الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الأولى:
هذا التراث الضخم الذي آل إلينا من أسلافنا صانعي الثقافة الإسلامية الغربية، جدير بأن نقف أمامه وقفة الإكبار والإجلال، ثم نسمو برءوسنا في اعتزاز وشعور صادق بالفخر والغبطة والكبرياء.
إن هذه الصيحات التي يرددها دعاة الاستعمار الثقافي يبغون بها أن ننبذ هذا التراث ونطرحه وراءنا ظهريا، صيحة في واد. وكم لهم من محاولات يائسة يدورون بها ذات اليمين وذات الشمال، كي يهدموا هذا الصرح. ولكن تلك المحاولات لم تجد لها صدى إلا عند من أمكنهم أن يصفوا على أنفسهم ظل الاستعباد الثقافي، من ضعاف القلوب، وأرقاء التفكير.
حاولوا أن يقضوا على الكتابة العربية ليقطعوا ما بين حاضر العرب وماضيهم وألحوا في ذلك إلحاحًا متواصلًا فباءوا من بعد ذلك بالفشل. وجهدوا أن يحاربوا اللغة الفصيحة فنادوا أن ندع أهم خصيصة من خصائص العربية فنلغي إعراب الكلمات؛ لأن ذلك عبء ناءت به -فيما يزعمون- بعد القرون قرون! حاولوا ذلك فعادوا في خزي تعلوهم الخيبة!
أرادونا على أن نتخلص من مقاييس اللغة ومعاييرها فنقولها فوضى بلا نظام، فلم يستطيعوا أن يقسرونا على ذلك. وهم فيما بين ذلك يحاولون أن يضعوا من ثقتنا في هذا التراث الضخم، فلا يزالون يوجهون إليها المطاعن والمثالب، ويهونون من شأنه تهوينا.
إن كل فكرة علمية جديرة بالاحترام، ولكن الفكرة المغرضة التي يبعثها الشر أو المنفعة الذاتية الصرفة، فكرة لا تستحق الاحترام، بل يحب مناهضتها والقيام في وجهها. أرادوا كثيرًا فسمعنا وقرأنا كثيرًا، ولكن ثقافتنا الإسلامية العربية ليست من الهون بحيث تحني الرأس لأمثال هذا الضعف المتخاذل. فالشكر الصادق لهؤلاء القوم الذين أيقظوا فينا ذلك الشعور بالعزة، ووجهونا أن نفتح عيوننا على تلك الكنوز التي تكشف لنا ولا تزال تتكشف.
وما أجدرنا -نحن القومة على الثقافة العربية- أن ننهض بعبء نشر ذلك التراث وتجليته، ليكون ذلك وفاء لعلمائنا، ووفاء لأنفسنا وأبنائنا.
وقد ناديت في مقدمة إحدى منشوراتي1 أن تلتزم كلياتنا الجامعية ذات الطابع الثقافي الإسلامي تكليف طلبة الدراسات العالية أن يقوم كل منهم بتحقيق مخطوط يمت بصلة إلى موضوع الرسالة التي يتقدم بها فقلت: "وإنه لما يثلج الصدر أن تتجه جامعاتنا المصرية اتجاها جديدا إزاء طلابها المتقدمين للاجازات العلمية الفائقة، إذ توجههم إلى أن يقدموا مع رسالاتهم العلمية تحقيقا لمخطوط يمت بصلة إلى موضوع الرسالة. وعسى أن يأتي اليوم الذي يكون فيه هذا الأمر ضريبة علمية لا بد من أدائها".
وإني لمؤمن أن سيأتي ذلك اليوم، فننعم بكثير من المتع الثقافية التي حالت بيننا وبينها هذه الحرب العلمية الظالمة.
وقد اختمرت عندي فكرة كتابة هذا البحث منذ خمس سنوات، وذلك حين ظفر كتابان من كتبي التي حققها بالجائزة الأولى للنشر والتحقيق العلمي سنة 1949-1950، فكنت من ذلك الحين أعاود الكتابة بين الفينة
1 نوادر المخطوطات ص3 من المجلد الأول طبع لجنة التأليف سنة 1951. وإني لأشعر الآن بالغبطة إذ وجدت لتلك الدعوة صدى عميقا في أرجاء الجامعات بين أساتذتها وطلابها.
والأخرى، إلى أن كان صيف هذا العام، إذ اقترح الزميل الجليل الأستاذ أحمد الشايب أن أقوم بإلقاء عدة محاضرات في هذا الفن على طلبة "الماجستير" بكلية دار العلوم، فكانت هذه أول مرة في جامعاتنا المصرية الحديثة يعالج فيها هذا الضرب من تلك الدراسة الفنية، وكان للأستاذ الشايب بذلك فضل كبير في أن ترى كتابتي النور.
وعلمت أنه قد ألقيت من قبل في كلية الآداب بجامعتنا القديمة محاضرات تدور حول هذا الفن، ألقاها المستشرق الفاضل برجستراسر "BERGSTRAESSER" فحاولت جاهدًا أن أطلع على شيء منها فلم أوفق.
وأما بعد، فهذه ثمرة كفاح طويل، وجهاد صادق، وتجارب طال عليها المدى، ساعفتها عين ظلمة ناظرة إلى ما يصنع صاحبها وما يصنع الناس، فكان له من ذلك ذخر أمكنة أن يفتشه ويبحث في جنباته، ليرى وجه الحق فيما يرى، وأن يؤلف من ذلك كتابًا يعتز به ويغتبط اغتباطًا، إذ هو "أول كتاب عربي" يظهر في عالم الطبعة معالِجًا هذا الفن العزيز: فن تحقيق النصوص ونشرها.
إني إذ أقدم هذا البحث الجديد، أعلم علم اليقين أنه جهد متواضع، وأن شأنه كل كتابة جديدة قد يخطئها التوفيق في بعض الأمر، ويعوزها الكمال فإنه لم يخلق للبشر! ولكني مع ذلك مؤمن أني قد بذلت فيه جهدا معبرا عن أسرة التحقيق التي أرجوا أن يكثر عددها، كما كثر في ميدان العلم نفعها:
ومن الله العون، وبه التوفيق.
مصر الجديدة في غرة المحرم سنة 1374
30 من أغسطس سنة 1954