الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في دائرة إرادته لا يستطيعون عنها انقلابًا، داهشون في بدائع حكمته، ومشيئته، وإرادته، يعز من يشاء ويرزق من يشاء..".
وليس هذا الأسلوب بحاجة إلى التعليق، كما أن الكتاب ليس بحاجة إلى أن نسهب في نفي نسبته إلى أبي عثمان الجاحظ.
تحقيق متن الكتاب:
ومعناه أن يؤدي الكتاب أداءً صادقًا كما وضعه مؤلفه كمًّا وكيفًا بقدر الإمكان، فليس معنى تحقيق الكتاب أن نلتمس للأسلوب النازل أسلوبًا هو أعلى منه، أو نحل كلمة صحيحة محل أخرى صحيحة بدعوى أن أولاهما أولى بمكانها، أو أجمل، أو أوفق، أو ينسب صاحب الكتاب نصا من النصوص إلى قائل وهو مخطئ في هذه النسبة فيبدل المحقق ذلك الخطأ ويحل محله الصواب أو أن يخطئ في عبارة خطأ نحويا دقيقا فيصحح خطأه في ذلك، أو أن يوجز عبارته إيجازا مخلا فيبسط المحقق عبارته بما يدفع الإخلال.
ليس محققا المتن تحسينا أو تصحيحا، وإنما هو أمانة الأداء التي تقتضيها أمانة التاريخ، فإن متن الكتاب حكم على المؤلف، وحكم على عصره وبيئته، وهي اعتبارات تاريخيه لها حرمتها، كما أن ذلك الضرب من التصرف عدوان على حق المؤلف الذي له وحده حق التبديل والتغيير.
وإذا كان موسوما بصفة الجرأة فأجدر به أن يتنحى عن مثل هذا العمل، وليدعه لغيره ممن هو موسوم بالإشفاق والحذر.
إن التحقيق نتاج خلقي، لا يقوى عليه إلا من وهب خلتين شديدتين: الأمانة والصبر، وهما ماهما!!
وقد يقال: كيف نترك ذلك الخطأ يشيع، وكيف نعالجه؟
فالجواب أن المحقق إن فطن إلى شيء من ذلك الخطأ نبه عليه في الحاشية أو في آخر الكتاب وبين وجه الصواب فيه. وبذلك يحقق الأمانة، ويؤدي واجب العلم.
أما الشواهد من القرأن الكريم فلما لها من تقدير ديني لا بد أن توضع في نصابها. وقد كشفت في أثناء تحقيق لكتاب الحيوان عن تحريفات كثيرة لم أستطع إلا أن أردها إلى أصلها. ومن أمثلة ذلك في الجزء الرابع ص7؛ "فلما أتوا على وادي النمل" وهي {حَتَّى إِذَا أَتَوْا} . وفي ص159: "على أن لا أقول على الله إلا الحق فأرسل معي بني إسرائيل". وفي ص160: "يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ" وهي: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} وفي الجزء الخامس ص32: "إني مبتليكم بنهر" وهي {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} وفي ص93: "هو الذي جعل لكم من الشجر الأخصر نارا" والوجه إسقاط "هو": وفي ص137: "وأنهار من ماء غير آسن" والوجه إسقاط الواو. وفي ص544: "ثم اسلكي سبل ربك" وإنما هي {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ} . وفي ص547 في بعض النسخ "فلما جاء أمرنا وفار التنور" وفي بعضها: "ولما جاء" وكلاههما تحريف، وإنما هي {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} . إلى غيرها كثير.
ومن عجب أن يشيع هذا التحريف القرآني في كتاب معروف مثل كتاب الحيوان ولا يتصدى له من يصلحه في خلال هذه القرون المتطاولة، وفي ذلك يصدق المثل القائل:"يؤتى الحذر من مأمنه".
وجاء في كتاب الجواري للجاحظ في مجموعة داماد: "ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلًا"، وهي:{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}
ومما عثرت عليه في مخطوطات تهذيب اللغة للأزهري من التصحيف
القرآني ما جاء في مادة "وقى": "ما لكم من الله من واق" وهي {مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} . وفي مادة "فوق": "ما ينظرون إلا صيحة ما لها من فواق" وهي {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} .
وفي مخطوطة كتاب سيبويه ونسخه المطبوعة في ثلاث طبعات1: "والذاكرين الله كثيرا والذاكرات والحافظين فروجهم والحافظات" وصوابها {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} .
وإنما أسهبت في تلك الأمثلة لأنبه على أمرين:
أما أحدهما فإنه يجب أن يستشعر المحقق الحذر الكامل في تحقيق الآيات القرآنية، وألا يركن إلى أمانة غيره في ذلك مهما بلغ قدره.
وأما الآخر فإن التزمت في إبقاء النص القرآني المحرف في الصلب كما هو، فيه مزلة للأقدام، فإن خطر القرآن الكريم يجل عن أن نجامل فيه مخطئًا، أو نحفظ فيه حق مؤلف لم يلتزم الدقة فيما يجب عليه فيه أن يلزم غاية الحذر.
ومع ذلك فإننا نرى بعض المتزمتين الغالين يذهب إلى التزام الأمانة الصارمة في أداء النص القرآني الخاطئ يؤديه كما وقع من مؤلفة. والمسألة خلافية قديمة بسطها ابن كثير في كتابه اختصار علوم الحديث2.
ونصه ما يلي:
وأما إذا لحن الشيخ فالصواب أن يرويه السامع على الصواب، وهو محكي عن الأوزاعي وابن المبارك والجمهور. وحكى عن محمد بن سيرين وأبي معمر عبد الله بن سخبرة أنهما قالا: يرويه كما سمعه من الشيخ ملحونًا. قال ابن الصلاح: وهذا غلو في مذهب اتباع اللفظ. وعن القاضي عياش: أن الذي
1 انظر طبعة بولاق 1: 27 وكذا طبعة باريس 29 وطبعة الهند.
2 هو الذي طبع مشروحا باسم الباعث الحثيث. انظر ص162-163.
استمر عليه عمل أكثر الأشياخ أن ينقلوا الرواية كما وصلت إليهم ولا يغيروها في كتبهم، حتى في أحرف من القرآن استمرت الرواية فيها على خلاف التلاوة، ومن غير أن يجيء ذلك في الشواذ، كما وقع في الصحيحين والموطأ، لكن أهل المعرفة منهم ينبهون على ذلك عند السماع وفي الحواشي.
ثم قال: "وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل أن أباه كان يصلح اللحن الفاحش ويسكت عن الخفي السهل".
فالمسألة قديما جدا مردها إلى الأمانة، وهي متحققة في المذهبين إذا نبه المصحح على ما كان عليه الأصل الذي صححه، مما هو واضح الخطأ.
واختبار النصوص القرآنية لا يكفي فيها أن نرجع إلى المصحف المتداول، بل لا بد فيه من الرجوع إلى كتب القراءات وكتب التفسير. ففي كتب القراءات يرجع المحقق إلى كتب القراءات السبع، ثم العشر ثم الأربع عشرة ثم كتب القراءات الشاذة. وفي كتب التفسير يلجأ إلى تلك التي تعني عناية خاصة بالقراءات كتفسير القرطبي وأبي حيان. وذلك يجدر أن ينسب المحقق كل قراءة تكون مخالفة لقراءة الجمهور.
وأما النصوص الحديث فإنها يجب أن تختبر بعرضها على مراجع الحديث لقراءة نصها وتخريجها إن أمكن التخريج. وتعدد روايات الحديث يدفعنا إلى أن نحمل المؤلف أمانة روايته، فنبقيها كما كتبها المؤلف إذا وصلنا إلى يقين بأنه كتبها كذلك، ولندع للتعليق ما يدل على ضعف روايته أو قوتها.
وهذا أيضا هو واجب المحقق إزاء كل نص من النصوص المضمنة، من الأمثال والأشعار ونحوها، يجب أن يتجه إلى مراجعتها ليستعين بها في قراءة النص وتخريجه إن أمكن التخريج. ومع ذلك يجب أن نحترم رواية المؤلف