المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأدلة الموجبة العمل بالظن بشرطه - تحقيق الكلام في المسائل الثلاث - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ٤

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمةفي بيان التكليف وما يتصل به

- ‌الأدلة الموجبة العملَ بالظن بشرطه

- ‌المسألة الأولىالاجتهاد والتقليد

- ‌ الإجماع المعتبر

- ‌ طلب رتبة الاجتهاد فرضَ كفاية

- ‌المسألة الثانيةالسنة والبدعة

- ‌ الأشياء الحادثة بعد عصر النبوة نوعان:

- ‌[البحث الأول: البناء على القبور]

- ‌[روايات حديث أبي الهيّاج عن علي]

- ‌ البحث الثانياتخاذ القبور مساجد أو اتخاذ المساجد على القبور

- ‌تنبيهات

- ‌البحث الثالثزيارة القبور

- ‌ الحكمة في استحباب زيارة القبور:

- ‌ هل تُزار قبور الكفّار

- ‌ كيفية الزيارة:

- ‌ فصلفي زيارة قبور الأنبياء والصالحين

- ‌البحث الرابعالتبرُّك

- ‌1): «ماء زمزم

- ‌ تقبيل اليدين والرجلين

- ‌[مسألة التبرك بالصالحين]

- ‌البحث الخامسالتوسُّل

- ‌ حديث «الصحيحين» في قصة الثلاثة أصحاب الغار

- ‌ الفرق بين التوسّل بالحيّ والميت

- ‌[بحث في اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا]

- ‌المسألة الثالثةالنداء للغائبين والموتى وغيرهم

- ‌ المقام الأولعلم الغيب

- ‌ العلم الخبري بما هو غيب عن جميع الخلق

- ‌ معرفة الأنواء

- ‌ العَرافة

- ‌ الفأل والطِيَرة

- ‌ الطّرْق بالحصى

- ‌ رؤية الإنسيّ للجنيّ وسماعه لكلامه

- ‌[الكلام في حجية الإلهام وهل هو من الإظهار على الغيب

- ‌ المقام الثانيفي تصرُّف بعض بني آدم في الكون

- ‌ المقام الثالثالنداء والطلب

- ‌ الحكم على بعض الأعمال أنه كفر لا يسوغ إلا بعد اجتهادٍ ونَظَر

- ‌ الميزان

- ‌ملحق ــ 5 ــفي معنى التأويل

الفصل: ‌الأدلة الموجبة العمل بالظن بشرطه

العكس أقرب، لأن المشركين كانوا يعلمون أن الذكر أشرف من الأنثى، ويُقرون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبِّر للأمر، إلى غير ذلك، فكان اللائق بأذهانهم ترجيحُ ذكورةِ الملائكة، ولذلك وبَّخَهم الله تعالى في سورة الزخرف بقوله:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} الآيات [الزخرف: 17 - 19].

[ص 15] فإن قيل: بقي عليك قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ، فإنها جملة مستقلة مُبطِلةٌ لمطلق الظن.

فالجواب أن يقال: هي وإن كانت جملة مستقلة، فهي مَسُوقة لإبطال ظنهم الذي هو مجرد الوهم والتخرُّص والتقليد، فتعيَّن حملُ الظنّ فيها على ذلك لتحصُلَ المطابقة، وقد عُلِم مما سبقَ أن ظنهم إنما كان مجردَ وهَم باطل، وهذا واضح ولاسيَّما في آية النجم.

ومع هذا كله فلو فُرِض أن في هذه الآيات أو غيرها دليلًا على عدم حجية الظن الذي هو حكم الذهن الراجح، فغاية ما هناك أن يكون دليلًا عامًّا في ذلك قابلًا للتخصيص، وحينئذٍ فيكون مخصَّصًا ب‌

‌الأدلة الموجبة العملَ بالظن بشرطه

، وهي كثيرة.

أولها: أن يقال: إن أدلة الأحكام أكثرها ظنية، كما يعلمه من كانت له أدنى مُسْكةٍ، فلو لم يتعيَّن العمل بالظن بشرطه لكانت أكثر الأحكام مهملةً أو مجملة، أي أن ما لم يثبت متنُ دليله ثبوتًا قطعيًا يبقى مهملًا، وما ثبت متنُ دليله ثبوتًا قطعيًا ولم يدلَّ دلالة قطعية يبقى مجملًا. وهذا باطلٌ لما لا يُحصَى من الأدلة:

ص: 30

أولًا: لما فيه من تأخُّر البيان عن وقت الحاجة مع عموم التكليف، وهو سبحانه وتعالى يقول:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].

وثانيًا: لقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، أي مما يحتاج إليه الناس في أمر الشريعة ويسألون عنه، بدليل قوله تعالى قبلها:{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} [النحل: 89]. فهذه الآية دلَّت على عدم الإهمال والإجمال. ومما بيَّنه القرآن وجوب طاعة الرسول واتباعه، فكمل واتضح البيان بالكتاب العزيز وبسنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك أنزل تعالى قُبيلَ وفاة رسوله صلى الله عليه وسلم:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فدلت هذه الآية على الإكمال الذي هو عدم الإهمال والإجمال، وعلى إتمام النعمة الذي من جملته ذلك، وكلاهما متوقف على كون العمل بالظن بشرطه حجةً.

ومن أدلة العمل بالظن قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55]، وقال تعالى:{فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17 - 18]. إن اللفظ إذا احتمل معنيين، ولكنه ظاهر راجح في أحدهما، فلا شك أن الظاهر الراجح أحسن من الخفي المرجوح.

ومن الظني خبر الواحد، وقد دلَّ القرآن على قبوله، قال تعالى:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ

ص: 31

آمَنُوا إِنْ

(1)

جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، ومفهومه أن خبر العدل يُعمل به مطلقًا. وقد تواتر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يُرسِل الآحادَ إلى الملوك والجهات والقبائل، ويكتفي بذلك في إقامة الحجة وتبليغ الأحكام. كما أجمع الصحابة على الاحتجاج باللفظ في المعنى الراجح منه.

والأدلة في هذا كثيرة، نعم ما خصَّصه الدليل فله حكمه، كاشتراط أربعة شهود على الزنا، وغير ذلك.

* * * *

(1)

في الأصل: "إذا" سبق قلم.

ص: 32

[فصل]

(1)

الحمد لله، إن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم أخرج له ذريته، وركَّب فيهم العقول، ثم أخذ عليهم الميثاق، ثم أبرزهم إلى الدنيا على الفطرة وهي الإسلام، أي أن الله سبحانه وتعالى جعل في فطرته معرفتَه والإقرار به ومحبته والخضوع له، كما حققه ابن القيم في "شفاء العليل"

(2)

، قال: وإن ذلك موجب فطرتهم ومقتضاها، يجب حصوله فيها، وإن لم يحصل ما يُعارضه ويقتضي حصول ضدّه، وأن حصول ذلك فيها لا يقف على وجود شرط، بل على انتفاء المانع، فإذا لم يوجد فهو لوجود مُنافيه، لا لعدم مقتضيه

إلخ.

وأمدَّهم سبحانه وتعالى بآلات تُوصِلهم إلى المطلوب منهم من السمع والأبصار والأفئدة، وغير ذلك من الحواس الظاهرة والباطنة، ثم جعل جميع مخلوقاته المحسوسة لهم في الآفاق والأنفس آياتٍ دالةً على وجوده وقدرته وإرادته وعلمه وكماله، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

ثم أرسل إلى كل قوم رسولًا بلسانهم، وأيَّده بمعجزات تُوجب اليقين بصدقه، يُذكِّرهم ذلك الميثاق وتلك الفطرة، ويرشدهم. وشرع لهم على لسانه شريعة عادلة قويمة موافقة للفِطَر السليمة والعقول المستقيمة، وداعية إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة.

ثم ختم هؤلاء الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، أرسله إلى الخلق كافّةً، وفي

(1)

هذا الفصل موجود في المسودة، ولا يوجد في نسخة الأصل.

(2)

سبقت الإحالة إليه (ص 9).

ص: 33

مقدمتهم قومه الذين بُعِث من أنفسهم وبلسانهم، وأنزل عليه الكتاب الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. وأمدَّه مع ذلك بالسنة بيانًا للقرآن وإيضاحًا له، واختار له أصحابًا أُمناء هُدَاةً أبرارًا، حفظ الله بهم كتابه وسنة نبيّه.

فكان هو صلى الله عليه وآله وسلم يتلقّى الأحكام عن ربه بواسطة الوحي، فإذا نزلت النازلة وكان عنده وحيٌ سابقٌ من القرآن أو من غيره ظاهرٌ في حكمها قال به، وإلا فإن رأى مجالًا للاجتهاد اجتهد، واجتهاده حقٌّ لعصمته، فإن فُرِض وقوعُ شِبْه خطأٍ منه نُبِّه عليه فورًا، ولا يُقَرُّ إلا على الحق، وإلّا انتظر الوحي.

وأما أصحابه فكانوا في حياته صلى الله عليه وآله وسلم يتلقَّون عنه كتاب الله تعالى، ويتعلمون سنته مباشرةً أو بواسطة، فإذا نزلت بأحدهم نازلة فإن كان عنده شيء من القرآن أو السنة ظاهر في الدلالة عليها عمل به، وإلَّا فإن كان حاضرًا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرةً أو بواسطة، وإلّا فإن رأى مجالًا للاجتهاد اجتهد، وإلّا توقف، كما يدل عليه قصة معاذ حين أرسله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن.

وأما الأعراب ونحوهم كأهل اليمن ممن أسلم ولم يصحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا يكتفون بمن يصل إليهم من الصحابة يستفتونه عما ينزل بهم، فيذكر لهم الآية من كتاب الله أو الخبر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يتعلق بقضيتهم. وكان أحدهم يعمل ويفتي ويقضي بالآية أو الخبر مع بُعدِه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحتمال أنه قد تجدد ما يخالفه، حتى إذا بلغهم ذلك انتقلوا إليه، كما فعل أهل مسجد قباء عندما أُخبِروا بتحوُّل القبلة.

فلما تمَّ نزول القرآن وبيانه من السنة بما يكفي الأمَّة الكفايةَ التامة في جميع ما يَعرِض لها وينزِل بها إلى يوم القيامة آذنَهم الله تعالى بذلك بقوله

ص: 34

جلّ ذكره: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

ثم توفي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وكان أصحابه رضي الله عنهم إذا نزلت بأحدهم النازلة فإن كان عنده فيها شيء من الكتاب أو السنة واضح الدلالة قال به، وإلّا سأل من تيسَّر من بقية الصحابة، فإن وجد عند أحدهم ذلك قال به، وإلّا اجتهدوا في ذلك وعملوا بما ترجَّح لهم، وقد يتفق اجتهادهم وقد يختلف بحسب اختلاف الأنظار. وقد يعمل أحدهم بما يظهر له زمانًا ثم يبلغه أو يتبيَّن له ما يخالف ذلك فيرجع إليه.

وكان صغار الصحابة والتابعون على قسمين:

منهم مَن تكلَّم وتلقَّى كثيرًا من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فإذا نزلت به نازلة نظر فيما عنده من الكتاب والسنة، فإن رأى فيه دليلًا في نازلته عمل به، وإلّا سأل من وجده من كبار الصحابة وغيرهم، فإن وجد فذاك، وإلا اجتهد.

[ومنهم] من لم يتفق له ذلك، كالأعراب ونحوهم، فكان شأن هؤلاء إذا نزلت بأحدهم النازلةُ ذهب إلى من يجده من علماء الصحابة والتابعين، فذكر له نازلته، فيذكر له المسؤول آية من كتاب الله تعالى أو حديثًا عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم يبيّن الحكم في نازلته، فيذهب السائل فيعمل بذلك ويرويه لغيره.

وكان التابعون وتابعوهم غالبًا على العربية الخالصة، حاصلةً لهم مقاصدُ جميع العلوم المتعلقة بها من لغة ونحو وتصريف ومعانٍ وبيان، بل غالب مقاصد علم أصول الفقه، فكان الأعرابي إذا سأل العالمَ، فتلا عليه آية

ص: 35

من كتاب الله تعالى، أو روى له حديثًا عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم = فهم المراد منه غالبًا. وإلّا كأن كان أعرابيًّا بَحْتًا، وفي الآية أو الحديث ألفاظ خصَّها الشارع بمعانٍ شرعية، أو كان أعجميًّا لا يعرف [لغة] العرب، فإنه يستفسر المفتي عن معنى الآية أو الحديث، فيفسِّره له، إمّا بأن يخبره أن هذا اللفظ خصَّه الشارع لهذا المعنى، ويروي له في ذلك ما يدلُّ على ما قاله، وإما أن يخبره أن معناه في لغة العرب كذا بطريق الترجمة. والمفتي في جميع ذلك راوٍ لا غير.

ومن هذا يظهر لك أن عوامَّ ذلك القرن كانوا في حكم المجتهدين، إلّا أن الإنسان كان يعمل بما أُفتي به، أو أخبره غيره أنه أُفتي به مع رواية الدليل، بدون أن يكتب معه جميع كتاب الله تعالى ولا الكثير من السنة، ولا يعلم الناسخ والمنسوخ، فكان يكتفي أحدهم بإخبار العالم أن هذا الدليل لا يعلم له ناسخًا ولا معارضًا، ولا مخصِّصًا ولا مقيِّدًا، ولا يشترط أن يكون الخبر بذلك لفظًا، بل يكفي فيه عدم ذكر المفتي لشيء من ذلك. وحينئذٍ فهل يقال: إن المستفتي بالنسبة إلى هذه الأمور مقلِّد أُبيح له التقليد للضرورة أو لا؟ الظاهر الثاني، ويكون قول المجتهد له ذلك بمنزلة بحثه ومراجعته، فإن ذلك أقصى جهده، ولكنه لا يجوز له الاستناد إلى مجرد قول آخر في دليل: إنه لا يعلم، بل يجب عليه البحث لقدرته.

بل كان أحدهم إذا بلغه ولو بغير إفتاءٍ دليلٌ يدلُّ على حكم لم يتوقف عن العمل به، ولا يخلو أن يجيبه العالم بدليل يمكن أن يفهمه أو لا، وعلى الأول فإن قال له العالم: ولا أعلم ما يخالف هذا الدليل= فقد مرَّ حكمه، وإلّا فكما لو بلغه الدليل من غير مفتٍ، وقد مرَّ حكمه أيضًا. وعلى الثاني

ص: 36

فإنه يجزئه قول العالم: هذه الأدلة تفيد هذا الحكم، ولا أعلم ما يخالف ذلك. وهل قبول العاميّ لذلك تقليد أُبيح للضروة أو لا؟ الظاهر الثاني، ويكون قول العالم "هذه الأدلة تفيد هذا الحكم" كافيًا في حقّه، لأنه في معنى الرواية بالمعنى. وقوله:"ولا أعلم ما يخالف ذلك" بعد البحث بمنزلة بحثه ومراجعته، لأن ذلك جهد استطاعته.

والحاصل أن العالم في تلك العصور كان يعمل ويقضي ويفتي ويروي ما بلغه ما لم يطلع على ما يخالفه، وكذلك العامي، والعالم كان يجتهد له ولغيره، بأن يراجع مظانّ الأدلة في صدور الرجال أو الكتب، ويدقّق النظر، فإن وجد دليلًا ظاهرًا لا يعلم له مخالفًا قال به، وإلّا اجتهد، بمثابة وجود العالم له. وكذلك العامي، فإن سؤاله للعالم عن حكم قضية لنفسه أو لغيره هو كمراجعة العالم للماهر، وذكْرِ العالم له الدليلَ الذي لا يعلم له مخالفًا. والعالم يراجع علماء اللغة فيما خفي عليه، فكذلك العامي في استفهامه للعالم. وكما قيل في العالم عند التعارض وعدم الترجيح قيل في العامي عند تعارض المفتين، وكما أن العالم إذا لم يؤدِّه اجتهاده إلى ترجيح شيء توقّف، فعلى نحو ذلك العامي.

وقد كان هذا يقع من الصحابة في حياته صلى الله عليه وآله وسلم ومع القرب منه، ولم ينكره ولا قال: إذا فهمتم فهمًا في كتاب الله تعالى أو بلغكم عني حديث فلا تعملوا به حتى تراجعوني، بل قد بقي بعضهم يعمل بما نُسِخ بقيةَ حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته، حتى بلغه الناسخ بعد ذلك، وربما مات قبل أن يبلغه.

ثم كان صغار التابعين مع كبارهم على هذا النحو، يجيء العامي فيسأل من لقيه من العلماء عن مسألة، فيتلو عليه الآية أو يروي له الحديث ويُفهِمه

ص: 37

معناه إن لم يفهمه، فيذهب فيعمل به، ويرويه لغيره فيعمل به ذلك الغير بدون توقف، وهكذا. مع أن العوامّ حٍ

(1)

قد ضعُفتْ عربيتهم، بل الكثير منهم من الموالي الأعاجم، فقد صاروا قريبًا من عامة زماننا في انتفاء جميع شروط الاجتهاد.

ثم تابِعو التابعين ثم تابعوهم على هذا المنوال، فكان العامي يجيء إلى العالم كأحد الأئمة الأربعة، فيسأله عن مسألة، فيذكر له آية أو يروي له حديثًا بما يدل على الحكم في مسألته، ولا يزيده على ذلك، فيذهب السائل فيعمل بذلك ويرويه لغيره، وهكذا على نحو ما مرَّ.

وفصل الخطاب فيما ذُكر أن أهل تلك القرون على قسمين: عامي وعالم، والنوازل قسمان: متعلق بالنفس ومتعلق بالغير، والأحكام على وجهين: ما وُجد فيه دليل ظاهر وغيره. فالصور ثماني:

(1 - 2) عالم ونازلة تتعلق به، ووجد لها دليلًا ظاهرًا، أو لا.

(3 - 4) أو تتعلق بغيره، ووجد لها دليلًا ظاهرًا، أو لا.

(5 - 6) عامي ونازلة تتعلق به، ووجد لها دليلًا ظاهرًا، أو لا.

(7 - 8) أو تتعلق بغيره، ووجد لها دليلًا ظاهرًا، أو لا.

فالأولى حكمها ظاهر، بأن يعمل بما دل عليه الأصل.

وكذلك الثالثة، فيقضي بمقتضى ذلك الدليل أو يذكره للمستفتي، ويُفهِمه إن احتاج، فيعمل به.

(1)

أي: حينئذ.

ص: 38

وقريب من هذا الخامسة والسابعة. كان العامي في تلك العصور يعمل بما يبين له فهمه من الأدلة بدون توقف، ويرويه لغيره فيعمل به ذلك الغير بدون توقف.

وأما الصورة الثانية فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما سبق من التفصيل إن رأى مجالًا للاجتهاد اجتهد، وإلَّا انتظر الوحي، لأن الأدلة لم تكن قد أكملت. وأما أصحابه القريبون منه فيردُّون الأمر إليه، فيخبرهم أو يجتهد لهم أو ينتظر الوحي. وأما غيرهم فإن كانت النازلة تستدعي بيان الحكم حالًا تعين الاجتهاد، وإلّا فلا. وذلك لمن كان من الصحابة بعيدًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بعد وفاته، أو من علماء التابعين، وهكذا. فإن أداه اجتهاده إلى شيء فيها وإلَّا توقَّف.

وأما الصورة الرابعة فقد مضى بيانها في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما أصحابه فمن كان قريبًا منه صلى الله عليه وآله وسلم أحال الأمر إليه، وأما غيرهم فإما أن لا يوجد في الجهة عالم غيره أو يوجد، وعلى كلٍّ إما أن تكون تلك النازلة تحتاج إلى البيان حالًا أو لا، فإن لم يوجد في الجهة غيره كمعاذ حين بعثه إلى اليمن وكانت النازلة تحتاج إلى البيان حالًا تعيَّن الاجتهاد، وإلّا فلا، بل هو جائز، ومن اجتهد فلم يظهر له شيء توقَّف.

وأما السادسة فإن كانت النازلة تستدعي بيان حكمها حالًا تعيَّن عليه استفتاء عالمٍ، وإلَّا فلا.

وأما الثامنة فلا يلزمه شيء مطلقًا، غير أنه لا يمتنع أن يستفتي عالمًا ثم يروي لصاحبه.

ص: 39

فصل

[ص 16] قد تبيَّن من هذه المقدمة قيام حجة الله تعالى على كلِّ إنسان، أولًا من حيث الخِلقة، وثانيًا من حيث الفطرة، وثالثًا من حيث الدعوة. وتَبيَّن لك أيضًا قيامها علينا كقيامها على أهل القرن الأول؛ لأن الكتاب والسنة محفوظان بين أيدينا، والمعجزة قائمة، واللغة معروفة. [أما القرآن فبالتواتر القطعي، وأما السنة فبالنقل الذي تقوم به الحجة، وكذلك ما يتوقف فهم الكتاب والسنة عليه من علوم اللغة فإنها مدوّنة]

(1)

.

وقد ضرب الله تعالى في القرآن من كل مثل، وضمَّنه أكملَ الهدى، ولاسيما في الدعوة إلى توحيده ومعرفته وإخلاص العبادة له، وأرشدَ فيه إلى التفكر في آيات الآفاق والأنفس، وهذا هو متعلَّق الاعتقاد، وبه تتعلق المسألة الثالثة، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.

وقد جاء فيه وفي السُّنَّة تفصيلُ أحكام الشريعة المتكفلة بمصالح العباد إلى يوم القيامة، بحيث لا يحتاجون إلى إحداثِ شيء، فمهما أحدثوه في الدين مما لا يوافق الكتاب والسنة فهو بدعةُ ضلالةٍ، مخالِفةٌ للمصلحة في الحقيقة. وهذا متعلَّق المسألة الثانية، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.

ولما كان معرفة الدليل من الكتاب والسنة متوقِّفًا على العلم بهما، لجواز أن يكون له ناسخ أو معارِض أو مخصِّص أو مقيِّد أو مبيِّن أو صارفٌ عن ظاهره، وعلى معرفة علوم اللغة، إذ لا يحصُلُ الوثوق بالفهم إلّا بعد معرفتها كما لا يخفى= وجبَ أحدُ أمرين:

(1)

ما بين المعكوفتين من المسوّدة.

ص: 40

الأول: أن تكون معرفةُ ذلك فرضَ عينٍ على كلِّ مكلَّفٍ، لأن ما لا يتمُّ الواجب إلّا به فهو واجب.

الثاني: أن تكون فرضَ كفاية، وعليه فما هو فرضُ القاصرِ؟ أتقليدُ أحد المجتهدين أم غيرُه؟ ومن هنا ينشأ الكلام على المسألة الأولى، وهي الاجتهاد والتقليد. وقد آنَ الشروعُ فيها، وبالله تعالى نستعين.

وطريقتي في بيان هذه المسائل ذِكْرُ حججِ الفريقين غالبًا، قائلًا في المسألة الأولى:"قال المقلِّدون"، "قال المانعون"، وفي ما بعدَها:"قال المجيزون"، "قال المانعون"، كما ستراه إن شاء الله تعالى. ليطلع القارئ على ما أدلى به الفريقان، فيتيسَّر له الحكم بينهما، إلى غير ذلك من الفوائد.

والأحاديث التي أذكرها فيها على ثلاثة أقسام:

الأول: المنصوص على صحتها.

الثاني: ورد على سبيل الشرح لبعض الأدلة الصحيحة، لكونه أقربَ إلى الفهم منها، وقد لا يكون متنُه معلومَ الصحة.

الثالث: ما أحكيه عن استدلال بعض الناس به، وأبيِّن حكمه إن شاء الله تعالى.

ص: 41