الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنسب للفظ النبوة، فإن رسول الله أفصح العرب فإضافة الأفصح إليه أنسب من ضده.
الأول: قوله: «فجعل ذلك النور يدور بالقدرة» وهو حشو من الكلام وهل تتحرك الأشياء كلها إلا بالقدرة.
ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا .... ولا
…
إلخ، وهو تطويل ثقيل ننزه عنه البلاغة النبوية ويغني عنه أن يقال: ولم يكن في ذلك الوقت شيء مخلوق. وجابر ابن عبد الله لم يكن من الأغبياء حتى يطول له ما به من خاصة أصحاب رسول الله وأهل العلم منهم وممن روى عن رسول الله علمًا كثيرًا وأخذ عنه خلق كثير.
نقده من جهة المعنى:
الوجه الأول: قال علماء أصول الحديث وأصول الفقه: إن كل خبر أوهم معنى باطلاً ولم يقبل التأويل فهو مكذوب، وتقدم أن ابن الصلاح قال:«وضعت أحاديث طويلة تشهد بوضعها ركاكة ألفاظها ومعانيها» .
وهذا الحديث قد جمع طول اللفظ وطول المعنى مع قلة الجدوى، وعادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث في ذكر أمور الغيب الاختصار على محل العبرة وما يجب الإيمان به فيما يرجع إلى الاعتقاد مع الإجمال والرمز؛ لأن الأشياء التي لا تدرك بالكنه ولا يبلغ إليها فهم العقول لا فائدة في تفصيل الوصف فيها، وإنما ينبه القرآن أو السنة المؤمنين إلى أصل وجودها.
الوجه الثاني: أنه معارض لما ثبت في الصحيح في سنن الترمذي ومسند أحمد وأبي داود- ليس داود الطيالسي- عن عبادة بن الصامت، وعن أُبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أول ما خلق الله القلم» ، فهذا الحديث هو الذي يعول عليه لصحته وهو يعارض حديث عبد الرزاق المتكلم عنه؛ لأن معنى الجمع بين المتعارضين أن يمكن التصديق بمعنى كل منهما؛ فإذا كان التصديق بمعنى أحدهما يلزم منه إبطال معنى الآخر فليس ذلك من الجمع، بل ذلك يعود إلى الترجيح، أي: ترجيح صدق أحدهما وإبطال الآخر.
وهذان الحديثان قد عين كل منهما أول ما خلق الله تعالى من المخلوقات، ولفظ أول لفظ ظاهر الدلالة على معنى السبق الحقيقي، أي: التقدم في الوجود على كل ما سواه، وأحد الحديثين عين لهذا السبق شيئًا غير الذي عينه الحديث الآخر فثبت
التعارض بينهما لا محالة، وذكر صاحب المواهب اللدنية في الجمع بين الحديثين بتأويل أحدهما.
حاصله: أن يكون النور المحمدي هو أول المخلوقات على الحقيقة، ويكون القلم أول المخلوقات بالنسبة لما عدا النور المحمدي وهذا بعيد؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبين للناس أول المخلوقات ما كان يعوزه أن يذكر النور المحمدي، ثم يردفه بالقلم.
التأويل الثاني: حاصله أن المراد بأول المخلوقات في هذين الحديثين، وفي أحاديث أخرى مروية بأسانيد بعضها صحيح وبعضها ضعيف تقتضي أن أول المخلوقات العرش أو الماء هو أولية كل شيء مما ذكر بالنسبة إلى جنسه، وهذا الوجه فاسد لانعدام فائدة التفضيل فيه؛ ولأن من الأشياء التي أثبتت لها الأولية ما ليس له أفراد؛ كالعرش، والقلم، ومن الأشياء ما هو الجنس كله؛ كالماء.
الوجه الثالث: أن حديث جابر جعل نور أبصار المؤمنين مخلوقًا من الجزء الأول من الربع الرابع مع أن أبصار المؤمنين ليست لها خصوصية في الإبصار على أبصار سائر الناس، وإنما تتفاوت الأبصار بالحدة والضعف بالخلقة ولا أثر في ذلك لإيمان ولا كفر؛ ولذلك لجأ شارح المواهب إلى تفسير الأبصار بالبصائر؛ ولكنه صنع اليد لا يساعد عليه لفظ الحديث، على أن قوله في الحديث بمعنى ومن الثاني نور قلوبهم يتأكد ما حمله عليه شارح المواهب.
الوجه الرابع: أن هذا الحديث يفيد معنى فاسدًا؛ وذلك لأن قوله: «أول ما خلق الله نور نبيك» يظهر منه أن الإضافة حقيقية، فالمراد من النور هو الحقيقة المحمدية أعني الذي سيكون فيما بعد روح محمد صلى الله عليه وسلم حين خلق الأرواح والذي سجل في جسده الشريف حين تنفخ فيه الروح في طور تكوينه، وإذا كان كذلك فتقسيمه بعد ذلك أجزاء وخلق مخلوقات في كل جزء من تلك الأجزاء يقتضي إما دخول النقصان على الحقيقة المحمدية بعد خلقها، وإما كون تلك المخلوقات أجزاء لها فتصير الحقيقة المحمدية كلَاّ له أجزاء وهذا معنى مخيف، فإن كانت الإضافة لأدنى ملابسة، أي: النور الذي منه نبيك كان ذلك مقتضيًا أن القلم واللوح والعرش والملائكة والسموات والأرضين معتبرة قبل الحقيقة المحمدية في التجزئة من ذلك النور؛ لأنها كونت من أجزاء قبل تكوين الحقيقة المحمدية من الجزء الأخير الذي وضع في آدم عند خلقه فيكون معنى الحديث على المقصود منه بالإبطال، فإن المقصود منه لقائله التعريف بفضل الحقيقة المحمدية في سبق الخلق.
الوجه الخامس: أن في هذا الحديث تخليطًا في ترتيب الأشياء المخلوقة من هذا النور؛ إذ بعضها من الذوات مثل القلم، وبعضها من الأجناس مثل الملائكة، وبعضها من المعاني مثل المعرفة بالله والتوحيد، وهذه المعاني يتعلق الخلق بها تبعًا لخلق محلها، ومحلها هو العقل وليس في هذا الحديث ذكر خلق العقل، هذا ما لاح لي في بيان حال هذا الحديث.
* * *