المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[بحث في اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدا] - تحقيق الكلام في المسائل الثلاث - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ٤

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمةفي بيان التكليف وما يتصل به

- ‌الأدلة الموجبة العملَ بالظن بشرطه

- ‌المسألة الأولىالاجتهاد والتقليد

- ‌ الإجماع المعتبر

- ‌ طلب رتبة الاجتهاد فرضَ كفاية

- ‌المسألة الثانيةالسنة والبدعة

- ‌ الأشياء الحادثة بعد عصر النبوة نوعان:

- ‌[البحث الأول: البناء على القبور]

- ‌[روايات حديث أبي الهيّاج عن علي]

- ‌ البحث الثانياتخاذ القبور مساجد أو اتخاذ المساجد على القبور

- ‌تنبيهات

- ‌البحث الثالثزيارة القبور

- ‌ الحكمة في استحباب زيارة القبور:

- ‌ هل تُزار قبور الكفّار

- ‌ كيفية الزيارة:

- ‌ فصلفي زيارة قبور الأنبياء والصالحين

- ‌البحث الرابعالتبرُّك

- ‌1): «ماء زمزم

- ‌ تقبيل اليدين والرجلين

- ‌[مسألة التبرك بالصالحين]

- ‌البحث الخامسالتوسُّل

- ‌ حديث «الصحيحين» في قصة الثلاثة أصحاب الغار

- ‌ الفرق بين التوسّل بالحيّ والميت

- ‌[بحث في اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا]

- ‌المسألة الثالثةالنداء للغائبين والموتى وغيرهم

- ‌ المقام الأولعلم الغيب

- ‌ العلم الخبري بما هو غيب عن جميع الخلق

- ‌ معرفة الأنواء

- ‌ العَرافة

- ‌ الفأل والطِيَرة

- ‌ الطّرْق بالحصى

- ‌ رؤية الإنسيّ للجنيّ وسماعه لكلامه

- ‌[الكلام في حجية الإلهام وهل هو من الإظهار على الغيب

- ‌ المقام الثانيفي تصرُّف بعض بني آدم في الكون

- ‌ المقام الثالثالنداء والطلب

- ‌ الحكم على بعض الأعمال أنه كفر لا يسوغ إلا بعد اجتهادٍ ونَظَر

- ‌ الميزان

- ‌ملحق ــ 5 ــفي معنى التأويل

الفصل: ‌[بحث في اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدا]

[بحث في اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا]

[ص 1] قال المانعون: ومِن المحدَث اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا.

وأول مَن أحدَث ذلك العُبيديون بمصر ثم توسّع الناسُ فيه، فألفّوا في ذلك القصص المشتملة على الآثار الموضوعة والضعيفة، والتأويلات البعيدة، كما تراه في قصة المولد المعروفة بـ «شرف الأنام» . وكما في بعض قصص المعراج المشتملة على الحديث الطويل الذي نصَّ أئمة الحديث أنه موضوع، وغير ذلك. والتزموا قراءة قصة المولد في غير ليلته، وصاروا ينذرون قراءتها، ويجتمعون لأجلها، ويذبحون ويطعمون، وينشدون الأشعار، وفوق ذلك صاروا يجعلون لكل من وُسِم بالصلاح عيدًا ليلة مولده أو ليلة موته، ويجتمعون لذلك، ثم يقرأون فيها قصصًا مؤلَّفة في أخباره مشتملة على أشياء يكذّبها كتاب الله تعالى وسنة رسوله، مِن دعوى علم الغيب وغيرها.

وجعلوا لكل مَن يوسَم بالصلاح عيدًا في كل سنة يجتمعون عند قبره، وينحرون النحائر، إلى غير ذلك. ويرتكبون فيها كثيرًا من المحرّمات زاعمين أن ذلك الميّت يتحمّل ذلك عنهم، يعنون أن الله تعالى لا يؤاخذهم على ذلك إكرامًا له، إلى غير ذلك من المحدَثات التي ينكرها الدين والعقل.

قال المجيزون: أما اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا، فهذا من المحبّة له صلى الله عليه وآله وسلم، ومحبته شرط الإيمان.

ص: 288

قال المانعون: محبّته صلى الله عليه وآله وسلم التي هي شرط الإيمان هي أن يكون أحبّ إلينا من والدينا وأولادنا والناس أجمعين. والمحبّة شيءٌ في القلب يعلمه الله تعالى، وعلامتها المحافظة على ما يحبّه المحبوب، واجتناب ما يكرهه. وكلُّ مسلم يعلم أن أحبّ الأشياء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو التمسُّك بسنته والعضّ عليها بالنواجذ، وأن أبغض الأشياء إليه هو الإحداث في الدين والابتداع فيه.

وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» . قال بعض الأئمة: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يردّد هذا الكلام في عامة خُطبه.

وهذه الأمور التي أحدثتموها في باب [الدين]

(1)

لو كان في ذلك شيءٌ من القُربة لَأَمَر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته أو فعله أصحابه بعد وفاته، لكن تلك القرون الفاضلة مضت كلُّها وليس فيها من هذا شيءٌ، وإنما أُحدِث بعد ذلك، فهو محدَث ــ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:«شر الأمور محدثاتها» ــ وبدعة، وهو صلى الله عليه وآله وسلم يقول:«كل بدعة ضلالة» .

قال المجيزون: فإنه يُقاس على العيدين والجمعة وعاشوراء مما ثبت اتخاذه عيدًا لوقوع نعمة من العامة فيه

(2)

، ولا شكّ أن ولادته ومعراجه صلى الله عليه وآله وسلم مِن أعظم النعم.

(1)

شبه مطموسة في الأصل، وما أثبته مقدَّر.

(2)

كذا، ولعل المقصود:«من النِّعم العامة فيه» .

ص: 289

قال المانعون: هذا الأمر محدَث قطعًا، فما معنى الاستدلال عليه؟ وما لكم وللاستدلال؟ فإنما أنتم مقلدون، وقد مضى

(1)

الأئمة الأربعة وغيرهم من المجتهدين على عدم هذا، فوجب عليكم أن تتمسكوا بمذاهبكم كما ألزمتم أنفسَكم. وعلى التنزُّل فهذا القياس باطل في ذاته أولًا، لعدة وجوه؛ منها: أن النِّعَم التي في العيدين والجمعة تتكرر بتكرُّرهما.

وأما عاشوراء فإنه ليس بِعيد، وإنما نُدب صيامه فقط. وفي «الصحيح»

(2)

أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصومه بمكة موافقةً لقريش فيما لم يبدّلوه من دين إبراهيم. وعلى هذا فلم يجدد له رؤية اليهودَ يصومونه حُكمًا.

وبقية الوجوه تُعْلَم من تفصيل هذا القياس، ببيان الأصل والفرع والعلة وغير ذلك مما يطول ذكره ونحن في غنًى عن ذكره.

ولمعارضته للسنة وإجماع الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ثانيًا.

[ص 2] ولو ساغ الاستدلال بهذا القياس لاتُّخِذَت أيام السنة كلها أعيادًا. والحاصل أن بطلان هذا الاستدلال من أوضح الواضحات

(3)

.

قال المجيزون: فإن الاجتماع في هذه الليالي داخل تحت عموم الاجتماع للذِّكْر وتعلّم العلم وغير ذلك.

(1)

تحتمل «قضى» .

(2)

البخاري (1893) ومسلم (1125).

(3)

كلمة غير واضحة ولعلها ما أثبت.

ص: 290

قال المانعون: الاجتماع الذي ينبغي دخوله تحت العموم هو ما كان يقع مثله في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، ثم في عصر أصحابه ومَن بعدهم من القرون الفاضلة، وهو مطلق الاجتماع الذي لا يُتحرّى له هيئة مخصوصة، ولا ذكر مخصوص ولا يوم مخصوص من أيام السنة، فهذا هو الذي يصلح لدخوله تحت عموم الأمر بالاجتماع للذكر. فأما الجمعة والعيدين فإنها ثبتت بأوامر خاصة.

وفوق هذا فإن الهيئة والذكر المخصَّصان للمولد محدَثان أيضًا، فإن ما تسمونه ذِكرًا هو قصة مشتملة على الآثار الموضوعة والضعيفة، والهيئة تشتمل على إنشاد القصائد بالألحان والترجيع، وغير ذلك. وبعضهم يزيد مع ذلك الضرب بالدفوف.

قال المجيزون: أما قولكم: إنها مشتملة على الآثار الموضوعة والضعيفة، فلا نُسَلِّم أن فيها الموضوع، وأما الضعيف فمسلَّم، ولكن قال العلماء: إنه يُعمل بالضعيف في الفضائل ونحوها من القَصَص والمواعظ، ويجوز روايته بدون بيان ضعفه.

وأما إنشاد القصائد بالألحان، فهذه مسألة مشهورة، قد تكلم عليها الغزالي وغيره، وقد ثبت إنشاد الشعر والضرب بالدفوف بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم.

قال المانعون: أما بيان ما في تلك القصص من الموضوعات [فلن] نتفرَّغ له الآن، ولعلّنا نتفرّغ له في وقت آخر إن شاء الله تعالى.

وأما العمل بالضعيف فله شروط أشار إلى بعضها النووي

ص: 291

في «التقريب» واستدرك السيوطي في شرحه زيادة عليها

(1)

.

فمنها: أن لا يكون في العقائد ولا في الأحكام.

ومنها: أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج مَن انفرد من الكذّابين والمتهمين بالكذب ومَن فَحُشَ غلطُه.

ومنها: أن يندرج تحت أصل معمول به. ومثاله: جمع كثير من الأئمة أربعين حديثًا عملًا بما رُوي عن أبي الدرداء قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما حدُّ العلم الذي إذا بلغه الرجل كان فقيهًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن حفظ على أمتي أربعين حديثًا في أمر دينها بعثه الله فقهيًا، وكنت له يومَ القيامة شافعًا وشهيدًا» رواه البيهقي في «شعب الإيمان»

(2)

.

وهو حديث ضعيف، ولكن كثير من الأئمة جمعوا أربعينات؛ لأنهم رأوا أنه مما لا خلاف فيه: أن جمع سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أعظم القُرُبات بأيّ عددٍ كان، وهذا أصل معمول به بلا خلاف، وهو يشتمل ما إذا كان المجموع أربعين أو أقل أو أكثر، فمَن جمع منهم أربعين كان عاملًا بهذا الأصل الصحيح وملاحظًا العمل بذلك الحديث الضعيف، أي: إن كان صحيحًا في نفس الأمر فقد عمل به، وإلا فهو عامل بالسنة قطعًا، لدخول عمله تحت ذلك الأصل المعمول به.

[ص 3] والحاصل: أن عملهم بالحديث الضعيف ليس إلا في تعمد عدم

(1)

«التقريب» (1/ 351 مع شرحه «التدريب»). وانظر رسالة الشيخ في حكم العمل بالحديث الضعيف ضمن «مجموع الرسائل الحديثية» في هذه الموسوعة.

(2)

(1597).

ص: 292

النقصِ عن الأربعين، وقد يكون اقتصارهم على الأربعين لشغل كانوا فيه، أو ليفهموا الناس أنهم عملوا بهذا الحديث الضعيف، وإلا فليس في الحديث أن مَن زاد على الأربعين لا ينال ذلك الفضل، بل هو مُفهم بفحوى الخطاب: أن مَن زاد على الأربعين كان أولى بذلك الفضل وزيادة. والله أعلم.

ومن الشروط: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوتَه.

وقال النووي قبل هذا: وإذا أردت رواية الضعيف بغير إسناد فلا تقل: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا، وما أشبهه من صيغ الجزم، بل قل: رُوِي كذا، وبلغنا كذا، أو: وَرَد، أو: جاء، أو نُقِل، أو ما أشبهه، وكذا ما يُشك في صحته. انتهى.

وتلك الآثار التي ننتقدها عليكم ليست مُستكملة للشروط، بل منها ما هو في العقائد، ومنها ما ضعفه شديد، ومنها ما لا يندرج تحت أصل معمول به، بل فوق ذلك هو معارض للآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة.

وأيضًا فالعامة عندما يسمعون ذلك يعتقدون ثبوته، مع كون مؤلفي القَصَص يحكونه بصيغة الجزم. وهَبْهُم حَكوه بصيغة التمريض، فإن ذلك لا يكفي في حق العوام بخلاف [ص 4] العصور التي أُجيز فيها رواية الضعيف بشروطه، والاكتفاء بحكايته بصيغة التمريض عن التصريح بضعفه، فإن الناس كانوا حينئذٍ يعرفون الفرقَ بين صيغة التمريض وصيغة الجزم، فيفهمون أن الحاكي بصيغة التمريض غير قائل بصحة ذلك الأثر. فأما في هذه الأعصار فإنه بعد وجود الشرائط كلِّها لابد من الإشارة إلى عدم الجزم بصحة الحديث إشارةً يفهمها العامة، فإن الاقتصار في الإشارة على صيغة التمريض يوقع القاصَّ وسامعيه في الخطر.

ص: 293

أما القاص فلأنه حكى لهم الحديث الضعيف حكايةً يفهمون منها أنه صحيح، فقد أخذ بنصيبه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأما السامعون فلأنهم يفهمون أن تلك الآثار صحيحة فيعتقدون مضمونها وأنها صحيحة، ويبادرون بتضليل كلِّ مَن سمعوه يقول: إنها ضعيفة، فينتهكون بذلك حُرمة الدين وحرمة علماء الدين بالوقوع في أعراضهم، وربما استجراهم الشيطان إلى أذيتهم في أنفسهم

(1)

.

وهذا فيما يتعلّق بالآثار المتعلقة بشيء من أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أما الآثار المتعلقة بمن يُعرف بالخير والصلاح، فالأمر فيها أشد، إذا كان فيها ما يكذّبه القرآن؛ فيكون اعتقادها كفرًا والعياذ بالله تعالى.

وأما إنشاء القصائد بالألحان، وقولكم: إنه قد ثبت مثل ذلك، وضربُ الدفوف بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم، فنعم قد وقع شيء من ذلك بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن لا على أنه من الدين ولا علاقة له بالدين، بل على أنه من الأمور الدنيوية التي تباح في أوقات مخصوصة، يُباح فيها الإقبال على أمور الدنيا وزينتها، فأخرجا في «الصحيحين»

(2)

عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى، تدفّفان، وتضربان، وفي رواية: تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم متغشٍ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن وجهه، فقال:«دعهما يا أبا بكر؛ فإنها أيام عيد» ، وفي رواية:«يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا» .

(1)

كلمة مطموسة ولعلها ما قدَّرت.

(2)

البخاري (987)، ومسلم (892).

ص: 294

فالجاريتان إنما كانتا تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، وليس في ذلك مِن ذكر الله ولا الصلاة والسلام على رسوله شيء، ومع ذلك فإن نهي أبي بكر لهما واضح الدلالة على أنه كان يعلم النهي عن مثل ذلك، وظن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم به لكونه نائمًا، فنهاهما، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم:«دعهما فإنها أيام عيد» . فقوله: «فإنها أيام عيد» علةٌ لقوله: «دعهما» . وفي هذا تقرير منه صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر على [ص 5] النهي فيما عدا ما تتناوله العلة. ومقتضى الكلام أن ما تعلمه من النهي عن مثل هذا صحيح، إلا أنه مقيدٌ بأن لا يكون في أيام العيد، فإن أيام العيد يشرع فيها إظهار الزينة والتبسُّط في الأمور الدنيوية التي من شأنها ترويح النفس، كلبس الجديد، والتطيُّب، والتنظّف، ونحو ذلك.

والحاصل أن الذي يدل عليه الحديث دلالة واضحة: أن التدفيف والغناء بما فيه ذكر الحرب ونحوه غير جائز، إلا أنه يترخّص فيه أيام العيد، فهو دليل على أن ذلك مجرد رخصةً رخّص فيها صلى الله عليه وآله وسلم لزوجته وأقرَّها عليه، كما أقرها على اللعب بالبنات، ففي «الصحيحين»

(1)

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنتُ ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل ينقمعن منه، فيسرّبهن إليَّ فيلعبن معي.

وفي «سنن أبي داود»

(2)

عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك أو حنين، وفي سهوتها ستر، فهبَّت ريح فكشفت ناحيةَ

(1)

البخاري (6130)، ومسلم (2440).

(2)

(4932). وأخرجه النسائي في «الكبرى» (8901)، والبيهقي:(10/ 219).

ص: 295

السّتر عن بناتٍ لعائشة لعب، فقال:«ما هذا يا عائشة؟» قالت: بناتي. ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع، فقال:«ما هذا الذي أرى وسطهنّ» ؟ قالت: فرس. قال: «وما هذا الذي عليه» . قالت: جناحان: قال: «فرس له جناحان!» . قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلًا لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه.

ثم إنَّ فِعْل مثل ذلك في أيام العيد حسنٌ لثبوت الرخصة، وأما في غيرها فالأصل المنع إلا ما ثبت بدليل. كالعرس، [ص 6] ففي «صحيح البخاري»

(1)

عن خالد بن ذكوان عن الرُّبيِّع بنت معوّذ بن عفراء قالت: جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين بُني عليَّ فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلتْ جُويريات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قُتِل من آبائي يوم بدر إذ قالت إحداهن:«وفينا نبيّ يعلم ما في غد» فقال: «دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين» .

ثم إن إبدال أشعار الحرب بما فيه ذِكْر لله تعالى، وإبدال أيام العيد والعرس بمجامع الذكر، وإبدال البيوت بالمساجد، وإبدال الترخّص بذلك، واعتقاد كونه من الزينة التي يُترخّص بها أيام العيد والعرس باعتقاد كونه عبادة= لا يخفى أنه من أفحش البدع.

وأما ما زعمه بعضُهم من أن أوقات قراءة قصة المولد هي من أوقات الأفراح، بل هي أعظم الأفراح بذكرى ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته؛ فتقاس على أيام العيد والعرس وغيرها من أيام الأفراح؟

(1)

(4001 و 5147).

ص: 296

فالجواب: أنَّ هذا باطل لوجهين:

الأول: أن أيام العيد والعرس والختان هي أوقات أفراح أسبابُها حادثة، وأما قراءة قصة المولد فإنما هي ذكرى فرح قد مضى وقت سببه. وما مثل ذلك إلّا مثل من أنشأ قصيدة [ص 7] في ذكر عرسه، أو ذكر ختان ولده، وصار ينشدها كل يوم، ويدفّف عليها بحجة أنها متعلقة بعرس أو ختان.

فإن قيل: فإن في ذِكْر ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم زيادة فرح.

قلنا: وكذلك في ذكرى العرس، وختان الولد، وعلى كل حال فبطلان القياس واضح.

الوجه الثاني: أن المسألة من أصلها محدَثة.

قالوا: وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إني نذرتُ أن أضرب على رأسك بالدفّ، قال:«أوفي بنذرك» رواه أبو داود

(1)

.

قلنا: قد أسلفنا أن ضرب الدف في أوقات الفرح مما يترخّص به، ويبين هذا الحديث ما أخرجه الترمذي

(2)

من حديث بريدة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله، إني كنت نذرت إن ردَّك الله صالحًا أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنّى. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن

(1)

(3312)، من طريقه البيهقي:(10/ 77).

(2)

(3690). وأخرجه البيهقي: (10/ 77).

ص: 297

كنتِ نذرتِ فاضربي وإلا فلا» فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها، ثم قعدت عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسًا وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلتَ أنتَ يا عمر ألقت الدُّف» رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

أقول: والآثار الواردة في النذر تدل أنَّه يلزم فيما عدا المعصية، وما لا يُطيقه أو كان فيه مشقة شديدة، فيدخل في هذا نذر المباح، وخلاف الأَوْلى بل المكروه فيما يظهر. ففي «سنن أبي داود» عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينحر إبلًا ببوانة، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟ » قالوا: لا، قال:«فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ » قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم» .

وأنت خبير أن السفر إلى بوانة ــ على فرض كون الرجل لم يكن ساكنًا بها وهو الظاهر ــ فيه لولا النذر إتعاب للنفس لغير غرضٍ شرعيّ، وهذا لا يبعد أن يكون مكروهًا. ثم إن العدول عن نحر الإبل في الحرم خلاف الأولى، ولاسيّما والصدقة على فقراء الحرم أولى من الصدقة على فقراء بوانة.

وحديثُ السوداء ظاهر في أن الفعل الذي نذَرتْه منهيّ عنه، لولا النذر؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«وإلا فلا» . أي: وإن لم تكوني نذرت

ص: 298

فلا تضربي.

[ص 8] والنهيُ حقيقة للتحريم. فظاهره: أنها إن لم تكن نذرت حرم عليها ذلك الفعل، لكن النهي مصروف عن ظاهره، بدليل الإذن لها بالفعل إن كانت نذرته.

وقد عُلم من الأحاديث الصحيحة أنه لا يلزم النذر في معصية الله تعالى، فتبقى الكراهة. فالظاهر ــ والله أعلم ــ أن ذلك الفعل الذي نذَرَتْه مكروه في نفسه، ولكنه جاز للنذر. ويؤيّد هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«إن الشيطان يخاف منك يا عمر» إلخ، إلى أن قال في بيان علة أن الشيطان يخاف من عمر:«فلما دخلتَّ أنتَ ألقت الدفّ» . وهذا واضح في أنّ في فعلها ذلك نصيبًا للشيطان. وبهذا يظهر أن قدوم الغائب ونحوه ليس مما يُشْرَع فيه التدفيف إلا أن يُنْذَر. وأنه إن نذر في مثل ذلك شُرع الوفاء به وفاءً بالنذر، وإن كان فيه للشيطان نصيب.

هذا ولا يخفى أن قدوم الغازي سالمًا سبب من أسباب الفرح، فلا يدلّ كون التدفيف في مثله غير معصية على كونه غير معصية مطلقًا. ومع هذا فقدومه صلى الله عليه وآله وسلم من الغزو سالمًا سبب للفرح حدَثَ حينئذٍ، فلا يُقاس عليه نحو المولد والمعراج؛ إذ ليس هذا إلّا مجرد ذكرى كما مرَّ.

ومع هذا فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال حياته كثيرًا ما تعرض بحضرته الأشياءُ الجِبلِّية، فيعمل فيها ما يقتضيه الحال من الأفعال المباحة في مثل تلك الأحوال. وأما بعد وفاته فإن ذكره متصل بذكر الله تعالى لا ينفكّ عنه، فيجب أن يُراعى عند ذكره ما يُراعى عند ذكر الله تعالى من الأدب والرغبة فيما عند الله تعالى، ومراعاة ما كان يُراعى في عهده

ص: 299

صلى الله عليه وآله وسلم في مواطن الذكر. هذا في ما كان موافقًا للسنة من ذكره صلى الله عليه وآله وسلم. فأما ما لم يكن موافقًا فإنه خطأ من أصله.

وقد بقيت آثارٌ غير ما سبق يتمسَّكُ بها المجيزون، وفيما قدمناه ما يُعلم به الجواب عليها.

ومما يحتاج إلى ذكره هاهنا: أن هؤلاء القوم يستدلّون على جواز الرقص بحديثِ حُكمِه صلى الله عليه وآله وسلم في حضانة ابنِ عمِّه حمزة، وفيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي:«أنت مني وأنا منك» ، ولجعفر:«أشْبَهتَ خَلْقي وخُلُقي» ، ولزيد:«أنتَ أخونا ومولانا» ، وأنّ كلًّا منهم حَجَل عند ذلك

(1)

.

والجواب: أن الحجل هو عبارة عن رفع إحدى الرجلين والحفز على الأخرى. وهذا وإن كان من الحركات غير الاعتيادية، فليس هو من الرَّقْص في شيء، ومع ذلك فإنه من الأفعال الجِبِلّية [ص 9] التي الأصل فيها الإباحة، وعَرَض لهؤلاء الثلاثة فعله، لِمَا داخل كلًّا منهم من الفرح بتلك البشارة، وغايةُ ما يُستفاد من الحديث إباحة ذلك في مثل ذلك الحال. كما يستفاد من الأحاديث المذكور فيها الضحك: إباحة الضحك فقط، وكما يستفاد من حديث مسابقته صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة

(2)

على

(3)

مجرد الجواز.

(1)

أخرجه البخاري (2699) بدون قصة الحجل، وبها أخرجه أحمد (857)، والبزار (744)، وهي زيادة ضعيفة منكرة.

(2)

حديث مسابقته صلى الله عليه وسلم لعائشة أخرجه أبو داود (2578)، والنسائي في «الكبرى» (8894)، وابن ماجه (1979)، وأحمد (24981 و 25488)، وهو حديث صحيح.

(3)

كذا في الأصل، والعبارة تستقيم بحذف «على» .

ص: 300

والحاصل أنّ استدلالكم بهذا الحديث باطل من وجوه:

الأول: أنهم إنما حجلوا ولم يرقصوا. والحَجْل دليل الشدة والرجولية، بخلاف الرقص والتثنِّي.

الثاني: أن ذلك جرى منهم من باب الأفعال الجِبِليَّة، كالضحك. فلا يجوز اتخاذ ذلك عبادة.

الثالث: أنهم في ذلك الوقت ــ وإن كانوا بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم ــ لم يكونوا في ذكر لله تعالى. بل كانوا في محاورة معه صلى الله عليه وآله وسلم، والمحاورةُ معه حيًّا يُضْطَر معها إلى وقوع كثير من الأشياء الجِبِلّية، كالضحك وغيره. ولاسيَّما وكانوا في سفر، والسفر مما يترخّص فيه بمثل هذا ترويحًا للنفس من مشقَّته. ومن هذا مسابقته صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة في بعض أسفاره

(1)

.

فأما الذكر وسَماع العلم فإن السنة فيه: الخشوع والخضوع والإخبات، وقد ورد في بيان الإحسان:«أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»

(2)

.

ومن الواضح أن المؤمن إذا استشعر بأنَّ الله يراه كانت عبادته على تمام الخضوع والسكون. بخلاف ما لم يكن عبادة، كحال عليّ وجعفر وزيد.

الرابع: أن هذا وقع مرةً واحدة في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، وأما في الفعل المطّرد في طول عهده فهو كما ورد في وصفهم: كأنما على

(1)

سبق تخريجه قريبًا.

(2)

أخرجه البخاري (50)، ومسلم (8) في حديث جبريل الطويل.

ص: 301

رؤوسهم الطير. نعم، الحديث يدلّ على أن مثل ذلك الفعل في مثل تلك الحال جائز. كأن يكون أحدنا مسافرًا فيلقى أحدًا يبشره بما يسرّه، فأما في غير ذلك فلا.

وبهذا وغيره تبيَّن أن اعتيادكم للرقص عند الذكر بدعة قبيحة، وإلى الله المشتكى.

واستدلوا أيضًا بحديث لعب الحبشة بحرابهم

(1)

، ولا دليل في هذا؛ لأنه من تعلُّم هيئة القتال.

واستدلوا أيضًا بحديث الترمذي

(2)

عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسًا فسمعنا لَغَطًا وصوت صبيان، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا حبشيّة تُزْفِن والصبيان حولها .. الحديث إلى أن قالت: إذ طلع عمر فارفضَّ الناسُ عنها. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فرُّوا من عمر» .

[ص 10] والجواب: أن هذا من باب اللعب واللهو الذي ليس بحرام بدليل إذنه صلى الله عليه وآله وسلم أن تنظر إليه وهي حينئذٍ

(3)

صبية صغيرة تستأنس إلى ما يلهو به الصبيان، كما ورد في لعبها بالبنات وغير ذلك.

وقالت في حديث لعب الحبشة: فاقدروا قدر الجارية حديثة السن،

(1)

أخرجه البخاري (5190) ومسلم (892) من حديث عائشة رضي الله عنه.

(2)

(3691) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وأخرجه النسائي في «الكبرى» (8908).

(3)

في الأصل: «ح» اختصارًا لـ «حينئذٍ» .

ص: 302

الحريصة على اللهو.

ولكن قوله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الحديث: «إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عُمر» يدلُّ على الكراهة. وإنما أقره صلى الله عليه وآله وسلم بيانًا للجواز. وفيه مع ذلك نحوٌ مما تقدم.

وما أقبحَ الجهلَ والعنادَ! فِعْلٌ من الأفعال الجِبلّية معلوم بالضرورة أنه من اللهو واللعب وإنما وقع التقرير عليه مرة أو مرتين لبيان الجواز، فيجيء هؤلاء القوم يجعلونه من العبادة التي شرع الله تعالى لخلقه أن يستعملوها عند ذكره. وما أسوأَ هذا الفعلَ حيث يُقرَن بين ذكر لله تعالى وبين هذه الأفعال التي هي من اللهو واللعب! فما أجرأ من يفعل ذلك على الله تعالى، وأجْهَلَه بالأدب معه سبحانه وتعالى! بل ما أوهنَ إيمانَه؛ فإن كمال الإيمان الإحسان، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

والخلاصة: أننا نقول لهؤلاء القوم: النزاعُ بيننا وبينكم في التطريب والتدفيف والرقص عند ذكر الله تعالى، والتزامُ ذلك دائمًا وعدُّه من وظائف العبادة وشرائط الذكر؛ هل كان الأمر عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو عهد أصحابه، أو عهد التابعين، وتابيعهم من المجتهدين وغيرهم، أو لا؟ وعلى التنزُّل فهل ورَدَ في دليلٍ صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَعَل التطريبَ، أو التدفيفَ، أو الرقص في وقت ذكر الله تعالى، أو أذِنَ فيه، أو أقرّ عليه؟ كلّا، لم يكن شيء من ذلك. وهذا كافٍ في الدلالة على أن ما يفعله هؤلاء القوم مُحْدَث، وكلّ محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وإلى الله المتشكى وعليه المتكل وهو غني عن العالمين.

* * * *

ص: 303

[ص 11] الحمد لله

بعد هذا قرأت في «تاريخ المحبّي»

(1)

في ترجمة إبراهيم الصمادي الواعظ ما لفظه: «ومنهم مسلم الكبير مذكور في نسبهم

(2)

، وهو صاحب الطبل المستقرّ عندهم من نحاس أصفر كان معه في فتح عكة يضربون به عند سماعهم ووَجْدهم، وقد سُئل كثير من العلماء عنه فأفتى البدر الغزي والشمس بن حامد والتقوي ابن قاضي عجلون بإباحته في المسجد وغيره قياسًا على طبول الجهاد والحجيج؛ لأنها محركة للقلوب إلى الرغبة في سلوك الطريق، وهي بعيدة الأسلوب عن طريقة

(3)

أهل الفسق والشر».

أقول: قوله: لأنها محركة للقلوب

إلخ، يريد أن ذلك هو العلة المبنيّ عليها القياس، وهي الترغيب والتنشيط لسلوك ما في سلوكه مشقة من الخير.

والجواب: بمنع كون هذا الوصف هو العلة في الأصل. لِمَ لا تكون العلة هي قصد اهتداء من ضلّ من المجاهدين والحجاج؛ لأن المسافرين مع كثرتهم يتخلّف بعضهم لقضاء حاجته، ويعيى بعض المشاة، وتعيى دابّة بعض الركبان، وتشرد بعض دوابهم، ويعرِّس بعضهم وراء الجيش، ويبتعد بعضهم في طلب الماء أو طلب الظلّ في الهاجرة، أو طلب الطريق إذا ضل الدليل، وغير ذلك. ويعرض لهم ذلك دائمًا، فلا يكفي مجرّد التصويت لدفعه= لا جَرَم رُخِّص لهم في التطبيل.

(1)

وهو «خلاصة الأثر» : (1/ 50).

(2)

الأصل: «نِسبتهم» والمثبت من المصدر.

(3)

الأصل: «طريق» والمثبت من المصدر.

ص: 304

ولو سُلّم أن في الوصف الذي ذكره مناسبة، فَلَنا أن نمنع كونه تمام العلة، لِمَ لا تكون العلة مجموع الوصفين، أي ما ذكره هو من التنشيط والترغيب وما ذكرناه نحن من الإعلام.

ولو تنازلنا بتسليم أن مجرّد الوصف الذي ذكره علة تامة، فيُعترض بأن المشقة وصف غير منضبط. ولو تسامحنا في هذا، فهي في الفرع أقلُّ مناسبة من الأصل؛ إذ مشقة السفر أشدّ من مشقة ذكر الله تعالى.

ولو تغاضينا عن هذا فيُعارَض بأن التطبيل بأي كيفية كان ظاهرٌ في قصد اللعب، وإباحته في سفر المجاهدين والحجاج لتخفيف المشقة لا يعارضها شيء، بخلافه في حالة الذكر والمساجد، فإنه يعارضه أن فيه انتهاك الحُرْمة.

ففي «صحيح مسلم»

(1)

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا» . هذا مع أن نَشْد المرء لضالته مما ينبغي له؛ لما في تركه من تضييع المال. ونشد الضالة في المسجد له مناسبة لاجتماع الناس فيه، ولاسيَّما وقد يكون للمسجد أبواب، وإذا خرج الناس من المسجد اختلطوا وتكلموا، فوقعت الضوضاء فلا يقوم النّشْد خارج المسجد مُقامه داخله والناسُ مجتمعون هادئون. ومع ذلك فالمنع من ذلك عام، وأين هذا من التطبيل؟ !

وفي «صحيح البخاري»

(2)

عن السائب بن يزيد قال: كنتُ قائمًا في

(1)

(568).

(2)

(470).

ص: 305

المسجد فحصبني رجل، فنظرت، فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، فقال: ممن أنتما، أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ليت شعري لو رأى عمر هؤلاء الناس في بعض بيوت الله يضربون بطونهم ويرقصون ويصفقون ويغنون بالألحان، ويحرفون ذكر الله تعالى، ويذكرونه بما لم ينزل به من سلطان، ما كان يقول لهم؟ !

ثم إن في التطبيل تشتيت ذهن الذاكرين وغيرهم من المصلين، والمقصود من الذكر [ص 12] الإقبال على الله تعالى، وتصوّر معاني الذِّكر، والتخلّي عن سائر الشواغل والخواطر.

فإن زعموا أنه لا يشغلهم ذلك عن الذكر فقد كذبوا، فقد كان القرآن يشغل الصحابة رضي الله عنهم عن الصلاة، ولذلك ورد:«لا يَشغَلنَّ قارئُكم مُصلّيكم»

(1)

وما في معناه. وفي «الصحيحين»

(2)

عن عائشة قالت: صلَّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها

(1)

ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» : (2/ 509، 234) بلفظ: «لا يشوّش

» ونقل عن النجم (الغزي) قوله: لا يعرف بهذا اللفظ. ونقل السخاوي في «المقاصد» (ص 361) عند كلامه على حديث: «ما أنصف القارئ

» عن الحافظ ابن حجر قولَه: «يُغني عنه قوله صلى الله عليه وسلم : «لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن» وهو صحيح من حديث البياضي في الموطأ [29] وأبي داود». وهو في «المسند» (19022).

(2)

البخاري (373)، ومسلم (556).

ص: 306

نظرة، فلما انصرف قال:«اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتْني آنفًا عن صلاتي» . ومثل هذا في السنّة كثير.

مع أن أكثر المريدين الذين يحضرون الذكر من العامة الذين جلّ همهم التفرّج واللعب، وربما كان لبعضهم أغراض فاسدة، نسأل الله تعالى السلامة.

ومع التجاوز عما ذُكر، فنسأل المفتين هل يطردون علَّتهم في كل ما يطلب فيه الترغيب من الخير، كصلاة الجمعة والجماعة، وقراءة القرآن وتعلّم العلم وغير ذلك، فيكون المؤذّن يحضر معه طبلًا يطبّل به بعد الأذان ليرغّب الناسَ في الحضور. وعند الصلاة يؤتى بصبيان يطبلون لترغيب المصلين وتنشيطهم ولاسيّما في قيام رمضان، ويصنع ذلك في المسجد الحرام ومسجد النبي عليه الصلاة والسلام، ومسجد بيت المقدس، وغيرها من المساجد، فيصبح الدين مكاءً وتَصْديَة، ولاسيّما إذا ضموا إلى ذلك الغناء بالألحان والأصوات الحسان ليكون ذلك أبلغ في الترغيب والتنشيط قياسًا على الحَدْوِ في السَّفَر.

فإن استحيوا من الله تعالى ومِن رسوله وكتابه ومِن المسلمين، فذلك المطلوب، وإن ارتكب المفتون ما يقتضي الطرد، قلنا لهم: فإن حكم الصلوات والجُمَع والجماعات والاجتماعات لقراءة القرآن وتعلّم العلم والاجتماع للذّكر الذي هو الفرع المتكلَّم فيه في مسألتنا معلوم من السنة المتواترة والإجماع المقطوع به المطبق عليه في القرون الثلاثة الفاضلة، وعدّة قرون بعدها= وهو حرمة التطبيل في شيء من ذلك، مع وجود الاجتماعات للذكر وغيره ووجود الطبول ووجود قصد الترغيب.

ص: 307

فلو فُرِض انتظام القياس لكان معارضًا بالسنة المتواترة والإجماع القطعي، فكيف يعتبر والسنة تَثبت بالترك كما تَثبت بالفعل؟ قال الشوكاني في «إرشاد الفحول»

(1)

: «تركه صلى الله عليه وآله وسلم للشيء كفعله في التأسّي به فيه، قال ابن السمعاني: إذا ترك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا وجب علينا متابعته فيه، ألا ترى أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما قُدِّم إليه الضبّ فأمسك عنه، وترك أكله= أمسك عنه الصحابة وتركوه إلى أن قال لهم: «إنه ليس بأرض قومي فأَجِدُني أعافه» وأَذِن لهم في أكله

» إلخ.

ولو أردنا استيفاء ما يتعلق بالمقام لطال الكلام ولكن فيما ذكرناه كفاية، فقد أبطلنا ذلك القياس ببضعة أوجه، كل واحد منها كافٍ في المطلوب، وأنه تبين لكل عاقل أن التطبيل في المسجد أو عند الذكر بدعة ضلالة. والله المسؤول أن يهدينا وسائر المسلمين ويوفّقنا لاتباع سراطه المستقيم.

(1)

(1/ 225).

ص: 308