المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أصول النصوص: 1- أعلى النصوص هي المخطوطات التي وصلت إلينا حاملة - تحقيق النصوص ونشرها

[عبد السلام هارون]

الفصل: ‌ ‌أصول النصوص: 1- أعلى النصوص هي المخطوطات التي وصلت إلينا حاملة

‌أصول النصوص:

1-

أعلى النصوص هي المخطوطات التي وصلت إلينا حاملة عنوان الكتاب واسم مؤلفه، وجميع مادة الكتاب على آخر صورة رسمها المؤلف وكتبها بنفسه، أو يكون قد أشار بكتابتها، أو أملاها، أو أجازها؛ ويكون في النسخة مع ذلك ما يفيد اطلاعها عليها أو إقراره لها.

ومن ذلك ما صنعه أبو عمر الزاهد غلام ثعلب، الذي ألف كتابه ست مرات1 يزيد في كل منها شيئا عند قراءتها عليه، وأملى على الناس في العرضة الأخيرة ما نسخته:"قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد: هذه العرضة هي التي تفرد بها أبو إسحاق الطبري آخر عرضة، أسمعها بعده، فمن روى عني في هذه النسخة هذه العرضة حرفا واحدا ليس من قولي فهو كذاب علي، وهي من الساعة إلى الساعة من قراءة أبي إسحاق على سائر الناس، وأنا أسمعها حرفا حرفا".

وأمثال هذه النسخ تسمى نسخة الأم.

وهنا أمر قد يوقع المحقق في خطأ جسيم، وهو أن بعض الغافلين من الناسخين قد ينقل عبارة المؤلف في آخر كتابه، وهي في المعتاد نحو "وكتب فلان" أي المؤلف؛ ثم لا يعقب الناسخ على ذلك بما يشعر بنقله عن نسخة الأصل، فيظن القارئ أنها هي نسخة المؤلف. وهذه مشكلة تحتاج إلى فطنة المحقق وخبرته بالخط والتاريخ والورق2.

2-

وتلى نسخة الأم النسخة المأخوذة منها، ثم فرعها ثم فرع فرعها

1 ابن النديم 113-114.

2 انظر مثيل ذلك فيما سيأتي ص36.

ص: 27

وهكذا. والملحوظ أن ذكر سلسة الأخذ في الكتب الأدبية قليل، على حين تظفر الكتب الدينية واللغوية بنصيب وافر من ذكر هذه السلاسل.

وقد تخلو المخطوطات من بعض هذه الحدود، فيكون ذلك مدعاة للتحقيق وموجبًا للبحث الأمين، حتى يؤدي النص تأدية مقاربة.

وهذا الضرب الثاني من المخطوطات يعد أصولا ثانوية إن وجد معهما الأصل الأول؛ وأما إذا عدم الأصل الأول فإن أوثق المخطوطات يرتقي إلى مرتبته، ثم يليه ما هو أقل منه وثوقا.

3-

وهناك نوع من الأصول هو كالأبناء الأدعياء، وهي الأصول القديمة المنقولة في أثناء أصول أخرى؛ فقد جرى بعض المؤلفين على أن يضمنوا كتبهم -إن عفوا وإن عمدًا- كتابا أخرى أو جمهورًا عظيمًا منها.

ومن هؤلاء ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة، فقد ضمن ذلك الشرح كتبا كثيرة، أذكر منها وقعة صفين التي أمكنني أن أستخرجها نسخة كاملة لا ينقصها إلا نحو عشرين صفحة من نحو 350 صفحة بعد أن قضيت في ذلك قرابة الشهر، وقد بينت ذلك الأرقام في مقدمتي لوقعة صفين التي نشرتها "سنة: 1365"1.

ومنها جمهور كبير من كتاب المغازي للواقدي، انتبسه في أثناء كتابه، وهو في الجزء الثالث من ص318-407 أي نحو مائة صفحة كبيرة تبلغ ثلاثمائة صفحة صغيرة.

ولعل أظهر مثال للأصول المضمنة ما أورده البغدادي صاحب خزانة الأدب، فقد أودعها كثيرا من صغار الكتب النادرة، منها كتاب فرحة الأديب لأبي محمد الأسود الأعرابي، وكتاب اللصوص لأبي سعيد السكري؛ كما تضمن قدرا صالحا من كتب النحو وكتب شرح الشواهد النحوية.

1 وكذا في نشرتي الثانية لها سنة 1382.

ص: 28

وهذا النوع من الأصول لا يخرج كتابا محققًا، وإنما يستعان به في تحقيق النص.

وقد تهدى بعض الأدباء1 إلى نصوص من كتاب العثمانية للجاحظ ونشرها مع الرد عليها لأبي جعفر الإسكافي، نقل ذلك كله من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. وكنت أحسب أن النصوص تمثل على الأقل نموذجا من الأصل، ولكن عندما وقعت إلى نسخة العثمانية المخطوطة تيقنت أن ما فعله ابن أبي الحديد لا يعدو أن يكون إيجازا مخلا لنص الجاحظ بلغ أن أوجزت صفحتان منه في نحو ستة أسطر "أسطر مثلا الفقرة السادسة من كلام الجاحظ في العثمانية ص6 من رسائل الجاحظ للسندوبي وقارنها بما في نشرتي للعثمانية 27: 4-31: 5".

وكذلك كان يفعل الأقدمون، ينقلون النصوص أحيانا وتكون لهم الحرية التامة في التصرف فيها وترجمتها بلغتهم أيضا إلا إذا حققوا النقل ونصوا على أن هذا هو لفظ المنقول، فيقولون مثلا:"انتهى بنصه"، فتكون مسئوليتهم في ذلك خطيرة، إذ حملوا أنفسهم أمانة النقل.

فنشر أمثال هذه النصوص ودعوى أنها محققة، بعد خطأ جسيما في فن التحقيق وفي ضمير التاريخ.

4-

والنسخ المطبوعة التي فقدت أصولها أو تعذر الوصول إليها يهدرها كثير من المحققين، على حين يعدها بعضهم أصولا ثانوية في التحقيق، وحجتهم في ذلك ما يؤدي بالمطبعة هو عين ما يؤدي بالقلم، ولا يعدو الطبع أن يكون انتساخا بصورة حديثة. وإني لأذهب إلى هذا الرأي مع تحفظ شديد، وهو أن يتحقق الاطمئنان إلى ناشر المطبوعة والثقة بنا، فما نشره أمثال المصححين القدماء كالعلامة نصر الهوريني، والشيخ قطة العدوى، وكذا أعلام المستشرقين الثقات

1 هو الأستاذ حسن السندوبي في "رسائل الجاحظ" ص1-66.

ص: 29

أمثال وستنفلد1 الألماني "fedrinand wuustenfeld" 1808-1899 وجاير الألماني "rudolf ceyer" 1861-1929 وبيفان الهولندي "bevan" 1859-1934 ولايل الإنجليزي "chrles lyall" 1845-1920 جدير بأن يكون أصولا "ثانوية"، كما تعد رواياتهم لأصولهم -إن لم نتمكن من الظفر بتلك الأصول -رواية ينتفع بها في مقابلة النصوص، لأنهم منزلون بمنزلة الرواة الثقات، ورواياتهم منزلة منزلة ما يسمية المحدثون بالوجادة.

وأما الطبعات التي تخرج للتجارة ولا يقول عليها محقق أمين فهي نسخ مهدرة بلا ريب، ومن الإخلال بأمانة العلم والأداء أن يعتمد عليها في التحقيق.

5-

وأما المصورات من النسخ فهي بمنزلة أصلها ما كانت الصورة واضحة تامة تؤدي أصلها كل الأداء، فمصورة النسخة الأولى هي نسخة أولى، ومصورة الثانوية ثانوية أيضا. وهكذا.

6-

وهنا تعرض مشكلة المسودات والمبيضات، وهو إصلاح قديم جدا. ويراد بالمسودة والنسخة الأولى للمؤلف قبل أن يهذبها ويخرجها سوية. أما المبيضة فهي التي سويت وارتضاها المؤلف كتابا يخرج للناس في أحسن تقويم.

ومن اليسير أن يعرف المحقق مسودة المؤلف بما يشيع فيها من اضطراب الكتابة، واختلاط الأسطر ن وترك البياض، والإلحاق بحواشي الكتاب، وأثر المحو والتغيير.. إلى أمثال ذلك.

ومسودة المؤلف إن ورد نص تاريخي على أنه لم يخرج غيرها كانت هي الأصل الأول مثال ذلك ما ذكره ابن النديم2 من أن ابن دريد صنع كتاب أدب الكاتب على مثال كتاب ابن قتيبة، ولم يجرده من المسودة.

1 ألف وحقق نحو مائتي كتاب بين صغير وكبير. ومعجم المطبوعات لسركيس انظر النهر 1917-1918.

2 الفهرست 92.

ص: 30

وكذا ورد في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري للقسطلاني1 أن يحيى بن محمد بن يوسف الكرماني، وهو ولد الكرماني شارح البخاري، صنع أيضًا شرحًا للبخاري سماه "مجمع البحرين وجواهر الحبرين"، قال:"وقد رأيته وهو في ثمانية أجزاء كبار بخطه، مسودة".

وكذا ذكر القسطلاني شرح شمس الدين البرماوي بصحيح البخاري، المسمى باللامع الصبيح، قال: ولم يبيض إلا بعد موته".

وإن لم يرد نص كانت في مرتبة النصوص الأولى، ما لم تعارضها المبيضة فإنها تجبها بلا ريب.

7-

وأما مبيضة المؤلف فهي الأصل الأول، وإذا وجدت معها مسودته كانت المسودة أصلا ثانويا استئناسيا لتصحيح القراءة فحسب.

8-

على أن وجود نسخة المؤلف لا يدلنا دلالة قاطعة على أن هذه النسخة هي عينها النسخة التي اعتمدها المؤلف، فإننا نعرف أن بعض المؤلفين يؤلف كتابه أكثر من مرة، وإذا استعملنا لغة الناشرين قلنا: إنه قد يصدر بعد الطبعة الأولى طبعة ثانية. فالمعروف أن الجاحظ ألف كتابه البيان والتبيين مرتين كما ذكر ياقوت في معظم الأدباء2 وقد ذكر أن الثانية "أصح وأجود".

وقد ظهر لي ذلك جليا في أثناء تحقيقي لهذا الكتاب، وأشرت إلى ذلك في مقدمته3.

وكتاب الجمهرة لابن دريد قال ابن النديم4: "مختلف النسخ كثير الزيادة والنقصان، لأنه أملاه بفارس وأملاه ببغداد من حفظه، فلما اختلف

ـ

1 القسطلاني 1: 42.

2 ج16 ص106.

3 مقدمة البيان والتبيين ص16-17.

4 الفهرست 91.

ص: 31

الإملاء زاد ونقص". ثم قال: "وآخر ما صح من النسخ نسخة أبي الفتح عبد الله بن أحمد النحوي، لأنه كتبها من عدة نسخ وقرأها عليه". وهذه سابقة قديمة في جواز تلفيق النسخ.

ومن أمثلة اختلاف النسخ الأولى ما وراه الخطيب البغدادي1 رواية عن محمد بن الجهم قال: كان الفراء يخرج إلينا وقد لبس ثيابه في المسجد الذي في خندق عبوية، وعلى رأسه قلنسوة كبيرة، فيجلس فيقرأ أبو طلحة الناقظ عشرا من القرآن، ثم يقول له: أمسك. فيملي من حفظه المجلس، ثم يجيء سلمة بعد أن ننصرف نحن، فيأخذ كتاب بعضنا فيقرأ عليه، ويزيد وينقص، فمن هنا وقع الاختلاف بين النسختين".

هذا ومن المتواتر في ترجمة الفراء هذا أنه أملى كتبه كلها حفظا، لم يأخذ بيده نسخة إلا في كتابين: كتاب ملازم، وكتاب يافع ويفعة -قال أبو بكر ابن الأنباري:"ومقدار الكتابين خمسون ورقة، ومقدار كتب الفراء ثلاثة آلاف ورقة".

ولعل أظهر مثال لتكرار التأليف ما رواه ابن النديم2 في الكلام على كتاب الياقوت لأبي عمر الزاهد المتوفي سنة 345 ذكر أن هذا الكتاب ظهر في ست صور، قضى مؤلفها في تأليفها ما بين سنتي 326، 331.

ونص ابن النديم في الفهرست3 على أن نوادر الشيباني ثلاث نسخ: كبرى، وصغرى، ووسطى. وكذا نوادر الكسائي ثلاث نسخ.

وكذلك كتاب "نهج البلاغة" الذي ألفه الشريف الرضي، ذكر ابن أبي الحديد4 في شرحه أنه "ختم كتاب نهج البلاغة بهذا الفصل، وكتبت

1 تاريخ بغداد 14: 152-153.

2 الفهرست 113.

3 الفهرست 82.

4 شرح نهج البلاغة 4: 387.

ص: 32

به نسخ متعددة، ثم زاد عليه أن وفى الزيادات التي نذكرها فيما بعد".

ثم ذكر ابن أبي الحديد بعد ذلك1 فصولا من هذه الزيادات، وعقب عليها بقوله:"واعلم أن الرضي رحمه الله قطع كتاب نهج البلاغة على هذا الفصل، وهكذا وجدت النسخة بخطه، وقال: وهذا حين انتهاء الغاية بنا إلى قطع المنتزع من كلام أمير المؤمنين، حامدين لله سبحانه على ما من به من توفيقنا لضم ما انتشر من أطرافهن وتقريب ما بعد من أقطاره، ومقررين العزم كما شرطنا أولا على تفضيل أوراق من البياض في آخر كل باب من الأبواب لتكون لاقتناص الشارد، واستلحاق الوارد، وما عساه أن يظهر لنا بعد الغموض، ويقع إلينا بعد الشذوذ..".

ثم قال بن أبي الحديد نفسه: "ثم وجدنا نسخا كثيرة فيها زيادات بعد هذا الكلام قيل إنها وجدت في نسخة كتبت في حياة الرضي رحمه الله وقرئت عليه فأمضاها وأذن في إلحاقها بالكتاب، ونحن نذكرها".

فهذا يبين لك أيضا أن نسخة المؤلف قد تتكرر، ولا يمكن القطع بها ما لم ينص هو عليها. وليس وجود خطه عليها دليلا على أنها النسخة الأم، بل إن الأمر كله أمر اعتباري لا قطعي.

وإذا رجعت إلى تقديمي لمجالس ثعلب2 عرفت أن تلك المجالس قد ظهرت في صور شتى.

وكثيرًا ما تتعرض كتب المجالس والأمالي للتغيير والتبديل، والزيادة من التلاميذ والرواة. جاء في مقدمة تهذيب اللغة3 للأزهري عند الكلام على الأصمعي:

1 شرح نهج البلاغة 4: 506.

2 من 24-25 من التقديم. وانظر كذلك حواشي ص113.

3 مقدمة تهذيب اللغة 1: 15.

ص: 33

"وكان أملى ببغداد كتابًا في النوادر فزيد عليه ما ليس من كلامه. فأخبروني أبو الفضل المنذري عن أبي جعفر الغساني عن سلمة قال:

جاء أبو ربيعة صاحب عبد الله بن طاهر أبي السمراء، بكتاب النوادر المنسوب إلى الأصمعي فوضعه بين يديه، فجعل الأصمعي ينظر فيه، فقال. ليس هذا كلامي كله، وقد زيد فيه علي، فإن أحببتم أن أعلم على ما أحفظه منه وأضرب على الباقي فعلت، وإلا فلا تقرءوه. قال سلمة بن عاصم: فأعلم الأصمعي على ما أنكر من الكتاب، وهو أرجح من الثلث. ثم أمرنا فنسخناه له".

وشيء آخر جدير بالتنبيه، وهو أن بعض المؤلفين يؤلف الكتاب الواحد على ضروب شتى من التأليف، ومن أمثلة ذلك التبريزي، فسر الحماسة ثلاث مرات، كما ذكر صاحب كشف الظنون، قال:"شرح أولا شرحا صغيرا، فأورد كل قطعة من الشعر ثم شرحها، وشرح ثانيا بيتا بيتا، ثم شرح شرحا طويلا مستوفيا. وأول المتوسط: أما بعد حمد الله الذي لا يبلغ صفاته الواصفون".

والشرح المتداول بهذا الاعتبار هو الشرح المتوسط. أما الصغير فمنه قطعة بدار الكتب المصرية "برقم 1195 أدب" تشمل باب الحماسة. أما الكبير فما لم نهتد إلى معرفته.

ومما هو جدير بالذكر أن صاحب كشف الظنون، وكذا البغدادي في مقدمة خزانة الأدب ذكرا أن للزجاجي أمالي ثلاثة: كبرى، ووسطى، وصغرى. لكني أثبت في مقدمة نشرتي لهذه الأمالي أنها واحدة، وأن اختلافها في تلك الصور الثلاث إنما هو من صنع التلاميذ والرواة، وذلك بدراستي لتلك النصوص التي تعزى مرة إلى الصغرى، ومرة إلى الوسطى، وأخرى إلى الكبرى1.

1 انظر مقدمة أمالي الزجاجي 16-17.

ص: 34