الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومما يستدلّ به على ما ذُكر:
الطّرْق بالحصى
.
وفي «سنن أبي داود»
(1)
عن قَطَن بن قبيصة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «العيافة والطَّرْق والطِّيَرة من الجِبْت» .
قال في «المختار»
(2)
: «الجِبْت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر» . وكأنها ــ والله أعلم ــ موضوعة للقَدْر المشترك، أي: للشيءِ الذي يعظِّمه الناسُ ويعتقدون فيه التأثير، وهو باطل. ولا يخفى أن دلالة الطَّرْق ليست إلا مجرّد تخرّص لا شُبْهَة فيها لعلمِ الغيب. والله أعلم.
وقد حَدَث في القرون القريبة أشياءُ أخرى، كالتفاؤل بالقرآن
(3)
، وقد كنتُ أفعله، حتى فتحتُ المصحف في بعض الأيام، فإذا قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101]، ففهمتُ من هذه الآية دليلًا على النهي الخاصّ عن التفاؤل بالقرآن، ومَن تأمل فيها عَرَف وجه الدلالة.
ومنها التفاؤل بغير القرآن من الكتب، والقرعة المعروفة بقرعة الأنبياء، وقرعة الطيور، وسهم الغيب، وغير ذلك. وكلها داخلة تحت النهي عن الطيرة. وقد أرْشَدَنا الشرعُ إلى ما نفعله إذا أردنا أمرًا من الأمور، وهي الاستخارة.
(1)
(3907). وأخرجه أحمد (15915)، والنسائي في «الكبرى» (11043)، وابن حبان (6131) وغيرهم.
(2)
«مختار الصحاح» (ص 91).
(3)
قد وجد قبل ذلك، فقد ذكره ابن بطة وأنه فعله، انظر «مقدمة إبطال الحيل» ، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية.
وتأمّل حكمةَ الشرعِ [203] كيف جعل الاستخارة هي عبارة عن دعاء الله تعالى: أنه إن علم أن ذلك الأمر خير للمستخير يسَّره له وإلا صَرَفه عنه، بخلاف زَجْر الطير والتفاؤل بالكتب وغيره، فإنها تُحَتِّم على صاحبها أن هذا الأمر بعينه خير، وهذا الأمر بعينه شرّ، فربما ظهر له المصلحة في ترك ذلك الفعل المزعوم أنه خير أو فِعْل ذلك الأمر المزعوم أنه شرّ، فيكون ذلك سببًا لهمّه وغمّه وحزنه وضعف توكّله؛ لوقوعه بين أمرين: بين ترجيح المصلحة الظاهرة، وترجيح ذلك التفاؤل.
فالحمد لله الذي أرشدنا إلى ما فيه صلاحُ معاشِنا ومعادِنا، وراحةُ قلوبنا، ونجاتُنا مِن كلِّ همّ وغمّ وحَزَن، فالحمد لله رب العالمين.
[القسم الثاني من الغيب]
[204]
وأما القسم الثاني من الغيب، وهو ما يكون غيبًا بالنسبة إلى بعض الخلق دون بعضهم، فهو ثلاثة أنواع:
الأول: ما يختصّ بمشاهدته الملائكة، كما فوق السموات، فهذا يلتحق بالقسم الأول. ومِن هذا أحوال الموتى، كما يدلّ عليه حديث «الصحيحين»
(1)
في عذاب القبر، وفيه في ذِكْر الكافر:«فيصيح صيحةً يسمعها من يليه غير الثقلين» .
النوع الثاني: ما يختص بمشاهدته الجن، أي دون الإنس، وهذا يمكن الإنس الإطلاع عليه بإخبار الجن، كما سيأتي تفصيله.
الثالث: ما يشاهده البشر، وهذا بالنسبة إلى من أدركه منهم ببعض الإدراكات المشتركة بين البشر مشاهَدٌ لا غيب، وبالنسبة إلى مَن لا يدركه غيب، فيكون الشيء الواحد غيبًا غير غيب، أي غيبًا بالنسبة إلى بعض البشر غير غيب بالنسبة إلى غيره، بل قد يكون الشيءُ غيبًا غير غيبٍ مع اتحاد الشخص، ولكن باعتبارين، بأن يكون غير غيب بالنسبة إلى إدراكه ببعض الحواسّ، غيبًا بالنسبة إلى إدراكه بحاسّةٍ أخرى، وذلك كالأعمى ونحوه يلمس بعض الأشياء، فإنه غير غيبٍ بالنسبة إلى لمسه، وغيبًا
(2)
بالنسبة إلى بصره.
وهذا النوع إذا كان غيبًا فإن البشر يستدلّون عليه بأمور منها ما يحصّل
(1)
البخاري (1338)، ومسلم (2870) مختصرًا من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
كذا، والوجه «وغيبٌ» .
العلم، وهو إظهار الله تعالى للأنبياء وإخبار الأنبياء لأصحابهم، ونَقْل عدد التواتر من أصحابهم، ونقل عدد التواتر ممن شاهد ذلك الشيء. ومنها ما لا يُحصِّل العلم، وهو الرؤيا والتحديث، بأن يُعْلِمه المَلَك بالطريقة المذكورة في القسم الأول، أو يشاهده بنفسه، فيحدِّث به في قلب المؤمن على نحو ما مرّ
(1)
.
ومنها الكَهَانة، وقد مرَّت حقيقتُها في القسم الأول
(2)
، ولكنها هاهنا تتوسّع؛ لأن الجنّ متمكِّنون من مشاهدة الحوادث الأرضية، ومِن قَطْعِ المسافات البعيدة في المدّة القصيرة، قال الله تعالى:{قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل: 39].
وكَذِبُهم وكَذِبُ الكهّان إنما هو في القسم الأول لاحتياجهم إلى الكذب، لأنهم لا يتحصّلون بعد المخاطرة وهلاك كثير منهم إلّا على بعض الكلمات التي لا تفي بالمعنى، فيتخرَّصون الكذب لإتمام المعنى. [205] فأما في الحوادث الأرضية فلا داعي لهم إلى الكذب، ولاسيَّما إذا علموا أنّ وليَّهم الإنسيَّ إذا كَثُر صدقُه في الإخبار عن الحوادث البعيدة اعتقد الناسُ فيه العقائد الزائفة، فإن الشياطين يحرصون حينئذٍ على صدق الحديث بمقدار حرصهم على إضلال الناس.
ويمكنهم اطلاع الشياطين على الحوادث الأرضية بالمشاهدة وبالسماع من الجن ومن الإنس ممن شاهد ذلك أو سمع به أو ظنه بطريقٍ من طرق
(1)
(ص 330 و 341).
(2)
(ص 343).
الظن وغير ذلك. وإلقائهم للإنس على قسمين: فمن كان متصلًا بهم شافهوه مشافهةً، ومَن لم يكن كذلك وسوسوا بها في نفسه.
وربما وَسْوَس الشيطان في نفس الإنسان بشيءٍ ثم ذهب إلى إنسان آخر فوسوس بذلك الشيء عينه، ومن هنا يقع كثيرًا أنه إذا تثاءب شخص تثاءب من بجنبه، وذلك أن التثاؤب من الشيطان كما في الحديث
(1)
.
وربما وسوس الشيطان في صدر إنسان ثم أخبر وليّه ــ أو
(2)
وسوس في نفسه ــ أن ذلك الإنسان يقول في نفسه كذا وكذا ــ ذلك الآخر الذي وسوس له به ــ فيقول الوليّ لذلك الإنسان: إنك تقول في نفسك كذا وكذا!
وربما تناولت الشياطين الإخبار، وقس على هذا.
وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه خَطَر في نفسه بعض الأيام أن يتزوّج بعضَ النساء، فلم يكلِّم بذلك أحدًا، ثم خرج إلى السوق، فإذا الخبر شائع بين الناس: أن أمير المؤمنين يريد أن يتزوج فلانة، فقال: هذا الخنّاس
(3)
.
وبهذه المناسبة أقول: إنه قد تقع لي بعضُ الخواطر فتصدُق وأنا أزِنها بميزان الشرع، فما كان ظاهره الخير رجوتُ أن يكون من المَلك، وما كان ظاهره الشرُّ خشيتُ أن يكون من الشيطان.
(1)
أخرجه البخاري (3289) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
تحتمل: «أي» .
(3)
لم أعثر عليه.