الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملحق ــ 5 ــ
في معنى التأويل
/وأما التأويل فهو تفعيل من آل يؤول أوْلًا، رجع رجوعًا معنويًّا مخصصًا، كما في قولك: طُبِخ الشراب فآل إلى قَدْر كذا، وجُفّف الرُّطب فآل إلى قَدْر كذا، واتَّجَر فلان وكان رأس ماله عشرة دَراهم فآل به الأمر إلى أن صار أغنى أهل بلده، وطلب فلانٌ العلم وكان من بيتٍ خامل فآل به الأمر إلى الشَّرَف والنباهة، وعهدي بفلان وهو يطلب العلم ولا أدري ما آل إليه أمره؟
والحاصل أن (آل) قريب من (صار) إلا أنه اعتُبر في (صار) التقدُّم وفي (آل) الرجوع، وقد يصلح أحدهما مكان الآخر لكن باعتبار آخر. تقول: جُفّف الرطب فآل إلى قَدْر كذا، أو فصار إلى قَدْر كذا، فتعتبر في الأول أن الرطب كان مقبلًا على النمو فلما جُفّف رجع إلى النقص، وتعتبر في الثاني أن الرطب لما شُرِع في تجفيفه أقبل على النقصان فما زال متقدّمًا فيه حتى صار إلى ذلك القَدْر.
وكلما ضعف اعتبار الرجوع ضعف صلاحية (آل) تقول: صار الطفل شابًا، ولا تقل: آل. وتعدِّي (آل) بالتضعيف تقول: أوّلْتُ الشيء أي: جعلته آيلًا، تقول: جفّفتُ صاعًا من الرطب حتى أوّلته إلى نصف صاع. فتأويل الشيء هو جَعْله آيلًا.
فإذا أطلق التأويل في شأن الكلام فقد يُراد به: تأويل اللفظ، أي: جعله آيلًا إلى أن يتّضِح معناه، كأنه اعْتُبِر مقبلًا على الخفاء والغموض، فإذا فسَّرته فقد أرْجَعْتَه إلى الوضوح، وهذا مرادف التفسير، وهو صادق على التفسير
بما يُناسب الظاهر، وعلى التفسير بما يخالف الظاهر.
أما ما يُناسب الظاهر فإنه إنما احتاج للتفسير لخفاءٍ ما، فكأنَّه كان مقبلًا على ذلك الخفاء فأُرجع إلى الوضوح.
وأما ما يخالف الظاهر فلأنّ المؤوِّل يدّعي أن المعنى الحقيقي هو خلاف الظاهر، فاعتَبَر اللفظ مُقبِلًا على الخفاء بالنسبة إلى المعنى الحقيقي، فأرْجَعَه إلى الوضوح بالنسبة إليه، وإن شِئت فقل: مقبلًا على الظهور بالنسبة إلى غير المعنى الحقيقي، فأرجعه إلى عدم ذلك. والأول أولى. ولا يُشترط لهذا معرفة الحقائق التي تضمّنها الكلام على وجه الإحاطة، بل يكفي من بعض الوجوه.
وقد يُراد به: تأويل المعنى، أي: جَعْله آيلًا إلى أن تُعْلَم الحقائق التي تضمّنها على وجه الإحاطة، كأنه اعتُبر مقبلًا على خفاء تلك الحقائق فأُرْجِع إلى الوضوح.
وقد يُراد به: تأويل الحقيقة، أي: جَعْلها آيلة إلى البروز والمشاهدة، كأنه اعتبر أنها كانت مقبلةً على الخفاء فأُرْجِعت إلى الظهور.
وقد يُراد به: نفس الحقيقة، من باب إطلاق المصدر وإرادة المفعول.
ومن الأول قول السلف: تأويل هذه الآية كذا وكذا، كما يقوله ابن جرير في «تفسيره» .
ومن الثاني قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 6]، وقوله:{وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 21]. وقوله: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 101].
فإن قول الملك: {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف: 43] واضح المعنى، وتأويلُها بقوله: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا
…
} إلخ [يوسف: 47] إنما هو تأويل للمعنى، أي: جَعْله آيلًا إلى أن تُعْلَم حقيقته، فعُلِمَ أن حقيقة السبع السمان: سبع سنين خصبة، والعِجاف: جدبة، ومشى عليه.
ومن الثالث قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} أي: جَعْل الحقائق التي تضمّنها الإخبار عنها آيلةً إلى البروز قال: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53]. [قال ابن عبا] س: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} تصديق ما وَعَد في القرآن. وعن قتادة: {تَأْوِيلُهُ} : ثوابه .... جزاؤه، وعن السُّدِّي: عاقبته، وعن ابن زيد: حقيقته.
وقوله عز وجل: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39]. ومنه قوله تعالى ــ حكايةً عن يوسف ــ: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في المنام {إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف: 37] التأويل.
ومنه قوله عز وجل: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. ومنه قول عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأول القرآن»
(1)
جَعلتْ نفس دعائه هذا تأويلًا لقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3].
(1)
أخرجه البخاري (817)، ومسلم (484).
ومنه ما رُوي عن ابن مسعود: «إن القرآن نزل حيث نزل، فمنه آيٌ قد مضى تأويلهنّ قبل أن ينزل، ومنه آيٌ وقع تأويلهن على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنه آيٌ وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيسير، ومنه آيٌ يقع تأويلهنّ في آخر الزمان، ومنه آيٌ يقع تأويلهنّ يوم القيامة، ما ذكر في الحساب والجنة والنار
…
»
(1)
إلخ.
ومنه ما رُوي عن سفيان بن عُيينة قال: السنة تأويل الأمر والنهي
(2)
.
ومن الرابع قوله تعالى ــ حكاية عن يوسف ــ: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100]. جعل نفس الحقيقة التي هي سجود أبويه وإخوته له هي تأويل رُؤياه.
وإذا تقرّر هذا فلنعرض لفظ التأويل في آية المتشابه على كل واحدٍ من الأربعة المعاني فنقول:
أما المعنى الأول
…
(1)
أخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (38)، وذكره الثعلبي في «الكشف والبيان»:(4/ 117).
(2)
ذكره شيخ الإسلام في «الدرء» : (1/ 206) وفي «التدمرية» (ص 94).