المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌درس في موطأ الإمام مالك رضي الله عنه جامع القضاء وكراهيته - تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌تمهيد

- ‌تنبيه ونصيحة

- ‌القسم الأولفي القرآن

- ‌{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}

- ‌تَفْسير آيّة التَّغَابن

- ‌مراجعة في تفسير قوله تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [

- ‌شرف الكعْبَة

- ‌تَكليم الله لموسى عليه السلام

- ‌تفسير قوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}

- ‌القسم الثَّانيفي السُّنَّة

- ‌عصمّة الأنبيَاء

- ‌المهدي المنتظر

- ‌تمهيد:

- ‌كيف نشأ القول بالمهدي المنتظر

- ‌الآثار المروية في المهدي:

- ‌الرأي في هذه الآثار من جهة علم الحديث:

- ‌الرأي فيها من جهة النظر:

- ‌دَرس في موطأ الإمَام مالك رضي الله عنه جامع القضاء وكراهيته

- ‌التعريف بكتَاب الموطأ للإمَام بن أّنس رحمه الله

- ‌نشأة علم الحديث:

- ‌الاهتمام بتدوين ما صحَّت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الغرض من تأليف الموطأ:

- ‌ما المراد بالحديث الصحيح

- ‌ما يوجد من نسخ للموطَّأ:

- ‌اسم كتاب الموطأ:

- ‌مُراجعَة فيما تَضَمَّنَه كتاب «فتح الملك العَلي»

- ‌المراجعة الإجمالية:

- ‌المراجعة التفصيلية:

- ‌الأسَانيد المريضَة الرِّوَايَة حَديث طلب العِلم فريضَة

- ‌الرواية الأولى:

- ‌أقوال الحفاظ في رجال سنده:

- ‌آراء الحفاظ في حالته:

- ‌الرواية الثانية:

- ‌الرواية الثالثة:

- ‌الرواية الرابعة:

- ‌الرواية الخامسة:

- ‌الرواية السادسة:

- ‌الرواية السابعة:

- ‌الرواية الثامنة:

- ‌التنبيه على أحَاديث ضعيفَةأَو مَوضُوعة رَائجَة على ألسنة النَّاس

- ‌دفع إشكال في حَديث نبوي

- ‌حديث من سئل عن علم فكتمه

- ‌حديث«من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم»

- ‌سند الحديث واختلاف ألفاظه:

- ‌من يجدد لهذه الأمة أمر دينها

- ‌معنى التجديد:

- ‌مضي مائة سنة مظنة لتطرق الرثاثة، والاحتياج إلى التجديد:

- ‌كيف يكون تعيين مبدأ المائة سنة:

- ‌رأي ابن السبكي في نعت المجدد وزمنه:

- ‌رأي مجد الدين ابن الأثير في تعيين المجددين:

- ‌التحقيق في صفات المجدد وصنفه وعدده:

- ‌ذكر المجددين:

- ‌خلق النور المحمدي

- ‌متن هذا الحديث:

- ‌مرتبة هذا الحديث من الصحة:

- ‌نقده من جهة اللفظ:

- ‌نقده من جهة المعنى:

- ‌تحقيق مسمى الحديث القدسي

- ‌ تعريف الحديث القدسي

- ‌صيغة رواية الحديث القدسي:

- ‌الفرق بين الحديث القدسي والقرآن:

- ‌شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌الشفاعة:

- ‌والشفاعات على ما حققه أئمتنا خمسة أقسام:

- ‌جواب لأحد الفضلاء في تحرير مسألة علم الهيئة

الفصل: ‌درس في موطأ الإمام مالك رضي الله عنه جامع القضاء وكراهيته

‌دَرس في موطأ الإمَام مالك رضي الله عنه جامع القضاء وكراهيته

«مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي أن هَلُمَّ إلى الأرض المقدسة فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدًا وإنما يقدس الإنسانَ عملُهُ، وقد بلغني أنك جُعِلْتَ طبيبًا تداوي فإن كنت تبرئ فنعمَّا لك، وإن كنت متطببًا فاحذر أن تقتل إنسانًا فتدخل النار، فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما، وقال: ارجعا إلي أعيدا قصتكما. متطببٌ، والله» .

لم يترك الإمام رحمه الله تعالى في تبوبيه هذا حقًّا من المناسبة في التبويب إلا قضاه؛ إذ أخر التحذير من القضاء إلى آخر كتاب الأقضية، واستهل كتاب الأقضية بالترغيب في القضاء بالحق، آثر بذلك التقديم وهذا التأخير ترتبًا طبيعيًّا من وجهين:

أولهما: أن الناس لو سلك بهم مسلك الاقتصار على الترهيب من القضاء ثم تمشي ذلك في عقول العلماء العدول، فعافت نفوسهم القضاء وتمالؤوا على التقصي منه لكان من أثر ذلك أن يصبح الناس فوضى ويرجعوا إلى الهمجية الأولى يقتصون لأنفسهم تلك الهمجية التي كان من جهد الشريعة إبعاد الناس عنها، قال الحماسي:

فلسنا كما كنتم تصيبون سلة

فنقبل ضيمًا أو نحكم قاضيا

ولكن حكم السيف فينا مسلط

فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا

من أجل ذلك جاء بالترغيب في القضاء بالحق، كأنه يأخذ بيد الخائف الوجل من هذا الأمر، ويطل به عليه يبين له أن إكباره خيال كبير، وأن المرء إذا شاء إجراء العدل كان يلي بولايته القضاء أكبر خطة وأصلحها للكون، ثم جاء الإمام في آخر كتاب الأقضية بالترهيب منه؛ إيقاظًا لنفوس ربما خامرها الذهول فاستهونت أمره بعد استكباره ولم ترقب حق الله من الاحتياط فيه وأخْرج في هذا الأخير هاتيكم الكلمة الفذة كلمة سلمان رضي الله عنه.

وثانيهما: يناسب حال المرء الذي يلي القضاء أي أن يكون مكتوبًا على هذا

ص: 62

السطر القويم فتكون رهبته من القضاء بعد ولايته أشد من نفوره عنه من قبل، فإن الولاية ربما خيبت أماني وبدَّلت أخلاقًا، قد تغر بوارق البرق فيظن سحابه ماطرًا وما هو إلا جهام لا ينشئ إلا غمًّا للكون وساكنيه، وحرارة يوقدها برقه الخلب فيه:

خلق أفادته الولاية أنها

خلق يغير أهله ويبدل

أراد الله تعالى عمران هذا الكون ففطر البشر على الدأب نحو استحصال منافعه، وإجابة طلبات نفسه تلك الفطرة التي هي أصل التسابق لاقتضاء ما يستتب به العمران، ولكن هاته الفطرة كانت بحكم الضرورة ميالة إلى استلاب المنافع من أيدي أصحابها وروم انضمامها إلى المصالح الذاتية إحساسًا يجده الحي في نفسه ويسمعه يوحي إليه في باطنه أن لو استطعت أن تملك الدنيا فافعل بما أمكن أن يسعى المرء في نيل ما يحب، ولكنه سيجد المدافع عن أخذ ما بيده فيضطر إلى الفكر في استخراج ما يطلب من غير يد مالكه بأن يسعى إليه من جهة لم يسبق عليها، تلك جهة الإحياء والاختراع التي لا ينطفئ نبراسها من الأمم ولكنه يَنُوسُ بمقدار الحاجة الداعية كما قيل:«الحاجة أم الاختراع» ولن النفوس من قبل أميل إلى الدعة والراحة وأعشق إلى الشيء المشاهد الحاصل؛ فلذلك يكون ميلها إلى استلاب المملوكات أسبق من تفكرها في ابتداع ما تشتهيه.

هكذا كان يجري هذا بين الأفراد في خاصتها والقوم في قراها والأمم في وحدتها والذي يظهره لكم في مظهر واضح اختلاف الملوك والفاتحين في توسيع الممالك وطموح كل أمة إلى تعميرها الأرض وفناء ما سواها بالوجه الذي تراه، فكان التدافع بين أفراد النوع لذلك طبيعيًّا ناشئًا عن تحرك القوتين الشاهية والغاضبة عند التزاحم في مزدحم الحياة، وكذلك تكون المصالح غالبًا غير سالمة من أضرار تعقبها هي منها بمنزلة ما تشتمل عليه الثمرة الطيبة من البذور والحلفايات، فللتشريع في هذا أن ينظر بعد اقتضاء المصلحة العمرانية إلى ما تخلفه فيكفي الناس مضرته بوجه تسلم به تلك المصلحة من الأضرار، هذا الوجه هو حماية الحقوق، أي: رد يد الظالم عن تناول ما للغير بدون رضى، وهو أمر حسن توافق عليه الفطرة ما دامت غير مستهواة لهوى غالب في جزئية خاصة، ولا تستقل أمة عن الحاجة إليه مهما بلغت من الرقي، فإن الأمم المنحطَّة لا يمكنها الوصول إلى إيفاء الحقوق أهلها، فضرورتها إلى القضاء ليست بالأمر الخفي، وأما الراقية فإنها تتألف من جماعات فاضلة ومن أضدادها، فلا غنى بها عن تأسيس قواعد العدل لإصلاح الدهماء، ولإقناع الحكماء والعلماء؛

ص: 63

لأن هؤلاء وإن كانوا يعرفون العدل ويجزمون بحسنه إلا أنهم في الأحوال الخاصة مأسورة للشهوة أو الغضب، فكأنهم يحبون أن يكونوا في تلك الحالة الخاصة استثناء من هاته المصلحة الكلية لما يغلب من الهوى على التعقل، وهكذا يبقى ذو الهوى في كل مسألة يحب الاستثناء، فإذا جاءت النوبة غيره أحب أن يكون مستثنى أيضًا وأغراه الطمع أن يقاس على سالفه؛ فكان العدل إذن أصل العمران وبه قامت الأرض ودامت الدولات، وكان أهم ما ينشأ عنه صفتين إن هما تحققتا سعدت الأمة ودام بقاؤها ألا وهما: الحرية والأخوة.

فإن الحرية إن لم يكن معها عدل ذبلت حتى تسَّاقط إلى الحضيض؛ إذ حقيقتها أن يأخذ المرء بكل حقوقه، وأن يفي بجميع حقوق غيره، وأن يصدع بآرائه، وهذا كله لا يكون بغير العدل، كيف يجد المرء بغير العدل الأخذ بكل حقوقه وهو يرى الكثير منها مستترًا في حصون العظماء، فلا تستطيع يده وصولًا إليه ولا فمه أن يبدي حنينًا إليه؟ أم كيف يمكنه أن يسلم حقوق غيره وهو إن ترك أخذ حقه وزاد، فسلَّم للناس حقوقهم رجعت كفه صفرًا فلم يجد في حياته ما يتخذه ذخرًا؟ وكيف يمكنه التجاهر برأيه وهو يعلم أن كلمة تغضب زيدًا وعملًا يسوء عمرًا فلا يأمن من الأذى بأصنافه؟ وبهذا ينمحي تغيير المنكر والأمر بالمعروف من الناس؛ ذلك الوصف الذي إن فقدوه فسدوا وذلوا، قال عمر بن الخطاب لأبي مريم الحنفي يومًا: إني أبغضك لأن قتلت أخي زيدًا، قال أبو مريم: يا أمير المؤمنين هل يعدمني بغضك إياي حقًّا لي في الإسلام؟ قال عمر: اللَّهم لا، قال أبو مريم: إذن، لا يرغب في الحب إلا النَّساء.

أما التآخي فضروري أنه لا يحصل ما دامت الأمة متنافرة، هذا يسلب حقًّا والآخر يسترجعه، وثالث يرى سلب الأول إياه ملكًا، فيثأر بحب أخذه من يد مسترجعه، وكذلك يكون أمرهم تنازعًا حتى يفشلوا وتذهب ريحهم، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله» فانظر كيف قرن بين الأخوة ونفي الظلم.

لعل في هذا المقدار مقنعًا لكم إن أردتم أن تعرفوا مرتبة القضاء بالحق ومكانه من الفضيلة، قال ابن فرحون: «اعلم أن أكثر المؤلفين من أصحابنا بالغوا في الترهيب من الدخول في ولاية القضاء

ورغبوا في الإعراض عنها حتى تقرر في ذهن كثير من الفقهاء والصلحاء أن من ولي القضاء فقد سهل عليه دينه، وهذا غلط فاحش

ص: 64

يجب الرجوع عنه والتوبة منه.

واعلم أن ما جاء من الآثار التي فيها تخويف ووعيد فإنما هو في حق قضاة الجور العلماء أو الجهال الذين يزجون بأنفسهم في هذا المنصب بغير علم، وأما قولهم:«من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين» ، فهو بمعنى المجاهدة للنفس وهو دليل على فضيلة من قضى بالحق إذ جعله ذبيح الحق»، وقوله: تجب التوبة منه صحيح؛ لأنه يجر إلى تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان القضاء من تصرفاته وتصرفات خلفائه المتأسين به في سنته، وبه يعلم سر ما أخرجه الإمام رحمه الله في هذا الكتاب تحت ترجمة الترغيب في القضاء بالحق حديث:«إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع» لينبه على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاضيًا بين الناس، ثم كان القضاء من شأن الخلفاء الراشدين، فلما آلت الخلافة إلى من لم يكن لهم من العلم بالسنة مكانة تخولهم السلامة من الخطأ غالبًا آل ذلك إلى إسنادهم هذه الولاية إلى أحد العلماء المسَلَّم لهم العلم والعدل ليأمنوا يوم القيامة حمل حسابهم، أما إن بعدت الأقطار فإن من السنة إرسال القضاة تخفيفًا من مشقة المتداعين وسرعة بإنفاذ الحق المبين، استقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا باليمن، وأول من استقضى بالمصر من الخلفاء علي رضي الله عنه استقضى شريحًا بالكوفة أيام شغلته الخوارج بحروبها.

«مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي أَنْ هَلُمَّ إلى الأرض المقدسة» .

أبو الدرداء هو عويمر بن عامر الخزرجي أحد الثلاثة الذين نزلوا دمشق من الصحابة مع بلال ومعاوية، توفي سنة (31 هـ) ولي قضاء القدس في خلافة عثمان وأمير الشام يومئذٍ معاوية، وقيل بل ولاه عمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«حكيم أمتي أبو الدرداء» ، وسلمان هو سلمان الفارسي من رامهرمز.

قال في الاستيعاب: شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحكمة في قوله: «لو كان الدين أو العلم بالثريا لناله سلمان» وفي رواية: «رجل من فارس» والمراد به سلمان، توفي سنة (35 هـ)، شهد وقعة الأحزاب وهو الذي أشار أن تحصن المدينة بخندق يحيط

ص: 65

بها، سلمان وأبو الدرداء آخى بينهما النبي صلى الله عليه وسلم حين آخى بين المهاجرين والأنصار، وقد ورد دخول سلمان بين أبي الدرداء وأنه وجد أم الدرداء متبذلة وأنه لَامَ أبا الدرداء على ذلك، وهما من الأربعة الذين شهد لهم معاذ، إذ قال: اطلبوا العلم عند أربعة رَهْط عند: عويمر أبي الدرداء، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وباعتبار الشهادة النبوية لأبي الدرداء وسلمان يكون الحوار الذي دار بينهما ملحقًا بالحديث النبوي؛ إذ هو دائر بين الحكمة والعلم المشهود بهما لهما.

وهَلُمَّ: اسم فعل بمعنى أقبل إليَّ، يلازم حالة واحدة فلا يتغير باختلاف المخاطب به من تعدد أو تأنيث، استوفد أبو الدرداء سلمان لمساكنته رغبة في جوار أهل الفضل من الأخلاء؛ لأنهم رهط الرجل الذين يعتضد بهم وهم أنفع إليه من أقاربه المنافرين لشربه، فالعاقل في مواصلة أهل رأيه أرغب منه في مجاورة أهل نسبه، وكذلك يكون الجوار خلة متى جلبه الود والاصطحاب، سئل الحكيم: أي الرجلين أحب إليك أخوك أم صديقك؟ فقال: إنما أحب أخي إذا كان صديقي.

قال أبو الوليد الباجي في المنتقى: «قول أبي الدرداء: أن هَلُمَّ إلى الأرض المقدسة يريد المطهرة، والمقدس في كلام العرب المطهر، وإنما أراد موضعًا من الشام يسمى المقدس، ومنه سمي مسجد إيليا: البيت المقدس، ومعناه: أنه مطهر مما كان فيه غيره من الكفر، وكان ذلك في وقت من الأوقات فلزمه الوصف بذلك، ويحتمل أن يكون معنى تقديسها أنها تطهر من الذنوب والخطايا، فيكون المعنى: المقدس أهله، ويدل على هذا قول سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدًا، فيكون إنما وصف أهل بيت المقدس بذلك في زمان عملوا فيه بالطاعة، وكان كثير منهم أنبياء وسائرهم أتباعٌ لهم» ا. هـ.

وأقول: تقديس البقاع مثل تقديس الأوقات هو أمر جعلي من الله تعالى تبعًا لما رسم لها من إيقاع الأعمال الصالحة التي أهمها التوحيد، وقد كان المسجد المقدس ثاني بيت وضع للناس لإعلان توحيد الله وتنزيهه وذلك أساس فضائل الأعمال.

(فكتب إليه سلمان أن الأرض لا تقدس أحدًا) لم يشتمل جواب سلمان على تقرير لما يخالف اعتقاده كالذي تشتمل عليه مخاطبات الناس ورسائلهم من الإطراء لما قد يعتقده المرء فاسدًا بعلة المداهنة التي علق عليها الناس اسم المداراة، فعدموا بذلك فائدة النصيحة والتواصي بالحق؛ ذلك أن سلمان وأمثاله صدقوا ما عاهدوا الله من بذل النصيحة لكل مسلم، وكذلك يكون الأمر بين أقوياء النفوس وراجحي الأحلام

ص: 66

أن لا يكتموا شيئًا يرون منه صلاحًا ونصحًا؛ لأن الكذب هو علة انقلاب الحقائق وموجب ارتفاع الاطمئنان؛ وذلك يسبب التخاذل والتفريق فللا يرجى اتحاد ما دام هذا سائدًا في أمة.

«قوله: إن الأرض لا تقدس أحدًا» هو رد لما تضمنه كلام أبي الدرداء حين دعاه إلى سكني الأرض المقدسة؛ لأن الصفة تؤذن بالتعليل فيتضمن انه يكتسب من السكنى بها تقديسًا في نفسه، وقصد سلمان أن يدفع ما وقر في صدور الناس من الشعور بأن المرء قد تغني عنه ملابساته حتى الأرض التي هو فيها، وأبو الدرداء وإن كان منزهًا في نظر سلمان عن اعتقاد هذا لعلمه وصحبته ولكنه رأى لسانه جرى على ما تجري به ألسنة العموم أو أنه رام ترغيبه في القرب منه بمرغَّب ما، وهو فضل الأرض التي يسكنها استكمالًا للفضيلة.

«وإنما يقدس الإنسان عمله» جاء بقضية كلية بعد أن نفى التقديس في جزئية؛ لأن تلك الجزئية المنفية ليست أولى الجزئيات بثبوت الحكم بحيث إن نُفِيَ عنها اقتنع المتكلم عن نفي ما عداها من الجزئيات، ما الشبهة فيه أشد والخطأ إليه أسرع نحو قرابة من المقدس أو صلة به، فأورد هذا الحصر بإنما تنبيهًا على تعميم القضية، فقصر بذلك صفة تقديس الإنسان على العمل لا تتجاوزه إلى غيره وهو قصر حقيقي، وليس ورود القصر بعد النفي بجاعله إضافيًّا؛ لأن النفي إنما يلمح إلى الاعتقاد المردود الباعث على سلوك طريق القصر، على أن النفي هنا متقدم وهو عند التقديم صريح في أنه الداعي إلى الخطاب بالقصر يفيد ووزانه وزان «إنما الولاء لمن أعتق» بعد كلام أشار إلى أن البائع لا يستحقه؛ ولذا اتفق جمهور الفقهاء على أن لا ولاء إلا لمن أعتق.

«وقد بلغني أنك جعلت طبيبًا تداوي» أشار إلى ولاية أبي الدرداء قضاء بلد القدس، ومراد سلمان ظاهر؛ إذ قد علم أبو الدرداء أنه لم يكن طبيبًا فهو يعلم أن سلمان أراد تمثيل حاله في القضاء بحال الطبيب أو المتطبب، وسمي القاضي طبيبًا على طريقة الاستعارة لمشابهة القاضي الطبيب في إصلاح حال البشر وإزالة أدواء الظلم، فإن كان الطب يصلح مزاج المرضى، فالقضاء بالحق يصلح مزاج العالم أجمع، كما قال الله تعالى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]؛ لأن الناس إن اطرد بينهم القضاء بالحق زالت طماعيتهم في استلاب

ص: 67

حقوق الغير فاستقاموا من تلقاء أنفسهم متى علموا أن لا غاية يجتنبونها من وراء الظلم، فأما متى كان القضاء مختلًّا، فغن للظالم أمنية الانزواء تحت التخفيف، هب أن الجوار كان يقضي أن يشدد على البريّ تارة فغن ذلك لا يرفع المظالم؛ لأن النفوس عند الشهوات تتمسك بالطمع، ولهذا حظرت الشريعة الشفاعة لمن بلغ الإمام في الحدود وغيرها، وجاء بكلمة «تداوي» ترشيحًا للاستعارة وإيماء إلى وجه الشبه؛ إذ كانت الاستعارة من الغرابة بالمكان الذي ربما أبهم أمرهم على السامع.

«فإن كنت تبرئ» طرد الاستعارة، ومن محاسن التشبيه: أن يكون مطردًا في جميع أصوله وفروعه، وأراد بكونه يبرئ المقدرة على إصابة الحق، وحمل الناس عليه بتنفيذه فيهم، وتحمل مصاعب القضاء التي أقل ما فيها أنه يقضي على ذويه وأصحابه وهو كاره وهم كارهون.

قال الباجي: «يريد بالإبراء إصابة الحق ورفع الباطل؛ لأن الباطل هو الداء الذي يسأل عنه المفتي لإزالته» .

«فنعمَّا لك» : نعم: فعل غير متصرف عند محققي النحاة، وتدخل عليها (ما) التي هي في الأصل معرفة غير موصولة هي بمعنى الشيء، فتدغم ميم (نعم) في ميم (ما)، والغالب أن يقع بعدها ضمير مخصوص بالمدح نحو قوله تعالى:{فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271]، فإن وقع فعل بعد (ما) صارت موصولة نحو:{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: 58]، فلا يذكر بعدها مخصوص بالمدح استغناء عنه بما أشعر به من الكلام، وإذا وقع بعد (ما) حرف جر كما هنا صح أن يجعل صلة (ما) أو صفة لها، أي: نعم الشيء لك أو نعم الذي لك، وفي الحديث:«بئس ما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كذا وآية كذا» الخ، والمعنى: فنعم الشيء لك القضاء بين الناس لما فيه من إيصال الحق.

«وإن كنت متطببًا فاحذر أن تقتل إنسانًا» ، أراد بالمتطبب هنا: المتفعل المتكلف من الطب المراد هناك، أي: غير عالم بوجوه القضاء، ورشح هاته الاستعارة بقوله:«أن تقتل إنسانًا» ، وقد شبه بقتل المتطبب مريضه ما يحدثه قضاء القاصر من ضياع الحقوق المفضي إلى الفساد، فيكون الترشيح مستعارًا للازم المشبه من لوازم المشبه به على نحو:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103]، فيفيد الترشيح بلفظه الاستعارة بمعناه وقرينته، وأراد بالمتطبب الذي ليس على بيَّنة من أمره فهو يقصد

ص: 68

الحق فيقع في الباطل كشأن كل من لم يكن متحققًا من شيء، فسلمان لا يخشى على أبي الدرداء الجور، ولا يحذره منه؛ لأنه آمن عليه منه لعدالته؛ إذ هو من أصحاب رسول الله وهم عدول، وإنما خشي عليه أن لا يتأمل جيد التأمل من بعض القضايا مبالغة في النصح له؛ وذلك لأن القضاء بغير الحق جهلًا يساوي قصد الجور في عدم الوصول إلى الحق.

وفي حديث النسائي عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة؛ اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق ولم يقض به وجار فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس فهو في النار» .

وهذا يدل على اشتراط العلم في القاضي، والعلم مهما أطلق في لسان أهل الأصول والمتقدمين فإنما يراد به أصدق معانيه هو الفكر والنظر فلا يصح عند الأئمة ولاية قاض عامي أو مقلد لا يستطيع النظر في مدارك الأحكام أو في مسائل الخلاف، قال عبد الوهاب في التلقين:«ولا يستقضَى إلا فقيه من أهل الاجتهاد لا عامي مقلد» ، وشرحه المازري فقال:«وقد قال مالك في كتاب ابن حبيب، لا أرى خصال القضاء تجتمع اليوم في أحد، ولكن يجب أن يكون عالمًا عدلًا، قال ابن حبيب: فإن لم يكن عالم فعاقل ورع، فإنه بالعقل يقف وبالورع يسأل، فهذا قول ابن حبيب سهل في ولاية القضاء المقلد، ولكنه لم يصرح بجواز هذا مع القدرة على قاض نظار، بل أشار إلى كون الضرورة تدعو إلى ولاية مقلد ولا خلاف أن ولاية النظار أجدر من ولاية المقلد، وإنما الخلاف هل تصح ولاية المقلد وتنفيذ أحكامه أم لا؟ فيمنع من ذلك الشافعي وهو الذي يحكيه أئمة مذهبنا عن المذهب، ويجيز ذلك أبو حنيفة ويأمره بمشاورة النظار، واحتج أصحابنا وأصحاب الشافعي بقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] وبقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، أما عصرنا هذا ففي إقليم المغرب لا يوجد مفتٍ نظار، فالمنع من ولاية المقلد تعطيل للأحكام ولكن تختلف أحوال المقلدين، ثم إذا كان النظر شرطًا فهو يتضمن المنع من اشتراط الإمام على رجل نظار أن لا يحكم إلا بمذهب أحد الأئمة؛ لأن الرجل إذا أداه اجتهاده إلى الصواب وأمر أن يقضي بخلاف ما عنده فقد صار مأمورًا بمخالفة الحق في اعتقاده، فإذا انعقدت الولاية على هذا الوجه فإن هذا عقد لا يجوز وينبغي فسخه ورده، وذهب بعض الناس إلى أن القضاء على هذه الصفة لا يفسخ بل يمضي ويبطل الشرط؛ لأن الفساد في الشرط لا في التولية» ا. هـ.

ص: 69

وقال أبو بكر بن العربي: «الذي يقضي بالحق إن كان عن علم قهو الذي تقدم، وإن كان عن تقليد فلا يجوز أن يتخذ قاضيًا إلا عند الضرورة فيقضي بفتوى عالم رآه ورواه بنص النازلة فإن قاس على قوله أو قال: يخرج من هذا كذا أو نحوه فهو تعدًّ» ا. هـ. وقال خليل: «مجتهد إن أمكن وإن لا فأمثل مقلد» وشذ ابن رشد وابن زرقون فقالا: ذلك مستحب، صرح بذلك في المقدمات وعليه قال ابن عاصم:«ويستحب العلم فيه» فلما اطلع على هذا اللفظ من لا وقوف له على اصطلاح الناس في العلم ظن أن المستحب العلم المقابل للجهل.

هكذا يتم تشبيه سلمان؛ لأن العالم بالحق يقضي وهو عالم أن ذلك هو الصواب فهو كالطبيب المعتمد فيما يشير به على تجربة النفع، أما المقلد فهو كرجل بلغه أن الدواء نافع ولم يجربه أو اقتضب دواء من تلقاء نفسه يريد أن يجربه في ذلك المريض، فهذا إذا ناول المريض شيئًا لم يكن آمنًا من سوء المغبة.

وإذا نظرنا إلى الشروط الواجبة في القاضي نجدها ترجع إلى دفع وصف المتطبب عنه، وهي:

1 -

التكليف؛ لأن غير المكلف قاصر النظر قطعًا.

2 -

والذكورة؛ لضعف المرأة عن الأخذ بالحقوق ونزوعها إلى الرحمة والشفقة.

3 -

والحرية؛ لأن المملوك لا يرجى لإقامة الحق ما دام يخاف غيره، فربما قضى بهوى سيده، هذا هو الذي تشدون عليه من سر اشتراط الحرية في القاضي ولا تصغوا إلى ما يذكرونه من أن الرق أثر الكفر؛ لأنه لو صح لبطل استقصاء المولى.

4 -

والعدالة وأمرها واضح.

5 -

والسلامة من فقد الحس أو المنطق؛ لأنه لا يتوصل إلى الحقيقة إلا بالفهم والاستفهام.

وبقي شرط الاتحاد على خلاف فيه، فدليل مشترطة أنه أعون على اتحاد الأحكام والسلامة من التشويش على الخلق.

«فتدخل النار» لقد أبدع كلام سلمان في التفنن؛ إذ تخلص من المشابهة التمثيلية على طريقة الخطابة البلاغية إلى المشابهة الشرعية المسماة بالقياس، فرتب على تمثيل القضاء بالطب تمثيل القضاء بغير الحق بقتل النفس تحذيرًا من العقاب

ص: 70

المشهور لقاتل النفس وهو دخول النار بجامع إضاعةِ الحق فيهما؛ ولأن القضاء قد يتعلق بالقصاص، فإذا تساهل فيه قتل نفسًا خطأ قريبًا من العمد لأجل التساهل. وقد بلَّغ سلمان النصيحة والتذكير بخوف الله تعالى فاستقاموا وأقاموا العدل وسادوا العالم، فلما انقلبت الحال في عقائد الناس إلى المساهلة في أمر الله، والاستخفاف بالوعيد تحت اسم الرجاء وما هو إلا الإرجاء، واتكل الناس على الطمع في المغفرة آل بهم الأمر إلى الإدبار.

قال حجة الإسلام أبو حامد في كتاب الرجاء من إحياء علوم الدين: «المحبوب المتوقع لا بد أن تكون له أسباب، فإن كان انتظاره لأجل حصول أكثر أسبابه فهو الرجاء حقيقة، وإن كان مع انخرام أسبابه فهو الغرور، وإن لم تكن الأسباب معلومة الوجود ولا العدم فهو التمني» ا. هـ. ومعرفة الأسباب تسهل لم يعرض نفسه على كتاب الله تعالى ولا يصغي إلى ما يغر به الغرور من الاستخفاف وتهوين أمر الله عند عامة عباده.

«فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما، ثم قال: ارجعا إليَّ أعيدا عليَّ قصتكما» هذا أصل عظيم في أن المرء لا يأمن من الخطأ مهما بلغ به العلم وأنه يجب تعقب الأحكام لإزالة الخطأ عنها وإن تقرر الخطأ للقاضي إذا لاح له، فاستنكافه عن نقض حكمه شر الجورين، فإن جعل ذلك إليه بالولاية فظاهر وإن لم يجعل إليه نقض أحكامه وجب عليه رفعها لمن إليه النقض والإبرام.

«متطبب والله» قد يقف النظر هنا ريثما يستبين أمر هاته الكلمة فإنه يرى أبا الدرداء بعد أن نصح له سلمان بأن المتطبب لا يأمن أن يقع فيما يدخله النار وقبل النصيحة منه أخبر عن نفسه بأنه متطبب فيتساءل: لماذا لم يترك هاته الخطة لطبيب فيظن أن هاته كلمة تواضع منه، ولكنه ما يقدم خطوته حتى يرى يمين أبي الدرداء على ذلك الذي يعين كلامه للحقيقة، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتادوا من قدوتهم الأعظم العصمة فصاروا على وجل من اقتحام القضاء بين الناس مع انتفاء العصمة؛ ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه:«أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله شيئًا من رأيي؟ ! » ، فكذلك أبو الدرداء لما اعتبر بكلام سلمان رأى أن التطبب لا يفارق غير المعصوم، فقال: متطبب والله، فينبغي أن يكون مراده تطببًا غير التطبب الذي أراده سلمان، وأحسب أنه أراد به عدم أمن المجتهدين من الخطأ في اجتهادهم، فهم لا يسلم من الوعيد إلا إذا بذل مقدار استطاعته مع

ص: 71

مظنة المقدرة والتأهل من نفسه؛ لأن الخطأ لا ينافي العلم والنظر، ولا يلام في ذلك إلا حيث يكون الخطأ في محل الوضوح والحياد عن الدليل إلى غيره، أو مع التقصير في تقصي النظر ومعرفة الحجج، فهو بإعادة النازلة يستدرك ما عسى أن يلم به من خطأ على غرة، ولو كان أبو الدرداء شاكًّا في كفاءته لمنعته عدالته من أن يلي هذا الأمر، وفي كلام أبي الدرداء ما يصدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه:«إنه حكيم» ، فقد دلَّ على سعة صدره وترحابه بما يسدي إليه من النصائح؛ وذلك آية الكمال ومحبة الحق؛ لأن النفوس الكبيرة لا يهمها إلا المشي على الصواب أبدًا؛ فهي لا تحب أن تخالفه؛ ولذلك تبتهج بكل ما يجنبها الضلال عنه، أما النفوس المستضعفة والعقول السخيفة فإنها تستنكف عن شعور الناس بحالها؛ إذ ليس لها ما تقنع به نفسها إلا المغالطة والتناسي، فهي لا تستطيع كمالًا مع شعورها بالعجز عنه؛ فلذلك يكون ذكره لها تعبًا ونكدًا خلاف الأخرى، فإنها إن لاح لها خطأ في بعض أعمالها تعزت بالصواب في بقيتها، فأنشد حالها قول أبي الطيب:

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها

كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه

قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 142، 125]، وفي ملازمة أبي الدرداء لهاته الكلمة إشعار بتحفظه على النصيحة حتى لقد اتخذ لفظها شعارًا له لا يفارقه ذكره في كل قضية، وكذلك حكماء الناس إذا اهتموا بأمر ربما اتخذوا اسمه شعارًا لهم حتى لقد كانت تعرف أخلاق الرجل منهم في اختيار نفش خاتمه، وهذه سنة كل قول إنما يعتد به إذا تبعه عمل وبمقدار ذلك يكون النفع والتأثير، فأيما قول أو علم لم يتبعه عمل فهو تبعات على صاحبه؛ لهذا تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع، أي: لا ينشأ عنه عمل، قد كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اللهم انفعني بما علَّمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا» ، والله أعلم.

* * *

ص: 72