الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
في بيان التكليف وما يتصل به
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. حَصرتْ هذه الآية خلقَ الجن والإنس في علّيّة العبادة، لأن الاستثناء من أعم العلل، أي: لا سببَ لخلْق الله تعالى لهم إلّا إرادتُه أن يعبدوه، وعليه فلابدَّ من أن يكون خلْقُهم على هيئةٍ يكونون بها مستعدِّين لما لأجلِه خلقَهم، والأمر كذلك. [قال تعالى:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 7 - 9]. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78]].
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر: 67]، وقال تعالى:{الرَّحْمَنُ (1) [عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)] خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4]، وقال تعالى:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 1 - 3]. [ص 3] وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10].
[وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10]].
والقصد من إيراد هذه الآيات بيانُ أن الله تعالى إنما خلق الإنسانَ ذا سمعٍ وبصرٍ، وشمٍّ ولمسٍ، وبَطْشٍ ومشي، وفكر وعقل، وحفظ ونطق، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة [التي لا يحصُر غرائبَ إتقانها وعجائب إحكامها غيرُ خالقها]، ليكون متمكنًا من العبادة التي لأجلها خُلِقَ من العدم. ويكفيك في بيان ذلك قوله تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. وفوقَ ذلك أودع في فِطَرِهم: الحنيفيةَ، قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 30 - 31].
وفي "الصحيحين"
(1)
من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "كلُّ مولودٍ يُولَد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانِه، كما تُنتَج البهيمةُ جمعاءَ هل تُحِسُّون فيها من جدعاءَ؟ حتى تكونوا أنتم تَجْدَعونها". ثم قرأ أبو هريرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} . وفي لفظ آخر
(2)
: "ما من مولودٍ إلّا يُولَد على هذه الملة".
(1)
البخاري (1385)، ومسلم (2658).
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده"(7445) بهذا اللفظ.
وقد عقد المحقق ابن القيم لبيان هذه الفطرة بابًا في كتابه "شفاء العليل"
(1)
مقتبسًا أكثر كلامه من كلام شيخه أبي العباس ابن تيمية، وقال في آخره
(2)
: "فقد تبيَّن دلالةُ الكتاب والسنة والآيات واتفاق السلف على أن الخلق مفطورون على دين الله الذي هو معرفته والإقرار به ومحبته والخضوع له، وأن ذلك موجبُ فطرتهم ومقتضاها، يجب حصوله فيها إن لم يحصل ما يعارضه ويقتضي حصولَ ضدِّه، وأن حصول ذلك فيها لا يقف على وجود شرطٍ، بل على انتفاء المانع، فإذا لم يوجد فهو لوجود مُنافِيه لا لعدمِ مقتضيه. ولهذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجود الفطرة شرطًا، بل ذكر ما يمنع موجَبَها، حيث قال: "فأبواه يُهوِّدانِه ويُنصِّرانِه ويُمجِّسانِه". فحصول هذا التهويد والتنصير موقوف على أسبابٍ خارجة عن الفطرة، وحصولُ الحنيفية والإخلاص ومعرفة الرب والخضوع له لا يتوقف أصلُه على غير الفطرة، وإن توقَّف كمالُه وتفصيلُه على غيرها، وبالله التوفيق". انتهى.
ثم ذكر الأدلة العقلية الموافقة لذلك، والكلام طويل، ولذلك اقتصرنا على إثبات الدعوى والدليل، ومَن أراد استيفاء البحث فعليه بـ "شفاء العليل".
[ص 4] وفوق ذلك فإن الله سبحانه وتعالى خلق الأكوان المحسوسة لهم على هيئة دالة على وجودِه وإلـ? هيته ووحدانيته وكمالِه، فلا تقعُ عينُ ابنِ آدم ولا شيءٌ من حواسِّه إلّا على آيةٍ من آيات الله تعالى وبرهانٍ قاطع، وقد نبَّه
(1)
هو الباب الثلاثون آخر أبواب الكتاب. وانظر "درء التعارض" لشيخ الإسلام (8/ 454 وما بعدها).
(2)
(ص 499) ط. بيروت 1407.
على ذلك القرآنُ في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} . ثم قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} . ثم قال جلَّ ذِكرُه: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام].
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم: 8]. وقال تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا
بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 1 - 5]. وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]. والآيات في ذلك كثيرة.
وبناءً على ما تقدم زعمت المعتزلة أن كلَّ إنسانٍ قبلَ بلوغ الدعوة مكلَّفٌ بالنسبة لما أدرك العقل فيه صفةَ حُسْنٍ أو قُبحٍ لذاته أو لصفته أو لوجوهٍ واعتباراتٍ، على اختلافٍ بينهم في ذلك، وخالفهم غيرهم، كما ذكره الشوكاني في "إرشاد الفحول"
(1)
. وبعد أن شرح الخلاف والاحتجاج من الطرفين قال في آخره ما لفظه
(2)
: "وبالجملة فالكلام في هذا البحث يطول، وإنكارُ مجرد إدراك العقل لكون الفعل حسنًا أو قبيحًا مكابرةٌ ومباهتةٌ. [ص 5] وأما إدراكُه لكونِ ذلك الفعل الحسن متعلقًا للثواب، وكونِ ذلك الفعل القبيح متعلقًا للعقاب= فغير مسلَّم. وغايةُ ما تُدرِكه العقول أن هذا الفعل الحسن يُمدَح فاعلُه، وهذا الفعل القبيح يُذَمُّ فاعلُه، ولا تلازُمَ بين هذا وبين كونِه متعلقًا للثواب والعقاب".
أقول: قوله: "غير مسلَّم" فيه نظر؛ لأنه إذا ثبتتْ معرفةُ الله تعالى بالفطرة والاستدلال، وثبتَ أن العقل يُدرِك حُسنَ العدل، فعندما يرى العاقل قصاصَ الله سبحانه وتعالى بين بعض الخلائق في الدنيا وإملاءَه لبعضهم، يؤدِّيه نظرُه إلى أن بعد هذه الدار دارًا أخرى، يبعثُ الله بها الخلقَ ويقتصُّ من الظالم، ونحو هذا.
(1)
(1/ 78 وما بعدها).
(2)
(1/ 83).
ومع هذا فالذي أعتقده ما دلَّ عليه قولُه تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، وقوله:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقوله تعالى:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 130 - 131]. والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وهاهنا بحثٌ في حال الناس قبل بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هل تقوم ببعثة كلِّ رسولٍ الحجةُ على كل مَن بلغتْه دعوتُه ولو لم يكن مِن قومه الذين أُرسِل إليهم، أو لا تقوم الحجةُ إلّا على قومِه خاصةً؟ ولهذا البحث موضعٌ غير هذا. ومما يتعلق به قوله تعالى في سورة الأنعام:{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)} ، وقوله في المائدة: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا
…
} الآية [19].
وعلى كل حالٍ فإن الله جلَّ ذِكرُه لم يكتفِ في إقامة الحجة وبيان التكاليف بمجرد الفطرة والعقل، أما فيما لا سبيلَ لهما إلى إدراكه كالصلاة والصيام فظاهر، وأما غيره فلكثرة العوارض والشواغل التي تُغيِّر الفطرة وتَشْغَل العقلَ، فاقتضت الإرادة الربانية الهداية والبيان، فاصطفى سبحانه وتعالى مِن خلقه رُسُلًا يُنزل إليهم وحيَه، ويؤيِّدهم بآياته، ليذكِّروا الناسَ بآيات ربهم، [ويَلفِتوا أنظارهم إلى براهين توحيده]، ويدعوهم إليه،
ويبلِّغوهم أوامرَه ونواهيَه. فأول الأنبياء آدم أبو البشر عليه السلام، [أسجد له ملائكته، وعلَّمه الأسماء، و] استخلفه في الأرض ليعمرها ويعلِّم أولاده. ثم لم تزل الرسلُ تترَى جيلًا بعدَ جيلٍ، قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36]، وقال تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 163 - 165]. وقد قصَّ الله تعالى في القرآن قصص كثير من أنبيائه فيما جرى لهم مع أممهم، كما لا يخفى].
ثم إن الله سبحانه وتعالى ختمهم بمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، فأرسله للناس كافَّةً، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40].
[ص 6] فهو صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، والمأخوذ عليهم
وعلى أممهم الميثاقُ باتباعه، [قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40]]. وقال تعالى في سورة آل عمران بعد ذكر الأنبياء: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)} .
وقال تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 155 - 158].
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28].
[ص 7] ولو تركنا الأدلة السمعية جانبًا، وأَطلقَ الإنسانُ لعقله العِنان، وفَكَّه من القيود والأغلال، حتى يصير حرًّا ساذجًا، ثم استفتاه، لشهدَ أن هذه الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم متكفِّلةٌ بمصالح الخلق كافَّةً، معاشًا ومعادًا، وأن صلاح العالم هو في الاجتماع لا في الافتراق، وأن الشرائع السابقة مع ما اعتراها من القواطع والموانع والتغيير والتبديل قد صارت مخالفةً للمصالح، فالحجة قائمة ولله الحمد.
ولما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمًا للأنبياء، وكانت شريعتُه وارثةَ جميعِ الشرائع، والمعَدَّة لتدبير مصالح الناس كافةً في إبَّان رُقيِّهم وسُموّ مداركهم إلى نهاية عمر الدنيا= أمدَّه الله سبحانه وتعالى بالكتاب الحكيم الذي قال تعالى فيه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، وقال تعالى:{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1]، وقال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].
[ص 8] وحضَّ سبحانه وتعالى على العمل به في غيرِ ما آيةٍ، قال تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 155 - 157].
وجعله سبحانه وتعالى عربيًّا، لأنه لسان العرب الذي بُعِث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرهم
(1)
، ولاسيَّما مع ما امتازت به لغة العرب من حسن البيان، فيكون بيان الشريعة أولًا بها، ثم بواسطتها يُفسَّر لأهل اللغات الأخرى، فيحصل المقصود من التبليغ والهداية. وقد قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4]. وقال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 1 - 3]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 27 - 28]. وقال تعالى: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [فصلت: 1 - 4]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 41 - 44]. وقال تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
(1)
كذا في النسخة، وفي المسودة:"بين ظهرانيهم".
الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 1 - 4].
وإنما أتيتُ بهذه الآيات كلها هنا لما فيها من تعظيم شأن القرآن وتفخيمه، لأن ذلك هو المقصود بالذات.
[ص 9] وأمر سبحانه وتعالى بكثرةِ تلاوته وتدبُّرِ آياته، قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]. وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58]، وقال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17، 22، 32، 40].
ولا ريبَ أن الله تعالى لم ينزل القرآن لمجرد التلاوة، وإنما أنزله هدًى للناس. ومَن حفظ القرآن ولم يتدبَّر معانيَه صدقَ عليه قولُه تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]. ومَن عَلِمَه ولم يعملْ به صدقَ عليه قولُه تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 175 - 177].
[ص 10] وأيَّد الله تعالى نبيَّه بالحكمة ليبيِّن للناس ما أُنزِل إليهم. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية ما لفظه
(1)
: "والرسول أنزل الله عليه الكتاب والحكمة، كما ذكر ذلك في غير موضع، وقد علَّم أمتَّه الكتابَ والحكمة، كما قال تعالى:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129]. وكان يذكر في بيته الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيِّه بذكر ذلك، فقال:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]. فآيات الله هي القرآن، إذ كان نفس القرآن يدلُّ على أنه منزَّل من الله، فهو علامة ودلالة على مُنزلِه. والحكمة قال غير واحدٍ من السلف: هي السُّنَّة، وقال أيضًا طائفة كمالك وغيره: هي معرفة الدين والعمل به
(2)
، وقيل غير ذلك، وكلُّ ذلك حقٌّ، فهي تتضمَّنُ التمييزَ بين المأمور والمحظور، والحق والباطل، وتعليمَ الحقّ دون الباطل، وهذه السنة التي فُرِّق بها بين الحق والباطل، وبيَّنت الأعمال الحسنةَ من القبيحة، والخيرَ من الشرّ" إلخ.
وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]. وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]. وقال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ
(1)
في "معارج الوصول" ضمن "مجموع الفتاوى"(19/ 175).
(2)
انظر "تفسير الطبري"(2/ 576) وابن كثير (1/ 645).
عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19].
ودلَّ الكتاب على أن جميع ما أتَى عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حقٌّ يجب اتباعُه، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
ولما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ورسولَ الله إلى الناس أجمعين، والكتاب الذي أُنزِل عليه خاتمَ الكتب، ودينُه الدينَ الذي لا يرضى الله تعالى غيرَه= دلَّ ذلك دلالةً قطعية أن كلَّ من جاء بعده إلى يوم القيامة مكلَّفٌ باتباعه. ومما يدلُّ عليه قوله تعالى:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4].
بل في القرآن ما يكاد يكون خاصًّا بالقرون الأخيرة، وهو قوله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)} ، ثم
أعقَبها سبحانه وتعالى ببشارة عظيمة، وهي قوله تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 16، 17].
[ص 11] ثم إن بقاء التكليف باتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والعملَ بالكتاب والسنة إلى يوم القيامة، لما كان متوقفًا على بقاء الكتاب والسنة واللسان الذي وردا به، تكفَّل الله سبحانه وتعالى بذلك. قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقال تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 17 - 19] ولا مانع من بقاء الجمع والبيان في هذه الآية على العموم.
ودخلَ في هذا التكفُّلِ السُّنَّةُ واللغةُ؛ لأنهما لازمانِ للحفظ والبيان، لأن المقصود بالحفظ والبيان هو قيام الحجة، ولا تقوم الحجة على مَن بلغه القرآنُ وهو لا يَعرِف منه شيئًا، ولا يتمكن من أن يعرف منه شيئًا. والمعرفةُ إنما تكون بمعرفة اللغة والسنة، فعُلِمَ أن مِن لازمِ التكفُّلِ بحفظِ القرآن وبيانه حِفْظَهما، ولا ريبَ أن الواقع كذلك ولله الحمدُ.
أما حفظ القرآن فمعلوم، وهو المعجزة العظمى الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي المعجزة التي لا تزال محفوظةً بحفظِه، وذلك أبلغُ في إقامة الحجة.
وأما حفظ السُّنَّة، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمعوا منه وبلَّغوا مَن بعدَهم. ثم هيَّأ الله تعالى من اختاره من عباده لحفظها وجمعها وضبطها ونقدِ رواتها إلى غير ذلك، وها هي الآن بين أيدينا مبينةً ولله الحمد.
وأما اللغة فقد كانت في القرن الأول لغةَ العرب عامةً، لا يحتاجون إلى تعلُّم شيء منها، وإنما نزل الكتاب وبُعِث الرسول بلُغتهم التي يَعرِفها صغيرهم وكبيرهم. فلما اختلطتْ بهم الأعاجم، وأوشكت اللغةُ أن تنهدم هيَّأ الله تعالى قومًا قاموا بحفظها وجمعها وضبطها وتدوينها، فاشتغل كل فريقٍ منهم بنوع منها، اعتنَوا به أحسنَ اعتناء، وذلك علم المفردات الذي خُصَّ باسم علم اللغة، وعلم الوضع، وعلم التصريف، وعلم النحو، وعلوم البلاغة، وعلم أصول الفقه، وغيرها. وها هي بين أيدينا ولله الحمد.
وبحفظ الكتاب والسنة واللسان حصلَ حفظُ الدين، وقامت الحجة على العالمين، فإن الكتاب والسنة هما الأصلان اللذان ترجع إليهما الأحكام، إذ الإجماع والقياس ــ على عِلّاتهما ــ راجعانِ إليهما، إذ لابدَّ للأول من مستنَدٍ منهما، وللثاني من أصلٍ لذلك، مع أن الإجماعات التي قد اتفقت محفوظة بنقل العلماء، كما أنهم بينوا طرقَ القياس ووجوهَه، وإن كان حفظ الكتاب والسنة مُغنِيًا عن ذلك.
* * * *
فصل
(1)
إنما يثبت الدليلُ إذا ثبتَ متنُه: إما قطعًا
(2)
كالقرآن ومتواتر السُّنَّة، وإما ظنًّا
(3)
كالصحيح والحسن من السُّنَّة. وإنما يثبتُ به الحكمُ إذا دلَّ عليه: إما قطعًا بأن لا يحتمل غيرَه، وإما ظنًّا بأن يحتمل غيرَه ولكن احتمالًا مرجوحًا. ويتحصلُ من هذا أن الأحكام على قسمين: قطعي كمدلول قطعيّ المتن قطعيّ الدلالة، وظني كمدلول ظنِّيهما أو ظنيِّ أحدهما وقطعيِّ الآخر إذا لم يتأيَّد بما يُبلِّغه درجةَ القطع، ولم يخالف بما يُبطِله أو يُضعِفه، فإن الأدلة فيها المنسوخ والناسخ، والمجمل والمبيَّن، والعام والمخصّص، والمطلق والمقيد، وغير ذلك مما محلُّ تفصيله أصول الفقه.
* * * *
(1)
كتب الشيخ هذا الفصل في المسودة كما يلي: (والدليل من حيث لفظه قطعي أو ظني، ومحتمل ومردود، وكلٌّ منها إما في المتن وإما في الدلالة. فقطعي المتن هو الكتاب وما تواتر من السنة، وقطعي الدلالة هو ما دلَّ على معنى لا يحتمل غيره. وظنّي المتن هو ما لم يتواتر لفظه من السنة وكان صحيحًا أو حسنًا، وظنّي الدلالة هو ما كان ظاهرًا في الدلالة على معنى ومحتملًا لغيره احتمالًا مرجوحًا. والمحتمل في المتن هو الحديث الضعيف، وفي الدلالة هو ما قابل الراجح في ظنّيها. والمردود في المتن هو الحديث الموضوع، وفي الدلالة ما لا يحتمل).
(2)
كذا في الأصل. وفي المسوَّدة: "إما ثبوتًا قطعيًّا".
(3)
في المسوّدة: "وإما بغلبة الظن".
[ص 12] فصل
إن قال قائل: وجوب العمل بالثابت ثبوتًا قطعيًا مسلَّمٌ، وأما الظني فلا، كيف وقد ذمَّ الله تعالى في كتابه الظنَّ في عدة آيات، منها قوله تعالى في الأنعام:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)} ، وقال تعالى فيها أيضًا:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} ، وقال تعالى في سورة يونس:{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [36]، وقال تعالى فيها أيضًا:{وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)} ، وقال تعالى في الجاثية:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)} ، وقال تعالى في النجم:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)} ، وقال تعالى فيها:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} .
وقبل الشروع في الجواب نُبيِّن حقيقة الظن، فنقول: لا يخفى أن حكم الذهن ينقسم إلى جازمٍ وغيره، فالجازم هو العلم والاعتقاد، وغيرُ الجازم إما أن يترجح أحد الطرفين: فالراجح الظنُّ، والمرجوح الوهمُ، وإما أن يتساويا وهو الشكُّ.
وقد يُطلق العلم على الظن مجازًا، والعلاقةُ المجاوَرةُ في الذهن، كما يُطلق الظنُّ على العلم، كقوله تعالى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]، وعلى الشكّ، وعلى الوهم.
[ص 13] ثم اعلم أن الظنّ الذي يُعتبر حجةً شرعيةً هو حكم الذهن الراجح، وله شروط:
منها: أن لا يعارضه دليلٌ آخر يُبطِله أو يُضعِفه، إذا كان هذا المعارض ظاهرًا في نفسه، بحيث يُعَدُّ الشخصُ مقصِّرًا في عدم التنبُّه له والبحث عنه.
ومنها: أن يكون عن دليل. فلو فُرِض أن شخصًا وقعَ في ذهنه ترجيحُ حكم من غير أن يستند إلى دليلٍ لم يكن حجةً، وشرطُ الدليل أن يكون مما يُحصِّل مثلُه الظنَّ، فلو وقع في ذهن أحدٍ ترجيحُ حكمٍ لحديث ضعيف لم يكن حجةً. ومن الدليل الضعيف: التقليد، قال تعالى:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78].
قيل: ومنها ــ أي الشروط ــ: أن يكون في غير أصول الدين، فلا يكفي فيها إلّا القطعُ. إلى غير ذلك.
إذا تقرر هذا فالجواب عن الآيات السابقة بطريقين: إجمالي وتفصيلي.
أما الإجمالي فنقول: إن (الظنّ) قد يُستعمل لمجرد الوهم، كما في
قوله تعالى في الحجرات: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [12]، وفي الحديث:"إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث"
(1)
. وعليه فتلك الظنون التي نعاها الله تعالى جلُّها أو كلُّها مجردُ أوهامٍ ضعيفة يبعدُ أن تكون راجحةً في ذهنِ عاقلٍ، ولذلك فسَّرها الله تعالى في الآية الأولى والثانية والرابعة بالخرص، والخرص يُطلق على الكذب وعلى الحَزْر والتخمين. وقال في الآية السادسة:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]، فعطْفُ الهوى على الظنّ يدلُّ أن المراد به مجرد وهمٍ وخيالٍ وسوسَ لهم به الشيطانُ، وقلَّدوا آباءهم فيه، وشقَّ عليهم مخالفةُ آبائهم، وتكبَّروا عن الرجوع إلى الحق بعد أن كذَّبوه، إلى غير ذلك. ويُبيِّنه قوله بعد ذلك:{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} ، وذلك أن الذي جاءهم من ربهم هو بيان الحجج القواطع والبراهين الجلية التي تُبطِل ذلك الظنَّ، وقد بُيِّنتْ لهم أوضحَ بيانٍ حتى فهموها وعرفوها، فلم يبقَ مجالٌ لأن تكون أذهانُهم مرجِّحةً لما يخالفها، إذ لا يتصور أن يجتمع العلم والظنّ بشيء واحد في ذهن واحد باعتبارٍ واحد، فتعيَّن أن يكون المراد بالظنّ في الآية مجردَ الوهم الفاسد.
ونحو هذا يقال في بقية الآيات، فإن الكون مشحونٌ بالأدلة والبراهين من آيات الآفاق والأنفس، ومن بيان الرسل والكتب، فإن فُرِض أن بعض الأشخاص قصَّر عن البحث والتنبُّهِ لتلك البراهين ولم ينبَّه عليها، فإن الظنّ حينئذٍ يكون على بابه، لأنه يصدُق عليه بالنظر إلى ذلك الشخص أنه حكمُ
(1)
أخرجه البخاري (6064) ومسلم (2563) من حديث أبي هريرة.
الذهنِ الراجح، ولكن يكون باطلًا لمعارضته للقواطع التي قصَّر الشخص عن البحث عنها، مع كونه في أصول الدين التي لا يفيد فيها الظنُّ، على ما مرَّ.
وتفصيلًا بأن يقال:
أما الآية الأولى ــ وهي قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ} ــ فإنه من المشاهَد أن أكثر الديانات التي على وجه الأرض ما عدا الإسلام كلّها مبنيةٌ على أوهام وخرافات لا يُتصوَّر أن تترجَّح في ذهن عاقل، ولذلك فسَّره تعالى بالخرص.
وأما الآية الثانية ــ وهي قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} ــ فالقوم حاولوا أن يغالطوا بذلك مدَّعين أن الله تعالى راضٍ باتخاذهم شفعاءَ، يشفعون لهم إليه، ويُقرِّبونهم إليه زُلفى، كما حكى تعالى عنهم في الآية الأخرى:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28]، وهذه دعوى باطلة، لقيام القواطع على إبطالها، وكفَى بدعوة الرسول المؤيَّد بالمعجزات. ولذلك قال تعالى:{وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} .
[ص 14] ويُوضِّح ذلك أن الله تعالى حكى عنهم في سورة الزخرف قولهم، كما أخبر في هذه الآية أنهم سيقولونه، فقال:{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} ، قال تعالى: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا
عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)}. فالقوم لما قامت عليهم الحجة والبراهين المبطلة لدعواهم تعلَّقوا بآخرِ سهم مما كانوا يلجأون إليه، وهو قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا
…
} إلخ. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 23 - 24] أي أتتمسَّكون بعادة آبائكم ولو جئتكم بأهدى منه؟ أي بما هو الهدى الحقيقي، فإن ما كان عليه آباؤهم لم يكن له حظٌّ من الهدى، وإنما ورد على سبيل التنزل لإلزام الحجة، إشارةً إلى أنه لو فُرض أن آباءهم كانوا على هدى، ولكن جاء بعد ذلك ما هو أهدى، لزمَهم اتباعُه، فكيف وآباؤهم على ضلال مبين؟ ! كما قال تعالى في البقرة:{أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} ، وفي المائدة:{أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)} ، وفي لقمان:{أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)} .
وقد قامت الدلائل القاطعة على ضلال آبائهم وهُدَى ما جاءهم به الرسول، فلما فلتَتْ من أيديهم كلُّ شبهة، ولم يبقَ لهم أدنى شيء يتعلقون به، رجعوا إلى العناد المحض، كما حكى تعالى عنهم بقوله:{قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} ، ولذلك أعقبها تعالى بقوله:{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف: 24 - 25].
وأما الآية الثالثة ــ وهي قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ــ فهي في المشركين أيضًا، وذلك أنهم عارفون مقرُّون أن الله تعالى هو الذي يرزق من السماء والأرض، ويملك السمع والأبصار،
ويُخرِج الحيَّ من الميت ويُخرِج الميت من الحي، ويُدبِّر الأمر، إلى غير ذلك مما تضمنته الآيات قبلها. فهم مع اعترافهم بذلك وغيره يزعمون أن الله تعالى راضٍ لهم بأن يتخذوا أوثانهم شفعاء، يشفعون لهم إليه، ويُقرِّبُونهم إليه زلفى، وهي دعوى باطلة وخيال فاسد، فإذا صدمَتْهم الحجة فرُّوا إلى التقليد، كما مرَّ بيانه، ونحوه الآية الرابعة
(1)
.
وأما الآية الخامسة
(2)
ــ وهي قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} الآية ــ فإن آيات الآفاق والأنفس وبيان الرسل المؤيَّدين بالمعجزات مُبطِلة لما قالوه، بحيث لا يبقى مجالٌ لأن تُرجِّحه أذهانهم.
وأما الآية السادسة ــ وهي قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)
…
} الآيات ــ فالأمر فيها واضح، فإن قولهم: إن تلك الأوثان بنات الله ــ تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا ــ من أبطل الباطل وأمحل المحال، وإنما كان القوم متهوِّرين متهوِّسين لا يبالون بما قالوا، فكلُّ ما نفثَه الشيطان في نفوسهم تبعوه بلا حياء ولا خجل، نعوذ بالله من الخذلان. هذا مع أن الرسول المؤيَّد بالمعجزات بين أظهُرِهم، والبراهين قائمة، فلا يشك أحدٌ أن الظنّ في هذه الآية هو مجرد الوهم الفاسد، بل الخرص الكاذب، بل البهتان العظيم.
وأما الآية السابعة ــ وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27)
…
} ــ فالأمر فيها أيضًا واضح؛ لأن الملائكة عليهم السلام غيب عن كل أحد، فلم يكن هناك سبيل إلى ترجيح أنوثتهم، بل
(1)
في الأصل: "الثالثة". ولعل الصواب ما أثبتناه، فإنه لم يتكلم على الآية الرابعة.
(2)
في الأصل: "الرابعة"، وهي الخامسة في ترتيب الآيات التي سبق ذكرها.