المدينة في كبكة عظيمة حتى زحموا الطرق بخيولهم من كل ناحية وداسوا أشخاصا من الناس بخيولهم بل وحميرا أيضا واشيع أن الباشا قصده احصاء العسكر وترتيبهم على النظام الجديد واوضاع الافرنج ويلبسهم الملابس المقمطة ويغير شكلهم وركب في ثاني يوم إلى بولاق وجمع عساكر ابنه إسمعيل باشا وصنفهم على الطريقة المعروفة بالنظام الجديد وعرفهم قصده فعل ذلك بجميع العساكر ومن أبي ذلك قابله بالضرب والطرد والنفي بعد سلبه حتى من ثيابه ثم ركب من بولاق وذهب إلى شبرا وحصل في العسكر قلقلة ولغط وتناجوا فيما بينهم وتفرق الكثير منهم عن مخاديمهم وأكابرهم ووافقهم على النفور بعض أعيانهم واتفقوا على غدر الباشا ثم أن الباشا ركب من قصر شبرا وحضر إلى بيت الازبكية ليلة الجمعة ثامن عشرينه وقد اجتمع عند عابدين بك بداره جماعة من أكابرهم في وليمة وفيهم حجو بك وعبد الله أغا صاري جلة وحسن أغا الازرنجلي فتفاوضوا بينهم أمر الباشا وما هو شارع فيه واتفقوا على الهجوم عليه في داره بالازبكية في الفجرية ثم أن عابدين بك غافلهم وتركهم في انسهم وخرج متنكرا مسرعا إلى الباشا وأخبره ورجع إلى أصحابه فاسرع الباشا في الحال الركوب في سادس ساعة من الليل وطلب عساكر طاهر باشا فركبوا معه وحوط المنزل بالعساكر ثم اخلف الطريق وذهب على ناحية الناصرية ومرمى النشاب وصعد إلى القلعة
وتبعه من يثق به من العساكر وانخرم أمر المتوافقين ولم يسعهم الرجوع عن عزيمتهم فساروا إلى بيت الباشا يريدون نهبه فمانعهم المرابطون وتضاربوا بالرصاص والبنادق وقتل بينهم أشخاص ولم ينالوا غرضا فساروا على ناحية القلعة واجتمعوا بالرميلة وقراميدان وتحيروا في امرهم واشتد غيظهم وعلموا أن وقوفهم بالرميلة لا يجدي شيئا وقد اظهروا المخاصمة ولاثمرة تعود عليهم في رجوعهم وسكنوهم بل ينكسف بالهم وتنذل أنفسهم ويلحقهم اللوم من اقرانهم الذين لم ينضموا إليهم فأجمع رأيهم لسوء طباعهم وخبث عقيدتهم وطرائقهم أنهم يتفرقون في شوارع المدينة وينهبون متاع الرعية وأموالهم فإذا فعلوا ذلك فيكثر جمعهم وتقوى شوكتهم ويشاركهم المخلفون عنهم لرغبة الجميع في القبائح الذميمة ويعودون بالغنيمة ويحوصلون من الحواصل ولايضيع سعيهم في الباطل كما يقال في المثل ما قدر على ضرب الحمار فضرب البرذعة ونزلوا على وسط قصبة المدينة على الصليبة على السروجية وهم يكسرون ويهشمون أبواب الحوانيت المغلوقة وينهبون ما فيها لأن الناس لما تسامعوا بالحركة اغلقوا حوانيتهم وابوابهم وتركوا اسبابهم طلبا للسلامة وعندما شاهد باقيهم ذلك اسرعوا للحوق وبادروا معهم للنهب والخطف بل وشاركهم الكثير من الشطار والزعر والعامة المقلين والجياع ومن لادين له وعند ذلك كثر جمعهم ومضوا على طريقهم إلى قصبة رضوان إلى داخل باب زويلة وكسروا حوانيت السكرية وأخذوا ما وجدوه من الدراهم وما احبوه من أصناف السكر فجعلوا يأكلون ويحملون ويبددون الذي لم يأخذوه ويلقونه تحت الارجل في الطريق وكسروا أواني الحلو وقدور المربيات وفيها ماهو من الصيني والبياغوري والافرنجي ومجامع الاشربة واقراص الحلو الملونة والرشال والملبس والفانيد والحماض والبنفسج وبعد أن ياكلوا ويحملواهم واتباعهم ومن انضاف لهم من الاوباش البلدية والحرافيش والجعيدية يلقون ما فضل عنهم على قارعة الطريق
بحيث صار السوق من حد باب زويلة إلى المناخلية مع اتساعه وطوله مرسوما ومنقوشا بألوان السكاكر واقراص الاشربة الملونه واعسال المربيات سائلة على الارفن وكان أهل ذلك السوق المتسببون جدودا وطبخوا أنواع المربيات والاشربة عند وفور الفواكه وكثرتها في أوانها وهو هذا الشهر المبارك مثل الخوخ والتفاح والبرقوق والتوت والقرع المسير والحصرم والسفرجل وملؤا الاوعية وصففوها في حوانيتهم للمبيع وخصوصا على موسم شهر رمضان ومضوا في سيرهم إلى العقادين الرومي والغورية والاشرفية وسوق الصاغة ووصلت طائفة إلى سوق مرجوش فكسروا أبواب الحوانيت والوكائل والخانات ونهبوا ما في حواصل التجار من الاقمشة المحلاوي والبز والحرير والزردخان ولما وصلت طائفة إلى رأس خان الخليلي وأرادوا العبور والنهب فزعت منهم الاتراك والارنؤد الذين يتعاطون التجارة الساكنون بخان اللبن والنحاس وغيرهما وضربوا عليهم بالرصاص وكذلك سوق الصرماتية والاتراك الخردجية الساكنون بالرباع بباب الزهومة جعلوا يرمون عليهم من القيطان بالرصاص حتى ردوهم ومنعوهم وكذلك تعصبت طائفة المغاربة الكائنون بالفحامين وحارة الكعكيين روموا عليهم بالرصاص وطردوهم عن تلك الناحية واغلقوا البوابات التي على رؤوس العطف وجلس عند كل درب اناس ومن فوقهم اناس من أهل الخطة بالرصاص تمنع الواصل إليهم ووصلت طائفة إلى خان الحمزاوي فعالجوا في بابه حتى كسروا الخوخة التي في الباب وعبروا الخان وكسروا حواصل التجار من نصارى الشوام وغيرهم ونهبوا ما وجدوه من النقود وأنواع الاقمشة الهندية والشامية والمقصبات وبالات الجوخ والقطيفة والاسطوافة وأنواع الاطلس والالاجات والسلاوي والجنفس والصندل والحبر وأنواع الشيت والحرير والخام والابريسم وغير ذلك وتبعهم الخدم والعامة في النهب واخرجوا في الدكاكين والحواصل من أنواع الاقمشة وأخذوا ما اعجبهم واختاروه
وانتقوه وتركوا ما تركوه ولم يقدروا على حمله مطروحا على الأرض ودهليز الخان وخارج السوق يطؤن عليه بالارجل والنعالات ويعدو القوى على الضعيف فيأخذ ما معه من الأشياء الثمينة وقتل بعضهم البعض وكسروا أبواب الدكاكين التي خارج الخان بالخطة واخرجوا ما فيها من التحف والأواني الصيني والزجاج المذهب والكاسات البلور والصحون والاطباق والفناجين البيشة وأنواع الخردة وأخذوا ما اعجبهم وما وجدوه من نقود ودراهم وهشموا البواقي وكسروه والقوه على الأرض تحت الارجل شقاقا وما به من حوانيت العطارين وطرحوا أنواع الأشياء العطرية بوسط الشارع تداس بالارجل أيضا وفعلوا ما لا خير فيه من نهب أموال الناس والاتلاف ولولا الذين تصدوا لدفعهم ومنعهم بالبنادق والكرانك وغلق البوابات لكان الوقع افظع من ذلك ولنهبوا أيضا البيوت وفجروا بالنساء والعياذ بالله ولكن الله سلم وشاركهم في فعلهم الكثير من الاوباش والمغاربة المدافعين أيضا فإنهم أخذوا أشياء كثيرة وكانوا يقبضون على من يمر بهم ممن يقدرون عليه من النهابين ويأخذون ما معهم لأنفسهم وإذا هشمت العساكر حانوتا وخطفوا منها شيئا ولحقهم من يطردهم عنها استأصل اللاحقون ما فيها واستباح الناس أموال بعضهم البعض وكان هذا الحادث الذي لم نسمع بنظيره في دولة من الدول في ظرف خمس ساعات وذلك من قبيل صلاة الجمعة إلى قبيل العصر حصل للناس هذه المدة اليسيرة من الانزعاج والخوف الشديد ونهب الأموال واتلاف الأسباب والبضائع ما لا يوصف ولم تصل الجمعة في ذلك اليوم واغلقت المساجد الكائنة بداخل المدينة وأخذ الناس حذرهم ولبسوا اسلحتهم واغلقوا البوابات وقعدوا على الكرانك والمرابط والمتاريس وسهروا الليالي واقاموا على التحذر والتحفظ والتخوف أياما وليالي.
وفي يوم السبت تاسع عشرينه الموافق لآخر يوم من شهر ابيب القبطي أو فى النيل المبارك اذرعه وكان ذلك اليوم أيضا ليلة رؤية هلال رمضان
فصادف حصول الموسمين في أن واحد فلم يعمل فيها موسم ولا شنك على العادة ولم يركب المحتسب ولا أرباب الحرف بموكبهم وطبولهم وزمورهم وكذلك شنك قطع الخليج وما كان يعمل في ليلته من المهرجان في النيل وسواحله وعند السد وكذلك في صبحه وفي البيوت المطلة على الخليج فبطل ذلك جليعه ولم يشعر بهما أحد وصام الناس باجتهادهم وكان وفاء النيل في هذه السنة من النوادر فإن النيل لم تحصل فيه الزيادة بطول الأيام التي مضت من شهر ابيب إلا شيئا يسيرا حتى حصل في الناس وهم زائد وغلا سعر الغلة ورفعوها من السواحل والعرصات فافاض المولى في النيل واندفعت فيه الزيادة العظيمة وفي ليلتين اوفى اذرعه قبل مظنته فإن الوفاء لا يقع في الغالب إلا في شهر مسرى ولم يحصل في أواخر ابيب إلا في النادر وأنى لم ادركه في سنين عمري أو في ابيب إلا مرة واحدة وذلك في سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف فتكون المدة بين تلك وهذه المدة سبعا وأربعين سنة.
وفيه أرسل الباشا بطلب السيد محمد المحروقي فطلع إليه وصحبته عدة كبيرة من عسكر المغاربة لخفارته فلما واجهه قال له: هذا الذي حصل للناس من نهب أموالهم في صحائفي والقصد انكم تتقدمون لأرباب المنهوبات وتجمعونهم بديوان خاص طائفة بعد أخرى وتكتبون قوائم لكل طائفة بما ضاع لها على وجه التحرير والصحة وأنا اقوم لهم بدفعه بالغا ما بلغ فشكر له ودعا له ونزل إلى داره وعرف الناس بذلك وشاع بينهم فحصل لأربابه بعض الاطمئنان وطلع إلى الباشا كبار العسكر مثل عابدين بك ودبوس اوغلي وحجو بك ومحو بك واعتذروا وتنصلوا وذكروا واقروا أن هذا الواقع اشتركت فيه طوائف العسكر وفيهم من طوائفهم وعساكرهم ولا يخفاه خبث طباعهم فتقدم إليهم بأن يتفقدوا بالفحص وإحصاء ما حازه وأخذه كل من طوائفهم وعساكرهم وشدد عليهم في الأمر بذلك فاجابوه بالسمع والطاعة وامتثلوا لامره وأخذوا في جمع ما يمكنهم
وارساله إلى القلعة وركبوا وشقوا بشوارع المدينة وإمامهم المناداة بالأمان وأحضر الباشا المعمار وأمره بجمع النجارين والمعمرين واشغالهم في تعمير ما تكسر من اخشاب الدكاكين والأسواق ويدفع لهم اجرتهم وكذلك الاخشاب على طرف الميري.
واستهل شهر رمضان بيوم الإثنين سنة 1230
والناس في أمر مريج وتخوف شديد وملازمون للسهر على الكرانك ويتحاشون المشي والذهاب والمجىء وكل أهل خطة ملازم لخطته وحارته وكل وقت يذكرون وينقلون بينهم روايات وحكايات ووقائع مزعجات وتطاولت أيدي العساكر بالتعدي والاذية والفتك والقتل لمن ينفردون به من الرعية.
وفي ثاني ليلة طلع السيد محمد المحروقي وطلع صحبته الشيخ محمد الدواخلي نقيب الاشراف وابن الشيخ العروسي وابن الصاوى المتعينون في مشيخة الوقت وصحبتهم شيخ الغورية وطائفته قد ابتدؤا بهم في املاء ما نهب لهم من حوانيتهم بعدما حرروها عند السيد محمد المحروقي وتحليفهم بعد الاملاء على صدق داعواهم وبعد التحليف والمحاققة ويتجاوز عن بعضه لحضرة الباشا ثم يثبتون له الباقي فاستقر لأهل الغورية خاصة مائة وثمانون كيسا فدفع لهم ثلثيها واخر لهم الثلث وهو ستون كيسا يستوفونها فيما بعد أما من عروضهم أن ظهر لهم منها شىء أو من الخزينة ولازم الجماعة الطلوع والنزول في كل ليلة لتحرير بواقي المنهوبات وأيضا استقر لأهل خان الحمزاوي نحو من ثلاثة آلاف كيس كذلك ولطائفة السكرية نحو من سبعين كيسا خصمت لهم من ثمن السكر الذي يبتاعونه من الباشا واستمر الباشا بالقلعة يدير أموره ويجب قلوب الناس من الرعية وأكابر دولته بما يفعله من بذل المال ورد المنهوبات حتى ترك الناس يسخطون على العسكر ويترضون عنه ولو لم يفعل ذلك وسارت العساكر هذه الثور ولم يقع منهم نهب ولا تعد لساعدتهم الرعية واجتمعت عليهم أهالي القرى
وأرباب الاقطاعات لشدة نكايتهم من الباشا بضبط الرزق والالتزامات وقياس الأراضي وقطع المعايش وذلك من سوء تدبير العسكر وسعادة الباشا وحسن سياسته باستجلايه الخواطر وتملقه بالكلام اللين والتصنع ويلوم على فعل العسكر ويقول: بمسمع الحاضرين ما ذنب الناس معهم خصوصا خصامهم معي أو مع الرعية ها أنا لي منزل بالازبكية فيه أموال وجواهر وامتعة وأشياء كثيرة وسراية ابنى إسمعيل باشا ببولاق ومنزل الدفتردار ونحو ذلك ويتحسبل ويحوقل ويعمل فكرته ويدبر أمره في أمر العسكر وعظمائهم وينقم عليهم ويعطيهم الأموال الكثيرة والأكياس العديدة لأنفسهم وعساكرهم وتنتبذ طائفة منهم ويقولون: نحن لم ننهب ولم يحصل لنا كسب فيعطهم ويفرق فيهم المقادير العظيمة فأنعم على عابدين بك بألف كيس وبغيره دون ذلك.
وفي اثناء ذلك اخرج جردة من عسكر الدلاة ليسافروا إلى الديار الحجازية فبرزوا إلى خارج باب الفتوح حيث المكان المسمى بالشيخ قمر ونصبوا هناك وطاقهم وخرجت أحمالهم واثقالهم.
وفي ليلة الخميس ثارت طائفة الطبجية وخاضوا وضجوا وهم نحو الأربعمائة وطلبوا نفقة فأمر لهم بخمسة وعشرين كيسا ففرقت فيهم فسكتوا وفي يوم الخميس المذكور نزل كتخدا بك وشق من وسط المدينة ونزل عند جامع الغورية وجلس فيه ورسم لأهل السوق بفتح حوانيتهم وأن يجلسوا فيها فامتثلوا وفتحوا الحوانيت وجلسوا على تخوف كل ذلك مع عدم الراحة والهدو وتوقع المكروه والتطير من العسكر وتعدى السفهاء منهم في بعض الاحايين والتحرز والاحتراس وأما النصارى فإنهم حصنوا مساكنهم ونواحيهم وحاراتهم وسدوا المنافذ وبنوا كرانك واستعدوا بالأسلحة والبنادق وامدهم الباشا بالبارود وآلات الحرب دون المسلمين حتى أنهم أستاذنوا كتخدا بك في سد بعض الحارات النافذة التي يخشون وقوع الضرر منها فمنع من ذلك وأما النصارى فلم يمنعهم وقد تقدم ذكر فعله مع رضوان كاشف عندما سد باب داره وفتحه من جهة
أخرى وعزره وبهدله بوسط الديوان.
وفيه وصل نجيب أفندي وهو قبي كتخدا الباشا عند الدولة إلى بولاق فركب إليه كتخدا بك وأكابر الدولة والاغا والوالي وقابلوه ونظموا له موكبا من بولاق إلى القلعة ودخل من باب النصر وحضر صحبته خلع برسم الباشا وولده طوسون باشا وسيفان وشلنجان وهدايا واحقاق نشوق مجوهرة وعملوا له شنكا ومدافع من القلعة وبولاق.
وفيه ارتحل الدلاة المسافرون إلى الحجاز ودخل حجو بك إلى المدينة بطائفته.
وفي ضحوة ذلك اليوم بعد انفضاض أمر الموكب حصل في الناس زعجة وكرشات واغلقوا البوابات والدروب واتصل هذا الانزعاج بجميع النواحي حتى بولاق ومصر القديمة ولم يظهر لذلك أصل ولا سبب من الأسباب مطلقا.
وفي تلك الليلة البس الباشا حجو بك خلعة وتوجه بطرطور طويل وجعله اميرا على طائفة الدلاة وانخلع هو واتباعه من طريقتهم التركية التي كانوا عليها وهؤلاء الطائفة التي يقال لهم: دلاة ينسبون أنفسهم إلى طريقة سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأكثرهم من نواحي الشام وجبال الدروز والمتاولة وتلك النواحي يركبون الاكاديش وعلى رؤوسهم الطراطير السود مصنوعة من جلود الغنم الصغار طول الطرطور نحو ذراع وإذا دخل لكنيف نزعه من على رأسه ووضعه على عتبة الكنيف وما أدري ذلك تعظيم له عن مصاحبته معه في الكنيف أو الخوف وحذر من سقوطه أن انصدم بأسفكة الباب في صحن المرحاض أو الملاقي وهؤلاء الطائفة مشهورة في دولة العثمانيين بالشجاعة والاقدام في الحروب ويوجد فيهم من هو على طريقة حميدة ومنهم دون ذلك وقليل ما هم ولكونهم من تمام النظام رتبهم الباشا من اجناسه واتراكه خلاف الاجناس الغريبة ومن بقي من أولئك يكون تبعا لا متبوعا.
وفي يوم الثلاثاء سادس عشره حصل مثل ذلك المتقدم من الانزعاج والكرشات بل أكثر من المرة الأولى ورمحت الرامحان واغلقت الحوانيت وطلبت الناس السقائين الذين ينقلون الماء من الخليج وبيعت القربة بعشرة انصاف فضة والراوية بأربعين فنزل الاغا واغات التبديل وإمامهم المناداة بالأمان وينادون على العساكر أيضا ومنعهم من حمل البنادق ويأمرون الناس بالتحفظ واستمر هذا الأمر والارتجاج إلى قبيل العصر وسكن الحال وكثر مرور السقائين وبيعت القربة بخمسة انصاف والراوية بخمسة عشر ولم يظهر لهذه الحركة سبب أيضا وتقول الناس بطول نهار ذلك اليوم اصنافا وأنواعا من الروايات والاقاويل التي لا أصل لها.
وفي يوم الأربعاء سابع عشره حضر الشريف راجح من الحجاز ودخل المدينة وهو راكب على هجين وصحبته خمسة انفار على هجن أيضا معهم أشخاص من الارنؤد من اتباع حسن باشا الذي بالحجاز فطلعوا به إلى القلعة ثم انزلوه إلى منزل أحمد أغا اخي كتخدا بك.
وفي ليلة الخميس قلد الباشا عبد الله أغا المعروف بصارى جله وجعله كبيرا على طائفة من الينكجرية أيضا وجعل على راسه الطربوش الطويل المرخي على ظهره كما هي عادتهم هو واتباعه وكان من جملة المتهومين بالمخامرة على الباشا.
وفيه برز أمر الباشا لكبار العسكر بركوب جميع عساكرهم الخيول ومنعهم من حمل البنادق ولا يكون منهم راجل أو حامل للبندقية إلا من كان من اتباع الشرطة والاحكام مثل الوالي والاغا واغات التبديل ولازم كتخدا بك وايوب أغا تابع إبراهيم أغا آغات التبديل والوالي المرور بالشوارع والجلوس في مراكز الأسواق مثل الغورية والجمالية وباب الحمزاوي وباب زويلة وباب الخرق وأكثر اتباعهم مغطرون في نهار رمضان ومتجاهرون بذلك من غير احتشام ولا مبالاة بانتهاك حرمة شهر الصوم ويجلسون على الحوانيت والمساطب يأكلون ويشربون الدخان
ويأتي أحدهم وبيده شبك الدخان فيدني مجمرته لانف ابن البلد على غفلة منه وينفخ فيه على سبيل السخرية والهذيان بالصمائم وزادوا في الغي والتعدي وخطف النساء نهارا وجهارا حتى اتفق أن شخصا منهم ادخل امرأة إلى جامع الاشرفية وزنى بها في المسجد بعد صلاة الظهر في نهار رمضان.
وفي أواخره عملوا حساب أهل سوق مرجوش فبلغ ذلك أربعمائة وخمسين كيسا قبضوا ثلثيها وتاخر لهم الثلث كل ذلك خلاف النقود لهم ولغيرهم مثل تجار الحمزاوي وهو شئ كثير ومبالغ عظيمة فإن الباشا منع من ذكرها وقال: لأي شئ يؤخرون في حوانيتهم وحواصلهم النقود ولايتجرون فيها واتفق لتاجر من أهل اسوق أمير الجيوش أنه ذهب من حاصله من حواصل الخان ثمانية آلاف فرانسة فلم يذكرها ومات قهر وكذلك ضاع لأهل خان الحمزاوي من صرر الأموال والنقود والودائع والرهونات والمصاغ والجوهر مما يرهنه النساء على ثمن ما يشترونه من التجارة والتفاصيل والمقصبات أو على ما يتأخر عليهم من الأثمان ما لا يدخل تحت المحصر ويستحيا من ذكره وضاع لرجل يبيع الفسيخ والبطارخ تجاه الحمزاوي من حانوته أربعة آلاف فلم يذكرها وأمثال ذلك كثير وانقضى شهر رمضان والناس في أمر مريج وخوف وانزعاج وتوقع المكروه ولم ينزل الباشا من القلعة بطول الشهر وذلك على خلاف عادته فإنه لا يقدر على الاستقرار بمكان أياما وطبيعته الحركة حتى في الكلام وكبار العساكر والسيد محمد المحروقي ومن يصحبه من المشايخ ونقيب الاشراف مستمرون على الطلوع والنزول في كل يوم ليلة وللمتقيدين بالمنهوبين ديوان خاص وفرق الباشا كساوي العيد على أربابها ولم يظهر في هذه القضية شخص معين والكثير من العساكر الذين يمشون مع الناس في الأسواق يظهرون الخلاف والسخط ويظهر منهم التعدي ويخطفون عمائم الناس والنساء جهارا ويتوعدون الناس بعودهم في النهب وكأنما بينهم
وبين أهل البلدة عداوة قديمة اوثارات يخلصونها منهم وفيهم من يظهر التأسف والندم واللوم على المعتدين ويسفه رايهم وهو المحروم الذي غاب على ذلك وبالجملة فكل ذلك تقادير الهية وقضايا سماوية ونقمة حلت بأهل الإقليم وأهله من كل ناحية نسأل الله العفو والسلامة وحسن العاقبة ومما اتفق أن بعض الناس زاد بهم الوهم فنقل ماله من حانوته أو حاصله الكائن ببعض الوكائل والخانات إلى منزله أو حرز آخر فسرقها السراق وحانوته أو حاصله لم يصبه ما اصاب غيره وتعدد نظير ذلك لأشخاص كثيرة وذلك من فعل أهل البلدة يراقبون بعضهم بعضا ويداورنوهم في أوقات الغفلات في مثل هذه الحركات ومنهم من اتهم خدمة واتباعه وتهددهم وشكاهم إلى حكام الشرطة ويغرم مالا على ذلك أيضا وهم بريئون ولايفيده إلا ارتكاب الاثم والفضيحة وعداوة الاهل والخدم وزيادة الغرم وغالب ما بايدي التجار أموال الشركاء والودائع والرهونات ويطالبه أربابها ومنهم قليل الديانة وذهب من حانوته أشياء وبقي أشياء فادعى ضياع الكل لقوة الشبهة.
واستهل شهر شوال بيوم الثلاثاء سنة 1230
وهو يوم عيد الفطر وكان في غاية البرودة والخمول عديم البهجة من كل شئ ولم يظهر فيه علامات الاعياد إلا فطر والضائمين ولم يغير أحد ملبوسه بل ولافصل ثيابا مطلقا ولا شيئا جديدا ومن تقدم له ثوب وقطعة وفصلة في شعبان تأخر عند الخياط مرهونا على مصاريفه ولوازمه لتعطيل جمع الأسباب من بطانة وعقادة وغيرها حتى أنه إذا مات ميت لم يدرك أهله كفنه إلا بمشقة عظيمة وكسد في هذا العيد سوق الخياطين وما اشبههم من لوازم الاعياد ولم يعمل فيه كعك ولا شريك ولاسمك مملح ولا نقل ولم يخرجوا إلى الجبانات والمدافن أيضا كعادتهم ولا نصبوا خياما على المقابر ولم يحسن في هذه الحادثة إلا امتناع هذه الأمور وخصوصا خروج النساء إلى المقابر فإنه لم يخرج منهن إلا بعض حرافيشهن على تخوف ووقع
لبعضهن من العسكر ما وقع عند باب النصر والجامع الأحمر.
وفي ثالثه نزل الباشا من القلعة من باب الجبل وهو في عدة من عسكر الدلاة والاتراك الخيالة والمشاة وصحبته عابدين بك وذهب إلى ناحية الاثار فعيد على يوسف باشا المنفصل عن الشام لأنه مقيم هناك لتغيير الهواء بسبب مرضه ثم عدى إلى الجيزة وبات بها عند صهره محرم بك ولما أصبح ركب السفائن وانحدر إلى شبرا وبات بقصره ورجع إلى منزله بالازبكية ثم طلع إلى القعلة.
وفي يوم الثلاثاء ثامنه عمل ديوانا وجمع المشايخ المتصدرين وخاطبهم بقوله أنه يريد أن يفرج عن حصص الملتزمين ويترك لهم وساياهم يؤجرونها ويزرعوهنا لأنفسهم ويرتب نظاما لأجل راحة الناس وقد أمر الافندية كتاب الروزنامه بتحرير دفاتر وآمهلهم اثني عشر يوما يحررون في ظرفها الدفاتر على الوجه المرضى فأثنوا عليه خيرا ودعوا له فقال الشيخ السشواني: ونرجو من افندينا أيضا الافراج عن الرزق الاحباسية كذلك فقال: كذلك ننتظر في محاسبات الملتزمين ونحررها على الوجه المرضى أيضا ومن أراد منهم أن يتصرف في حصته ويلتزم بخلاص ما تحرر عليها من المال الميري لجهة الديوان من الفلاحين بموجب المساحة والقياس صرفناه فيها وإلا ابقاها على طرفنا ويقبض فائظه الذي يقع عليه التحرير من الخزينة نقدا وعدا فدعوا له أيضا وسكتوا فقال لهم: تكلموا فإني ما طلبتكم إلا للمشاورة معكم فلم يفتح الله عليهم بكلمة يقولها احدهم غير الدعاء له على أن الكلام ضائع لأنها حيل ومخادعة تروج على أهل الغفلات ويتوصل بها إلى ابراز ما يرومه من المرادات وعند ذلك انفض المجلس وانطلقت المبشرون على الملتزمين بالبشائر وعود الالتزام لتصرفهم يأخدون منهم ويأخذون منهم بقاشين مع أن الصورة معلومة والكيفية مجهولة ومعظم السبب في ذكره ذلك أن معظم حصص الالتزام كان بيدي العساكر وعظمائهم وزوجاتهم وقد انحرفت طباعهم وتكدرت امزجتهم بمنعهم عنه وحجزهم عن التصرف ولم يسهل بهم ذلك
فمنهم من كظم غيظه وفي نفسه ما فيها ومنهم من لم يطق الكتمان وبأرز بالمخالفة والتسلط على من لاجناية عليه فلذلك الباشا اعلن في ديوانه بهذا الكلام بمسمع منهم لتسكن حدتهم وتبرد حرارتهم إلى أن يتم أمر تدبيره معهم.
وفيه وصلت الهجانة وأخبار ومكاتبات من الديار الحجازية بوقوع الصلح بين طوسون باشا وعبد الله بن مسعود الذي تولى بعد موت أبيه كبيرا على الوهابية وأن عبد الله المذكور ترك الحروب والقتال واذعن للطاعة وحقن الدماء وحضر من جماعة الوهابية نحو العشرين نفرا من الانفار إلى طوسون باشا ووصل منهم اثنان إلى مصر فكأن الباشا لم يعجبه هذا الصلح ولم يظهر عليه علامات الرضا بذلك ولم يحسن نزل الواصلين ولما اجتمعا به وخاطبهما عاتبهما على المخالفة فاعتذرا وذكرا أن الأمير مسعودا المتوفي كان فيه عناد وحدة مزاج وكان يريد الملك وإقامة الدين وأما ابنه الأمير عبد الله فإنه لين الجانب والعريكة ويكره سفك الدماء على طريقة سلفه الأمير عبد العزيز المرحوم فإنه كان مسالما للدولة حتى أن المرحوم الوزير يوسف باشا حين كان بالمدينة كان بينه وبينه غاية الصداقة ولم يقع بينهما منازعة ولا مخالفة في شىء ولم يحصل التفاقم والخلاف إلا في أيام الأمير مسعود ومعظم الأمر للشريف غالب بخلاف الأمير عبد الله فإنه احسن السير وترك الخلاف وامن الطرق والسبل للحجاج والمسافرين ونحو ذلك من الكلمات والعبارات المستحسنات وانقضى المجلس وانصرفا إلى المحل الذي أمرا بالنزول فيه ومعهما بعض اتراك ملازمون لصحبتهما مع اتباعهما في الركوب والذهاب والاياب فإنه اطلق لهما الاذن إلى اي محل أراده فكانا يركبان ويمران بالشوارع بأتباعهما ومن يصحبهما ويتفرجان على البلدة وأهلها ودخلا إلى الجامع الأزهر في وقت لم يكن به أحد من المتصدرين لاقراء والتدريس وسألوا عن أهل مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه وعن الكتب الفقهية المصنفة في مذهبه فقيل انقرضوا
من أرض مصر بالكلية واشتريا نسخا من كتب التفسير والحديث مثل الخازن والكشاف والبغوي والكتب الستة المجمع على صحتها وغيرذلك وقد اجتمعت بهما مرتين فوجدت منهما انسا وطلاقة لسان واطلاعا وتضلعا ومعرفة بالأخبار والنوادر ولهما من التواضع وتهذيب الاخلاق وحسن الادب في الخطاب والتفقة في الدين واستحضار الفروع الفقهية واختلاف المذاهب فيها ما يفوق الوصف واسم احدهما عبد الله والاخر عبد العزيز وهو الاكبر حسنا ومعنى.
وفي يوم السبت تاسع عشره خرجوا بالمحمل إلى الحصوة خارج باب النصر وشقوا به من وسط المدينة وأمير الركب شخص من الدلاة يسمى اوزون اوغلي وفوق رأسه طرطور الدالاتية ومعظم الموكب من عساكر الدلاة وعلى رؤوسهم الطراطير السود بذاتهم المستبشعة وقد عم الإقليم المسخ في كل شئ فقد تغص الطبيعة وتتكدر النفس إذا شاهدت ذلك أو سمعت به وقد كانت نضارة الموكب السالفة في أيام المصريين ونظامها وحسنها وترتيبها وفخامتها وجمالها وزينتها التي لم يكن لها نظير في الربع المعمور ويضرب بها المثل في الدنيا كما قال قائلهم: فيها مصر السعيدة مالها من مثيل فيها ثلاثة من الهنا والسرور مواكب السلطان وبحر الوفا ومحمل الهادي نهار يدور فقد فقدت هذه الثلاثة في جملة المفقودات.
وفي ثالث عشرينه وصل قابجي وعلى يده تقرير ولاية مصر لمحمد علي باشا على السنة الجديدة فعملوا لذلك الواصل موكبا من بولاق إلى القلعة وضربوا مدافع وشنكا وبنادق.
واستهل شهر ذي القعدة الحرام بيوم الأربعاء سنة 1230
في سادس عشره سافر الباشا إلى الاسكندرية وأخذ صحبته عابدين بك وإسمعيل باشا ولده وغيرهما من كبرائهم وعظمائهم وسافر ابضا نجيب أفندي وسليمان اغا وكيل دار السعادة سابقا تابع صالح بك المصري المحمدي إلى دار السلطنة وأصحب الباشا إلى الدولة وأكابرها
الهدايا من الخيول والمهاري والسروج المكللة بالذهب واللؤلؤ والمخيش وتعابي الاقمشة الهندية المتنوعة من الكشمير والمقصبات والتحف ومن الذهب المضروب السكة أربعة قناطير ومن الفضة الثقيلة في الوزن والعيار عدة قناطير ومن السكر المكرر مرارا وأنواع الشراب خافاه في القدور الصيني وغير ذلك.
وفيه وردت الأخبار بوصول طوسون باشا إلى الطور فهرعت أكابرهم وأعيانهم إلى ملاقاته وأخذوا في الاهتمام واحضار الهدايا والتقادم وركبت الخوندات والنساء والستات أفواجا أفواجا يطلعن إلى القلعة ليهنين والدته بقدومه.
وفي غايته وصل طوسون باشا إلى السويس فضربوا مدافع اعلاما بقدومه وحضر نجيب أفندي راجعا من الاسكندرية لأجل ملاقاته لأنه قبي كتخدا اليوم أيضا عند الدولة كما هو لوالده.
واستهل شهر ذي الحجة الحرام بيوم الجمعة سنة 1230.
في رابعه يوم الإثنين نودي بزينة الشارع الاعظم لدخول طوسون باشا سرورا بقدومه فلما أصبح يوم الثلاثاء خامسه احتفل الناس بزينة الحوانيت بالشارع وعملوا له موكبا حافلا ودخل من باب النصر وعلى رأسه الطلخان وشعار الوزارة وطلع إلى القلعة وضربوا في ذلك اليوم مدافع كثيرة وشنكا وحراقات.
وفي ليلة الجمعة خامس عشره سافر طوسون باشا المذكور إلى الاسكندرية ليراه ابوه ويسلم هو عليه وليرى هو ولداله ولد في غيبته يسمى عباس بك أصحبه معه جده مع حاضنته وسنه دون السنتين يقال: إن جده قصد ارساله إلى دار السلطنة فلم يسهل بابيه ذلك وشق عليه ففارقه وخصوصا كونه لم يره وسافر صحبة طوسون باشا نجيب أفندي عائدا إلى الاسكندرية.
وفي يوم السبت عشرينه حضر طوسون باشا إلى مصر راجعا من الاسكندرية في تطريدة ومعه ولده فكانت مدة غيبته ذهابا وايابا ثمانية
أيام فطلع إلى القلعة وصار ينزل إلى بستان بطريق بولاق ظاهر التبانة عمره كتخدا بك وبنى به قصرا فيقيم به غالب الأيام الىي اقامها بمصر وانقضت السنة وما تجدد فيها من استمرار المبتدعات والمكوس والتحكير واهمال السوقة والمتسببين حتى عم غلو الاسعار في كل شئ حتى بلغ سعر كل صنف عشرة أمثال سعره في الأيام الخالية مع الحجر على الايراد وأسباب المعايش فلا يهنا بعيش في الجملة الأمن كان مكاسا أو في خدمة من خدم الدولة مع كونه على خطر فإنه وقع لكثير ممن تقدم في منصب أو خدمة أنه حوسب واهين والزم بما رافعوه فيه وقد استهلكه في نفقات نفسه وحواشيه فباع ما يملكه واستدان وأصبح ميؤسا مديونا وصارت المعايش ضنكا وخصوصا الواقع في اختلاف المعاملات والنقود والزيادة في صرفها واسعارها واحتجاج الباعة والتجار والمتسببين بذلك وبما حدث عليها من مال المكس مع طمعهم أيضا وخصوصا سفلة الأسواق وبياعي الخضارات والجزارين والزياتين فإنهم يدفعون ماهو مرتب عليهم للمحتسب مياومة ومشاهرة ويخلصون اضعافة من الناس ولا رادع لهم بل يسعرون لأنفسهم حتى أن البطيخ في أوان كثرته تباع الواحدة التي كانت تساوي نصفين بعشرين وثلاثين والرطل من العنب الشرقاوي الذي كان يباع في السابق بنصف واحد يبيعونه يوما بعشرة ويوما باثني عشر ويوما بثمانية وقس على ذلك الخوخ والبرقوق والمشمش وأما الزبيب والتين واللوز والبندق والجوز والأشياء التي يقال لها: اليميش التي تجلب من بلاد الروم فبلغت الغاية في الثمن بل قد لا يوجد في أكثر الأوقات وكذلك ما يجلب من الشام مثل الملبن والقمر الدين والمشمش الحموي والعناب وكذلك الفستق والصنوبر وغير ذلك ما يطول شرحه ويزداد بطول الزمان قبه.
ومات في هذه السنة العلامة الاوحد والفهامة الامجد محقق عصره ووحيد دهره الجامع لاشتات العلوم والمنفرد بتحقيق المنطوق والمفهوم
بقيه الفصحاء الفضلاء المتقدمين المتميز عن المتأخرين الشيخ محمد ابن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي ولد ببلده دسوق من قرى مصر وحضر إلى مصر وحفظ القرآن وجوده على الشيخ محمد المنير ولازم حضور دروس الشيخ علي الصعيدي والشيخ الدردير وتلقى الكثير من المعقولات عن الشيخ محمد الجناجي الشهير الشافعي وهو مالكي ولازم الوالد حسنا الجبرتي مدة طويلة وتلقى عنه بواسطة الشيخ محمد بن إسمعيل النفراوي علم الحكمة الهيئة والهندسة وفن التوقيت حضر عليه أيضا في فقه الحنفية وفي المطول وغيره برواق الجبرت بالأزهر وتصدر للاقراء والتدريس وافادة الطلبة وكان فريدا في تسهيل المعاني وتبيين المباني يفك كل مشكل بواضح تقريره ويفتح كل مغلق برائق تحريره ودرسه مجمع اذكياء الطلاب والمهرة من ذوي الافهام والالباب مع لين جانب وديانة وحسن خلق وتواضع وعدم تصنع واطراح تكلف جاريا على سجيته لا يرتكب ما يتكلفه غيره من التعاظم وفخامة الالفاظ ولهذا كثر الأخذون عليه والمترددون إليه.
ومات الأستاذ الفريد واللودعي المجيد الإمام العلامة والنحرير الفهامة الفقيه النحوي الاصولي الجدلي المنطقي الشيخ محمد المهدي الحفني ووالده من الاقباط واسلم هو صغيرا دون البلوغ على يد الشيخ الحفني وحلت عليه انظاره واشرقت عليه انواره وفارق أهله وتبرا منهم وحضنه الشيخ ورباه واحبه واستمر بمنزله مع أولاده واعتنى بشأنه وقرا القرآن ولما ترعرع اشتغل بطلب العلم وحفظ أبا شجاع والفية النحو والمتون ولازم دروس الشيخ وأخيه الشيخ يوسف وغيرهما من أشياخ الوقت مثل الشيخ العدوي والشيخ عطية الاجهوري والشيخ الدردير والبيلي والجمل والخرشي وعبد الرحمن المقري والشرقاوي وغيرهم واجتهد في التحصيل ليلا ونهارا ومهر وانجب ولازم في غالب مجالس الذكر عن الشيخ الدردير بعد وفاة الشيخ الحفني وتصدر للتدريس في سنة تسعين ومائة وألف ولما
مات الشيخ محمد الهلباوي سنة اثنتين وتسعين جلس مكانه بالأزهر وقرا شرح الالفية لابن عقيل ولازم الالقاء وتقرير الدروس مع الفصاحة وحسن البيان والتفهم وسلاسة التعبير وأيضاح العبارات وتحقيق المشكلات ونما أمره واشتهر ذكره وبعد صيته ولم يزل أمره ينمو واسمه يسمو مع حسن السمت ووجاهة الطلعة وجمال الهيئة وبشاشة الوجه وطلاقة اللسان وسرعة الجواب واستحضار الصواب في ترداد الخطاب ومسايرة الاصحاب وفارق الدنيا وأرسلوا إلى أولاده فحضر واحملوه في تابوت إلى الدار الكبيرة بالمرسكي ليلا وشاع موته وجهز وصلى عليه بالأزهر في مشهد حافل جدا ودفن عند الشيخ الحنفي بجانب القبر فسبحان الحي الذي لا يموت.
ومات الأستاذ العلامة والنحرير الفهامة الفقيه النبية المهذهب المتواضع الشيخ مصطفى بن محمد بن يوسف ابن عبد الرحمن الشهير بالصفوى القلعاوي الشافعي ولد في شهر ربيع الأول من سنة ثمان وخمسين ومائة وألف وتفقه على الشيخ الملوي والسحيمي والبراوي والحفني ولازم شيخنا الشيخ أحمد العروسي وانتفع عليه واذن له في الفتيا عن لسانه وجمع من تقريراته واقتطف من تحقيقاته وألف وصنف وكتب حاشية على ابن قاسم الغزي على ابي شجاع في الفقه وحاشية على شرح المطول للسعد التفتازائي على التلخيص وشرح شرح السمرقندي على الرسالة العضدية في علم الوضع وله منظومة في آداب البحث وشرحها ومنظومة المتن التهذيب في المنطق وشرحها وديوان شعر سماه اتحاف الناظرين في مدح سيد المرسلين وعدة من الرسائل في معضلات المسائل وغير ذلك وكان سكنه بقلعة الجبل ويأتي في كل يوم إلى الأزهر للأقرباء والأفادة فلما أمر الباشا سكان القلعة بإخلائها والنزول منها إلى المدينة فنزلوا إلى المدينة وتركوا دورهم واوطانهم نزل المترجم مع من نزل وسكن بحارة أمير الجيوش جهة باب الشعرية ولم يزل هناك حتى تمرض أياما وتوفي ليلة السبت سابع عشري شهر رمضان وصلى عليه بالأزهر ودفن بزاوية الشيخ
سراج الدين البلقبني بحارة السيارج رحمه الله تعالى فإنه كان من احسن من رأينا سمتا وعلما وصلاحا وتواضعا وانكسارا وانجماعا عن خلطة الكثير من الناس مقبلا على شأنه راضيا مرضيا طاهرا نقيا لطيف المزاج جدا محبوبا للناس عفا الله عنه وغفر لنا وله.
ومات الشيخ الفاضل الأجل الامثل والوجيه المفضل الشيخ حسين بن حسن كناني بن علي المنصوري الحنفي تفقه على خاله الشيخ مصطفى بن سليمان المنصوري والشيخ محمد الدلجي والشيخ أحمد الفارسي والشيخ عمر الدبركي والشيخ محمد المصيلي وأقرا في فقه المذهب دروسا في محل جده لأمه بالأزهر وسكن داره بحارة الحبانية على بركة الفيل مع أخيه الشيخ عبد الرحمن ثم انتقلا في حوادث الفرنساوية إلى حارة الأزهر ولما كانت حادثة السيد عمر مكرم النقيب من مصر إلى دمياط وكنبوا فيه عرضا للدولة وامتنع السيد أحمد الطحطاوي من الشهادة عليه كما تقدم وتعصبوا عليه وعزلوه من مشيخة الحنفية قلدوها المترجم فلم يزل فيها حتى تمرض وتوفي يوم الثلاثاء تاسع عشري المحرم وصلي عليه بالأزهر ودفن بتربة المجاورين رحمه الله وايانا.
ومات البليغ النجيب والنبيه الاريب نادرة الزمان وفريد الأوان اخونا ومحبنا في الله تعالى ومن اجله السيد إسمعيل بن سعد الشهير بالخشاب كان ابوه نجارا ثم فتح له مخزنا لبيع الخشب تجاه تكية الكلشني بالقرب من باب زويلة وولد له المترجم واخوه إبراهيم ومحمد وهو اصغرهما فتولع السيد إسمعيل المترجم بحفظ القرآن ثم بطلب العلم ولازم حضور السيد علي المقدسي وغيره من افاضل الوقت وانجب في فقه الشافعية والمعقول بقدر الحاجة وتثقيف اللسان والفروع الفقهية الواجبة والفرائض وتنزل في حرفة الشهادة بالمحكمة الكبيرة لضرورة التكسب في المعاش ومصارف العيال وتمسك بمطالعة الكتب الادبية والتصوف والتاريخ وأولع بذلك وحفظ أشياء كثيرة من الاشعار والمراسلات وحكايات الصوفية وما تكلموا
فيه من الحقائق حتى صار نادرة عصره في المحاضرات والمحأورات واستحضار المناسبات والماجريات وقال الشعر الرائق ونثر النثر الفائق وصحب بسبب ما احتوى عليه من دماثة الاخلاق ولطف السرايا وكرم الشمائل وخفة الروح كثيرا من رباب المظاهر والرؤساء من الكتاب والأمراء والتجار.
ولم يزل المترجم على حالته ورقته ولطافته مع ما كان عليه من كرم النفس والعفة والنزاهة والتولع بمعالي الأمور والتكسب وكثرة الانفاق وسكنى الدور الواسعة والحزم وكان له صاحب يسمى أحمد العطار بباب الفتوح توفي وتزوج هو بزوجته وهي نصف وأقام معها نحو ثلاثين سنة ولها ولد صغير من المتوفي فتبناه ورباه ورفهه بالملابس واشفق به اضعاف والد بولده بلغ عمل له مهما وزوجته ودعا الناس إلى ولائمه وانفق عليه في ذلك انفاقا كثيرة وبعد نحو سنة تمرض ذلك الغلام اشهرا فصرف عليه وعلى معالجته جملة من المال ومات فجزع عليه جزعا شديدا ويبكي وينتحب وعمل له مأتما وعزاء واختارت امه دفنه بجامع الكردي بالحسينية ورتبت وقراء واتخذت مسكنا ملاصقا لقبره اقامت به نحو الثلاثين سنة مع دوام عمل الشريك والكعك بالعجمية والسكر وطبخ الاطعمة للمقرئين والزائرين ثم ملازمة الميت واتخاذ ما ذكر في كل جمعة على الدوام والمترجم طوع يدها في كل ماطلبته وما كلفته به تسخيرا من الله تعالى وكل ما وصل إلى يده من حرام أو حلال فهو مستهلك عليها وعلى اقاربها وخدمها لا لذة له في ذلك حسية ولا معنوية لأنها في ذاتها عجوز شوهاء وهو في نفسه نحيف البنية ضعيف الحركة جدا بل معدومها وابتلى بحصر البول وسلسه القليل مع الحرقة والتألم استدام بها مدة طويلة حتى لزم الفراش أياما وتوفي يوم السبت ثاني شهر الحجة الحرام بمنزله الذي استأجره بدرب قرمز بين القصرين وصلينا عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن عند ابنه المذكور بالحسينية وكثيرا ما كنت اتذكر قول القائل ومن
تراه بأولاد السوى فرحا في عقله عزه أن شئت وانتدب أولاد صلب الفتى قلت منافعهم فكيف يلمح نفع إلا بعد الجنب مع أنه كان كثير الانتقاد على غيره فيما لا يداني فعله وانقياده إلى هذه المراة وحواشيها نسأل الله السلامة والعافية وحسن العاقبة كما قيل من تكمله ما تقدم فلا سرور سوى نفع بعافية وحسن ختم وما يأتي من الشعب وامن نكر نكير القبر ئمة ما يكون بعد من الاهوال والتعب.
واستهلت سنة 1230
استهل شهر المحرم بيوم السبت وحاكم مصر وصاحبها واقطاعها وثغورها وكذلك بندر جدة ومكة والمدينة المنورة وبلاد الحجاز محمد علي باشا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ولاظ محمد الذي هو كتخدا بك قائمقامه هو المتصدر لاجراء الاحكام بين الناس عن أمر مخدومه وإبراهيم اغا اغات الباب والدفتردار محمد أفندي صهر الباشا ولروزنامجي مصطفى أفندي تابع محمد أفندي باش جاكرت سابقا وغيطاس أفندي سرجي وسليمان أفندي الكماخي باشمحاسب ورفيقه أحمد أفندي باش زعيم مصر وهو الوالي واغات التبديل أحمد اغا وهو اخو حسن اغا قلفة وصالح بك السلحدار وحسن اغا اغات الينكجرية وعلي اغا الشعراوي المذكور وكاتب الخزينة ولي خوجة ورئيس كتبة الاقباط المعلم غالي وأولاده الباشا إبراهيم باشا حاكم الصعيد وطوسون باشا فاتح بلاد الحجاز وإسمعيل باشا ببولاق ومحرم بك صهر الباشا أيضا على ابنته بالجيزة أحمد اغا المعروف ببونابارته الخازندار وباقي كشاف الاقاليم وأكابر أعيانهم مثل دبوس اوغلي وحسن اغا سرششمة وحجو بك ومحو بك وخلافهم.
وفي ذلك اليوم قبض كتخدا بك على المعلم غالي وأمر بحبسه وكذلك اخوه المسمى فرنسيس وخازنداره المعلم سمعان وذلك عن أمر مخدومه من الاسكندرية لأنه حول عليه الطلب بستة الاف كيس تأخر اداؤها اياه من حسابه القديم فاعتذر بعدم القدرة على ادائها في الحين لأنها بواقي على أربابها وهو ساع في تحصيلها ويطلب المهلة إلى رجوع الباشا من
غيبته فأرسل الكتخدا بمقالته واعتذاره إلى الباشا وانتبذ طائفة من الاقباط في الحط على غالي مع الكتخدا وعرفوه أنه إذا حوسب يظهر عليه ثلاثون ألف كيس فقال لهم: وأن لم يتأخر عليه هذا القدر تكونوا ملزومين به إلى الخزينة فأجابوه إلى ذلك فأرسل يعرف الباشا بذلك فورد الأمر بالقبض عليه وعلى أخيه وخازنداره وحبسهم وعزله ومطالبته بستة آلاف كيس القديمة أولا ثم حسابه بعد ذلك فأحضر المرافعين عليه وهم المعلم جرجس الطويل ومنقريوس البتنوني وحنا الطويل والبسهم خلعا على رياسة الكتاب عوضا عن غالي ومن يليه واستمر غالي في الحبس ثم أحضره مع أخيه وخازنداره فضربوا اخاه إمامه ثم أمر بضربه فقال: وأنا ضرب أيضا قال: نعم ثم ضربوه على رجليه بالكرابيج ورفع وكرر عليه الضرب وضرب سمعان ألف كرباج حتى اشرف على الهلاك ووجدوا في جيبه ألف شخص بندقي ومائتي محبوب عنها اثنان وعشرون ألف قرش ثم بعد أيام افرجوا عن أخيه وسمعان ليسعيا في التحصيل وهلك سمعان واستمر غالي في السجن وقد رفعوا عنه وعن أخيه العقاب لئلا يموتا.
وفي عاشره رجع الباشا من غيبته من الاسكندرية وأول ما بادا به اخراج العساكر مع كبرائهم إلى ناحية بحري وجهة البحيرة والثغور فنصبوا خيامهم بالبر الغربي والشرقي تجاه الرحمانية وأخذوا صحبتهم مدافع وبارودا والات الحرب واستمر خروجهم في كل يوم وذلك من مكايده معهم وابعادهم عن جزاء فعلتهم التقدمه فخرجوا ارسالا.
واستهل شهر صفر الخير سنة 1231.
فيه تشفع جوني الحكيم في المعلم غالي وأخذه من الحبس إلى داره والعساكر مستمرون في التشهيل والخروج وهم لا يعلمون المراد بهم وكثرت الروايات والأخبار والايهامات والظنون ومعنى الشعر في بطن الشاعر.
واستهل شهر ربيع الاول 1231.
فيه سافر طوسون باشا واخوه إسمعيل باشا إلى ناحية رشيد ونصبوا.
عرضيهما عند الحماد وناحية ابي منضور وحسين بك دالي باشا وخلافه مثل حسن اغا زجنلي ومحو بك وصارى جلة وحجو بك جهة البحيرة وكل ذلك تواطين وتلبيس للعساكر بكونه اخراج حتى أولاده العزاز للمحافظة وكذلك الكثير من كبرائهم إلى جهة البحر الشرقي ودمياط.
وفي ثاني عشره صبيحة المولد النبوي طلب الباشا المشايخ فلما جلسوا مجلسهم وفيهم الشيخ البكري أحضروا خلعة والبسوها له على منصب نقابة الاشراف عوضا عن السيد محمد المحروقي وفاوضه في ذلك ورأى أن يقلده اياه فاعتذر السيد محمد المحروقي واستعفى وقال: أنا متقيد بخدمة افندينا ومهمات المتاجر والعرب والحجاز فقال: قد قلدتك اياها فأعطها لمن شئت فذكر أنها كانت مضافة للشيخ البكري وهو أولى من غيره فلما حضروا وتكاملوا لبسوه الخلعة واستصوب الجماعة ذلك وانصرفوا وفي الحال كتب فرمان بإخراج الدواخلي منفيا إلى قرية دسوق فنزل إليه السيد أحمد الملا الترجمان وصحبته قواس تركي وبيده الفرمان فدخلوا إليه على حين غفلة وكان بداخل حريمه لم يشعر بشئ مما جرى فخرج إليهم فأعطوه الفرمان فلما قرأه غاب عن حواسه واجاب بالطاعة وامروه بالركوب فركب بغلته وسارا به إلى بولاق إلى المنزل الذي كان شراه بعد موت ولده والشيخ سالم الشرقاوي وانسل مما كان فيه كانسلال الشعرة من العجين وتفرق الجمع الذي كان حوله وشرع الأشياخ في تنميق عرضحال عن لسانهم بأمر الباشا بتعداد جنايات الدواخلي وذنوبه وموجبات عزله وأن ذلك بترجيهم والتماسهم عزله ونفيه ويرسل ذلك العرضحال لنقيب الاشراف بدار السلطنة لأن الذي يكون نقيبا بمصر نيابة عنه ويرسل إليه الهدية في كل سنة فالذي نقموه عليه من الذنوب أنه تطأول على حسين أفندي شيخ رواق الترك وسبه وحبسه من غير جرم وذلك أنه اشترى منه جارية حبشية بقدر من الفرانسة فلما اقبضه الثمن اعطاه بدلها قروشا بدون الفرط الذي بين المعاملتين فتوقف السيد حسين
وقال: أما تعطيني العين التي وقع عليها الانفصال أو تكمل فرط النقص وتشاحا وادى ذلك إلى سبه وحبسه وهو رجل كبير متضلع ومدرس وشيخ رواق الاتراك بالأزهر وهذه القضية سابقة على حادثة نفيه بنحو سنتين.
ومنها أيضا أنه تطأول على السيد منصور اليافي بسبب فتيا رفعت إليه وهي أن امرأة وقفت وقفا في مرض موتها وافتى بصحة الوقت على قول ضعيف فسبه في ملا من الجميع وأراد ضربه ونزع عمامته من اعلى رأسه.
ومنها أيضا أنه يعأرض القاضي في احكامه وينقص محاصيله ويكتب في بيته وثائق قضايا صلحا ويسب اتباع القاضي ورسل المحكمة ويعأرض شيخ الجامع الأزهر في أموره ونحو ذلك وعندما سطروه وتمموه وضعوا عليه ختومهم وأرسلوا إلى إسلامبول على أن جناياته عند الباشا ليست هذه النكات الفارغة بل ولا علم له بها ولا التفات وإنما هي أشياء وراء ذلك كله ظهر بعضها وخفي عنا باقيها وذلك أن الباشا يحب الشوكة ونفوذ أوامره في كل مرام ولايصطفى ويحب إلا من لا يعارضه ولو في جزئية أو يفتح له بابا يهب منه ريح الدراهم والدنانيراويدله على ما فيه كسب أو ربح من أي طريق أو سبب من أي ملة كان ولما حصلت واقعة قيام العسكر في أواخر السنة الماضية وأقام الباشا بالقلعة يدبر أمره فيهم والزم أعيان المتظاهرين الطلوع إليه في كل ليلة واجل المتعممين الدواخلي لكونه معدودا في العلماء ونقيبا على الاشراف وهي رتبة الوالي عند العثمانيين فداخله الغرور وظن أن الباشا قد حصل في ورطة يطلب النجاة منها بفعل القربات والندور ولكونه رآه يسترضي خواطر الرعية المنهوبين ويدفع لهم أثمانها ويستميل كبار العساكر وينعم عليهم بالمقادير الكثيرة من أكياس المال ويسترسل معه في المسامرة والمسايرة ولين الخطاب والمذاكرة والمضاحكة فلما رأى اقبال الباشا عليه زاد طمعه في الأسترسال معه فقال له: الله يحفظ افندينا وينصره على اعدائه والمخالفين له ونرجوا من احسانه
بعد هدؤوسر وسكون هذه الفتنة أن ينعم علينا ويجرينا على عوائدنا في الحمايات والمسامحات في خصوص ما يتعلق بنا من حصص الالتزام والرزق فأجابه بقوله: نعم يكون ذلك ولابد من الراحة لكم ولكافة الناس فدعا له وآنس فؤاده وقال الله تعالى يحفظ افندينا وينصره على اعدائه كذلك يكون تمام ما اشرتم به من الراحة لكافة الناس الافراج عن الرزق الاحباسية على المساجد والفقراء فقال: نعم ووعده مواعيدة العرقوبية فكان الدواخلي إذا نزل من القلعة إلى داره يحكي في مجلسه ما يكون بينه وبين الباشا من أمثال هذا الكلام ويذيعه في الناس ولما أمر الباشا الكتاب بتحرير حساب الملتزمين على الوجه المرضي بديوان خاص لرجال دائرة الباشا وأكابر العسكر وذلك بالقعلة تطييبا لخواطرهم وديوان آخر في المدينة لعامة الملتزمين فيحررون للخاصة بالقلعة ما في قوائم مصروفهم وما كانوا يأخذونه من المضاف والبراني والهدايا وغير ذلك والديوان العام التحتاني بخلاف ذلك فلما رأى الدواخلي ذلك الترتيب قال للباشا: وأنا الفقير محسوبكم من رجال الدائرة فقال: نعم وحرروا قوائمه مع الأكابر وأكابر الدولة وانعم عليه الباشا بأكياس أيضا كثيرة زيادة على ذلك فلما راق الحال ورتب الباشا أموره مع العسكر أخذ يذكر الباشا بإنجاز الوعد ويكرر القول عليه وعلى كتخدا بك بقوله أنتم تكذبون علينا ونحن نكذب على الناس وأخذ يتطأول على كتبة الاقباط بسبب أمور يلزمهم ويكلفهم بإتمامها وعذرهم يخفي عنه في تأخيرها فيكلمهم بحضرة الكتخدا ويشتمهم ويقول لبعضهم: أما اعتبر ثم بما حصل للعين غالي فيحقدون عليه ويشكون منه للباشا والكتخدا وغير ذلك أمور مثل تعرضه للقاضي في قضاياه وتشكيه منه واتفق أنه لما حضر إبراهيم باشا من الجهة القبلية وكان بصحبته أحمد جلبي ابن ذي الفقار كتخدا الفلاح وكأنه كان كتخداه بالصعيد وتشكت الناس من افاعله واغوائه إبراهيم باشا فاجتمع به الدواخلي عند السيد محمد المحروقي وحضر قبل ذلك إليه للسلام عليه
وفي كل مرة يوبخه بالكلام ويلومه على افعاله بالقول الخشن في ملا من الناس فذهب إلى الباشا وبالغ في الشكوى ويقول فيها: أنا نصحت في خدمة افندينا جهدي واظهرت من المخبات ما عجز عنه غيري فأجازي عليه من هذا الشيخ ما اسمعنيه من قبيح القول وتجبيهي بين الملا وإذا كان محبا لافندينا فلا يكره نفعه ولا النصح في خدمته وأمثال ذلك مما يخفي عنا خبره فمثل هذه الأمور هي التي اوغرت صدر الباشا على الدواخلي مع أنها في الحقيقة ليست خلافا عند من فيه قابلية للخير وأنا اقول أن الذي وقع لهذا الدواخلي إنما هو قصاص وجزاء فعله في السيد عمر مكرم فإنه كان من اكبر الساعين عليه إلى أن عزلوه واخرجوه من مصر والجزاء من جنس العمل كما قيل:.
فقل للشامتين بنا افيقوا
…
سيلقى الشامتون كما لقينا
ولما جرى على الدواخلي ما جرى من العزل والنفي اظهر الكثير من نظرائه المتفقهين الشماتة والفرح وعملوا ولائم وعزائم ومضاحكات كما قيل:
أمور تضحك السفهاء منها
…
ويبكي من عواقبها اللبيب
وقد زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس وانهمكوا في الأمور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية ومشاركة الجهال في الماثم والمسارعة إلى الولائم في الافراح والمآتم يتكالبون على اسمطة كالبهائم فتراهم في كل دعوة ذاهبين وعلى الخوانات راكعين وللكباب والمحمرات خاطفين وعلى ما وجب عليهم من النصح تاركين.
وفي أواخره شرعوا في عمل مهم عظيم بمنزل ولي أفندي ويقال له: ولي جحا وهو كاتب الخزينة العامرة وهو من طائفة الارنؤد واختص به الباشا واستأمنه على الأمور وضم إليه دفاتر الايراد من جميع وجوه جبايات الأموال من خراج البلاد والمحدثات وحسابات المباشرين وانشا دارا عظيمة بخطة باب اللوق على البركة المعروفة بأبي الشوارب وادخل فيها
عدة بيوت بجانبها على نسق واصطلاح الابنية الافرنجية والرومية وتأنق في زخرفتها واتساعها واستمرت العمارة بها نحو السنتين ولما كملت وتمت أحضروا القاضي والمشايخ وعقدوا لولديه على ابنتين من اقارب الباشا بحضرة الأعيان ومن ذكر واحتفلوا بعمل المهم احتفالا زائدا وتقيد السيد محمد المحروقي بالمصاريف والتنظيم واللوازم كما كان في افراح أولاد الباشا واجتمعت الملاعيب والبهلوانات بالبركة وما حولها وبالشارع وعلقوا تعاليق قناديل ونجفات واحمال بلور وزينات واجتمع الناس للفرجة وبالليل حراقات ونفوط ومدافع وسواريخ سبع ليال متوالية وعملت الزفة يوم الخميس واجتمعت العربات لاباب الحرف كما تقدم في العام الماضي بل ازيد وذلك لأن الباشا لم يشاهد افراح أولاده لكونه كان غائبا بالديار الحجازية وحضر الباشا للفرجة وجلس بمدرسة الغورية بقصد الفرجة وعمل له السيد محمد المحروقي الغداء وخرجوا بالزفة أوائل النهار وداروا بها دورة طويلة فلم يمروا بسوق الغورية إلا قريب الغروب أواخر النهار.
واستهل شهر ربيع الثاني سنة 1231
وخروج العساكر إلى ناحية بحرى مستمر وافصح الباشا وذكر في كلامه في مجالسه وبين السر في اخراجهم من المدينة بأن العساكر قد كثروا وفي اقامتهم بالبلدة مع كثرتهم ضرر وافساد وضيق على الرعية مع عدم الحاجة إليهم داخل البلدة والأولى والاحوط أن يكونوا خارجها وحولها مرابطين لحفظ الثغور من طارق على حين غفلة أو حادث خارجي وليس لهم إلا رواتبهم وعلائفهم تأتيهم في أماكنهم ومراكزهم والسر الخفي اخراج الذين قصدوا غدره وخيانته ووقع بسبب حركتهم ما وقع من النهب والازعاج على أواخر شعبان من السنة الماضية وكان قد بدا باخراج أولاده وخواصه من تحيله واحدا بعد واحد واسر إلى أولاده بما في ضميره وأصحب مع ولده طوسون باشا شخصا من خواصه يسمى أحمد اغا
البخورجي المدللي وأخذ طوسون باشا في تدبير الايقاع مع من يريد به فبدا بمحو بك وهو اعظمهم وأكثرهم جندا فأخذ في تأليف عساكره حتى لم يبق معه إلا القليل ثم أرسل في وقت بطلب محو بك عنده في مشروة فذهب إليه أحمد اغا المدللي المذكور واسر إليه ما يراد به واشار إليه بعدم الذهاب فركب محو بك في الحال وذهب عند الدلاة فأرسلوا إلى مصطفى بك وهو كبير على طائفة من الدلاة وأخو زوجة الباشا وقريبه والى إسمعيل باشا ابن الباشا ليتوسطا في صلح محو بك مع الباشا وليعفوه ويذهب إلى بلاده فأرسلا إلى الباشا بالخبر وبما نقله أحمد اغا المدللي إلى محو بك فسفه رأيه في تصديق المقالة وفي هروبه عند الدلاة ثم يقول: لولا أن في نفسه خيانة لما فعل ما فعل من التصديق والهروب وكان طوسون باشا لما جرى من أحمد اغا ما جرى من نقل الخبر لمحو بك عوقه وأرسل إلى أبيه يعلمه بذلك فطلبه للحضور إليه بمصر فلما مثل بين يديه وبخه وعزره بالكلام وقال له: ترمي الفتن بين أولادي وكبار العسكر ثم أمر بقتله فنزلوا به إلى با زويلة وقطعوا رأسه هناك وتركوه مرميا طول النهار ثم رفعوه إلى داره وعملوا له في صبحها مشهدا ودفنوه.
وفيه حضر إسمعيل باشا ومصطفى بك إلى مصر.
وفي أواخره حضر شخص يسمى سليم كاشف من الأجناد المصرية مرسلا من عند بقاياهم من الأمراء واتباعهم الذين رماهم الزمان بكلكله واقصاهم وابعدهم عن اوطانهم واستوطنهم دنقلة من بلاد السودان يتقوتون مما يزرعونه بأيديهم من الدخن وبينهم وبين اقصى الصعيد مسافة طويلة نحو من أربعين يوما وقد طال عليهم الامد ومات أكثرهم ومعظم رؤساهم مثل عثمان بك حسن وسليم اغا وأحمد اغا شويكار وغيرهم ممن لاعلم لنا بخبرة اخبارهم لبعد المسافة حتى على أهل منازلهم وبقي ممن لم يمت منهم إبراهيم بك الكبير وعبد الرحمن بك تابع عثمان بك المرادي وعثمان بك يوسف وأحمد الالفي زوج عديلة ابنة إبراهيم بك الكبير وعلي
بك ايوب وبواقي صفار الأمراء والمماليك على ظن خيانتهم وقد كبر سن إبراهيم بك الكبير وعجزت قواه ووهن جسمه فلما طالت عليهم الغربة أرسلوا هذا المرسل بمكاتبة إلى الباشا يستعطفونه ويسألون فضله ويرجون مراحمه بأن ينعم عليهم بالأمان على نفوسهم ويأذن لهم بالانتقال من دنقلة إلى جهة من أراضي مصر يقيمون بها أيضا ويتعيشون فيها بأقل العيش تحت امانه ويدفعون ما يجب عليهم من الخراج الذي يقرره عليهم ولايتعدون مراسمه وأوامره فلما حضر وقابل الباشا وتكلم معه وسأله عن حالهم وشأنهم ومن مات ومن لم يمت منهم وهو يخبره خبرهم ثم أمره بالانصراف إلى محله الذي نزل فيه إلى أن يرد عليه الجواب وانعم عليه بخمسة أكياس فأقام أياما حتى كتب له جواب رسالته مضمونه أنه أعطاهم الأمان على أنفسهم بشروط شروطها عليهم أن خالفوا منها شرطا واحد كان امانهم منقوضا وعهدهم منكرثا ويحل بهم ما حل بمن تقدم منهم فأول الشروط أنهم إذا عزموا على الانتقال من المحل الذي هم فيه يرسلون إمامهم نجابا يخبره بخبرهم وحركتهم وانتقالهم لياتيهم من أعينه لملاقاتهم الثاني إذا حلوا بأرض الصعيد لا يأخذون من أهل النواحي كلفة ولا دجاجة ولا رغيفا واحدا وإنما الذي يتعين لملاقاتهم يقوم لهم بما يحتاجون إليه من مؤنة وعليق ومصرف الثالث إني لا اقطعهم شيئا من الأراضي والنواحي ولا إقامة في جهة من جهات أراضي مصر بل ياتون عندي وينزلون على حكمي ولهم ما يليق بكل واحد منهم من المسكن والتعيين والمصرف ومن كان ذا قوة قلدته منصبا أو خدمة تليق به أو ضمته إلى بعض الأكابر من رؤساء العسكر وأن كان ضعيفا أو هرما اجريت عليه نفقة لنفسه وعياله والرابع أنهم إذا حصلوا بمصر على هذه الشروط وطلبوا شيئا من اقطاع أو زرقه أو قنطرةاو أقل مما كان في تصرفهم في الزمن الماضي أو نحو ذلك انتقض معي عهدهم وبطل اماني لهم بمخالفة شرط واحد من هذه الشروط وهي سبعة غاب عن ذهني باقيها فسبحان المعز
المذل مقلب الأحوال ومغير الشؤون.
فمن العبر أنه لما حضر المصريون ودخلوا إلى مصر بعد مقتل طاهر باشا وتأمروا وتحكموا فكانت عساكر الاتراك في خدمتهم ومن ارذل طوائفهم وعلائفهم تصرف عليهم من أيدي كتابهم واتباعهم وإبراهيم بك هو الأمير الكبير وراتب محمد علي باشا هذا من الخبز واللحم والأرز والسمن الذي عينه له من كبلاره نعوذ بالله من سوء المنقلب ورجع سليم كاشف المرسل إليهم بالجواب المشتمل على مافيه من الشروط.
وفيه أمر الباشا بحبس أحمد أفندي المعايرجي بدار الضرب وحبس أيضا عبد الله بكتاش ناظر الضربخانة واحتج عليهما باختلاسات يختلسانها واستمر أياما حتى برر عليهما نحو السبعمائة كيس وعلى الحاج سالم الجواهرجي وهو الذي يتعاطى ايراد الذهب والفضة إلى شغل الضربخانة مثلها ثم اطلق المذكوران ليحصلا ما تقرر عليهما وكذلك اطلق الحاج سالم وشرعوا في التحصيل بالبيع والاستدانة واشتد القهر بالحاج سالم ومات على حين غفلة وقيل أنه ابتلع فص الماس وكان عليه ديون باقية من التي استدانها في المرة الأولى والغرامة السابقة.
ومن النوادر الغريبة والاتفاقات العجيبة.
انه لما مات إبراهيم بك المداد بالضربخانة قبل تاريخه تزوج بزوجته أحمد أفندي المعايرجي المذكور فلما عوق أحمد أفندي خافت زوجته المذكورة أن يدهمها أمر مثل الختم على الدار أو نحو ذلك فجمعت مصاغها وما تخاف عليه مما خف حمله وثقل ثمنه وربطته في صرة واودعتها عند امرأة من معارفها فسطا على بيت تلك المرأة شخص حرامي وأخذ تلك الصرة وذهب بها إلى دار امرأة من اقاربه بالقرب من جامع مسكة وقال لها: احفظي عند هذه الصرة حتى ارجع ونزل إلى اسفل الدار فنادته المراة أصبر حتى آتيك بشئ تأكله فقال: نعم فإني جيعان وجلس اسفل الدار ينتظر اتيانها له بما يأكله وصادف مجئ زوج المرأة تلك الساعة فوجده
فرحب به وهو يعلم بحاله ويكره مجيئه إلى داره وطلع إلى زوجته فوجد بين يدها تلك الصرة فسألها عنها فأخبرته أن قريبها المذكور أتى بها إليها حتى يعود لأخذها فجسها فوجدها ثقيلة فنزل في الحال ودخل على محمد أفندي سليم من أعيان جيران الخطة فأخبره فأحضر محمد أفندي انفارا من الجيران أيضا وفيهم الخجا المنسوب إلى أحمد اغا لاظ المقتول ودخل الجميع إلى الدار وذلك الحرامي جالس ومشتغل بالاكل فوكلوا به الخدم وأحضروا تلك الصرة وفتحوها فوجدوا بها مصاغا وكيسا بداخله انصاف فضة عددية ذكروا أن عدتها أربعون الفا ولكنها من غير ختم وبدون نقش السكة فأخذوا ذلك وتوجهوا لكتخدا بك وصحبتهم الحرامي فسألوه وهددوه فأقر وأخبر عن المكان الذي اختلسها منه فأحضروا صاحبة المكان فقالت هو وديعة عندي لزوجة أحمد أفندي المعايرجي فثبت لديهم خيانته واختلاسه وسئل أحمد أفندي فحلف أنه لا يعلم بشئ من ذلك وأن زوجته كانت زوجا لإبراهيم المداد فلعل ذلك عندها من أيامه وسئلت هي أيضا عن تحقيق ذلك فقالت الصحيح أن إبراهيم الداد كان اشترى هذه الدراهم من شخص مغربي عندما نهب عسكر المغاربة الضربخانة في وقت حادثة الأمراء المصريين وخروجهم من مصر عندما قامت عليهم عسكر الاتراك فلم يزيلوا الشبهة عن أحمد أفندي بل زادت وكانت هذه النادرة من عجائب الاتفاق فقدروا أثمانها وخصموها من المطلوب منه.
وفي يوم الخميس عشرينه حصلت جمعية ببيت البكري وحضر المشايخ وخلافهم وذلك بأمر باطني من صاحب الدولة وتذاكروا ما يفعله قاضي العسكر من الجور والطمع في أخذ أموال الناس والمحاصيل وذلك أن القضاة الذين يأتون من باب السلطنة كانت لهم عوائد وقوانين قديمة لا يتعدونها في أيام الأمراء المصريين فلما استولت هؤلاء الاروام على المماليك والقاضي منهم فحش امرهم وزاد طمعهم وابتدعوا بدعا وابتكروا حيلا لسلب أموال الناس والايتام والارامل وكلما ورد قاض ورأى ما ابتكره
الذي كان قبله احدث هو الاخر أشياء يمتاز بها عن سلفه عن حتى فحش الأمر وتعدى ذلك لقضايا أكابر الدولة وكتخدا بك بل والباشا وصارت ذريعة وأمرا محتما لا يحتشمون منه ولايراعون خليلا وكبيرا ولا جليلا وكان المعتاد القديم أنه إذا ورد القاضي في أول السنة التوتية التزم بالقسمة بعض المميزين من رجال المحكمة بقدر معلوم يقوم بدفعه للقاضي وكذلك تقرير الوظائف كانت بالفراغ أو المحلول وله شهريات على باقي المحاكم الخارجة كالصالحية وباب سعادة والخرق وباب الشعرية وباب زويلة وباب الفتوح وطيلون وقناطر السباع وبولاق ومصر القديمة ونحو ذلك وله عوائد واطلاقات وغلال من الميري وليس له غير ذلك إلا معلوم الامضاء وهو خمسة انصاف فضة فإذا احتاج الناس في قضاياهم ومواريثم أحضروا شاهدا من المحكمة القريبة منهم فيقضي فيها مايقضيه ويعطونه اجرته وهو يكتب التوثيق أو حجة المبايعة أو التوريث ويجمع العدة من الأوراق في كل جمعة أو شهر ثم يمضيها من القاضي ويدفع له معلوم الامضاء لاغير وأما القضايا لمثل العلماء والأمراء فبالمسامحة والاكرام وكان القضاة يخشون صولة الفقهاء وقت كونهم يصدعون بالحق ولا يداهنون فيه فلما تغيرت الأحوال وتحكمت الاتراك وقضاتها ابتدعوا بدعا شتى.
منها ابطال نواب المحاكم وابطال القضاة الثلاثة خلاف مذهب الحنفي وأن تكون جميع الدعاوي بين يديه ويدي نائبه وبعد الانفصال يأمرهم بالذهاب إلى كتخداه ليدفع المحصول فيطلب منهم المقادير الخارجة عن المعقول وذلك خلاف الرشوات الخفية والمصالحات السرية واضاف التقرير والقسمة لنفسه ولايلتزم بها أحد من الشهود كما كان في السابق وإذا دعى بعض الشهود لكتابة توثيق أو مبايعة أو تركة فلا يذهب إلا بعد أن يأذن له القاضي أو يصحبه بجوخدار ليباشر القضية وله نصيب أيضا وزاد طمع هؤلاء الجوخدارية حتى لا يرضون بالقليل كما كانوا في
أول الأمر وتخلف منهم أشخاص بمصر عن مخاديمهم وصاروا عند المتولي لما انفتح لهم هذا الباب وإذا ضبط تركة من التركات وبلغت مقادر أخرجوا للقاضي العشر من ذلك ومعلوم الكاتب والجوخدار والرسول ثم التجهيز والتكفير والمصرف والديون وما بقي بعد ذلك يقسم بين الورثة فيتفق أن الوارث واليتيم لا يبقى له شئ ويأخذ من أرباب الديون عشر ديونهم أيضا ويأخذ من محاليل وظائف التقارير معلوم سنتين أو ثلاثة وقد كان يصالح عليها بأدنى شئ وإلا اكراما وابتدع بعضها الفحص عن وظائف القبانية والموازين وطلب تقاريرهم القديمة ومن اين تلقوها وتعلل عليهم بعدم صلاحية المقرر وفيها من هو بإسم النساء وليسوا أهلا لذلك وجمع من هذا النوع مقدارا عظيما من المال ثم محاسبات نظار الاوقاف والعزل والتولية فيهم والمصالحات على ذلك وقرر على نصارى الاقباط والاروام قدرا عظيما في كل سنة بحجة المحاسبة على الديور والكنائس ومما هو زائد الشناعة أيضا أنه إذا ادعى مبطل على إنسان دعوى لا أصل لها بأن قال: ادعى عليه بكذا وكذا من المال وغيره كتب المقيد ذلك القول حقا كان أو باطلا معقولا أو غير معقول ثم يظهر بطلان الدعوى أو صحة بعضها فيطالب الخصم بمحصول القدر الذي ادعاه المدعي وسطره الكاتب يدفعه المدعي عليه للقاضي على دور النصف الواحد أو خلاف ما يؤخذ من الخصم الاخر وحصل نظيرها لبعض من هو ملتجئ لكتخدا بك فحبس على المحصول فأرسل الكتخدا يترجى في اطلاقه والمصالحة عن بعضه فأبى فعند ذلك حنق الكتخدا وأرسل من اعوانه من استخرجه من الحبس ومن الزيادات في نغمة الطنبور كتابة الاعلامات وهو أنه إذا حضر عند القاضي دعوى بقاصد من عند الكتخدا أو الباشا ليقضي فيها وقضى فيها لاحد الخصمين طلب المقضي له اعلاما بذلك إلى الكتخدا أو الباشا يرجع به مع القاصد تقييدا واثباتا فعند ذلك لا يكتب له ذلك الاعلام إلا بما عسى لا يرضيه إلا أن يسلخ من جلده طاقا أو طاقين وقد حكمت
عليه الصورة وتابع الباشا أو الكتخدا ملازم له ويستعجله ويساعد كتخدا القاضي عليه ويسليه على ذلك الظفر والنصرة على الخصم مع أن الفرنساوية الذين كانوا لا يتدينون بدين لما قلدوا الشيخ أحمد العريشي القضاء بين المسلمين بالمحكمة حددوا له حدا في أخذ المحاصيل لا يتعداه بأن يأخذ على المائة إثنين فقط له منها جزء الكتاب جزء فلما زاد الحال وتعد إلى أهل الدولة رتبوا هذه الجمعية فلما تكاملوا بمجلس بيت البكري كتبوا عرضا محضرا ذكروا فيه بعض هذه الاحداثات والتمسوا من ولي الأمر رفعها ويرجون من المراحم أن يجري القاضي ويسلك في الناس طريقا من إحدى الطرق الثلاث أما الطريقة التي كان عليها القضاة في زمن الأمراء المصريين وأما الطريقة التي كانت في زمن الفرنساوية أو الطريقة التي كانت أيام مجئ الوزير وهي الاقرب والاوفق وقد اخترناها ورضيناها بالنسبة لما هم عليه الآن من الجور وتمموا العرض محضرا واطلعوا عليه الباشا فارسله إلى القاضي فامتثل الأمر وسجل بالسجل على مضض منه ولم تسعه المخالفة.
واستهل شهر جمادي الثانية سنة 1231
في منتصفه ورد الخبر بموت مصطفى بك دالي باشا بناحية الاسكندرية وهو قريب الباشا واخو زوجته.
واستهل شهر رجب الاصم بيوم الثلاثاء سنة 1231
في ثالثه يوم الخميس قبل الغروب حصل في الناس انزعاج ولغط ونقل أصحاب الحوانيت بضائعهم منها مثل سوق الغورية ومرجوش وخان الحمزاوي وخان الخليلي وغيرهم ولم يظهر لذلك سبب من الأسباب وأصبح الناس مبهوتين ولغطوا بموت الباشا وحضر اغات الينكجرية واغات التبديل إلى الغورية واقاما بطول النهار وهما يامران الناس بالسكون وفتح الدكاكين وكذلك علي اغا الوالي بباب زويلة وأصبح يوم السبت فركب الباشا وخرج إلى قبة العزب وعمل رماحة وملعبا ورجع إلى شبرا
وحضر كتخدا بك إلى سوق الغورية وجلس بالمدفن وأمر بضرب شيخ الغورية فبطحوه على الأرض في وسط السوق وهو مرشوش بالماء وضربه الاتراك بعصيهم ثم رفعوه إلى داره ثم أمر الكتخدا بكتابة أصحاب الدكاكين الذين نقلوا متاعهم فشرعوا في ذلك وهرب الكثير منهم وحبسهم في داه ثم ركب الكتخدا ومر في طريقه على خان الحمزاوي وطلب البواب فلما مثل بين يديه أمر بضربه كذلك وضرب أيضا شيخ مرجوش وأما طائفة خان الخليلي ونصارى الحمزاوي فلم يتعرض لهم.
واستهل شهر شعبان بيوم الخميس سنة 1231
فيه من الحوادث أن بعض العيارين من السراق تعدوا على قهوة الباشا بشبرا وسرقوا جميع ما بالنصبة من الأواني والبكارج والفناجين والظروف فأحضر الباشا بعض أرباب الدرك بتلك الناحية والزمه بإحضار السراق والمسروق ولايقبل له عذرا في التأخير ولو يصالح على نفسه بخزينة أو أكثر من المال ولايكون غير ذلك ابدا وإلا نكل به نكالا عظيما وهو المأخوذ بذلك فترجى في طلب المهلة فأمهله أياما وحضر بخمسة أشخاص وأحضروا المسروق بتمامه لم ينقص منه شئ وأمر بالسراق فخوزقوهم في نواحي متفرقين بعد أن قرروهم على أمثالهم وعرفوا عن أماكنهم وجمع منهم زيادة على الخمسين وشنق الجميع في نواح متفرقة بالاقاليم مثل القليوبية والغربية والمنوفية.
وفي منتصفه يوم الجمعة الموافق لرابع مسرى القبطي اوفي النيل اذرعة وفتح سد الخليج يوم السبت.
وفيه وقع من النوادر أن امرأة ولدت مولودا برأسين وأربعة أيدي وله وجهان متقابلان والوجهان بكتفيهما مفروقان من حد الرأس وقيل لحد الصدر والبطن واحدة وثلاثة ارجل وإحدى الارجل لها عشرة اصابع فيقال: إنه أقام يوما وليلة حيا ومات وشاهده خلق كثير وطلعوا به إلى القلعة وراه كتخدا بك وكل من كان حاضرا بديوانه فسبحان الله الخلاق العظيم.
واستهل شهر رمضان بيوم الجمعة سنة 1231
حصل فيه من النوادر أن في تاسع عشره علق شخص عسكري غلاما من أولاد البلد وصار يتبعه في الطرقات إلى أن صادفه ليلة بالقرب من جامع الماس بالشارع فقبض عليه وأراد الفعل به في الطريق فخدعه الغلام وقال له: إن كان لا بد فادخل بنا في مكان لا يرانا فيه أحد من الناص فدخل معه درب حلب المعروف الآن بدرب الحمام خير بك حديد وهناك دور الأمراء التي صارت خرائب فحل العسكري سراويله فقال له: الغلام ارني بتاعك فلعله يكون عظيما لا اتحمله جميعه وقبض عليه وكان بيده موسى مخفيه في يده الأخرى فقطع ذكره بتلك الموسى سريعا وسقط العسكري مغشيا عليه وتركه الغلام وذهب في طريقه وحضر رفقاء ذلك العسكري وحملوه وأحضروا له سليما الجرائحي فقطع ما بقي من مذاكيره وأخذ في معالجته ومداواته ولم يمت العسكري.
واستهل شهر شوال بيوم السبت سنة 1231
وكان حقه يوم الأحد وذلك أن أواخر رمضان حضر جماعة من دمنهور البحيرة وأخبروا عن أهل دمنهور أنهم صاموا يوم الخميس فطلب الباشا حضور من رأى الهلال تلك الليلة فحضر اثنان من العسكر وشهدا برؤيته ليلة الخميس فأثبتوا بذلك هلال رمضان ويكون تمامه يوم الجمعة وأخبر جماعة أيضا أنهم راوا هلال شوال ليلة السبت وكان قوسه في حساب قواعد الاهلة تلك الليلة قليلا جدا ولم ير في ثاني ليلة منه إلا بعسر وإنما اشتبه على الرائين لأن المريخ كان مقارنا للزهرة في برج الشمس من خلفها وبينهما وبين الشمس رؤيا بعدها في شعاع الشمس شبه الهلال فظن الراؤن أنه الهلال فلينتبه لذلك فإن ذلك من الدقائق التي تخفي على أهل الفطانة فضلا عن غيرهم من العوام الذين يسارعون إلى افساد العبادات حسبه بالظنون الكاذبة لأجل أن يقال: شهد فلان ونحو ذلك.
وفي أواخره قلد الباشا شخصا من اقاربه يسمى شريف اغا على دواوين
المبتدعات وضم إليه جماعة من الكتبة أيضا المسلمين والاقباط وجعلوا ديوانهم ببيت ابي الشوارب وعمروه عمارة عظيمة وواظبوا الجلوس فيه كل يوم التحرير والمبتدعات ودفاتر المكوس.
واستهل شهر ذي القعدة سنة 1231
فيه أنهدم جنب من السواقي التي انشأها الباشا بشبرا على حين غفلة وقد قوي عليها النيل فتهدمت وتكسرت اخشابها وسقط معها أشخاص كانوا حولها فنجا منهم من نجا وغرق منهم من غرق وكان الباشا بصر شبرا مقيما به وهو يرى ذلك وانقضت السنة وأخبار بعض حوادثها واستمرار ما تجدد فيها من المبتدعات التي لا حصر لها.
ومنها الحجر على المزارع التي يزرعها الفلاحون في الأراضي التي يدفعون خراجها من الكتاب والسمسم والعصفر والنيلة والقطن والقرطم وإذا بدا صلاحه لا يبيعون منه شيئا كعادتهم وإنما يشتريه الباشا بالثمن الذي يفرضه ويقدره على يد امناء النواحي والكشاف ويحملونه إلى المحل الذي يؤمرون بحمله إليه ويعطى لهم الثمن أو يحسب لهم من أصل المال فإن احتاجوا الشئ من ذلك اشتروه بالثمن الزائد المفروض وكذلك القمح والفول والشعير لا يبيعون منه شيئا لغير طرف الباشا بالثمن المفروض والكيل الوافي.
ومنها الأمر لكشاف الأقاليم بالمناداة العامة بالمنع لمن يأخذ أو يأكل من الفول الاخضر والحمص والحلبة وأن المعينين في الخدم والمباشرين وكشاف النواحي لا يأخذون شيئا من الفلاحين كعادتهم من غير ثمن فمن عثر عليه بأخذ شئ ولو رغيفا أو تبنا أو من رجيع البهائم حصل له مزيد الضرر ولو كان من الاعاظم وكذلك الأمر بتكميم افواه المواشي التي تسرح للمرعى حوالي الجسور والغيطان.
ومنها أن نصرانيا من الارمن التزم بقلم الأبراز التي تأتي من بلاد الصعيد مثل الحبة السوداء والشمر والانيسون والكمون والكراويا ونحو ذلك
بقدر كبير من الأكياس ويتولى هو شراءها دون غيره ويبيعها بالثمن الذي يفرضه ومقدار ما التزم بدفعه من الأكياس للخزينة على ما بلغنا خمسمائة كيس وكانت في أيام الأمراء المصريين عشرة أكياس لاغير فلما تولى على وكالة دار السعادة صالح بك المحمدي زادها عشرة أكياس وكانت وكالة الابزار والقطن وقفا لمصطفى اغا دار السعادة سابقا على خيرات الحرمين وخلافهما فلما كانت هذه الدولة تولاها شخص على مائتي كيس وعند ذلك سعر الابزار اضعاف الثمن الاصلي ومن داخل الابزار الثمر الابريمي والسلطاني والخوص والمقاطف والسلب والليف وبلغ سعر المقفطف الذي يسع الكيلة من البر خمسة وعشرين نصفا وكان يباع بنصف أو نصفين أن كان جيدا وفي الجملة بأقل من ذلك.
ومنها أن كرابيت معلم ديوان الكمرك ببولاق التزم بمشيخة الحمامية واحدث عليها وعلى توابعها حوادث وعلى النساء البلانات في كل جمعة قدرا من الدراهم وجعل لنفسه يوما في كل جمعة يأخذ ايراده من كل حمام.
ومنها ما حصل في هذه السنة من شحة الصابون وعدم وجوده بالأسواق ومع السراحين وهو شئ لا يستغنى عنه الغني ولا الفقير وذلك أن تجارة بوكالة الصابون زادوا في ثمنه محتجين بما عليهم من المغارم والرواتب لأهل الربح فيأمر الكتخدا فيه بأمر وبسعر بثمن فيدعون الخسران وعدم الربح وتكرر الحال فيه المرة بعد المرة ويشتكون من قلة المجلوب إلى أن سعر رطله بستة وثلاثين نصفا فلم يرتضوا ذلك وبالغوا في التشكي فطلب قوائمهم وعمل حسابهم وزادهم خسمة انصاف في كل رطل وحلف أن لا يزيد على ذلك وهم مصممون على دعوى الخسران فأرسل من اتباعه شخصا تركيا لباشرة البيع وعدم الزيادة فيأتي إلى الخان في كل يوم يباشر البيع على من يشترى بذلك الثمن لأربابه ويمكث مقدار ساعتين من النهار ويغلق الحواصل ويرفع البيع لثاني يوم وفي ظرف هاتين الساعتين
تزدحم العسكر على الشراء ولايتمكن خلافهم من أهل البلد من أخذ شيء وتخرج العسكر فيبيعون من الذي اشتروه على الناس بزيادة فاحشة فيأخذ الرطل بقرش ويبيعه على غيره بقرشين ورفع التشكي إلى كتخدا فامر ببيعه عند باب زويلة في السبلين المواجه احدهما للباب والسبيل الذي انشأته الست نفيسة المرادية عند الخان تجاه الجامع المؤدي ليسهل على العامة تحصيله وشراؤه فلم يزداد الحال إلا عسرا وذلك أن البائع يجلس داخل السبيل ويغلق عليه بابه ويتنأول من خروق الشبابيك من المشتري الثمن ويناوله الصابون فازدحمت طوائف العساكر على الشراء ويتعلقون بأيديهم وارجلهم على شبابيك السبيلين والعامة اسفلهم لا يتمكنون من أخذ شئ ويمنعون من يزاحمهم فيكون على السبيلين ضجة وصياح من الفريقين فلا يسع ابن البلد الفقير المضطر إلا أن يشترى من العسكري بما احب وإلا رجع إلى منزله من غير شئ واستمر الحال على هذا المنوال أياما وفي بعض الاحاجيين يكثر من وجود الصابون بين أيدي الباعة بوسط السوق ولاتجد عليه مزاحمة وإمام البائع كوم عظيم وهو ينتظر من يشتري وذلك في غالب الأسواق مثل الغورية والاشرفية وباب زويلة والبندقانيين والجهات الخارجة ثم يصبحون فلا يوجد منه شئ ويرجع الازدحام على السبيلين كالاول.
ومنها أن الباشا اطلق المناداة في البلدة وندب جماعة من المهندسين والمباشرين للكشف على الدور والمساكن فإن وجدوا به أو ببعضه خلالا أمروا صاحبه بهدمه وتعميرة فإن كان يعجز عن ذلك فيؤمر بالخروج منها واخلائها ويعاد بناؤها على طرف الميري وتصير من حقوق الدولة وسبب هذه النكتة أنه بلغ الباشا سقوط دار بعض الجهات ومات تحت ردمها ثلاثة أشخاص من سكانها فأمر بالمناداة وأرسل المهندسين والأمر بما ذكر فنزل بأهالي البلد من الكرب أمر عظيم مع ماهم فيه من الافلاس وقطع الايراد وغلوا الاسعار على أن من كان له نوع مقدرة على الهدم والبناء
لا يوجد من أدواته شيئا بحسب التحجير الواقع على أرباب الاشغال واستعمال الجميع في عمائر الباشا وأكابر الدولة حتى أن الإنسان إذا احتاج لبناء كانون لا يجد من يبنيه ولايقدر على تحصيل صانع أو فاعل أو أخذ شئ من رماد الحمام إلا بفرمان ومن حصل شيئا من ذلك على طريق السرقة في غفلة وعثر عليه نكلوا به وبرئيس الحمام وحمير الباشا وهي ازيد من الفي حمار تنقل بالمزابل والسرقانيات طول النهار ما يوجد بالحمامات من الرماد وتنقل أيضا الطوب والدبش والاتربة وانقاض البيوت المنهدمة لمحل العمائر بالقلعة وغيرها فترى الأسواق والعطف مزدحمة بقطارات الحمير الذاهبة والراجعة وإذا هدم إنسان داره التي امروه بهدمها وصل إليه في الحال قطار من الحمير لأخذ الطوب الذي يتساقط إلا أن يكون من أهل القدرة على منعهم وربما كان هذه الأوامر حيلة على أخذ الانقاض وأما الاتربة فتبقى بحالها حتى في طرق المارة للعجز عن نقلها فترى غالب الطرق والنواحي مردومه بالاتربة وأما الهدم ونقل الانقاض من البيوت الكبار والدور الواسعة التي كانت مساكن الأمراء المصريين بكل ناحية وخصوصا بركة الفيل وجهة الحبانية فهو مستمر حتى بقيت خرابا ودعائم قائمة وكيمان هائلة واختلطت بها الطرق وأصبحت موحشة ولا مارى بها حتى لليوم بعد أن كانت مراتع غزلان فكنت كلما رأيتها اتذكر قول القائل:
هذي منازل اقوام عهدتهم
…
في خفض عيش نعيم ما له خطر
صاحت بهم نوب الأيام فارتحلوا
…
إلى القبور فلا عين ولا أثر
وكذلك بولاق كانت منتزه الرفاق فإنه تسلط عليها سليمان اغا السلحدار وإسمعيل باشا في الهدم وأخذ انقاض الابنية ببر انبابه والجزيزة الوسطى بين انبابة وبولاق فإن سليمان إنما أنشأ ستانا كبير بين إبنابة وسوره وبنى به قصراوسواقي وأخذ يهدم ابنية بولاق من الوكائل والدور وينقل احجارها وانقاضها في المراكب ليلا ونهارا إلى البر الاخر وإسماعيل باشا كذلك انشا بستانا وقصرا بالجزيرة وشرع أيضا في اتساع سرايته ومحل
سكنه ببولاق وأخذ الدور والمساكن والوكائل من حد الشون القديم إلى آخر وكالة الابزار العظيمة طولا فيهدمون الدور وغيرها من غير مانع ولا شافع وينقلون الانقاض إلى محل البناء وكذلك ولي خوجة شرع في بناء قصر بالروضة ببستان فهو الاخر يهدم مايهدمه من مصر القديمة وينقل انقاضه لبنائه وهلك قبل اتمامه وأما نصارى الارمن وما إدراك ما الارمن الذين هم اخصاء الدولة الآن فانهم انشؤا دورا وقصورا وبساتين بمصر القديمة لكنهم فهم يهدمون أيضا وينقلون لا بنيتهم ما شاؤا ولا حرج عمليهم وإنما الحرج والمنع والحجر والهدم على المسلمين من أهل البلدة فقط.
ومنها أن الباشا أمر ببناء مساكن للعسكر الذين اخرجهم من مصر بالاقاليم يسمونها القشلات بكل جهة من أقاليم الارياف لسكن العساكر المقيمين بالنواحي لتضررهم من الإقامة الطويلة بالخيام في الحر والبرد واحتياج الخيام في كل حين إلى تجديد وترقيع وكثير خدمة وهي جمع قشلة بكسر القاف وسكون الشين وهي في اللغة التركية المكان الشتوي لأن الشتاء في لغتهم يسمى قش بكسر القاف وسكون الشين فكتب مراسيم إلى النواحي بسائر القرى بالأمر لهم بعمل الطوب اللبن ثم حرقه وحملة إلى محل البناء وفرضوا على كل بلد وقرية فرضا وعددا معينا فيفرض على القرية مثلا خمسمائة ألف لبنة وأكثر بحسب كبر القرية وصغرها فيجمع كاشف الناحية مشايخ القرى ثم يفرض على كل شيخ قدرا وعددا من اللبن عشرين الفا أو ثلاثين الفا أو أكثر أو أقل ويلزم بضربها وحرقها ورفعها واجلهم مدة ثلاثين يوما وفرضوا على كل قرية أيضا مقادير من افلاق النخل ومقادير من الجريد ثم فرضوا عليهم أيضا شخاصا من الرجال لمحل الاشغال والعمائر يستعملونهم في فعالة نقل أدوات العمارة في النواحي حتى الاسكندرية وخلافها ولهم اجرة اعمالهم في كل يوم لكل شخص سبعة انصاف فضة لاغير ولمن يعلم اللبن اجرة أيضا والثمن
الافلاق والجريد قدر معلوم لكنه قليل.
ومنها أنه توجه الأمر لكشاف النواحي عند انكشاف الماء عن الأراضي بأن يتقدموا إلى الفلاحين بأن من كان زارعا في العام الماضي فداني كنان أو حمص أو سمسم أو قطن فليزرع في هذه السنة أربعة افدنة ضعف ما تقدم لأن المزارعين عزموا على عدم زراعة هذه الأشياء لما حصل لهم من أخذ ثمرات متاعهم وزراعاتهم التي دفعوا خراجها الزائد بدون القيمة التي كانوا يبيعون بها مع قلة الخراج الذي كانوا يماطلون فيه الملتزمين السابقين مع التظلم والتشكي فيزرع الزارع ما يزرعه من هذه الأشياء من التقاوي المتروكة في مخزنه ثم يبيع الفدان من الكتان الاخضر في غيطه أن كان مستعجلا بالثمن الكثير وإلا ابقاه إلى تمام صلاحه فيجمعه ويدقه ويبيع ما يبيعه من البزر خاصة بأغلى ثمن ثم يتمم خدمته من التعطين والنشر والتمحير إلى أن يصفى وينظف من ادرانه وخشوناته وينصلح للغزل والنسج فيباع حينئذ بالاوقية والرطل وكذا القطن والنيلة والعصفر فلما وقع عليهم التحجير وحرموا من المكاسب التي كانوا يتوسعون بها في معايشهم باقتناء المواشي والحلي للنساء قالوا: ما عدنا نزرع هذه الأشياء وظنوا أن يتركوا على هواهم ونسوا مكر أوليائهم فنزل عليهم الأمر والالزام بزرع الضعف فضجوا وترجوا واستشفعوا ورضوا بمقدار العام الماضي فمنهم من سومح ومنهم من لم يسامح وهو ذو المقدرة وبعد اتمامه وكمال صلحه يؤخذ بالثمن المفروض على طرف الميري ويباع لمن يشتري من أربابه أو خلافهم بالثمن المقدر وربح زيادته لطرف حضرة الباشا مع التضييق والحجر البليغ والفحص عن الاختلاس فمن عثروا عليه باختلاس شئ ولو قليلا عوقب عقابا شديدا ليرتدع خلافه والكتبة والموظفون لتحرير كل صنف ووزنه وضبطه في تنقلات اطواره وعند تسليم الصناع ونتج من ذلك واثمر عزة الأشياء وغلو الاسعار على الناس منها أن المقطع القماش الذي كان ثمنه ثلاثين نصفا بلغ سعره عشرة
قروش مع عزة وجدانه بالأسواق المعدة لبيعه مثل سوق مرجوش وخلافه خلا الطوافين به والثوب البطانة الذي كان ثمنه قرشين بلغ ثمنه سبعة قروش وادركناه في الأزمان السابقة ويباع بعشرين نصفا وبلغ ثمن الثوب من البفتة المحلاوي أربعة عشر قرشا وكان يباع فيما ادركنا بدكان التاجر بستين نصفا وقس على ذلك وبسبب التحجير على النيلة غلا صبغ ثياب الفقراء حتى بلغ صبغ الذراع الواحد نصف قرش والله يلطف بحال خلقه ومادام توزون له امرأة مطاعة فالميل في الجمر.
ومنها استمر التحجير على الأرز ومزارعه على مثل هذا النسق بحيث أن الزراعين له التعبانين فيه لا يمكنون من أخذ حبة منه فيؤخذ باجمعه لطرف الباشا بما قدره من الثمن ثم يخدم ويضرب ويبيض في المداوير والمدقات والمناشر بأجرة العمال على طرفه ثم يباع بالثمن المفروض واتفق أن شخصا من ابناء البلد يسمى حسين جلبي عجوة ابتكر بفكره صورة دائرة وهي التي يدقون بها الأرز وعمل لها مثالا من الصفيح تدور بأسهل طريقة بحيث أن الالة المعتادة إذا كانت تدور بأربعة اثوار فيدير هذه ثوران وقدم ذلك المثال إلى الباشا فأعجبه وانعم عليه بدراهم وأمره بالمسير إلى دمياط ويبني بها دائرة ويهندسها برأيه ومعرفته واعطاه مرسوما بما يحتاجه من الاخشاب والحديد والمصرف ففعل وصح قوله ثم فعل أخرى برشيد وراج أمره بسبب ذلك.
ومنها أن الباشا لما رأى هذه النكتة من حسين شلبي هذه قال: إن في أولاد مصر نجابة وقابلية للمعارف فأمر ببناء مكتب بحوش السراية ويرتب فيه جملة من أولاد البلد ومماليك الباشا وجعل معلمهم حسن أفندي المعروف بالدرويش الموصلي يقرر لهم قواعد الحساب والهندسة وعلم المقادير والقياسات والارتفاعات واستخراج المجهولات مع مشاركة شخص رومي يقال له: روح الدين أفندي بل وأشخاص من الافرنج وأحضر لهم الات هندسية متنوعه من اشغال الانكليز يأخذون بها الابعاد والارتفاعات
والمساحة ورتب له شهريات وكساوي في السنة واستمروا على الاجتماع بهذا المكتب وسموه مهندس خانة في كل يوم من الصباح إلى بعد الظهيرة ثم ينزلون إلى بيوتهم ويخرجون في بعض الأيام إلى الخلاء لتعليم مساحات الأراضي وقياساتها بالاقصاب وهو الغرض المقصود للباشا.
ومنها استمرار الانشاء في السفن الكبار والصغار لنقل الغلال من قبلي وبحري لناحية الاسكندرية لتباع على الافرنج من سائر أصناف الحبوب فيشحنون السفن من سواحل البلاد القبلية وتأتي إلى ساحل بولاق ومصر القديمة فيصبونها كيمانا هائلة عظيمة صاعدة في الهواء فتصل المراكب البحرية لنقلها فتصبح ولا يبقى شئ منها ويأتي غيرها وتعود كما كانت بالامس ومثل ذلك ساحل رشيد وأما الحبوب البحرية فإنها لاتاتي إلى هذه السواحل بل تذهب من سواحلها إلى حيث هي برشيد ثم إلى الاسكندرية ولما بطل البغاز جمعوا الحمير الكثيرة والجمال ينقلون عليها على طريق البر بالاجرة القليلة فكانت تموت من قلة العلف ومشقة الطريق وتوسق بها السفن الواصلة بالطلب إلى بلاد الافرنج بالثمن عن كل اردب من البر ستة آلاف فضة وأما الفول والشعير والحلبة والذرة وغيرها من الحبوب والادهان فأسعارها مختلفة ويعوض بالبضائع والنقود من الفرانسة معبأة في صناديق صغيرة تحمل الثلاثة منها على بعير إلى الخزينة وهي مصفحة بالحديد يمرون بها قطارات إلى القلعة وعند قلة الغلال ومضى وقت الحصاد يتقدم إلى كشاف النواحي القبلية البحرية بفرض مقادير من الغلال على البلدان والقرى فيلزمون مشايخ البلدان بما تقرر على كل بلد من القمح والفول والذرة ليجمعوه ويحصلوه من الفلاحين وهم أيضا يعملون بفلاحي بلادهم ما يعملون بجورهم واغراضهم ويأخذون الاقوات المدخرة للعيال وذلك بالثمن عن كل اردب من البر ثمانية ريالات يعطى له نصفها ويبقى له النصف الثاني ليحسب له من أصل المال الذي سيطالب به العام القابل.
ومنها أن الباشا سنح له أن ينشئ بالمحل المعروف برأس الوادي بشرقية بلبيس سواقي وعمارات ومزارع واشجار توت وزيتون فذهب هناك وكشف عن أراضيه فوجدها متسعة وخالية من المزارع وهي أراضي رمال واودية فوكل اناسا لاصلاحها وتمهيدها وأن يحفروا بها جملة من السواقي تزيد عن الألف ساقية ويبنوا ابنية ومساكن ويزرعوا اشجار التوت لتربية دود القز واشجارا كثيرة من الزيتون لعمل الصابون وشرعوا في العمل والحفر والبناء وفي انشاء توابيت خشب للسواقي تصنع ببيت الحبجي بالتبانة وتحمل على الجمال إلى رأس الوادي شيئا بعد شئ وأمر أيضا ببناء جامع الظاهر بيبرس خارج الحسينية وأن يعمل مصبنة لصناعة الصابون وطبخه مثل الذي يصنع ببلاد الشام وتوكل بذلك السيد أحمد بن يوسف فخر الدين وعمل به احواضا كبيرة للزيت والقلي.
ومن المتجددات أيضا محل بخطة تحت الربع يعمل به وتسبك أوان ودسوت من النحاس في غاية الكبر والعظم.
ومنها شغل البارود وصناعته بالمكان والصناع المعدة لذلك بجزيرة الروضة بالقرب من المقياس بعد أن يستخرجوه من كيمان السباخ في احواض مبنية ومخفقة ثم يكررونه بالطبخ حتى يكون ملحه غاية في البياض والحدة كالذي يجلب من بلاد الانكليز والمتقيد كبيرا على صناعة شخص افرنكي ولهم معاليم تصرف في كل شهر ومكان أيضا بالقلعة عند باب الينكرجية لسبك المدافع وعملها وقياساتها وهندستها والبنبات وارتفاعها ومقاديرها وسمي ذلك المكان الطبخانة وعليه رئيس وكتبة وصناع وله شهريات.
ومنها شدة رغبة الباشا في تحصيل الأموال وزيادة من ذلك من أي طريق بعد استيلائه على البلاد والاقطاعات والرزق الاحباسية وابطال الفراغ والبيع والشراء والمحلول عن الموتى من ذلك والعلوفات وغلال الانبار ونحو ذلك فكل من مات عن حصته أو رزقته أو مرتب الحل بموته
ما كان على اسمه وضبطه واضيف إلى ديوانه ولو له أولادا وكان هو كتبه باسم أولاده وماتت أولاده قبله انحل عنه وأصبح هو وأولاده من غير شئ فإن عرض حاله على الباشا أمر بالكشف عن ايراده فإن وجدوا بالدفاتر جهة أو وظيفة أخرى قيل له هذه تكفيك وأن لم يوجد في حوزه خلافها أمر له بشئ يستغله من اقلام المكوس أما قرش أو نصف قرش في كل يوم أو نحو ذلك هذا مع التفاته ورغبته في أنواع النجارات والشركات وانشاء السفن ببحر الروم والقلزم وأقام له وكلاء بسائر الاساكل حتى ببلاد فرانسة والانكليز ومالطة وازمير وتونس والنابلطان والونديك والبنادقة واليمن والهند واعطى اناسا جملا عظيمة من أموال يسافرون بها ويجلبون البضائع وجعل لهم الثلث في الربح في نظير سفرهم وخدمتهم فمن ذلك أنه اعطى للرئيس حسن المحروقي خمسمائة ألف فرانسة يسافر بها إلى الهند ويشتري البضائع الهندية ويأتي بها إلى مصر ولشخص نصراني أيضا ستمائة ألف فرانسة وكذلك لمن يذهب إلى بيروت وبلاد الشام لمشترى القز والحرير وغير ذلك وعمل بمصر أماكن ومصانع لنسج القطاني التي يتخذها الناس في ملابسهم من القطن والحرير وكذلك الجنفس والصندل واحتكر ذلك بأجمعه وابطل دواليب الصناع لذلك ومعلميهم واقامهم يشتغلون وينسجون في المناسج التي احدثها بالاجرة وابطل مكاسبهم أيضا وطرائقهم التي كانوا عليها فيأخذ من ذلك ما يحتاجه في اليكات والكساوي وما زاد يرميه على التجار وهم يبيعونه على الناس باغلى ثمن وبلغ ثمن الدرهم من الحرير خمسة وعشرين نصفا بعد أن كان يباع بنصفين.
ومنها أنه ابطل ديوان المنجرة وهي عبارة عما يؤخذ من المعاشات وهي المراكب التي تغدو وتروح لموارد الارياف مثل شيبين الكوم وسمنود والبلاد البحرية وعليها ضرائب وفرائض للملتزم بذلك وهو شخص يسمى عليا الجزار وسبب ذلك أن معظم المراكب التي تصعد ببحر النيل وتنحدر
ومن انشاء الباشا ولم يبق لغيره إلا القليل جدا والعمل والانشاء بالترسخانة مستمر على الدوام والرؤساء والملاحون يخدمون فيها بالاجرة وعمارة خللها واحبالها وجميع احتياجاتها على طرف الترسخانة ولذلك مباشرون وكتاب وامناء يكتبون ويقيدون الصادر والوارد وهذه الترسخانة بساحل بولاق بها الاخشاب الكثيرة والمتنوعة ويصلح للعمائر والمراكب ويأتي إليها المجلوب من البلاد الرومية والشامية فإذا ورد شئ من أنواع الاخشاب سمحو للخشابة بشئ يسير منها بالثمن الزائد ورفع الباقي إلى الترسخانة وجميع الاخشاب الواردة والاحطاب جميعها في متاجر الباشا وليس لتجارها إلا ماكان من داخل متاجره وهو القليل.
ومن النوادر أنه وصل من بلاد الانكليز سواقي بالات الحديد تدور بالماء فلم يستقم لها دوران على بحر النيل.
ومنها أنه انشا جسرا ممتدا من ناحية قنطرة الليمون على يمنه السالك إلى طريق بولاق متصلا إلى شبرا على خط مستقيم وزرعوا بحافتيه اشجار التوت وعلى هذا النسق جسور بطرق الارياف والأقاليم.
ومنها أن اللحم قل وجوده من أول شهر رجب إلى غاية السنة وغلا سعره مع رداءته وهزاله حتى بيع الرطل بعشرين نصفا وازيد واقل مع مافيه من العظام واجزاء السقط والشغت وسبب ذلك رواتب الدولة وأخذها بالثمن القليل فيستعوض الجزارون خسارتهم من الناس وكان البعض من العسكر يشتري الاغنام ويذبحها ويبيعها بالثمن الغالي وينقص الوزن ولايقدر ابن البلد على مراجعته.
ومنها أن إبراهيم اغا الذي كان كتخدا إبراهيم باشا قلده الباشا كشوفية المنوفية فمن افاعيله أنه يطلب مشايخ البلدة أو القرية فيسأل الشخص منهم على من شيخه فيقول: أستاذ البلدة فيقول له: في أي وقت فيقول: سنة كذا فيقول: وما الذي قدمته له في شياختك ويهدده أو يحبسه على الانكار أو يخبر من بادئ الأمر ويقول: اعطيته كذا وكذا أما دارهم أو اغناما فيأمر
الكاتب بتقييده وتحريره وضبطه على الملتزم وسطر بذلك دفترا وأرسله إلى الديوان ليخصم على الملتزمين من فائظهم المحرر لهم بالديوان فيتفق أن المحرر عليه يزيد على القدر المطلوب له فيطالب بالباقي أو يخصم عليه من السنة القابلة.
ومنها التحجير على القصب الفارسي فلا يتمكن أحد من شراء شئ منه ولو قصبة واحدة إلا بمرسوم من كتخدا بك فمن احتاج منه في عمارة أو شباك أو لدوارت الحرير أو اقصاب الدخان أخذ فرمانا بقدر احتياجه واحتاج إلى وسائط ومعالجات واحتجاجات حتى يظفر بمطلوبه.
ومنها وهي من محاسن الافعال أن الباشا اعمل همته في اعادة السد الاعظم الممتد الموصل إلى الاسكندرية وقد كان اتسع أمره وتخرب من مدة سنين وزحف منه ماء البحر المالح واتلف أراضي كثيرة وخربت منه قرى ومزارع وتعطلت بسببه الطرق والمسالك وعجزت الدول في أمره ولم يزل يتزايد في التهور وزحف المياه المالحة على الأراضي حتى وصلت إلى خليج الاشرفية التي يمتلئ منها صهاريج الثغر فكانوا يجسرون عليه بالاتربة والطين فلما اعتنى الباشا بتعمير الاسكندرية وتشييد اركانها وابراجها وتحصينها ولم تزل بها العمارات اعتنى أيضا بأمر الجسر وأرسل إليه المباشرين والقومة والرجال والفعلة والنجارين والبنائين والمسأمير والات الحديد والاحجار والمؤن والاخشاب العظيمة والسهوم والبراطيم حتى تممه وكان له مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان فلو وفقه الله لشئ من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة لكان اعجوبة زمانه وفريد أوانه وأما أمر المعاملة فلم يزل حاله في التزايد حتى وصل صرف الريال الفرانسة إلى تسعة قروش وهو أربعة أمثال الريال المتعارف ولما بطل ضرب القروش من العام الماضي ضربوا بدلها انصاف قروش وارباعها وأثمانها وتصرف بالفرط والانصاف العددية لاوجود لها بأيدي الناس إلا ما قل جدا فإذا أراد إنسان منها دفع في أبدالها
عشرة قروش عنها أربعمائة نصف فضة زيادة على المبدل أن كان ذهبا أو فرانسة أو قروشا ووصل صرف البندقي إلى ثمانمائة نصف والمجر ثمانية عشر قرشا والمحبوب المصري إلى أربعمائة والإسلامبولي إلى أربعمائة وثمانين كل ذلك أسماء لا مسميات لانعدام الانصاف مع أنه يضرب منها المقادير والقناطير يأخذها التجار الشاميون والروميون بالفرط ثم يرسلونها متاجرة بدلا عن البضائع لأن الريال في تلك البلاد صرفه ثلثمائة نصف فقط فيكون فيه من الربح ستون نصفا في كل ريال ولما علم الباشا ذلك جعل يرسل لوكلائه بالشام في كل شهر ألف كيس من الفضة العددية ويأتيه بدلها فرانسة فيضيف عليها ثلاثة أمثالها نحاسا ويضربها فضة عددية فيربح فيها ربحا بدون حاء عظيما وهكذا من هذا الباب فقط.
ومن حوادث السنة الافاقية واقعة الانكليز مع أهل الجزائر وهو أن لأهل الجزائر صولة واستعداد وغزوات في البحر ويغزون مراكب الافرنج ويغتنمون منها غنائم ويأخذون منهم أسرى وتحت أيديهم من اسارى الانكليز وغيرهم شئ كثير ومينتهم حصينة يدور بها سور خارج في البحر كنصف الدائرة في غاية الضخامة والمتانة ذو ابراج مشحونة بالمدافع والقنابر والمرابطين والمحاربين ومراكبهم من داخله فوصل إليهم بعض مراكب الانكليز ومعهم مرسوم من السلطان العثماني ليفتدوا اسارهم بمال فاعطوهم ما يزيد عن الألف اسير ودفعوا عن كل رأس اسير مائة وخمسين فرانسا ورجعوا من حيث اتوا وبعد مدة وصل منهم بعض سفائن إلى خارج المينا رافعين اعلام السلم والصلح فعبروا داخل المينا من غير ممانع ونزل منهم انفار في فلوكة وبيدهم مرسوم بطلب باقي الأسرى فامتنع حاكمهم من ذللك وترددوا في المخاطبات وفي اثناء ذلك وصلت عدة مراكب من مراكبهم وشلنبات وهي المراكب الصغار المعدة للحرب وعبروا مع مساعدة الريح إلى المينا واثاروا الحرب والضراب بطرائقهم المستحدثه فأحرقوا مراكب أهل الجزائر مع المضاربة أيضا من أهل المدينة مع تأخر استعدادهم.
وسرعة استعداد الخصم ومدافع الابراج الداخلة لا تصيب الشلنبات الصغيرة المتسفلة وهم لا يخطؤن ثم هم في شدة الغارة والحرب إذا قيل للحاكم بأن عساكره الاتراك تركوا المحاربة واشتغلوا بنهب البلدة واحراق الدور فقط في يده واحتار في أمره ما بين قتال العدو الواصل أو قتال عسكره ومنعهم وكفهم عن النهب والاحراق والفساد وهذا شأنهم فلم يسعه إلا خفض الاعلام وطلب الأمان من الانكليز فعند ذلك ابطلوا الحرب وكفوا عن الضراب وترددوا في الصلح على شرائطهم التي منها تسليم بواقي الأسرى واسترداد المال الذي سلموه في الفداء السابق حالا من غير مهلة فكان ذلك وتسلموا الأسرى وفيهم من كان صغيرا واسلم وقرا القرآن واتفقوا على المتاركة والمهلة زمنا مقداره ستة اشهر ورجعوا إلى بلادهم بالظفر والأسرى والأمر لله وحده ثم أن الجزائرلية اجتهدوا في تعمير ما تهدم وتخرب من السور والابراج والجامع في الحرب وكذلك ما اخربه عساكرهم الذين هم اعدى من الاعداء واضر ما يكون على الإسلام وأهله وصارت الأخبار بذلك في الافاق وامدهم سلطان المغرب مولاي سليمان وبعث إليهم مراكب عوضا عن الذي تلف من مراكبهم فأرسل إليهم معمرين وادوات ولوازم عمارات وكذلك حاكم تونس وغيرها ومن السلطان العثماني أيضا ولم يتفق فيما نعلم لأهل الجزائر مثل هذه الحادثة الهائلة ولا اشنع منها وكانت هذه الواقعة غرة شهر شوال من السنة وهو يوم عيد الفطر وكان عيدا عليهم في غاية الشناعة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأما من مات في هذه السنة ممن له ذكر
مات الشيخ الفهامة والنحرير العلامة الفقيه النحوي الاصولي إبراهيم البسيوني البجيرمي الشيخ الصالح المقتصد الورع الزاهد حضر جل الأشياخ المتقدمين وهو في عداد الطبقة الأولى ودرس وافاد وانتفع به الطلبة بل غالب الناس كان طارحا للتكلف متقشفا مع التواضع والانكسار
ملازما على العبادة مستحضرا للفروع الفقهية والمعقولية والمناسبات الشعرية والشواهد النحوية والادبية جيدا لحافظة لا تمل مجالسته ومؤانسته ولم يزل على حالته وافادته وانجماعه وعفته حتى تمرض وتوفي يوم السبت منتصف المحرم من السنة عن نحو الخمسة وسبعين وصلى عليه بالأزهر في مشهد حافل رحمه الله تعالى وايانا.
ومات الشيخ العلامة الاصولي الفقيه النحوي على الحصاوي الشافعي نسبة إلى بلدة بالقليوبية تسمى الحصة حضر إلى الجامع الأزهر صغير وحفظ القران والمتون وحضر دروس الأشياخ كالشيخ على العدوي المنسفيسي الشهير بالصعيدي والشيخ عبد الرحمن النحريري الشهير بالمقرى ولازم الشيخ سليمان الجمل وبه تخرج وحضر على الشيخ عبد الله الشرقاوي مصطلح الحديث وكان يحفظ جمع الجوامع مع شرحه للجلال المحلي في الاصول ومختصر السعد ويقرأ الدروس ويفيد الطلبة وكان إنسانا حسنا مهذبا متواضعا ولايرى لنفسه مقاما عاش معانقا للخمول في جهد وقلة من العيش مع العفة وعدم التطلع لغيره صابرا على مناكدة زوجته وبآخره اصيب في شقه بداء الفالج انقطع بسببه اشهرا ثم انجلى عنه يسيرا مع سلامة حواسه وعاد إلى الاقراء والافادة ولم يزل على حسن حاله ورضاه وانشراح صدره وعدم تضجره وشكواه للخلوقين إلى أن توفي في شهر جمادي الثانية سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف رحمة الله وايانا.
ومات الشيخ العلامة والنحرير الفهامة السيد أحمد بن محمد بن إسمعيل من ذرية السيد محمد الدوقاطي الطهطاوي الحنفي والده رومي حضر إلى أرض مصر متقلدا القضاء بطهطا بلدة بالقرب من اسيوط بالصعيد الأدنى فتزوج بامرأة شريفة فولد له منها المترجم واخوه السيد إسمعيل ولم يزل مستوطنا بها إلى أن مات وترك ولديه المذكورين واختالهما حضر المترجم إلى مصر في سنة إحدى وثمانين ومائة وألف وكان قد بدا نبات لحيته
بعد ما حفظ القرآن ببلدة وقرا شيئا من النحو فدخل الأزهر ولازم الحضور في الفقه على الشيخ أحمد الحماقي والمقدسي والحريري والشيخ مصطفى الطائي والشيخ عبد الرحمن العريشي حضر عليه من أول كتاب الدر المختار إلى كتاب البيوع وتمم حضوره على المرحوم الوالد مع الجماعة لتوجسه الشيخ عبد الرحمن لدار السلطنة لبعض المقتضيات عن أمر علي بك في سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف فالتمس الجماعة تكملة الكتاب على الوالد فأجابهم لذلك فكانوا يأتون للتلقي عنه في المنزل والمترجم معهم وفي اثناء ذلك قرأت مع المترجم عل الوالد متن نور الأيضاح بعد انصراف الجماعة عن الدرس ويتحلف المترجم وذلك لعلو السند فإن الوالد تلقاه عن ابن المؤلف وهو عن جد الوالد عن المؤلف وجد الوالد والمؤلف يسميان بحسن فهو من عجيب الاتفاق وكان المترجم يلائم طبع الفقير في الصحبة فكنت معه في غالب الأوقات أما في الجامع أو في المنزل للطاقة طبعه وقرب سني من سنه وكان الوالد يرى ذلك ويسألني عنه إذا تخلف في بعض الاحيان ويقول: أين رفيقك الصعيدي فكان يعيد معي ويفهمني ما يصعب على فهمه ولم يزل يدأب في الاشتغال والطلب مع جودة ذهنه وخلو باله وتفرغه والفقير بخلاف ذلك وتلقى المترجم الحديث سماعا واجازة عن كل من الشيخ حسن الجداوي والشيخ محمد الأمير والشيخ عبد العليم الفيومي ثلاثتهم عن الشيخ علي العدوي المنسفيسي عن الشيخ محمد عقيلة بسنده المشهور والمترشح للافادة والتدريس وكان مسكنه بناحية لصليبة وجلس للاقراء بالمدرسة الشيخونيه والصرفثمئية احتف به سكان تلك الناحية وأكابرهم واعتنوا بشانه واسكنوه في دار تليق به وهاوده وواسوه واكرموه وكانت تلك الناحية عامرة بأكابرها وانفرد المترجم عندهم لكونه على مذهبهم وأصله من جنس الاتراك وخلو تلك النواحي من أهل العلم وخصوصا الاحناف وملازمة المترجم للحالة المحمودة من الافادة مع شرف النفس والتباعد عما يخل بالمروءة الاماياتيه
عفوا فازدادت محبتهم له ووثقوا فيما يقضيه ثم تصدى لوقف الشيخونيتين وايرادهما واستخلاص أماكنهما وشرع في تعميرهما وساعده على ذلك كل من كان يحب الاصلاح فجدد عمارة المسجد والتكية وانشأ بها صهريجا وفي اثناء ذلك انتقل بأهله إلى دار مليحة بجوار المسجد بالدرب المعروف بدرب الميضاة وقفها بانيها على المسجد كل ذلك والمترجم لم ينقطع عن الحضور إلى الأزهر في كل يوم ويقرأ درسه أيضا بالجامع ولما كثرت جماعته انتقل إلى المدرسة العينية بالقرب من الأزهر ولما عمر محمد أفندي الودنلي الجامع المجاور لمنزله تجاه القنطرة المعروفة بعمار شاه والمكتب قرر المترجم في درس الحديث بها في كل يوم بعد العصر وقرر له عشرة من الطلبة ورتب للشيخ والطلبة معلوما وافرا يقبض من الديوان ولما مات الشيخ إبراهيم الحريري تعين المترجم لمشيخة الحنفية فتقلدها على امتناع منه فاستمر إلى أن اخرج السيد عمر مكرم من مصر منفيا وكتبوا في شأنه عرضحال إلى الدولة نسبوا إليه فيه أشياء لم تحصل منه وطلبوا الشهادة فيها فامتنع فشنعوا عليه وبالغوا في الحطط عليه وعزلوه من المشيخة وقلدوه الشيخ حسينا المنصورى فلما مات المذكور أعيد المترجم إلى مشيخة الحنفية وذلك في غرة شهر صفر سنة ألف ومائتين وثلاثين ولبس الخلع من الشيخ الشنواني شيخ الجامع ثم من الباشا وباقي المشايخ أرباب المظاهر ولم يختلف عليه اثنان وفي هذه السنة أستاذن الفقير في بناء مقبرة يدفن فيها إذا مات بجوار الشيخ ابي جعفر الطحاوي بالقرافة لكوني ناظرا عليها فأذنت له في ذلك فبنى له قبرا بجانب مقام الأستاذ ولما توفي دفن فيه وكانت وفاته ليلة الجمعة بعد الغروب خامس عشر شهر رجب سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف وله من المآثر حاشية على الدر المختار شرح تنوير الابصار في أربع مجلدات جمع فيها المواد التي على الكتاب وضم إليها غيرها.
ومات النجيب الاريب والنادرة العجب اعجوبة الزمان وبهجة الخلان
حسن أفندي المعروف بالدرويش الموصلي كما أخبر عن نفسه الذكي الالمعي والسميذع اللوذعي كان وإنسانا عجيبا في نفسه مميزا شهيرا في مصر طاف البلاد والنواحي وجال في الممالك والضواحي واطلع على عجائب المخلوقات وعرف الكثير من الالسن واللغات ويتعزى لكل قبيل ويخالط كل جيل فمرة ينتسب إلى فارس وأخرى إلى بني مكانس فكأنه المعنى بما قيل طور إيمان إذا لاقيت ذا يمن وأن رايت معديا فعدناني هذا مع فصاحة لسان وقوة جنان والمشاركة في كل فن من الرياضيات والادبيات حتى يظن سامعه أنه مجيد في ذلك الفن منفرد به وليس الأمر كذلك وإنما ذلك بقوة الفهم والحفظ ومافيه من القابلية فيستغنى بذلك عن التلقي من الأشياخ وأيضا فقد انقرض أهل الفنون فيحفظ اصطلاحات الفن واوضاع أهله ويرزه في الفاظ ينمقها ويحسنها ويذكر اسماءكتب مؤلفه وأشياخا وحكما يقل الاطلاع عليها والوصول إليها ولمعرفته باللغات خالط كل ملة حتى يظن كل أهل ملة أنه واحد منهم ويحفظ كثيرا من الشبه والمدركات العقلية والبراهين الفلسفية واهمل الواجبات الشرعية والفرائض القطعية وربما قلد كلام الملحدين وشكوك المارقين ويزلق لسانه في بعض المجالس بغلطات من ذلك ووساوس فلذلك طعن الناس عليه في الدين واخرجوه عن اعتقاد المسلمين وساءت فيه الظنون وكثر عليه الطاعنون وصرحوا بعد موته بما كانوا يخفونه في حياته لاتقاء شره وسطواته وكان له تداخل عجيب في الأعيان ومع كل أهل دولة وزمان ورؤساء الكتبة والمباشرين من الاقباط والمسلمين بالمعزة الزائدة واستجلاب الفائدة لا تمل مجالسته ولا معاشرته وباخره لما رغب الباشا في انشاء محل لمعرفة علم الحساب والهندسة والمساحة تعين المترجم رئيسا ومعلما لمن يكون متعلما بذلك المكتب وذلك أنه تداخل بتحيلاته لتعليم مماليك الباشا الكتابة والحساب ونحو ذلك ورتب له خروجا وشهرية ونجب تحت يده بعض المماليك في معرفة الحسابيات ونحوها واعجب الباشا ذلك فذاكره وحسن
له بأن يفرد مكانا للتعليم ويضم إلى مماليكه من يريد التعليم من أولاد الناس فأمر بإنشاء ذلك المكتب وحضر إليه أشياء من الات الهندسة والمساحة والهيئة الفلكية من بلاد الانكليز وغيرهم واستجلب من أولاد البلد ما ينيف على الثمانين شخصا من الشبان الذين فيهم قابلية للتعليم ورتبوا لكل شخص شهرية وكسوة في آخر السنة فكان يسعى في تعجيل كسوة الفقير منهم ليتجمل بها بين اقرانه ويواسي من يستحق المواساة ويشتري لهم الحمير مساعدة لطلوعهم ونزولهم إلى القلعة فيجتمعون للتعليم في كل يوم من الصباح إلى بعد الظهر واضيف إليه آخر حضر من إسلامبول له معرفة بالحسابيات والهندسيات لتعليم من يكون اعجميا لا يعرف العربية مساعدا للمترجم في التعليم يسمى روح الدين أفندي فاستمرا نحوا من تسعة اشهر ومات المترجم وذلك أنه اقتصد وطلع إلى القلعة فحنق على بعض المتعلمين وضربه فانحلت الرفادة فسال منه دم كثير فحم حمى مختلطة واستمر أياما وتوفي ودفن بجامع السراج البلقيني بين السيارج وعند ذلك زاد قول الشامتين وصرحوا بما كانوا يخفونه في حياته فيقول البعض: مات رئيس الملحدين واخر يقول: انهدم ركن الزندقة ونسبوا إليه أن عنده الكتاب الذي الفه ابن الرواني لبعض اليهود وسماه دافع القرآن وأنه كان يقرؤه ويعتقد به وأخبروا بذلك كتخدا بك فطلب كتبه وتصفحوها فلم يجدوا بها ذلك الكتاب وما كفى مبغضه وحاسده من الشناعات حتى رأوا له منامات شنيعة تدل على أنه من أهل النار والله اعلم بخلقة وبالجملة فكان غريبا في بابه وكانت وفاته يوم الخميس سابع عشري جمادي الثانية من السنة وانفرد برياسة المكتب روح الدين أفندي المذكور.
ومات الأجل المكرم الشريف غالب بسلانيك وهو المنفصل عن إمارة مكة وجدة والمدينة وما انضاف إلى ذلك من بلاد الحجاز فكانت امارته نحوا من سبع وعشرين سنة فانه تولى بعد موت الشريف سرور في سنة ثلاث
ومائتين وألف وكان من دهاة العالم واخباره ومناقبه تحتاج إلى مجلدين ولم يزل حتى سلط الله عليه بأفاعيله هذا الباشا فلم يزل يخادعه حتى تمكن منه وقبض عليه وارسله إلى بلدة سلانيك وخرج من سلطته وسيادته إلى بلاد الغربة ونهبت أمواله وماتت أولاده وجواريه ثم مات هو في هذه السنة.
ومات الأمير مصطفى بك دالي باشا ونسيبه أيضا وكان من اعاظم اركان دولته شهير الذكر موصوفا بالاقدام والشجاعة ومات بالاسكندرية ولما وصل خبره إلى الباشا اغتم غما شديدا وتأسف عليه وكان الباشا ولاه كشوفية الشرقية وقرن به على كاشف فأقام بها نحو السنتين ومهد البلاد واخاف العربان واذلهم وقتل منهم الكثير وجمع لمخدومه أموالا جمة وكان جسيما بطينا ياكل التيس المخصي وحده ويشرب عليه الزق من الشراب ثم يتبعه بشالية أو اثنتين من اللبن ويستلقي نائما مثل العجل العظيم ذي الخوار إلا أنه كان يقضي حاجة من التجا إليه ويحب أولاد الناس ويواسيهم يتجاوز عن الكثير ويعطي ما يلزمه من الحقوق لأربابها ولما تحققت اخته التي هي زوج الباشا وكذلك والدته امرتا بإحضار رمته إلى مصر ويدفن بمدفنهم وتعين لذلك سليمان اغا السلحدار فسافر إلى الاسكندرية ووضعه في صندوق من فق على عربية ووصل به بعد اثني عشر يوما من موته وكان وصوله في ثاني ساعة من ليلة الجمعة سادس عشري جمادي الثانية وذهبوا به إلى المدفن في المشاعل من خلف المجراة فلما وصلوا إلى المدفن أرادوا انزله إلى القبر بالصندوق فلم يمكنهم فكسروا الصندوق فعبقت رائحته وقد تهرى فهرب كل من كان حاضرا فكبوه على حصير ولفوه فيه وانزلوه إلى الحفرة وغشي على الفحارين وخزعت النفوس من رائحة اخشاب الصندوق فحثوا عليه الاتربة وليس من يفتكر ويعتبر.
ومات أيضا حسن اغا حاكم بندر السويس مطعونا قولي الباشا عوضه السيد أحمد الملا الترجمان
ومات أيضا سليما اغا حاكم رشيد.
ومات الأمير الكبير المشهير بإبراهيم بك المحمدي عين أعيان أمراء الالوف المصريين ومات بدنقلة متغربا عن مصر وضواحيها وهو من مماليك محمد بك ابي الذهب تقلد الامرة والإمارة في سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف في أيام علي بك الكبير وتقلد مشيخة البلد ورياسة مصر بعد موت أستاذه في سنة تسع وثمانين ومائة وألف مع مشاركة خشداشه مراد بك وباقي أمرائهم والجميع راضون برياسته وامارته لا يخالفهم ولايخالفونه ويراعي جانب الصغير منهم قبل الكبير ويحرص على جمعية امرهم والفة قلوبهم فطالت أيامه وتولى قائم مقامية مصر على الوزراء نحو العشرة مرار وطلع اميرا على الحج في سنة ست وثمانين وتولى الدفتردارية في سنة سبع وثمانين وكلاهما في حياة أستاذه واشترى المماليك الكثيرة ورباهم واعتقهم وأمر وقلد منهم صناجق وكشافا واسكنهم الدور الواسعة واعطاهم الاقطاعات ومات الكثير منهم في حياته وأقام خلافهم من مماليكه ورأى أولاد أولاده بل وأولادهم وما زال يولد له وأقام في الإمارة نحو ثمان وأربعين سنة وتنعم فيها وقاسى في أواخر أمره شدائد واغترابا عن الاهل والاوطان وكان موصوفا بالشجاعة والفروسية وباشر عدة حروب وكان ساكن الجأش صبور ذا تؤدة وحلم قريبا للانقياد للحق متجنبا للهزل إلا نادرا مع الكمال والحشمة لا يحب سفك الدماء مرخصا لخشداشينه في افاعيلهم كثير التغافل عن مساويهم مع معارضتهم له في كثير من الأمور وخصوصا مراد بك واتباعه فيغضي ويتجاوز ولايظهر غما ولا خلافا ولا تأثرا حرصا على دوام الالفة وعدم المشاغبة وأن حدث فيما بينهم ما يوجب وحشة تلافاه وأصلحه وكان هذا الاهمال والترخص والتغافل سببا لمبادئ الشرور فانهم تمادوا في التعدي وداخلهم الغرور وغمرتهم الغفلة عن عواقب الأمور واستصغروا من عداهم وامتدت أيديهم لأخذ أموال التجار وبضائع الافرنج الفرنساوية وغيرهم بدون الثمن
مع الحقارة لهم ولغيرهم وعدم المبالاة والاكتراث بسلطانهم الذي يدعون أنهم في طاعته مع مخالفة أوامره ومنع خزينته واحتقار الولاة ومنعهم من التصرف والحجر عليهم فلا يصل للمولى عليهم إلا بعض صدقاتهم إلى أن تحرك عليهم حسن باشا الجزائرلي في سنة مائتين وألف وحضر على الصورة التي حضر فيها وساعدته الرعية وخرجوا من المدينة إلى الصعيد وانتهكت حرمتهم ثم رجعوا بعد الفصل في سنة ست ومائتين إلى امارتهم ودولتهم وعادوا إلى حالتهم الأولى بل وازيد منها في التعدي فأوجب ذلك ركوب الفرنساوية عليهم ولم يزل الحال يتزايد والاهوال يتلو بعضها بعضا حتى انقلبت اوضاع الديار المصرية وزالت حرمتها بالكلية وادي الحال بالمترجم إلى الخروج والتشتيت والتشريد هو ومن بقي من عشيرته إلى بلاد العبيد يزرعون الدخن ويتقوتون منه وملابسهم القمصان التي يلبسها الجلابة في بلادهم إلى أن وردت الأخبار بموته في شهر ربيع الأول من السنة وأما جملة اخباره فقد تقدمت في ضمن السوابق والماجريات واللواحق.
ومات الأمير الأجل أحمد اغا الخازندار المعروف ببونابارته وهو أيضا شهير الذكر من اعاظم الدولة وقد تقدم كثير من اخباره وسفره إلى الحجاز وكان عمر دارا عظيمة على بركة الازبكية جهة الرويعي ثم عمل مهما كبير الزواج ابنه وهو إذ ذاك مريض في حياض الموت حتى اشيع في الناس يوم زفة العروس ثم مات بعد أيام قليلة مضت من الفرح وذلك يوم الأربعاء ثالث شهر جمادي الثانية.
وماتت الست الجليلة خاتون وهي سرية علي بك بلوط قبان الكبير وكانت محظيته وبنى لها الدار العظيمة على بركة الازبكية بدرب عبد الحق والساقية والطاحون بجانبها ولما مات علي بك وتأمر مراد بك فتزوج بها وعمرت طويلا مع العز والسيادة والكلمة النافذة وأكثر نساء الأمراء من جواريها ولم يأت بعد الست شويكار من اشتهر ذكره وخبره سواها وكان أيام الفرنساوية واصطلح معهم مراد بك حصل لها منهم غاية الكرامة
ورتبوا لها من ديوانهم في كل شهر مائة ألف نصف فضة وشفاعتها عندهم مقبولة لا ترد بالجملة فإنها كانت من الخيرات ولها على الفقراء بر واحسان ولها من المآثر الخان الجديد والصهريج داخل باب زويلة توفيت يوم الخميس لعشرين من شهر جمادي الأولى بمنزلها المذكور بدرب عبد الحق ودفنت بحوشهم في القرافة الصغرى بجوار الاما الشافعي واضيفت الدار إلى الدولة وسكنها بعض أكابرها وسبحان الحي الذي لا يموت.
ومات المقر الكريم المخدوم أحمد باشا الشهير بطوسون ابن حضرة الوزير محمد علي باشا مالك الاقاليم المصرية والحجازية والثغور وما اضيف إليها وقد تقدم ذكر رجوعه من البلاد الحجازية وتوجهه إلى الاسكندرية ورجوعه إلى مصر ثم عود إلى ناحية رشيد وعرضي خيامة جهة الحماد بالعسكر على الصورة المذكورة وهو ينتقل من العرضي إلى رشيد ثم إلى برنبال وابي منضور والعزب ولما رجع في هذا المرة أخذ صحبته من مصر المغنين وأرباب الالات المطربة بالعود والقانون والناي والكمنجات وهم إبراهيم الوراق والحباني وقشوة ومن يصحبهم من باقي رفقائهم فذهب ببعض خواصه إلى رشيد ومعه الجماعة المذكورون فأقام أياما وحضر إليه من جهة الروم جوار وغلمان أيضا رقاصون فانتقل بهم إلى قصر برنبال ففي ليلة حلوله بها نزل به ما نزل به من المقدور فتمرض بالطاعون وتململ نحو عشرة ساعات وانقضى نحبه وذلك ليلة الأحد سابع شهر القعدة وحضره خليل أفندي قوللي حاكم رشيد وعندما خرجت روحه انتفخ جسمه وتغير لونه إلى الزرقة فغسلوه وكفنوه ووضعوه في صندوق من الخشب ووصل به في السفينة منتصف ليلة الأربعاء عاشره وكان والده بالجيزة لم يتجاسروا على اخباره فذهب إليه أحمد اغا اخو كتخدا بك فلما علم بوصوله ليلا استنكر حضوره في ذلك الوقت فأخبره عنه أنه ورد إلى شبرا متوعكا فركب في الحين القنجة وانحدر إلى شبرا وطلع إلى القصر وصار يمر بالمخادع ويقول: اين هو فلم يتجاسر أحد أن يصرح
بموته وكانوا ذهبوا به وهو في السفية إلى بولاق ورسوا به عند الترسخانة واقبل كتخدا بك على الباشا فرآه يبكي فانزعج انزعاجا شديدا وكاد أن يقع على الأرض ونزل السفينة فأتى بولاق آخر الليل وانطلقت الرسل لأخبار الأعيان فركبوا بأجمعهم إلى بولاق وحضر القاضي والأشياخ والسيد المحروقي ثم نصبوا تظلك ساترا على السفينة واخرجوا الناووس والدم والصديد يقطر منه وطلبوا القلاقطة لسد خروقة ومنافسه ونصبوا عودا عند رأسه ووضعوا عليه تاج الوزارة المسمى بالطلخان وانجروا بالجنازة من غير ترتيب والجميع مشاه إمامه وخلفه وليس فيها من جوقات الجنائز المعتادة كالفقهاء وأولاد الكتاتيب والاحزاب شئ من ساحل بولاق على طريق المدابغ وباب الخرق على الدرب الاحمر على التبانة إلى الرميلة فصلوا عليه بمصلى المؤمنين وذهبوا به إلى المدفن الذي اعده الباشا لنفسه ولموتاه كل هذه المسافة ووالده خلف نعشه ينظر إليه ويبكي ومع الجنازة أربعة من الحمير تحمل القروش وربعيات الذهب ودراهم انصاف عديدة ينثرون صبها على الأرض وعلى الكيمان وعن يمين الكتخدا ويساره شخصان يتنأول منهما قراطيس الفضة يفرق على من يتعرض له من الفقراء والصبيان فإذا تكاثروا عليه نثر ما بقي في يده عليهم فيشتغلون عنه بالتقاطها من الأرض فكان جملة ما فرق وبدر من الانصاف العددية فقط خمسة وعشرين كيسا عنها خمسمائة ألف فضة وذلك خلاف القروش وساقوا إمام الجنازة ستة رؤوس من الجواميس الكبار أخذ منها خدمة التربة ومن حولهم وخدمة ضريح الإمام الشافعي ولم ينل الفقراء إلا ما فضل عنهم واخرجوا لاسقاط صلاة المتوفي خمسة وأربعين كيسا تناولها فقراء الأزهر وفرقت بجامع الفاكهاني بحسب الاغراض للغني منهم اضعاف قسم الفقير وأكثر الفقراء من الفقهاء لم ينالوا ولا القليل ولما وصلوا إلى المدفن هدموا التربة وانزلوه فيها بتابوته الخشب لتعسر اخراجه منه بسبب انتفاخه وتهربه حتى أنهم كانوا يطلقون حول تابوته
البخورات في المجامر الذهب والرائحة غالبة على ذلك وليس ثم من يتعظ أو يعتبر ولما مات لم يخبروا والدته بموته إلا بعد دفنه فجزعت عليه جزعا شديدا ولبست السواد وكذلك جميع نسائهم واتباعهم وصبغوا براقعهم بالسواد والزرقة وكذلك من ينافقهم من الناس حتى لطخوا أبواب البيوت ببولاق وغيرها بالوحل وامتنع الناس بالأمر عليهم من عمل الافراح ودق الطبول مطلقا ونوبة الباشا وإسمعيل باشا وطاهر باشا حتى ما يفعله دراويش المولوية في تكاياهم عند المقابلة من الناي والطبل أربعين يوما واقامو عليه العزاء عن القبر وعدة من الفقهاء والمقرئين ينتابون قراءة القرآن مدة الأربعين يوما ورتبوا له ذبائح ومآكل وكل ما يحتاجونه ثم ترادفت عليهم العطايا من والدته واخواته والواردين من اقاربه وغيرهم على حد قول القائل مصائب قوم عند قوم فوائد ومات وهو مقتبل الشبيبة لم يبلغ العشرين وكان أبيض جسيما كما قد دارت لحيته بطلا شجاعا جوادا له ميل لاولاد العرب منقادا لملة الإسلام ويتعرض على أبيه في افعاله تخافه العسكر وتهايه ومن اقترف ذنبا صغيرا قتله مع احسانه وعطاياه للمنقاد منهم ولامرائه ولغالب الناس إليه ميل وكانوا يرجون تأمره بعد أبيه ويأبى الله إلا ما يريد.
ومات الوزير المعظم يوسف باشا المنفصل عن إمارة الشام وحضر إلى مصر من نحو ثلاث سنوات هاربا وملتجئا إلى حاكم مصر وذلك في أواخر سنة سبع وعشرين ومائتين وألف وأصله من الاكراد الدكرلية وينسب إلى الاكراد الملية وابتداء أمره بأخبار من يعرفه أنه هرب من أهله وعمره إذ ذاك خمس عشرة سنة فوصل إلى حماة وتعاطى بيع الحشيش والسرجين والروث ثم خدم عند رجل يسمى ملا حسين مدة سنين إلى أن البسه قلبق ثم خدم بعده ملا إسمعيل بالكتاش وتعلم الفروسية والرماحة فلعب يوما في القمار وخسر فيه وخاف على نفسه فخرج هاربا إلى عمر اغا باسيلي من اشراقات إبراهيم باشا المعروف بالازدن فتوجه معه إلى غزة وكان مع المترجم جواد اشقر من جياد الخيل فقلد علي اغا متسلم غزة عمر اغا
المذكور وجعله دالي باش ففي بعض الأيام طلب المتسلم من المترجم الجواد فقال له: إن قلدتني دالي باشا قدمته لك فأجابه إلى ذلك وعزل عمر اغا وقلد المترجم المنصب عوضا عنه وامتنع من اعطائه ذلك الجواد وأقام في خدمته مدة فوصل مرسوم من أحمد باشا الجزار خطابا للمترجم بالقبض على المتسلم واحضاره إلى طرفه وأن فعل ذلك ينعم عليه بمبلغ خمسين كيسا ومائة بيرق ففعل ذلك واوقع القبض على علي اغا المتسلم وتوجه إلى عكا بلدة الجزار فقال المتسلم للمترجم في اثناء الطريق: تعلم أن الجزار رجل سفاك دماء فلا توصلني إليه وأن كان وعدك بمال أنا اعطيك اضعافه واطلقني اذهب حيث شاء الله ولا تشاركه في دمي فلم يجبه إلى ذلك واوصله إلى الجزار فحبسه ثم قتله ورماه في البحر وأقام المترجم بباب الجزار أياما ثم أرسل إليه يأمره بالذهاب إلى حيث يريد فانه لا خير فيه لخيانته لمخدومه فذهب إلى حماة وأقام عند اغاته إسمعيل اغا وهو متول من طرف عبد الله باشا المعروف بابن العظم فأقام في حدمته كلاجي زمنا نحو الثلاث سنوات وكان بين عبد الله باشا وأحمد باشا الجزار عداوة فتوجه عبد الله باشا إلى الدورة فأرسل الجزار عساكره ليقطع عليه الطريق فسلك طريقا أخرى فلما وصل إلى جنيني وهي مدينة قريبة من بلاد الجزار وجه الجزار عساكره عليه فلما تقارب العسكران وتسامعت أهل النواحي امتنعوا من دفع الأموال فما وسع عبد الله باشا إلا الرحيل وتوجه إلى ناحية نابلس مسافة يومين وحاصر بلدة تسمى صوفين وأخذ مدافع من يافا وأقام محاصرا لها ستة أيام ثم طلبوا الأمان فأمنهم ورحل عنهم إلى طرف الجليل مسيرة نصف ساعة وفرق عساكره لقبض أموال الميري من البلاد وأقام هو في قلة من العسكر فوصل إليه خيال وقت العصر في يوم من الأيام يخبره بوصول عساكر الجزار وأنه لم يكن بينه وبينهم إلا نصف ساعة وهم خمسة الاف مقاتل فارتبك في أمره وأرسل إلى النواحي فحضر إليه من حضروهم نحو الثلثمائة خيال وهو بدائرته نحو الثمانين فأمر بالركوب فلما تقاربا هاله كثرة عساكر العدو وايقنوا بالهلاك فتقدم
المترجم إلى العسكر واشار عليهم بالثبات وقال لهم: لم يكن غير ذلك فاننا أن قررنا هلكنا عن اخرنا وتقدم المترجم مع اغاته ملا إسمعيل وتبعهم العسكر وولجوا اوسط خيل العدو وصدقوا الحملة جملة واحدة فحصلت في العدو الهزيمة وركبوا اقفيتهم وتبعهم المترجم حتى حال الليل بينهم فرجعوا برؤوس القتلى والقلائع فلما أصبح النهار عرضوها على الوزير وهي نحو الألف رأس وألف قليعة فخلع عليهم وشكرهم وارتحلوا إلى دمشق وذهب المترجم مع اغاته إلى مدينة حماة واستمر هناك إلى أن حضر الوزير الاعظم يوسف باشا المعروف بالمعدن إلى دمشق بسبب الفرنساوية ففارق المترجم مخدومه في نحو السبعين خيالا وجعل يدور بأراضي حماة بطالا ويقال له قيس: فيراسل الجزار لينضم إليه وكان الجزار عند حضور الوزير انفصل حكمه عن دمشق ووجه ولايتها إلى عبد الله باشا العظم فلما بلغ المترجم ذلك توجه إلى لقاء عبد الله باشا بالمعرة فأكرمه عبد الله باشا وقلده دالي باشا كبيرا على جميع الخيالة حتى على اغاته ملا إسمعيل اغا وأقام بدمشق مدة إلى أن حاصر عبد الله باشا مدينة طرابلس فوصل إليه الخبر بان عساكر لجزار استولوا على دمشق وبلادها فركب عبد الله باشا وذهب إلى دمشق ودخلها بالسيف ونصب عرضيه خارجها فوصل خبر ذلك إلى جزار فكاتب عساكر عبد الله باشا يستميلهم لأن معظمهم غرباء فاتفقوا على خيانته والقبض عليه وتسليمه إلى الجزار وعلم ذلك وتثبته فركب في بعض مماليكه وخاصته إلى وطاق المترجم وهو إذ ذاك دالي باشا واعلمه الخبر وأنه يريد النجاة بنفسه فركب بمن معه واخرجه من بين العسكر قهرا عنهم واوصله إلى شول بغداد ثم ذهب على الهجن إلى بغداد ورجع المترجم إلى حماة فقبل وصوله إليها ورد عليه مرسوم الجزار يستدعيه فذهب إليه فجعله مقدم ألف وقلده باش الجردة فسافر إلى الحجاز بالملاقاة وكان أمير الحاج الشامي إذ ذاك سليمان باشا عوضا عن مخدومه أحمد باشا الجزار فلما حصلوا في نصف الطريق
وصلهم خبر موت الجزار فرجع يوسف المترجم إلى الشام واستولى إسمعيل باشا على عكا وتوجه منصب ولاية الشام إلى إبراهيم باشا المعروف بقطر اغاسي اي اغات البغال وفي فرمان ولايته الأمر بقطع رأس إسمعيل باشا وضبط مال الجزار فذهب المترجم بخيله واتباعه إلى إبراهيم باشا وخدم عنده وركب إلى عكا وحصروها وحطوا في أرض الكرداني مسيرة ساعة من عكا وكانت الحرب بينهم سجالا وعساكر إسمعيل باشا نحو العشرة الاف والمترجم يباشر الوقائع وكل وقعة يظهر فيها على الخصم ففي يوم من الأيام لم يشعروا إلا وعسكر إسمعيل باشا نافذ إليهم من طريق أخرى فركب المترجم وأخذ صحبته ثلاثة مدافع وتلاقى معهم وقاتلهم وهزمهم إلى أن حصرهم بقرية تسمى دعوق ثم اخرجهم بالأمان إلى وطاقه واكرمهم وعمل لهم ضيافة ثلاثة أيام ثم ارسلهم إلى عكا بغير أمر الوزير ثم توجه إبراهيم باشا إلى الدورة وصحبته المترجم وتركوا سليمان باشا مكانهم وخرج إسمعيل باشا من عكا واغلقت ابوابها فاتفقت عساكره وقبضوا عليه وسلموه إلى إبراهيم باشا فعند ذلك برز أمر إبراهيم باشا بتسليم عكا إلى سليمان باشا وذهب بالمرسوم المترجم فأدخله إليها ورجع إلى مخدومه وذهب معه إلى الدورة ثم عاد معه إلى الشام وورد الأمر بعزل إبراهيم باشا عن الشام وولاية عبد الله باشا المعروف بالعظم على يد باشت بغداد فخرج المترجم لملاقاته من على حلب فقلده دالي باشا على جميع العسكر فلما وصل إلى الشام ولاه على حوران واربد والقنيطرة ليقبض أموالها فأقام نحو السنة ثم توجه صحبه الباشا مع الحج وتلاقوا مع الوهابية في الجديدة فحاربهم المترجم وهزمهم وحجوا واعتمروا ورجعوا ومكثوا إلى السنة الثانية فخرج عبد الله باشا بالحج وابقى المترجم نائبا عنه بالشام فلما وصل إلى المدينة المنورة منعه الوهابيون ورجع من غير حج ووصل خبر ذلك إلى الدولة فورد الأمر بعزل عبد الله باشا عن ولاية الشام وولاية المترجم على الشام وضواحيها
فارتاعت النواحي والعربان وأقام السنة ولم يخرج بنفسه إلى الحج بل أرسل ملا حسن عوضا عنه فمنع أيضا عن الحج فلما كانت القابلة انفتح عليه أمر الدورة وعصى عليه بعض البلاد فخرج إليها وحاصر بلدة تسمى كردانية ووقع له فيها مشقة كبيرة إلى أن ملكها بالسيف وقتل أهلها ثم توجه إلى جبل نابلس وقهرهم وجبى منهم أموالا عظيمة ثم رجع إلى الشام واستقام أمره وحسنت سيرته وسلك طريق العدل في الاحكام وأقام الشريعة والسنة وابطل البدع والمنكرات واستتاب الخواطئ وزوجهن وطفق يفرق الصدقات على الفقراء وأهل العلم والغرباء وابن السبيل وأمر بترك الاسراف في المأكل والملابس وشاع خبر عدله في النواحي ولكن نقل ذلك على أهل البلاد بترك مألوفهم ثم أنه ركب إلى بلاد النصيرية وقاتلهم وانتصر عليهم وسبى نساءهم وأولادهم وكان خيرهم بين الدخول في الإسلام أو الخروج من بلادهم فامتنعوا وحاربوا واتخذلوا وبيعت نساؤهم وأولادهم فلما شاهدوا ذلك اظهروا الإسلام تقيه فعفا عنهم وعمل بظاهر الحديث وتركهم ورحل عنهم إلى طرابلس وحصارها بسبب عصيان أميرها بربر باشا على الوزير وأقام محاصرا لها عشرة اشهر حتى ملكها واستولى على قلعتها ونهبت منها أموال للتجار وغيرهم ثم ارتحل إلى دمشق وأقام بها مدة فطرقه خبر الوهابية أنهم حضروا إلى المزيريب فبادر مسرعا وخرج إلى لقائهم فلما وصل إلى المزيرب وجدهم قد ارتحلوا من غير قتال فأقام هناك أياما فوصل إليه الخبر بأن سليمان باشا وصل إلى الشام وملكها فعاد مسرعا إلى الشام وتلاقى مع عسكر سليمان باشا وتحارب العسكران إلى المساء وبات كل منهم في محله ففي نصف الليل في غفلتهم والمترجم نائم وعساكره أيضا هامدة فلم يشعروا إلا وعساكر سليمان باشا كبستهم فحضر إليه كتخداه وايقظه من منامه وقال له: إن لم تسرع وإلا قبضوا عليك فقام في الحين وخرج هاربا وصحبته ثلاثة أشخاص من مماليكه فقط ونهبت أمواله وأرزاقه وزالت عنه سيادته في ساعة واحدة ولم يزل حتى