الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَنَذْكُر مَا يتَعَلَّق بِهَذِهِ الْأَنْوَاع إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِن يكن على مساق هَذَا التَّقْسِيم
الْقسم الأول التَّخْصِيص بقول الصَّحَابِيّ
أَن يكون الْخَبَر عَاما فيخصه الصَّحَابِيّ بِأحد أَفْرَاده سَوَاء كَانَ هُوَ الرَّاوِي أَو لم يكن هُوَ رَاوِي ذَلِك الحَدِيث
فمثال الأول حَدِيث ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ فَإِن لفظ من عَام يَشْمَل الْمُذكر والمؤنث عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ فِي النِّسَاء إِذا ارتددن عَن الْإِسْلَام يحبس وَلَا يقتلن فَخص الحَدِيث بِالرِّجَالِ
وَحَدِيث سعيد بن الْمسيب عَن معمر بن عبد الله بن نَضْلَة رضي الله عنه أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يحتكر إِلَّا خاطىء أخرجه مُسلم وَفِيه
وَكَانَ سعيد بن الْمسيب يحتكر فَقيل لَهُ فَإنَّك تحتكر فَقَالَ إِن معمرا الَّذِي كَانَ يحدث هَذَا الحَدِيث كَانَ يحتكر قَالَ ابْن عبد الْبر كَانَا يحتكران الزَّيْت وحملا الحَدِيث على احتكار الْقُوت عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ والغلاء
وَمِثَال الثَّانِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لَيْسَ على الْمُسلم فِي عَبده وَلَا فرسه صَدَقَة وَفِي حَدِيث عَليّ رضي الله عنه أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ قد عَفَوْت لكم عَن صَدَقَة الْخَيل وَالرَّقِيق
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنه تَخْصِيص الْخَيل بِمَا يغزى عَلَيْهِ فِي سَبِيل الله فَأَما غَيرهَا فَفِيهَا الزَّكَاة وَعَن عُثْمَان رضي الله عنه تَخْصِيصه أَيْضا بالسائمة وَأخذ من المعلوفة الزَّكَاة وَعَن عمر رضي الله عنه نَحوه أَيْضا
فَاخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك وَأطلق بعض المصنفين الْخلَافَة التَّرْجِيح وَلم يفصل
قَالَ الشَّيْخ فَخر الدّين فِي الْمَحْصُول الْحق أَنه لَا يجوز التَّخْصِيص بِمذهب الرَّاوِي وَهُوَ قَول الشَّافِعِي
وَقَالَ الْآمِدِيّ فِي الإحكام مَذْهَب الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد وَأكْثر الْفُقَهَاء والأصوليين أَن مَذْهَب الصَّحَابِيّ إِذا كَانَ على خلاف ظَاهر الْعُمُوم
وَسَوَاء كَانَ هُوَ الرَّاوِي أَو لم يكن لَا يكون تَخْصِيصًا للْعُمُوم خلافًا لأَصْحَاب أبي حنيفَة والحنابلة وَعِيسَى بن أبان وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء وَوَافَقَهُمَا فِي تَجْوِيز ذَلِك سَائِر أصحابهما
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي شرح اللمع أما قَول الصَّحَابِيّ هَل يجوز التَّخْصِيص بِهِ ينظر فِيهِ فَإِن كَانَ قد انْتَشَر فِي ذَلِك وسكتوا عَن مُخَالفَته فَهُوَ حجَّة يجب الْمصير إِلَيْهِ وَفِي تَسْمِيَته إِجْمَاعًا وَجْهَان فَيجوز التَّخْصِيص بِهِ
وَإِن لم ينتشر فِي الصَّحَابَة فَهَل يجوز تَخْصِيص الْعُمُوم بِهِ إِن قُلْنَا بقوله الْجَدِيد إِنَّه لَيْسَ بِحجَّة لم يجز التَّخْصِيص بِهِ
وَإِن قُلْنَا بقوله الْقَدِيم إِنَّه حجَّة يقدم على الْقيَاس فَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يجوز التَّخْصِيص بِهِ لِأَن الصَّحَابَة رضي الله عنهم كَانُوا يتركون أَقْوَالهم لعُمُوم الْكتاب وَالسّنة
قَالَ وَالْمذهب أَنه يجوز تَخْصِيصه بِهِ لِأَنَّهُ على هَذَا القَوْل حجَّة يقدم على الْقيَاس وَتَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ جَائِز فَلِأَن يجوز بِمَا يقدم عَلَيْهِ أولى
ثمَّ ذكر بعد ذَلِك مَا إِذا الصَّحَابِيّ هُوَ الرَّاوِي للْحَدِيث وَجزم بِأَن مذْهبه لَا يخصص عُمُوم الحَدِيث خلافًا لأبي حنيفَة وَمثله بِحَدِيث لَيْسَ على الْمُسلم فِي عَبده وَلَا فرسه صَدَقَة وَأَن الْحَنَفِيَّة حملوه على فرس الْغَازِي لقَوْل زيد بن ثَابت رضي الله عنه مثل ذَلِك وَفِي هَذَا نظر من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَن زيد بن ثَابت لَيْسَ هُوَ الرَّاوِي للْحَدِيث وَلَا يعرف من طَرِيقه
وَالثَّانِي أَن تخرج الْمَسْأَلَة على أَن قَول الصَّحَابِيّ حجَّة أملا لَا يفرق
فِيهِ بَين أَن يكون هُوَ الرَّاوِي للْحَدِيث أم لَا كَمَا صرح بِهِ بَعضهم لِأَن تَخْصِيصه يدل على أَنه اطلع من النَّبِي صلى الله عليه وسلم على قَرَائِن حَالية تَقْتَضِي تَخْصِيص ذَلِك الْعَام فَهُوَ أقوى من التَّخْصِيص بِمذهب صَحَابِيّ آخر لم يرو الْخَبَر وَلَعَلَّه لم يبلغهُ لَو بلغه لم يُخَالِفهُ بِإِخْرَاج بعضه وَإِلَى هَذِه الْأَوْلَوِيَّة يرشد كَلَام ابْن الْحَاجِب بقوله فِي الْمُخْتَصر مَذْهَب الصَّحَابِيّ لَا يخصص وَلَو كَانَ هُوَ الرَّاوِي خلافًا للحنفية والحنابلة نعم مَسْأَلَة التَّخْصِيص بقول الرَّاوِي لَا تخْتَص بالصحابي عِنْد الْحَنَفِيَّة فَقَط بل وَلَا بِصُورَة التَّخْصِيص بل الرَّاوِي مُطلقًا من الصَّحَابِيّ وَمن بعده إِذا خَالف الْخَبَر بتخصيص أَو غَيره حَتَّى لَو تَركه بِالْكُلِّيَّةِ كَانَ مذْهبه عِنْدهم مقدما على الْخَبَر كَمَا سَيَأْتِي وَلذَلِك لم يُقيد فَخر الدّين كَلَامه الْمُتَقَدّم فِي الْمَحْصُول بالصحابي بل الرَّاوِي مُطلقًا لكنه قيد الْمُخَالفَة بِحَالَة التَّخْصِيص وَلَا تتقيد بذلك عِنْدهم كَمَا بَينا
وَإِذا تقرر تَخْصِيص الصَّحَابِيّ الحَدِيث بتخريج على القَوْل بِأَن مذهبَة حجَّة لم يحْتَج إِلَى نصب اسْتِدْلَال فِيهَا من الطَّرفَيْنِ لظُهُور الْمدْرك
وَأما تَفْصِيل الشَّيْخ أبي إِسْحَاق رحمه الله الْمُتَقَدّم وَأَن قَول الصَّحَابِيّ إِذا انْتَشَر وَسكت الْجَمِيع عَنهُ يكون مُخَصّصا فَهُوَ قوي بِنَاء على مَا تقدم أَن ذَلِك يكون إِجْمَاعًا أَو حجَّة
وَهَذِه الصُّورَة وَارِدَة على قَول من أطلق الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة
وَسَيَأْتِي تَتِمَّة الْكَلَام فِي مثل ذَلِك إِذا كَانَ قَول الصَّحَابِيّ الْمُنْتَشِر على مُخَالفَة الْخَبَر بِالْكُلِّيَّةِ وان ذَلِك هَل يتَضَمَّن نَاسِخا أم لَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما تَقْيِيد الصَّحَابِيّ الْخَبَر الْمُطلق فَهُوَ كتخصيصه الْعَام من غير فرق وَذَلِكَ ظَاهر
وَأما تَخْرِيج الشَّيْخ أبي إِسْحَق القَوْل بِكَوْنِهِ تَخْصِيصًا على الْقَدِيم فَذَلِك لما هُوَ مُسْتَقر عِنْدهم أَن مَذْهَب الشَّافِعِي الْجَدِيد أَن قَول الصَّحَابِيّ لَيْسَ بِحجَّة
وَقد بَينا فِيمَا تقدم أَنه مَنْصُوص لَهُ فِي الْجَدِيد فِي غير مَوضِع وَلذَلِك اعْتمد مَذْهَب معمر بن نَضْلَة رضي الله عنه فِي تَخْصِيصه الاحتكار بِالطَّعَامِ حَالَة الضّيق على النَّاس وَلم يعْتَمد قَول ابْن عَبَّاس فِي تَخْصِيص الْمُرْتَد بِالرجلِ دون الْمَرْأَة وَلَا قَول من خصص نفي الزَّكَاة عَن الْخَيل بِبَعْض أصنافها إِمَّا على القَوْل الآخر الْمَشْهُور لَهُ فِي الْجَدِيد أَن قَول الصَّحَابِيّ لَيْسَ بِحجَّة أَو لِأَن غير هَؤُلَاءِ من الصَّحَابَة خالفوهم فِي ذَلِك فقد رُوِيَ عَن عَليّ رضي الله عنه أَنه قتل الْمُرْتَدَّة أَو قَالَ تقتل إِذا لم ترجع إِلَى الْإِسْلَام وَعَن عمر رضي الله عنه أَنه امْتنع من أَخذ الزَّكَاة من الْخَيل لما سَأَلَهُ أَرْبَابهَا ذَلِك وَقَالَ حِين أَخذهَا مِنْهُم مَا لم تكن سنة راتبة وَإِذا اخْتلف الصَّحَابَة أَو تَعَارَضَت أَقْوَالهم فَيبقى الْعَام على عُمُومه وَالله أعلم
الْقسم الثَّانِي أَن يكون لخَبر مُحْتملا لأمرين فيحمله الصَّحَابِيّ الرَّاوِي أَو المطلع عَلَيْهِ على أَحدهمَا وَقد مثل ذَلِك جمَاعَة بمثالين
أَحدهمَا حمل ابْن عمر وَأبي بَرزَة رضي الله عنهما التَّفَرُّق الْمُوجب للْبيع على التَّفَرُّق بالأبدان
وَالثَّانِي قَول عمر رضي الله عنهما فِي قَضِيَّة المصارفة وَالله لَا تُفَارِقهُ وَبَيْنك وَبَينه شَيْء ثمَّ احْتج بقول النَّبِي صلى الله عليه وسلم الذَّهَب بالورق رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء على الْمجْلس دون المقابضة على الْفَوْر وَفِي كل من هذَيْن المثالين نظر
أما الأول فَلِأَن الظَّاهِر من قَوْله صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَتَفَرَّقَا التَّفَرُّق بالأبدان
وَلَا إِشْعَار لَهُ بالتفرق بالأقوال فضلا عَن أَن يكون احْتِمَال كل مِنْهُمَا على السوَاء فالصحابي هُنَا إِنَّمَا حمل مَا رَوَاهُ على ظَاهره الْمَفْهُوم مِنْهُ وَلَيْسَ ذَلِك هُوَ الْمَفْرُوض
وَأما الثَّانِي فَهُوَ أقرب من الأول بِدَلِيل قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الآخر إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة وَقَوله صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عمر لما سَأَلَهُ عَن اقْتِضَاء الذَّهَب عَن الْوَرق وَبِالْعَكْسِ لَا بَأْس إِذا لم تفترقا وَبَيْنك وَبَينه شَيْء فَفِي هذَيْن الْحَدِيثين مَا يَقْتَضِي أَن المُرَاد بقوله صلى الله عليه وسلم إِلَّا هَاء وهاء مَا هُوَ الْأَعَمّ من التَّقَابُض على الْفَوْر أَو فِي الْمجْلس فَيكون حمل رضي الله عنه لَهُ على الْمجْلس مُبينًا للمراد مِنْهُ
لَكِن لقَائِل أَن لَوْلَا هَذَانِ الحديثان لَكَانَ الظَّاهِر مِنْهُ التَّقَابُض على الْفَوْر فَيكون عمر رضي الله عنه على خلاف الظَّاهِر مِنْهُ وَلَكِن مَعَ الْحَدِيثين تبين وَكَانَا هما الْعُمْدَة فِي تَأْوِيل قَوْله هَاء وهاء فَالْمَسْأَلَة مُحْتَملَة فِي التَّمْثِيل بهَا
وَقد قَالَ الْآمِدِيّ فِي هَذِه الصُّورَة أَعنِي مَا إِذا حمل الصَّحَابِيّ مَا رَوَاهُ من الْمُجْمل على أحد محمليه إِنَّا إِذا قُلْنَا إِن اللَّفْظ الْمُشْتَرك ظَاهر فِي جَمِيع محامله كالعام فتعود الْمَسْأَلَة إِلَى التَّخْصِيص بقول الصَّحَابِيّ وَإِن قُلْنَا بامتناع حمله على ذَلِك فَلَا نَعْرِف خلافًا فِي وجوب حمل الْخَبَر على مَا حمله الرَّاوِي عَلَيْهِ لِأَن الظَّاهِر من حَال النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه لَا ينْطق بِاللَّفْظِ الْمُجْمل بِقصد التشريع وتعريف الْأَحْكَام ويخليه عَن قرينَة حَالية أَو مقالية تعين الْمَقْصُود من الْكَلَام والصحابي الرَّاوِي الْمشَاهد للْحَال أعرف بذلك من غَيره فَوَجَبَ الْحمل عَلَيْهِ
ثمَّ أود على وَجه الِاحْتِمَال أَن تَعْيِينه لَيْسَ أولى من تعْيين غَيره من
الْمُجْتَهدين حَتَّى ينظر فَإِن انقدح لَهُ وَجه يُوجب تعْيين غير ذَلِك الِاحْتِمَال وَجب ابتاعه وَإِلَّا فتعيين الرَّاوِي صَالح للترجيح فَيجب اتِّبَاعه
قلت وَهَذَا الِاحْتِمَال ضَعِيف لِأَن ظَاهر الْحَال أَن تعْيين الصَّحَابِيّ الْمشَاهد للْحَال إِنَّمَا يكون عَن قرينَة حَالية اَوْ مقالية شَاهدهَا فَلَا يعدل عَن هَذَا الظَّاهِر إِلَّا عِنْد قيام مَا يرجح عَلَيْهِ لَا لمُجَرّد كَونه مُجْتَهدا وَالله أعلم
الْقسم الثَّالِث أَن يكون الْخَبَر ظَاهرا فِي شَيْء فيحمله الصَّحَابِيّ على غير ظَاهره إِمَّا بِصَرْف اللَّفْظ عَن حَقِيقَته إِلَى مجازه أَو بِغَيْر ذَلِك من وُجُوه التَّأْوِيل
فَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء أَن يعْمل بِظَاهِر الحَدِيث وَلَا يخرج عَنهُ لمُجَرّد عمل الصَّحَابِيّ أَو قَوْله
وَذهب أَكثر الْحَنَفِيَّة إِلَى اتِّبَاع قَول الرَّاوِي فِي ذَلِك لما سَيَأْتِي ذكره
وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة إِن كَانَ ذَلِك مِمَّا لَا يُمكن أَن يدْرك إِلَّا بشواهد الْأَحْوَال والقرائن الْمُقْتَضِيَة لذَلِك وَلَيْسَ للإجتهاد مساغ فِي ذَلِك اتبع قَوْله وَإِن كَانَ صرفه عَن ظَاهره يُمكن أَن يكونى بِضَرْب من الِاجْتِهَاد تعْيين الرُّجُوع إِلَى ظَاهر الْخَبَر لاحْتِمَال أَن لَا يكون اجْتِهَاده مطابقا لما فِي نفس الْأَمر فَلَا يتْرك الظَّاهِر للمحتمل حَكَاهُ عَنْهُم القَاضِي عبد الْوَهَّاب فِي مخلصه
وَقَالَ القَاضِي عبد الْجَبَّار وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ من الْمُعْتَزلَة إِن علم أَنه لم يكن لمَذْهَب الرَّاوِي وتأويله وَجه سوى علمه بِقصد النَّبِي صلى الله عليه وسلم لذَلِك التَّأْوِيل وَجب الْمصير إِلَيْهِ وَإِن لم يعلم ذَلِك بل جَوَاز أَن يكون قد صَار إِلَيْهِ لدَلِيل ظهر لَهُ من نَص أَو قِيَاس وَجب النّظر فِي ذَلِك الدَّلِيل فَإِن كَانَ مقتضيا لما ذهب إِلَيْهِ وَجب الْمصير إِلَيْهِ وَإِلَّا عمل بالْخبر وَلم يكن لمُخَالفَة الصَّحَابِيّ أثر وَهَذَا قوي أَيْضا
ولإمام الْحَرَمَيْنِ تَفْصِيل آخر يَأْتِي فِي الْقسم الَّذِي بعد هَذَا وَهُوَ
الْقسم الرَّابِع أَن تكون الْمُخَالفَة بترك مَدْلُول الحَدِيث بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا روى أَبُو هُرَيْرَة رضي الله عنه أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذا ولغَ الْكُلِّي فِي إِنَاء أحدكُم فاغسلوه سبع مرار الحَدِيث وَجَاء عَن أبي هُرَيْرَة نَفسه أَنه يغسل الْإِنَاء من ولوغ الْكَلْب ثَلَاثًا
وَهَذَا ذكره فَخر الدّين ابْن الْخَطِيب مِثَالا لتخصيص الرَّاوِي عُمُوم الْخَبَر وَهُوَ تَمْثِيل ضَعِيف لِأَن الْأَعْدَاد نُصُوص لَا تقبل التَّجَوُّز وَلَيْسَت من الْأَلْفَاظ الْعَامَّة حَتَّى تكون الثَّلَاثَة أحد أَفْرَاد السَّبْعَة بل هَذَا مُخَالفَة مَحْضَة لمدلول الْخَبَر
وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ جُمْهُور الْعلمَاء أَنه لَا يعدل عَن الْخَبَر الظَّاهِر أَو النَّص إِلَى مَذْهَب الرَّاوِي وَإِن قُلْنَا إِن مَذْهَب الصَّحَابِيّ حجَّة لِأَن مَذْهَب الصَّحَابِيّ إِنَّمَا يكون حجَّة إِذا لم يُعَارضهُ قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَظن كَونه اطلع على نَاسخ أَو دَلِيل يتَرَجَّح على هَذَا الْخَبَر وَإِن كَانَ منقدحا فَهُوَ مَرْجُوح لما سَيَأْتِي من الِاحْتِمَالَات الَّتِي تعارضه وَالظَّن الْمُسْتَفَاد من الْخَبَر أرجح مِنْهُ وعمدة الْحَنَفِيَّة فِي هَذَا الْمقَام أَن هَذَا الرَّاوِي إِمَّا أَن تكون مُخَالفَته لدَلِيل رَاجِح على هَذَا الْخَبَر أَولا لدَلِيل
فَإِن كَانَ لَا لدَلِيل لزم فسقه وَخرج عَن أَهْلِيَّة من تقبل رِوَايَته فَيسْقط الْعَمَل بِالْحَدِيثِ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْأَصْل خلاف ذَلِك فَتعين أَن تكون الْمُخَالفَة لدَلِيل رَاجِح على هَذَا الْخَبَر وَحِينَئِذٍ فَيجب الْمصير إِلَيْهِ
وَالْجَوَاب عَنهُ أَنه لَا يلْزم إِذا كَانَت الْمُخَالفَة لدَلِيل رَاجِح أَن يكون ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى نفس الْأَمر بل راجحا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ظَنّه وَحِينَئِذٍ فَلَا يلْزم أَن يكون ذَلِك مطابقا لما فِي نفس الْأَمر بل جَازَ أَن يكون مرجوحا وَهُوَ يَظُنّهُ راجحا وَهَذَا احْتِمَال لَا مدفع لَهُ فَلَا يتْرك ظَاهر هَذَا الْخَبَر لهَذَا الْمُحْتَمل
وايضا فالاتفاق على أَن الصَّحَابِيّ غير الرَّاوِي للْحَدِيث إِذا خَالفه بِالْكُلِّيَّةِ لَا يعْتد بمخالفته وَلَا يُعلل بهَا الْخَبَر بل يعْمل بِهِ ويعدل عَن مَذْهَب الصَّحَابِيّ وَمن الْجَائِز الْقوي أَن يكون ذَلِك الصَّحَابِيّ قد اطلع على هَذَا الْخَبَر وَإِنَّمَا خَالفه لمعارض ظَنّه راجحا عَلَيْهِ فَيلْزم على أصلهم اتِّبَاع أَقْوَال الصَّحَابَة الْمُخَالفَة للْأَخْبَار والعدول إِلَيْهَا دون الْأَخْبَار لعين مَا قَالُوهُ من غير فرق بَين الرَّاوِي وَغَيره وَذَلِكَ بَاطِل فَيلْزم مثله فِي الرَّاوِي أَيْضا
وَقَوْلهمْ إِنَّه يكون فَاسِقًا إِذا ترك الْعَمَل بالْخبر من غير معَارض رَاجِح قلت إِنَّمَا يلْزم إِذا تَركه من غير معَارض بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا ندعي ذَلِك بل يجوز لَهُ تَركه لمعارض رَاجِح فِي ظَنّه وَلَا يلْزم فسقه إِذا لم يكن راجحا فِي نفس الْأَمر
واختارإمام الْحَرَمَيْنِ تَفْصِيلًا فِي ذَلِك وَهُوَ أَنه إِن تحققنا أَن مُخَالفَة الرَّاوِي كَانَت لنسيان الْخَبَر أَو لعدم فهمه لَهُ فَلَا شكّ فِي وجوب اتِّبَاع الْخَبَر وَلذَلِك إِذا كَانَ لورع فِي الرَّاوِي بِأَن يكون الْخَبَر يَقْتَضِي ترخصا والراوي شَدِيد الْوَرع فَإِنَّهُ تحمل الْمُخَالفَة على أَخذه بِالِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَالغَة فِي الْوَرع
وَإِن خَفِي عَنَّا سَبَب الْمُخَالفَة وَلَكِن علمنَا أَنه خَالف مَا رَوَاهُ عمدا فالرجوع هُنَا إِلَى قَوْله لِأَن الظَّاهِر أَنه لَا يرتكب مثل هَذِه الْمُخَالفَة إِلَّا لمسوغ يَقْتَضِي مُخَالفَة مَا رَوَاهُ
وَإِن خَفِي عَنَّا أَن الْمُخَالفَة وَقعت عمدا أَو لسَبَب من الْأَسْبَاب وَلم نحط بِهِ علما فَالْوَاجِب اتِّبَاع الْخَبَر وَترك مَا ذهب إِلَيْهِ الصَّحَابِيّ الرَّاوِي
وَهَذَا التَّفْصِيل يرد عَلَيْهِ فِي قَوْله إِن الْمُخَالفَة مني كَانَت عمدا فَالظَّاهِر أَنه لَا يرتكبها إِلَّا المسوغ يقتضيها (ل) مَا تقدم ان ذَلِك المسوغ يحْتَمل أَن يكون راجحا فِي نفس الْأَمر وَأَن يكون كَذَلِك فِي ظَنّه وَلَا يكون مطابقا لما ظَنّه فَلَا يتْرك ظَاهر الْخَبَر لهَذَا الِاحْتِمَال وَأما تَفْصِيل من تقدم ذكره فَلَا يخفي وَجهه
والمتبع فِي ذَلِك غَلَبَة الظَّن فَمَتَى كَانَ الظَّن راجحا من جِهَة تعين اتباعها
وَهَذَا كُله إِذا لم ينتشر قَول الصَّحَابِيّ الْمُخَالف للْخَبَر فَأَما إِذا انْتَشَر الْجَمِيع وَعمِلُوا بِهِ وسكتوا عَنهُ مَعَ علمهمْ بالْخبر فَإِنَّهُ يَنْبَنِي على مَا تقدم أول الْكتاب من الْأَقْوَال فَإِذا قيل بِأَنَّهُ إِجْمَاع أَو حجَّة كَانَ ذَلِك راجحا على الْخَبَر ومتضمنا وجود نَاسخ لَهُ كَانَ سَبَب مخالفتهم لَهُ وَإِن لم نطلع على ذَلِك النَّاسِخ وَذَلِكَ كَمَا تقدم فِي الصَّحِيحَيْنِ مثله
وَكَذَلِكَ فِي الْحمل على الْمجَاز والعدول عَن الظَّاهِر وَالله الْمُوفق للصَّوَاب