الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولى
الاجتهاد والتقليد
* فصل: سؤال المجتهد
* فصل (في منع التقليد)
* فصل (نهي الأئمة عن التقليد)
* فصل (مناقشة مع المقلدين)
* فصل (الجواب عن اعتراضات المقلدين)
* فصل (باب العمل بالدليل مفتوح بالاتفاق)
المسألة الأولى
[ص 54] الاجتهاد والتقليد
اعلم أن تحصيل العلم مراتب:
أولاها: تحصيل علوم اللسان العربي، وهذا على درجتين:
الأولى: ما هو فرض عين، قال الإمام الشافعي
(1)
: "يجب على كل مسلمٍ أن يتعلَّم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه". قال الماوردي
(2)
: "ومعرفة لسان العرب فرض [على] كل مسلم من مجتهدٍ وغيره". وحدُّه أن يكون بحيث إذا تُلِيتْ عليه الآية من القرآن أو ذُكِر له الحديث من السُّنَّة، وفُسِّر له غريبُ الألفاظ، ونُبِّه على وجه الدلالة= فهِمَها.
الدرجة الثانية: ما هو من فروض الكفاية، وهو أن تصير له في علوم اللسان ملكة قوية، بحيث يُوثَق بفهمه للكلام العربي من كتاب الله تعالى وسنة رسوله وكلام الأئمة، ويغلب على الظن إصابتُه ولو بمراجعة الكتب. فإذا بلغ ذلك تأهّل لتحصيل المرتبة الثانية:
[وهي] العلم بأصول الفقه. وغالبُ مسائل أصول الفقه مبنية على اللغة، ومنها ما هو مبني على العقل، ومنها ما هو مبني على السمع. وينبغي في تحصيل ذلك أن ينظر في كل مسألةٍ النظرَ الذي يحصل به العلم المطلوب فيها. فإن كانت المسألة لغوية أو عقلية لم يحتج إلى شيء آخر، إذ هو عاقل
(1)
"الرسالة"(ص 48). والمؤلف صادر عن "الحاوي" للماوردي (16/ 120) ط. دار الكتب العلمية.
(2)
المصدر السابق. ومنه الزيادة بين المعكوفتين.
وعالم باللسان.
وأما ما كان منها مبنيًّا على السمع فلا يمكنه تحصيلُ العلم المطلوب فيها إلا بتحصيل المرتبة الثالثة، ولكنه ينبغي له النظر فيها بقدر جهده، ينظر الأدلة التي ذكرها العلماء فيها ما أمكنه من غيرها. ومن أصول الفقه علم مصطلح الحديث، فيجب تحصيله معه. فإذا أتقن ذلك بحيث يُوثَق باستنباطه، ويغلب على الظن عدمُ خطئه ولو بمراجعة الكتب، تأهَّل للمرتبة الثالثة:
وهي العلم بكتاب الله تعالى وسنة رسولِه، بأن يُمارِس كتابَ الله تعالى بكثرة التلاوة والتدبر والتفكر، ويُمارِس كتب السنة بالقراءة وتأمّل المعاني وتعرُّف مواقع الأبواب، حتى يصير بحيث يغلب على الظن أنه إذا أمعن النظر في مسألة فتذكَّر كتاب الله تعالى وتصفَّح كتب السنة، لم يعزُب عنه ما فيها من الدلائل الظاهرة على مسألته، ولا يشتبه عليه ما يُحتَجُّ به من غيره، ولا الناسخ بالمنسوخ، ولا الراجح بالمرجوح، ولا ما يحتج به من الأحاديث بغيره.
وإذا حصَّل ذلك فليبدأ بتكميل النظر في مسائل أصول الفقه التي تتوقف على السمع، حتى يستتبَّ له العلم بأصول الفقه، وهذا هو المجتهد. والحق أنه إذا حصَّلَ المرتبتين الأُولَيينِ تعيَّن عليه تحصيل الثالثة. ويكفيه من السنة أن تكون لديه كتبها المتداولة بين الناس، كالأمهات الست وغيرها من المسانيد والمجاميع، ولاسيَّما مع شروحها، فإن الشُّراح يتعرضون في كل باب لذكر ما فيه من الأدلة من الكتب العزيزة. ولا يلزمه جَمْع كتب السنة كلها، لأن أئمة السلف كانوا يجتهدون ويفتون [ص 55] مع علمهم بأنه قد
بقي كثيرٌ من السنة موجودًا على ظهر الأرض لم يبلغهم، ولم يكن أحدهم يمتنع عن الاجتهاد والفتوى بعلّة أنه لم يجمع السنة، وإنما كان غاية أحدهم أن لا يتصدَّر للاجتهاد والفتوى حتى يصير لديه طائفةٌ كبيرة من السنة تتعلق بأكثر أحكام الدين، وهذه كتبُهم بين أيدينا. نعم، ينبغي له أن يجمع كلَّ ما أمكنَه من كتب السنة، ولاسيَّما مع تيسُّرها في هذه الأزمان، ولله الحمد.
ثم اعلم أن فرض المجتهد هو الاجتهاد في كل ما يَعرِض له، وأما من حاز المرتبتين الأوليين فإنه يجب عليه ــ كما تقدم ــ تحصيلُ الثالثة، وفرضُه قبلَ تحصيلها سؤال المجتهد، فيتلو عليه المجتهد الآية أو يروي له الحديث، ويُخبره أنه قد اجتهد فلم يجد ما يُعارِض ذلك. ويزيد من حاز المرتبة الأولى بدرجتها أن يبيِّن له المجتهد وجهَ الاستدلال في بنائه على بعض الأصول. ويزيد من لم يُحصِّل إلا الدرجة الأولى أن ينبِّهه المجتهد على وجه الدلالة في اللسان العربي. ويزيد من دونَه من عامّي أو أعجمي أن يُفسِّر له المجتهد الآية والحديث بلغته. وإذا تعسَّر في بعض الفروع بيان وجه الاستدلال أو بيان وجه الدلالة في اللسان العربي سقطَ، بخلاف ذكر الآية أو الحديث وتفسيره، فإنه لابدّ منه على كل حال، وكذا إخبار المجتهد بعدم المعارض. والظاهر أنه يكفي فيها دلالة الحال إذا كان المقام مقام فتوى، لأن المجتهد لا يُفتي إلّا بعد أن يَغلب على ظنّه عدمُ المعارض.
* * * *
فصل
(1)
سؤال المجتهد
كان العمل في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيما بعد من القرون الثلاثة أن يجيء القاصرُ فيسأل العالمَ، فيجيبه العالم بذكر الدليل من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله، ويفسِّره له، فيذهب السائل فيعمل بذلك. فإذا عرضتْ له قضية أخرى ذهب فسأل من لقيه من العلماء: الأولَ أو غيره، وهكذا. وهذا شيء لا خلافَ فيه، وعليه كان عمل الأئمة الأربعة رحمهم الله، فقد أسند البيهقي
(2)
إلى الربيع قال: سمعت الشافعي وسأله رجل عن مسألة فقال: رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال كذا وكذا، فقال له السائل: يا أبا عبد الله، أتقول بهذا؟ فارتعد الشافعي واصفرَّ وحالَ لونُه، وقال: ويحك! وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني وأيُّ سماءٍ تُظِلُّني إذا رويتُ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا ولم أقل به؟ نعم على العين والرأس، نعم على العين والرأس.
وقال الحميدي
(3)
: سأل رجلٌ الشافعيَّ فأفتاه: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أتقول بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال الشافعي رحمه الله: أرأيتَ في وسطي زُنَّارًا؟ أتراني خرجتُ من الكنيسة؟ أقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتقولي لي: أتقول بهذا؟ أروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أقول به؟!
(1)
عثرنا على هذا الفصل أخيرًا ضمن أوراق متفرقة من هذا الكتاب.
(2)
في "مناقب الشافعي"(1/ 475).
(3)
المصدر السابق (1/ 474).
نقلهما الشوكاني
(1)
.
ومن ذلك ما نقل عن ابن عبد البر
(2)
قال: وجاء رجل إلى مالك فسأله، فقال له مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أرأيتَ؟ فقال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقال: لم يكن فُتيا الناس أن يقال لهم: قلتُ هذا، كانوا يكتفون بالرواية ويَرضَون بها.
وحيث كان فرض من ذُكِر سؤال المجتهد فعلى المجتهد أن يجيب السائل بذكر الدليل، أي بتلاوة الآية أو رواية الحديث، ثم يفسِّره للسائل بلُغته العامية أو الأعجمية حتى يفهمه، فيذهب السائل فيعمل بذلك. ثم إذا عرضتْ له واقعة أخرى ذهبَ فسأل مجتهدًا، إما الأول وإما غيره، وهكذا. فلا يتعين عليه استفتاء مجتهد مخصوص في كلِّ قضاياه، بل أيّ مجتهد وجده كفاه.
إن كان السائل من الرتبة الثالثة، فإن كان الدليل قطعي المتن والدلالة كفى المجتهد أن يذكر له الدليل، ويخبره أنه محكم. وإن كان قطعي المتن ظني الدلالة ذكره له، وأخبره أنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. وإن كان ظني المتن قطعي الدلالة أخبره به، وأنه ثابت، وأنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. وكذا إن كان ظنيهما.
وإن كان السائل من الرتبة الثانية، فإن كان الدليل قطعي المتن والدلالة
(1)
في "القول المفيد"(ص 23، 24) طبعة القاهرة 1347.
(2)
في "التمهيد"(8/ 411).
كفى المجتهدَ أن يذكر له الدليل ويُخبره أنه محكم. وإن كان قطعي المتن ظني الدلالة ذكره له وأخبره أن تلك الدلالة معتبرة في الشرع، وأنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. وإن كان ظني المتن قطعي الدلالة أخبره به وأنه ثابت، وأنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. وإن كان ظنيهما أخبره به وأنه ثابت، وأن تلك الدلالة معتبرة في الشرع، وأنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه.
وإن كان السائل من أهل المرتبة الأولى
(1)
، فإن كان الدليل قطعي المتن والدلالة ذكره له، وترجمه له بلغته العامية أو الأعجمية، وأخبره أنه محكم. وإن كان قطعي المتن ظني الدلالة ذكره له وترجمه، وبيَّن له وجه الدلالة، وأنها معتبرة في الشرع، وأخبره أنه محكم، وإن كان ظني المتن قطعي الدلالة أخبره به وبثبوته، وأن الثابت كذلك حجة في الشرع، وترجمه، وأخبره أنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. وإن كان ظنيهما أخبره به وبثبوته، وأن الثابت كذلك حجة في الشرع، وترجمه وبيَّن له وجه الدلالة وأنها دلالة معتبرة في الشرع، وأنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه.
والثالث يستحق اسم العالم، لأنه متأهل لمعرفة أحكام الكتاب والسنة. وهل يجب عليه تحصيل الرتبة الرابعة؟ الجواب أن تحصيل الرتبة الرابعة فرض كفاية لقوله تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. فأمرهم الله تعالى أن لا يخرجوا جميعًا في السرايا، بل يبقى بعضهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للتفقه في الدين. فتحصيل
(1)
في الأصل: "الثالثة"، والسياق يقتضي "الأولى".
الدرجة الرابعة فرض كفاية على أهل كل جهة من المسلمين. فهذا الشخص في جهة من أهل فرض الكفاية. نعم إذا كان أهل الجهة كلهم قاصرين عن المرتبة الثالثة غيره تعيَّن عليه تحصيل الدرجة الرابعة؛ لأنه قد صار أقربهم إليها وأقدرهم على تحصيلها. وإذا لم يتعين عليه ففرضه فيما يعرض له من المسائل مراجعة الكتاب والسنة كما مرَّ، لأنه مأمور بالأخذ بالأحسن، ولا يكون عاملًا بذلك إلّا إذا اجتهد. نعم، كفاه أن يسأل مجتهدًا، فإن لم يجد مجتهدًا وجب عليه المراجعة لتعينها طريقًا لمعرفة الحكم. وحيث كان فرضه سؤال مجتهد غيره فالواجب على المسؤول أن يذكر له الدليل من كتاب أو سنة وكيفية الاستنباط، ويخبره أنه قد راجع الكتاب والسنة كما ينبغي، فلم يجد فيهما ما يخالف ذلك.
وأما الثاني ففرضه سؤال مجتهد، فيذكر له المجتهد الدليل ويخبره أنه قد راجع الكتاب والسنة كما ينبغي، فلم يجد فيهما ما يخالف ذلك الدليل. وإن كان فيه ألفاظ شرعية أخبره بأن معناها في الشرع هو كذا. وإن كان فهمه للحكم باستنباط واضح [بيَّن] له دليل الاستنباط، فإن كان غامضًا اكتفى بأن يخبره أنه قد راجع الكتاب والسنة حتى غلب على ظنّه صحة ذلك الاستنباط، ولم يجد فيهما ما يخالف ذلك، وأنه راجعهما أيضًا، فلم يجد ما يخالف ذلك الاستنباط.
وأما الأول ــ وهو مَن لم يعرف علوم اللسان ــ ففرضُه سؤال مجتهد، وعلى المسؤول أن يذكر له الدليل من كتاب أو سنة، ويترجمه له بلُغته، إن كان من عامة العرب فبالعامية، وإن كان أعجميًّا فبالأعجمية. فإن كان الدليل كافيًا فيكفي أن يخبره، فإن لم يكن قطعي الدلالة أخبره بذلك، وأنه قد نظر
في علوم اللسان فلم يجد ما يخالفه، فغلب على ظنِّه أن هذا اللفظ يدلُّ على هذا المعنى، ثم يخبره أنه قد راجع، إلى آخر ما مضى في الذي قبله.
فإن الثالث عمل بإخبار المجتهد بأنه قد راجع ونظر، فلم يجد ما يخالف ذلك الدليل والاستنباط، والثاني بذلك وبأنه قد راجع ونظر حتى غلب على ظنه اعتبار ذلك الاستنباط وصحته، والأول بذلك وبأنه قد نظر في علوم اللسان، فغلب على ظنه أن هذا اللفظ يدل على هذا المعنى. فهل يُعدُّ هذا تقليدًا أو لا؟ أوجه:
الأول: أنه تقليد أُبيح للضرورة، وهو قضية كلام الأستاذ السوركتي، وهو الظاهر.
الثاني: أنه ليس تقليدًا، وإنما هو من باب العمل بالرواية، وعليه كلام الشوكاني، ويَرِدُ عليه أن شرط الرواية استنادها إلى القطع، فلا يكفي قول الراوي: أحسب أن فلانًا حدّثني، إلّا أن يقال: إنه هنا جاز العمل بها للضرورة.
ويمكن في المسألة قولٌ ثالث، وهو أن يقال: إن الثالث إنما يعمل بالدليل الذي رواه له المجتهد، ويسقط عنه البحث والمراجعة، لأن الأصل العدم. وأما الثاني فيشترط أن يخبره بدليل الاستنباط، فيعمل هو في ثبوت الاستنباط بذلك الدليل، ثم يعمل بذلك الاستنباط، ويسقط عنه البحث عما يخالفه، لأن الأصل العدم.
وأما الأول فيشترط في حقّه أن يخبره بدليل دلالة اللفظ، فيعمل هو في ثبوت تلك الدلالة بذلك الدليل، ويسقط عنه البحث عما يخالفه، لأن الأصل العدم، ثم يعمل بذلك الدليل في تلك المسألة، ويسقط عنه البحث
كما مرَّ.
ويَرِدُ عليه أن الاستناد إلى كون الأصل العدم لا يكفي عن البحث كما في المجتهد.
ويُجاب بأنه اكتُفي به هنا للضرورة
(1)
.
* قال المقلِّدون: إنا نراكم قد عُدتم إلى قولنا راغمين، فإنكم احتجتم إلى الرجوع إلى المجتهد وسؤالِه، وأوجبتم العملَ بقوله، وهذا هو التقليد بعينه.
[ص 56] * قال المانعون: كلَّا، ما كان لنا أن نعود إلى قولكم بعدَ إذ تبيَّن لنا بطلانُه، والفرق بين الأمرين واضح. وذلك أنكم تقولون: إذا سأل القاصرُ المجتهدَ كفى المجتهد أن يجيبه بقوله: الحكم كذا أو كذا، بدون أن يخبره بدليله. وأما نحن فنقول: إن سؤال القاصر للمجتهد إنما هو سؤال عن حكم الله تعالى، لا عن الرأي المحض، وحينئذٍ فالواجب على المجتهد أن يذكر له الدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله. وعلى هذا كان عمل السلف
(1)
ذكر المؤلف هذا الموضوع بصيغة أخرى في صفحة، ونصها: "إن الرواية بالنفي شرطها أيضًا القطع، وهذا غير قاطعٍ بإخباره بأنه قد راجع ونظر، إذ لا يلزم من عدم الوجدان عدمُ الوجود، فقد يكون هنالك مخالف لم يُوفَّق لفهمه، لهذا لا يمكنه أن يقطع بالنفي بأن يقول: ليس في كتاب الله تعالى ما يخالف هذا، ولذلك لا يجوز للمجتهد أن يستند إلى مثل هذه الرواية. ومع ذلك فقد يكون دليل الاستنباط ودليل دلالة اللفظ غامضًا يتعذّر على العامي فهمه.
نعم قد يقال: نسلِّم أن الرواية فيما ذُكر غير مستجمعة للشروط، ولكنه جاز العمل بها للضرورة".
الصالح أهل القرون الثلاثة.
قال الشوكاني في رسالته "القول المفيد"
(1)
ما لفظه: "لا نطلب من كل فردٍ من أفراد العباد أن يَبلغ رتبة الاجتهاد، بل المطلوب هو أمرٌ دون التقليد، وذلك بأن يكون القائمون بهذه المعايش والقاصرون إدراكًا وفهمًا كما كان عليه أمثالهم في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهم خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وقد عَلِمَ كلُّ عالم أنهم لم يكونوا مقلدين، ولا منتسبين إلى فردٍ من أفراد العلماء، بل كان الجاهل يسأل العالم عن الحكم الشرعي الثابت في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فيفتيه به ويرويه له لفظًا أو معنًى، فيعمل بذلك من باب العمل بالرواية لا بالرأي، وهذا أسهل من التقليد، فإن تفهُّم دقائق علم الرأي أصعب من تفهُّم الرواية بمراحل كثيرة
…
" إلخ.
* قال المقلِّدون: الكلام معكم في مقامين:
الأول: قولكم "بل المطلوب
…
" إلخ، إن أردتم أنه يلزم عوامَّ اليوم أن يشتغلوا بطلب العلم حتى يساووا عوامَّ الصحابة والتابعين، فهذا هو المشقة التي لأجلها عدلتم عن القول بوجوب بلوغ رتبة الاجتهاد، بل المجتهد اليوم لا يستطيع أن يبلغ هذه الدرجة، لأن عوامَّ ذلك القرن كانت علوم اللسان جميعها ملكةً لهم بدون طلبٍ ولا تكلف.
وإن أردتم أن يكونوا بحيث إذا فُسِّرت لهم الآية من كتاب الله تعالى تفسيرًا بلغتهم أو تُرجِم لهم الحديث فهموه، فالناس جميعًا هكذا.
(1)
(ص 14).
ولكنه ينشأ من هنا المقامُ الثاني، وهو أنه لا يكفي فهم الآية من كتاب الله تعالى أو فهم الحديث في معرفة الحكم، وذلك أن حصول المعرفة المعتبرة متوقف على أمور كثيرة، مثالُه الحديث المختلَف في حسنه، الدالُّ على حكمٍ من الأحكام دلالةً مختلَفًا فيها، المعارَضُ بحديثٍ آخر معارضةً مختلَفًا في الترجيح فيها، مع إمكان أن يكون [في الكتاب أو السنة]
(1)
[ص 57] ما يخالفه بنسخٍ أو تخصيصٍ أو تقييد أو تأويلٍ أو غير ذلك.
فالمجتهد مُلزَمٌ بالنظر في أمورٍ:
منها: النظر في وجوب العمل بخبر الآحاد، ويحتاج في هذا إلى اجتهاد مستقل.
ثم النظر في رُواته واحدًا واحدًا، ويحتاج في هذا إلى اجتهاد آخر.
ثم النظر إلى دلالته، ويحتاج فيها إلى اجتهاد ثالث بالنظر في علوم اللسان لمعرفة كيفية الدلالة وكونها معتبرة.
ثم إلى اجتهاد رابع بالنظر في الكتاب والسنة، هل تلك الدلالة معتبرة شرعًا أم لا؟
ثم إلى اجتهاد خامس بمراجعة الكتاب والسنة، هل فيهما ما يخالف ذلك من ناسخ أو مخصص أو غيره مما مرّ.
ثم يحتاج إلى اجتهاد سادس، وهو النظر في الترجيح عند وجود المعارض.
(1)
تآكل في طرف الورقة أتى على عدّة كلمات، ولعلها ما أثبت.
وقد يعرض في الحكم الواحد أبحاث أكثر من هذه، كلٌّ منها يستدعي اجتهادًا خاصًّا.
ولنفرضْ أن قاصرًا سألَ مجتهدًا عن الماء الذي وقعت فيه نجاسة، فإن المجتهد يحتاج إلى النظر في عدة أدلة من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، وقوله تعالى:{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]، ومن السنة كحديث "الصحيحين"
(1)
: "لا يبولنَّ أحدكم في الماء الراكد الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه". وفي روايةٍ لمسلم
(2)
: "لا يغتسِلْ أحدكم في الماء الدائم وهو جُنُبٌ" قالوا: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولًا.
وحديث "السنن"
(3)
عن ابن عمر قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من الدوابّ والسباع، فقال:"إذا كان الماء قُلَّتينِ لم يحمل الخبث". وفي روايةٍ لأبي داود
(4)
: "فإنه لا ينجس".
وحديث "السنن"
(5)
أيضًا عن أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسولَ
(1)
البخاري (239) ومسلم (282) من حديث أبي هريرة.
(2)
رقم (283) من حديث أبي هريرة أيضًا.
(3)
أخرجه أبو داود (63، 64) والترمذي (67) والنسائي (1/ 46) وغيرهم.
(4)
رقم (65).
(5)
أخرجه أبو داود (66) والترمذي (66) والنسائي (1/ 174). وقال الترمذي: حديث حسن.
الله! أنتوضأُ من بئر بُضاعة؟ وهي بئرٌ يُلقَى فيه الحِيَض ولحوم الكلاب والنتن، [ص 58] فقال رسول صلى الله عليه وآله وسلم:"إن الماء طهورٌ لا يُنجِّسُه شيء".
وحديث "السنن"
(1)
عن كبشة بنت كعب بن مالك أن أبا قتادة دخلَ عليها، فسكَبَتْ له وَضوءًا، فجاءت هرَّة تشرب منه، فأصغَى لها الإناءَ حتى شربت. قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبينَ يا ابنةَ أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنها ليست بنجسٍ، إنها من الطوَّافين عليكم والطوّافات". ونحوه عند أبي داود
(2)
من حديث عائشة.
وحديث ابن ماجه
(3)
عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تَرِدُها السباع والكلاب والحُمر، عن الطهر منها. فقال:"لها ما حملتْ في بطونها، ولنا ما غَبَرَ، طَهورٌ".
وحديث "الصحيحين"
(4)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 22، 23)، ومن طريقه أبو داود (75) والترمذي (92) والنسائي (1/ 55) وابن ماجه (367). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(2)
رقم (76).
(3)
رقم (519). قال البوصيري في "الزوائد": في إسناده عبد الرحمن [بن زيد بن أسلم]، قال فيه الحاكم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة. قال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه. وأخرجه أيضًا الدارقطني (1/ 31) والبيهقي (1/ 258).
(4)
البخاري (172) ومسلم (279).
عليه وآله وسلم: "إذا شربَ الكلبُ في إناء أحدكم فليغسِلْه سبعَ مرات". وفي روايةٍ لمسلم
(1)
قال: "طهور إناء أحدكم إذا وَلَغَ فيه الكلبُ أن يَغسِلَه سبعَ مراتٍ، أولاهن بالتراب" وغير ذلك.
أما الآية الأولى فيحتاج إلى مراجعة اللغة ليعرف معنى الطهارة، ثم مراجعة التصريف ليعرف صيغة "طَهور"، ثم مراجعة علم البلاغة لمعرفة إطلاق "فَعُول" الذي يقتضي المبالغة في الفعل على الماء الذي لا يمكن فيه ذلك، إذ معنى "فلانٌ شَرُوبٌ للَّبَن" أنه يُكثِر ما يشربُه مرةً بعد أخرى، فقياس لفظ "طَهور" أنه يَكثر ما يَطهُرُ مرةً بعد أخرى، وهذا المعنى غير ظاهر، فقال بعضهم: حيث لم يمكن حملُه على كثرة العدد في الفعل الذي هو الحقيقة تعيَّن حملُه على المجاز، وهو أن يُراد القوة في الفعل، بمعنى أن طهارته قويَّة، وذلك أنه طاهر في نفسه ويُطهِّر غيره، بخلاف سائر الأشياء. وقال آخرون: بل يُحمل على كثرة العدد في التطهير، أي أنه يُطهّر مرةً بعد أخرى. ويحتاج المجتهد هاهنا إلى القوة في هذه العلوم حتى يتمكن من الترجيح.
ثم بعد ذلك مراجعة الكتاب والسنة لمعرفة الطهارة في عُرف الشرع، ثم مراجعة كتب اللسان وأصول الفقه لينظر هل وَصْف الماء بالطهورية يقتضي أن لا ينجس بمجرد الملاقاة أو لا يقتضي. وبعد أن يقرر ذلك يحفظه، فينظر في الآية الثانية على نحو مما مضى، فإذا تقرر له فيها حكمٌ حفظه أيضًا. ثم ينظر في غير ذلك من الآيات التي يمكن أن يكون فيها دلالةٌ على المسألة، بأن ينظر في كل آية نظرًا خاصًّا على نحو ما تقدم، ثم يحفظ ما تقرَّر
(1)
رقم (279/ 91).
له منها.
[ص 59] ثم ينظر في الحديث الأول على نحو ما تقدم، حتى يُقرِّر هل فيه دلالةٌ على أن الماء ينجس أو لا؟ وما تقرَّر له في ذلك حفِظَه. ثم يَعمِدُ إلى حديث القلَّتين، فينظر أولًا في إسناده، فإن ظهر له أنه صالح للاحتجاج به نظر فيه على نحوٍ مما تقدم. ونظر في الآثار تحديدَ القلتين، ونظر هل فيه دلالة على أن ما دونهما يتنجس بمجرد الملاقاة أو لا؟ وما تقرر له في ذلك حفظه. ثمَّ وجَّه نظره إلى حديث بئر بضاعة على نحو ما ذُكِر، وهل فيه دلالةٌ على أن الماء لا ينجس أو لا؟ وما تقرر له منه حفظه أيضًا. ثم في حديث أبي قتادة على نحو ذلك، وهل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:"إنها ليست بنجس" دلالةٌ على أن الماء ينجس بمجرد الملاقاة أو لا؟ ثم في حديث أبي سعيد على المنوال المذكور، وهل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:"لها ما حملتء في بطونها، ولنا ما غَبَرَ، طهور" دلالةٌ على أن الماء لا ينجس أو لا؟ ويحفظ ما تقرر له. ثم في حديث "الصحيحين": "إذا شرب الكلبُ
…
" إلخ، وهل فيه دلالةٌ على أن الماء ينجس بمجرد الملاقاة أو لا؟ ويحفظ ما ظهر له. ثم ينظر في غير ذلك من الأحاديث التي يمكن أن يكون فيها دلالة على المسألة على السبيل المشروح.
وبعد استيفاء الأدلة جميعًا ينظر ما بين المحفوظات، فيعمل بمقتضى اجتهاده، فيخصِّص عامَّها بخاصِّها، ويحمل مطلَقها على مقيَّدها، ويجمع بين المتعارضين منها. فإن لم يمكن الجمع نظرَ هل ثَمَّ دليلٌ على كون أحدهما منسوخًا، فإن لم يجد ذلك رجع إلى الترجيح، حتى يتقرر له وجهٌ واحدٌ هو الحكم الذي يجوز لك العمل به.
فأنتم ترون هذه المسألة التي كل أحدٍ مضطرٌّ إلى معرفتها كيفَ تشعَّبتْ واستصعبتْ، حتى لو تصدَّى عارفٌ لبسط النظر فيها وشرح الأدلة لتحصَّل من ذلك مؤلَّف مستقل.
* قال المقلِّدون: إذا قُرِّر هذا، فما قولكم أيها المانعون في جواب المجتهد للسائل القاصر؟ هل يجب على المجتهد أن يجيب القاصرَ بجواب يُحصِّل له المعرفةَ التي حصَلتْ للمجتهد نفسه، حتى يتلو عليه القرآن من أوله إلى آخره، ويفسِّر له كلَّ آيةٍ أمكنَ أن تكون فيها أدنى دلالةٍ، ويسردُ له أحاديث السنة ويشرح له كلَّ ما أمكن أن يكون فيه أدنى دلالة، ويذكر له من كتب اللسان على نحو ما ذُكِر
…
إلخ، أو لا يجب عليه ذلك؟ لا شكَّ أنكم لا تكلِّفون المجتهدَ ولا السائلَ هذه الشُّقَّةَ البعيدة التي أيسرُ منها تكليف القاصر أن يتعلَّم [ص 146] حتى يبلغ درجة الاجتهاد.
وإن قلتم: إنه لا يجب عليه إلَّا أن يتلو عليه إحدى الآيتين إن ترجَّح له مدلولُها، أو أحد الأحاديث إن ترجَّح له مدلوله، ويُفسِّر له معناه، فيكون السائل عاملًا بالآية أو بالحديث.
فنقول لكم: وهل يكفي في العمل بالكتاب والسنة هذا القدرُ؟ حتى لو عمدَ مجتهدٌ إلى آية أو حديث، فعمِلَ به بدون نظرٍ إلى ما يُوافقه أو ما يخالفه كفاه، ولو عمدَ قاصر إلى آيةٍ في كتاب الله تعالى فهمَ معناها أو حديثٍ كذلك جاز له أن يعمل به، بدون معرفة هل هو منسوخ أو لا، مخصَّصٌ أو لا، مقيَّدٌ أو لا، مؤوَّلٌ أو لا، والحديث حجةٌ أو لا
…
إلخ، لا شك أنكم لا تجيزون ذلك، فنسألكم: ما هو الفرق بين الأمرين: العمل بعد سؤال
المجتهد حيث أخَّرتموه، والعمل بدون سؤاله حيث لم تُجيزوه؟ هل هو إلا إخبار المجتهد الذي يحصل به الظنُّ؟ هو هو ولا محالةَ، وعليه فذلك هو التقليد بعينه وإن أبيتم.
* قال المانعون:
أما المقام الأول فإننا نختار الشِّقّ الثاني، وهو أنهم أي عوامُّ اليوم يكونون بحيث إذا فُسِّرت لهم الآية من كتاب الله تعالى، أو تُرجم لهم الحديث بلغتهم، فهموا. على أنه قد تقدم في أول الرسالة أن تعلُّم العربية فرض عين على كل مسلم، ولكنه على كل حال أن العامي أو الأعجمي قبل تعلُّمه العربية محتاجٌ إلى التفسير بلغته.
وأما المقام الثاني وإن أطلتم بما لا طائل تحته، [ص 161] فإنا وإياكم متفقون على أن الاجتهاد على المجتهد فرضُ عينٍ لقدرته عليه، وأنّ أخْذَ القاصر بقول المجتهد إنما هو للضرورة، لأنه لو كُلِّف الناس جميعًا بلوغَ رتبة الاجتهاد لضاعت المعايش والمصالح التي هي فروض كفاية، ولعظُمتِ المشقةُ، وعليه فإنه يسقط عن القاصرِ القدرُ الموجب للمشقَّة فقط. وليس من المشقَّة أن يسأل المجتهد عن حكم من الأحكام، فيُخبره المجتهد بالدليل، ويُفسِّره له، فيكون عاملًا بذلك الدليل بما فهمه منه.
[ص 162] وقولنا: إنه يسقط عن المستفتي البحثُ والمراجعة، ولا يجب على المفتي أن يُبيِّن له جميعَ ما يتعلق بالبحث مما لا يبلُغه فهمُه، أولى من قولكم: إن للعامي في هذه الأعصار استفتاءَ فقيه مقلِّدٍ، فيُخبره الفقيه بما فهمه من كلام متأخري فقهاء مذهبه، ولا يلزمه أن يشرح له جميع ما يتعلَّق
بالبحث، فهذا الفقيه اجتهد في كلام متأخري فقهاء مذهبه، ومتأخرو فقهاء مذهبه إنما اجتهدوا في كلام مَن قبلَهم، والذين قبلَهم اجتهدوا في كلام من تقدمهم، وهكذا تسلسلت الاجتهادات حتى تصلَ الإمامَ المجتهد المطلق.
فإن قلتم: إن هذا العامي بالصفة المذكورة مقلِّدٌ لذلك المجتهد المطلق صاحب المذهب، فأولى منه أن نقول: إن العامي المستفتي للمجتهد عامل بالدليل، لا مقلِّد لذلك المجتهد، وإنما عَمِلَ بقوله في نفي المعارض، وهذه رواية ظنية على النفي، جاز العمل بها للضرورة، مع موافقتها للأصل الذي هو عدم المعارض.
وإن قلتم: إن العامي المستفتي للمقلِّد مقلِّد له، وهَلُمَّ جرًّا، فقد نسلِّم أن المستفتي للمجتهد قد يضطرُّ إلى نوع من التقليد للضرورة التي ذكرتموها، ولكن ما جاز للضرورة قُدِّر بقدرها، ولا يلزم من جواز الشيء للضرورة جوازه مطلقًا. وهذا بخلاف حال العامي المستفتي للفقيه المقلّد فإنه مقلّد له بلا ضرورة، لقدرته على سؤال المجتهدين وتحصيلِ علمٍ مقتبسٍ من الدليل. وكذلك المفتي في تقليده لمن قبله، والذين قبله في تقليدهم في بعض المسائل لمن قبلهم، وكذلك الذين قبلهم في تقليدهم لمن تقدمهم، وهكذا حتى يبلغ إلى الإمام.
ولا يستوي البحران، فإن مستفتي المجتهد لم يُقلّده في المسألة من أصلها، فإننا نوجب أن يتلو عليه الآية أو يُخبره بالحديث، فهو إنما عمِلَ بتلك الآية أو بذلك الحديث، وإنما قلَّده في عدم المعارض ونحو ذلك للضرورة، على فرض تسليم أن ذلك تقليد.
[ص 163] وأما مستفتي المقلِّد فإنه قلَّده في المسألة من أصلها، مع أنه مثله مقلِّد، وليتَه كان مقلِّدًا فحسب، بل هو مقلِّد في المسألة من أصلها لمقلِّدٍ كذلك لمقلِّدٍ كذلك لمقلِّدٍ كذلك، وهَلُمَّ جرًّا.
والفرق مثل الشمس ظاهر، فإن صاحبنا يذهب يعمل بتلك الآية التي تلاها عليه المجتهد وفهَّمه دلالتَها بقدر الإمكان، أو بالحديث كذلك على سبيل الرواية الصحيحة في المتن والترجمة، وقد غلب على ظنِّه أن تلك الدلالة صحيحة معتبرة لأمرين: الأول أن الأصل عدم المعارض، والثاني أن الظاهر عدم خطأ المجتهد في إخباره بذلك على سبيل الرواية الجائزِ العملُ بها للضرورة.
وأما صاحبكم فإنه إنما يذهب يعمل بقول ذلك الفقيه، عالمًا أنه إنما أخبره بما فهمه من كلام مَن قبله، وأن الذين قبله إنما قالوا بما فهموه من كلام مَن تقدمهم، وهلمَّ جرًّا.
فأيهما أولى بالحق وأقربُ إلى الدين؟
[ص 164] مع أن العمل بقول المفتي بدون أن يذكر دليله بدعة مخالِفةٌ لما كان عليه العمل في خير القرون، والتزام العمل بقولِ مفتٍ واحدٍ في جميع الأعمال بدعةٌ أخرى أشدُّ، فالأئمة الأربعة رحمهم الله إنما كانت فتواهم على عادة السلف، وهكذا من كان في زمانهم وبعده.
نقل السيوطي في رسالته في الاجتهاد
(1)
فيما نقله عن ابن حزم ما
(1)
"الردّ على من أخلد إلى الأرض وجهلَ أن الاجتهاد في كل عصرٍ فرض"(ص 56 - 59) ولم أجد النصَّ في كتب ابن حزم المطبوعة.
لفظه: قد دل الكتاب والسنة وحَضَّا على النظر والاجتهاد وترك التقليد، ووجدنا أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم أوَّلَهم عن آخرهم ليس منهم أحدٌ أتى إلى من هو فوقه في القرب والسابقة والعلم، وأخذ قوله كله، فيقلِّده في دينه، بل رأيت كلَّ امرئٍ منهم يجتهد لنفسه.
ثم بحثنا عن عصر التابعين، فوجدناهم على تلك الطريقة، ليس منهم أحدٌ أتى إلى تابعٍ أكبر منه أو إلى صاحبٍ، فتقلّد قوله كلَّه. وكذلك أتباع التابعين ليس منهم أحدٌ أتى إلى تابعٍ أو صاحبٍ أو فقيهٍ من أهل عصره أكبر منه، فأخذ بقوله كلِّه ولم يخالفه في شيء منه، ولا أمروا بذلك عاميًّا منهم ولا خاصيًّا. وهذه القرون المحمودة الثلاثة، فعلمنا يقينًا أنه لو كان أخذُ قول عالمٍ واحدٍ بأسْرِه فيه شيء من الخير والصواب ما سبقَهم إليه مَن حدثَ في القرون المذمومة، ولو كان ذلك فضيلةً ما سبقناهم إليها.
وهذا العصر الثالث هو الذي كان فيه ابن جريج، وسفيان بن عيينة بمكة؛ وابن أبي ذئب، ومحمد بن إسحاق، وعبيد الله
(1)
بن عمر، وإسماعيل بن أمية
(2)
، ومالك بن أنس، وسليمان بن بلال، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وعبد العزيز الدراوردي، وإبراهيم بن سعد بالمدينة؛ وسعيد بن أبي عَروبة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ومعمر بن راشد، وأبو عوانة، وشعبة، وهمام بن يحيى، وجرير بن حازم، وهشام الدستوائي، وزكريا بن أبي زائدة، وحبيب بن الشهيد، وسوَّار بن عبد الله، وعبيد الله بن الحسن،
(1)
في الأصل: "عبد الله" مصحفًا.
(2)
في الأصل: "أبي أمية"، وهو خطأ. والتصويب من رسالة السيوطي.
وعثمان بن سليمان بالبصرة؛ وهشام بن بشر بواسط، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، [ص 165] والحسن بن يحيى
(1)
، وشَرِيك، وأبو حنيفة، وزهير بن معاوية، وجرير بن عبد الحميد، ومحمد بن خازم بالكوفة؛ والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز
(2)
، والزبيدي، والقاضي حمزة بن يحيى، وشعيب بن أبي حمزة بالشام؛ والليث بن سعد، وعقيل بن خالد بمصر، كلهم على الطريقة التي ذكرت، ما منهم من أحدٍ أخذَ بقول إمامٍ ممن قبله، فقبِلَه كلَّه دونَ أن يردَّ منه شيئًا.
ثم حدث بعدهم من اعتصم بهداهم وسلك سبيلَهم في ذلك، نحو: يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وبشر بن المفضّل، وخالد بن الحارث، وعبد الرزاق، ووكيع، ويحيى بن آدم، وحميد بن عبد الرحمن الرُّؤَاسي، والوليد بن مسلم، والحميدي، والشافعي، وابن المبارك، وحفص بن غياث، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وأبي
(3)
داود الطيالسي، وأبي الوليد الطيالسي، ومحمد بن [أبي] عدي، ومحمد بن جعفر، ويحيى بن يحيى النيسابوري، ويزيد بن هارون، ويزيد بن زريع، وإسماعيل ابن عُلَيّة، وعبد الوراث بن سعيد، وابنه عبد الصمد، ووهب بن جرير، وأزهر
(4)
بن أسد، وعفان بن مسلم، وبشر بن عمر، وأبي عاصم
(1)
كذا في الأصل تبعًا للمطبوعة، وصوابه:"الحسن بن حيٍّ". راجع ترجمته في "سير أعلام النبلاء"(7/ 361).
(2)
في الأصل: "سعيد بن الضرير"، وهو خطأ، والتصويب من رسالة السيوطي.
(3)
في الأصل هنا وفي الموضع بعده: "أبو" سهو.
(4)
كذا تبعًا للمطبوعة، واستظهر الشيخ في الهامش أن صوابه:"بهز".
النبيل، والمعتمر بن سليمان، والنضر بن شميل، ومسلم بن إبراهيم، والحجاج بن منهال، وأبي عامر العقدي، وعبد الوهاب الثقفي، والفريابي، ووهب بن خالد، وعبد الله بن نمير، وغيرهم، ما من هؤلاء أحدٌ قلَّد إمامًا كان قبلَه.
ثم تلاهم على مثلِ ذلك: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وأبو عبيد، وأبو خيثمة، وأبو أيوب الهاشمي، وأبو إسحاق الفزاري، ومخلد بن الحسين، ومحمد بن يحيى الذهلي، وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وقتيبة، ومسدَّد، والفضل بن دُكين، ومحمد بن المثنى، وبُندار، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ومحمد بن العلاء، والحسن بن محمد الزعفراني، وسليمان بن حرب، وعارم
(1)
وغيرهم، وليس منهم من أحدٍ قلَّد رجلًا، وقد شاهدوا مَن قبلهم ورأوهم، فلم يروا أنفسَهم في سعةٍ من أن يُقلِّدوا دينَهم أحدًا منهم.
[ص 166] ثم أتى بعدَ هؤلاء: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، ومحمد بن سَنْجر، ويعقوب بن شيبة، وداود بن علي، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن جرير الطبري، وبقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخُشَني وغيرهم، ما منهم أحدٌ أتى إلى إمامٍ قبلَه، فأخذ قولَه كلَّه فتديَّنَ به، بل كلُّ هؤلاء نهى عن ذلك وأنكره.
ولم أجد أحدًا ممن يُوصَف بالعلم قديمًا وحديثًا يستجيز التقليد ولا يأمر به، وكذلك ابن وهب، وأشهب، وابن الماجشون، والمغيرة بن أبي
(1)
في الأصل: "عامر"، والتصويب من رسالة السيوطي.
حازم، ومطرِّف و [ابن] كنانة، لم يُقلِّدوا شيخهم مالكًا في كل ما قال، بل خالفوه في مواضع، واختاروا غيرَ قوله. وكذلك الأمر في زفر، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد، وبكار بن قتيبة، والطحاوي. وكذلك القول في المزني، وأبي عُبيد بن حَرْبويه، وابن خزيمة، وابن سُرَيج، فإن كلًّا منهم خالفَ إمامَه في أشياء، واختار فيها غير قولِه. ومِن آخر مَن أدركنا على ذلك شيخنا أبو عمر
(1)
الطلمنكي، فما كان يقلِّد أحدًا، وذهب إلى قول الشافعي في بعض المسائل. إلى كثيرٍ من سلفٍ وخلفٍ لو ذكرتهم لطال الخَطْب
(2)
بذكرهم.
ثم أنشد لنفسه قصيدةً في الاجتهاد، وقال في آخرها:
واهْرُبْ من التقليد فهو ضلالةٌ
…
إنَّ المقلِّد في السبيلِ الهالك
إلخ.
[ص 167] فصل
* قال المانعون: وهَبْ أنه لا فرقَ بين أن يجيب المجتهد سائلَه بتلاوة الآية أو رواية الحديث، وأن يُجيبه بذكر الحكم مجردًا عن الدليل، فإنكم لم تقفوا عند هذا، بل جاوزتموه إلى ما هو أبعدُ، وهو تقليد الميت، وقد نقل الغزالي في "المنخول"
(3)
إجماعَ أهل الأصول على عدم جواز تقليد
(1)
في الأصل: "أبا عمر".
(2)
في الأصل: "الخطاب". والتصويب من رسالة السيوطي.
(3)
(ص 480).
الميت، نقله الشوكاني في "إرشاد الفحول"
(1)
، وحكى عن الرازي في "المحصول"
(2)
، ولفظه المنقول: فإن حكى عن ميت لم يجزْ له الأخذُ بقوله، لأنه لا قولَ للميت، لأن الإجماع لا ينعقد على خلافه حيًّا، وينعقد على موته، وهذا يدلُّ على أنه لم يبقَ له قولٌ بعد موته.
فإن قلتَ: لِمَ صُنِّفتْ كتب الفقه مع فناء أربابها؟
قلتُ: لفائدتين:
إحداهما: استفادة طُرق الاجتهاد من تَصرُّفِهم في الحوادث، وكيف بُني بعضُها على بعض.
والثانية: معرفة المتفق عليه من المختلف فيه، فلا يُفتى بغير المتفق عليه. انتهى.
ثم قال الشوكاني
(3)
: وفي كلامه هذا التصريحُ بالمنع من تقليد الأموات. قال الروياني في "البحر"
(4)
: إنه القياس، وعلَّلوا ذلك بأن الميت ليس من أهل الاجتهاد، كمن تجدَّد فسقُه بعد عدالتِه، فإنه لا يبقى حكمُ عدالته، وإما لأن قوله وصفٌ له، وبقاء الوصف بعد زوال الأصل محالٌ، وإما لأنه لو كان حيًّا لوجبَ عليه تجديدُ الاجتهاد، وعلى تقدير تجديده لا يتحقق بقاؤه على القول الأول، فتقليده بناءٌ على وهمٍ أو تردُّدٍ، والقولُ بذلك
(1)
(2/ 1097).
(2)
(6/ 70، 71).
(3)
"إرشاد الفحول"(2/ 1097).
(4)
انظر "البحر المحيط" للزركشي (6/ 298)، ففيه نقل كلام الروياني في "البحر".
غير جائز. اهـ.
ثم حكى قولَ المجيزين، قال
(1)
: واحتجَّ بعضُ أهل هذا القول بانعقاد الإجماع في زمنه على جواز العمل بفتاوى الموتى. قال الهندي
(2)
: وهذا فيه نظر؛ لأن الإجماع إنما يُعتبر من أهل الحلّ والعقد، وهم المجتهدون، والمجمعون ليسوا بمجتهدين، فلا يُعتَبر إجماعُهم بحالٍ.
ثم نقل عن ابن دقيق العيد كلامًا ظاهره موافقة المجيزين، وردَّه
(3)
.
والحاصل أن المقلدين قاطبةً يلتزمون حجيةَ الإجماع، فما بَقي إلّا أن يُنظَر في الإجماع الذي ذكره عن الغزالي، فإن كان مستوفيًا للشروط على مذاهب المقلدين فقد لزِمَتْهم الحجةُ به، وإلّا فلا.
فنقول أولًا: هذا الإجماع حكاه الغزالي، فهل حكايته لذلك كافيةٌ في إثباته؟ فنقول:
قال في "إرشاد الفحول"
(4)
: الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة، وبه قال الماوردي وإمام الحرمين والآمدي، ونُقِل عن الجمهور اشتراطُ عدد التواتر. وحكى الرازي في "المحصول"
(5)
عن الأكثر أنه ليس بحجة، فقال: الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة [خلافًا] لأكثر الناس، لأن ظنّ
(1)
"إرشاد الفحول"(2/ 1098).
(2)
هو الصفي الهندي، انظر "البحر المحيط"(6/ 297).
(3)
"إرشاد الفحول"(2/ 1099).
(4)
(1/ 420).
(5)
(4/ 152).