المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌شرف الكعْبَة بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ - تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌تمهيد

- ‌تنبيه ونصيحة

- ‌القسم الأولفي القرآن

- ‌{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}

- ‌تَفْسير آيّة التَّغَابن

- ‌مراجعة في تفسير قوله تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [

- ‌شرف الكعْبَة

- ‌تَكليم الله لموسى عليه السلام

- ‌تفسير قوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}

- ‌القسم الثَّانيفي السُّنَّة

- ‌عصمّة الأنبيَاء

- ‌المهدي المنتظر

- ‌تمهيد:

- ‌كيف نشأ القول بالمهدي المنتظر

- ‌الآثار المروية في المهدي:

- ‌الرأي في هذه الآثار من جهة علم الحديث:

- ‌الرأي فيها من جهة النظر:

- ‌دَرس في موطأ الإمَام مالك رضي الله عنه جامع القضاء وكراهيته

- ‌التعريف بكتَاب الموطأ للإمَام بن أّنس رحمه الله

- ‌نشأة علم الحديث:

- ‌الاهتمام بتدوين ما صحَّت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الغرض من تأليف الموطأ:

- ‌ما المراد بالحديث الصحيح

- ‌ما يوجد من نسخ للموطَّأ:

- ‌اسم كتاب الموطأ:

- ‌مُراجعَة فيما تَضَمَّنَه كتاب «فتح الملك العَلي»

- ‌المراجعة الإجمالية:

- ‌المراجعة التفصيلية:

- ‌الأسَانيد المريضَة الرِّوَايَة حَديث طلب العِلم فريضَة

- ‌الرواية الأولى:

- ‌أقوال الحفاظ في رجال سنده:

- ‌آراء الحفاظ في حالته:

- ‌الرواية الثانية:

- ‌الرواية الثالثة:

- ‌الرواية الرابعة:

- ‌الرواية الخامسة:

- ‌الرواية السادسة:

- ‌الرواية السابعة:

- ‌الرواية الثامنة:

- ‌التنبيه على أحَاديث ضعيفَةأَو مَوضُوعة رَائجَة على ألسنة النَّاس

- ‌دفع إشكال في حَديث نبوي

- ‌حديث من سئل عن علم فكتمه

- ‌حديث«من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم»

- ‌سند الحديث واختلاف ألفاظه:

- ‌من يجدد لهذه الأمة أمر دينها

- ‌معنى التجديد:

- ‌مضي مائة سنة مظنة لتطرق الرثاثة، والاحتياج إلى التجديد:

- ‌كيف يكون تعيين مبدأ المائة سنة:

- ‌رأي ابن السبكي في نعت المجدد وزمنه:

- ‌رأي مجد الدين ابن الأثير في تعيين المجددين:

- ‌التحقيق في صفات المجدد وصنفه وعدده:

- ‌ذكر المجددين:

- ‌خلق النور المحمدي

- ‌متن هذا الحديث:

- ‌مرتبة هذا الحديث من الصحة:

- ‌نقده من جهة اللفظ:

- ‌نقده من جهة المعنى:

- ‌تحقيق مسمى الحديث القدسي

- ‌ تعريف الحديث القدسي

- ‌صيغة رواية الحديث القدسي:

- ‌الفرق بين الحديث القدسي والقرآن:

- ‌شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌الشفاعة:

- ‌والشفاعات على ما حققه أئمتنا خمسة أقسام:

- ‌جواب لأحد الفضلاء في تحرير مسألة علم الهيئة

الفصل: ‌ ‌شرف الكعْبَة بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ

‌شرف الكعْبَة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا} [آل عمران: 96، 97].

الغرض من هذه الآية: بيان شرف الكعبة لوقوع هذه الآية عقب قوله تعالى {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 95]، وقبل قوله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، فعلمنا أنها مسوقة مساق الدليل لما قبلها؛ لأن شأن الدليل أن يقع عقب المطلوب ومساق المقدمة لما بعدها، وكلاهما مؤذن بالتعليل، والعلة أوضح دلالة من المعلول، فكان ذلك مؤذنًا بتقرر شرف الكعبة، وكل من الدليل والمقدمة طريق في صناعة الخطابة لإثبات مقصود الخطيب، والاستدلال يكون بطريق التدليل والتعقيب والمقدمة بطريق التصدير والتقديم، فالجمع في موقع هذه الآية بين الطريقتين من بلاغة القرآن وإعجازه الذي لم أر من نبه عليه، وتصدير الآية بحرف التأكيد من دون تقدم إنكار منكر ولا تردد تأكيد مقصود منه الاهتمام بالخبر، ومن شأن {إنَّ} إذا جاءت لمجرد الاهتمام أن تغني غناء فاء العطف وتفيد من التعليل والربط شيئًا عجيبًا، فيكون الكلام بها مستأنفًا غير مستأنف، مقطوعًا موصولًا معًا، كما فصله الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز، ومثله بقول بشار بن برد:

بَكَّرَا صاحِبَيَّ قبل الهجير

إن ذاك النجاح في التبكير

وذكر قصة خلف الأحمر وأبي عمرو بن العلاء مع بشار في شأن هذا البيت، وإيقاع (إنَّ) في أول هذه الآية أدخل في الإعجاز بحيث نجد وقوعها متعينًا في بلوغ الكلام حد الإعجاز؛ لأنها مفيدة لتعليل ما قبلها؛ إذ هي بمنزلة فاء التفريع كما تقدم، وهي أيضًا مفيدة مفاد أداة الاستفتاح لما فيها من معنى الاهتمام الذي يناسب صدر الكلام؛ ولذلك قال الشيخ عبد القاهر:«فترى الكلام معها مستأنفًا غير مستأنف مقطوعًا موصولًا معًا» ولو وقعت الفاء في أول الآية لما صلحت إلا لتكون

ص: 23

تفريغًا عما قبلها فتفيد التعليل ولا تفيد الاهتمام ولا تصلح الجملة حينئذٍ لأن تكون مقدمة لما بعدها، هذا وجه إفادة شرف الكعبة على وجه الإجمال وسنجيئك بتفصيله من بعد بيان معنى الآية.

قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ} الأول اسم يدل على السابق في حال من الأحوال، فإذا أطلق فهو الأول المطلق؛ وذلك كما في اسمه تعالى (الأول) وإذا أضيف إلى اسم جنس ظاهر أو مقدر فهو الأول في ذلك الجنس؛ كقوله تعالى:{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} ، وقول الفرزدق:

ومهلهل الشعراء ذاك الأول

أي: أول الشعراء، وقد يطلق الأول ويراد به السابق في الفضل والكمال في أحوال ما أضيف إليه كقوله صلى الله عليه وسلم:«نحن الأولون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا» ، والأولية عند العرب من شعار التفضيل فيما يتنافس فيه المتنافسون كما قال حسان في رثاء أبي بكر الصديق:

أول الناس حقًّا صدق الرسلا

ومن ذلك إطلاق العتيق عندهم على الشريف؛ إذ العتيق عندهم في الحقيقة هو القديم، والقديم شيء أول، وقد فسر به قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، والبيت محتجر من الأرض بحجارة أو بنسيج من ثياب الشعر يتخذ للإيواء والسكني، فإن كان من أدم فهو القبة، وقد يطلق البيت على المسجد بتقدير: أنه بيت الله أو بيت الصلاة، قال تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، وقال حكاية عن إبراهيم عليه السلام:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37]، وسموا المسجد الأقصى بيت المقدس.

ومعنى {وُضِعَ لِلنَّاسِ} : أقيم واتخذ، وأصل الوضع في كلام العرب ضد الرفع، يقولون: وضعت لك الشيء في محل كذا، أي: قربته لك وهيأته، ثم استعمل بمعنى مطلق الجهل والإقامة، والناس: اسم جمع لطائفة من البشر لا واحد له من لفظه في كلام العرب، فإذا دخل عليه حرف التعريف دل غالبًا على الاستغراق الحقيقي نحو:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]، ويكون التعريف فيه للعهد أيضًا نحو قول الخطيب: أيها الناس، يعني: سامعيه، وقوله تعالى:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]، يعني: قريشًا.

ص: 24

وقوله تعالى: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران: 96]، جاء بالموصولية دون أن يقول الكعبة الذي هو علم البيت الحرام لزيادة الإيضاح؛ إذ قد اتخذت الحبشة الكعبة اليمانية في صنعاء فحجت إليها خثعم وبعض قبائل العرب.

«وبكة» اسم البلد الذي به الكعبة وهو مكة، فهو بالباء وبالميم في أوله، وقد ورد الاستعمالان معًا في القرآن، قال تعالى:{بَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24]، والعرب يبدلون الباء ميمًا وعكسه إبدالًا غير قياسي ولا سيما مازن يقولون: با اسمك، أي ما اسمك، وقد نبه على هذا الإبدال أبو علي القالي في أماليه كقولهم: لازب ولازم، وقولهم: أربد وأرمد، وفي سماع ابن القاسم من العتبية أم مالكًا رحمه الله تعالى قال: بكة بالباء اسم موضع الكعبة، وبالميم اسم بقية البلاد، وقد اقتضت الآية أن الكعبة أول بيت وضع للناس، وظاهر هذا التركيب أنها أول بيت بني للبشر، وقد تناولت أفهام المفسرين هذه الآية بتفاسير مختلفة ونحن نشير إلى مجمل أقوالهم، ثم نتبعها بما نختاره في تفسيرها.

حمل قتادة ومجاهد والسدي وقليل من المفسرين الآية على ظاهرها بجعل الأولية حقيقية والناس على عمومه، فأما مجاهد وغيره فقد أحسوا بأن في بني آدم مباني سابقة الكعبة، فقالوا: إن أول من بنى الكعبة آدم، وكانت تسمى الضُّراح -بضم الضاد المعجمة- وأنه رفع إلى السماء في وقت الطوفان، فصارت الملائكة تطوف به وتسكنه في السماء، ثم بنى إبراهيم الكعبة في موضعه، ولهم في ذلك أحاديث وقصص، قال الشيخ ابن عطية في تفسيره: وقد رويت في ذلك أقاصيص ضعيفة الإسناد تركت ذكرها، وقال الفخر: أنكر ذلك الباقلاني وعلى هذه القصة بنى المعري قوله:

وقد بلغ الضراح وساكنيه

ثناك وزار من سكن الضريحا

وأما السدي فقال: كانت الكعبة أول بناء في الأرض ولم يلتفت إلى ما كان قبل ذلك من البنيان، وهذا القول غير مستقيم، فقد كانت قبل إبراهيم مبانٍ كثيرة منها صرح بابل بُني بعد الطوفان، ومنها بيت الأصنام في بلد الكلدان، وهو البيت الذي دخله إبراهيم وكسر الأصنام التي فيه كما أشار إليه القرآن وورد بيانه في الحديث الصحيح، وروي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية: أكانت الكعبة أول بيت؟

ص: 25

قال: لا، قد كان قبله بيوت ولكنه كان {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا} [آل عمران: 96، 97]، فجعل الأولية المقصودة هي المقيدة بالحالين {مُبَارَكًا وَهُدًى} وأنا أستبعد صحة هذه الرواية عنه؛ إذ هو عربي بليغ، وهذه الأحوال غير صالحة لتقييد الأولية؛ إذ ليست هي أحوالًا من المضاف إليه، بل هي أحوال من خبر إن، ولا يجوز جعلها أحوالًا من المضاف إليه؛ لأنه يقتضي الفصل بين الحال وصاحبه؛ وذلك يوجب اللبس بجعل {مُبَارَكًا} حالًا من {بَيْتٍ} تقييدًا للعامل وهو:{أَوَّلَ} ، وفي رواية عنه: أنه أول بيت وضع لعبادة الله، وهذا أحسن، ومن المفسرين من يجعل {أَوَّلَ} هنا بمعنى الشرف، أي كقوله:{الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ومنهم من حمل {النَّاسَ} على خصوص العرب، وعن مجاهد ما يقتضي جعله أول بالنسبة إلى خصوص بيت المقدس.

وهذه الأقوال راجعة إلى التأويل إما بتأويل لفظ {أَوَّلَ} أو بتأويل معنى البيت، أو بتأويل معنى الوضع، أو بتأويل المراد بالناس، أو بتأويل نظم الآية ولا حاجة بنا إلى استيعابها استدلالًا وردًّا؛ إذ ليس ذلك من غرضنا.

والذي أراه وأجزم به في معنى الآية: أن القرآن كتاب شريعة وهدى، وليس من أغراضه تاريخ المباني ولا تاريخ أطوار مساكن البشر فلا يعبأ بذكر المباني غير الدينية ولا بذكر الهياكل الدينية الضالة، وأن الآية مسوقة كما بيناه آنفًا للاستدلال على وجوب اتباع ملة إبراهيم معنيَّا بها الإسلام ووجوب الحج؛ فتعين أن يكون المراد من الأول: الأول في نوع، وبالبيوت: بيوت العبادة الحقة والهدى إلى الحق؛ وذلك أن الله تعالى بعث الرسل قبل إبراهيم فدعوا إلى عبادة الله وتوحيده، وكانت الأمم في ضلالتهم إذا أشركوا بالله أقاموا لمعبوداتهم ولشُرَكَائِهم تماثيل وهياكل كما فعل قوم نوح وقوم إبراهيم الكلدانيون، وقامت الرسل تدعو إلى التوحيد بالقول؛ ولكن لم يؤمر أحد منهم بأن يقيم هيكلًا ينادي فيه لعبادة الله ولتوحيده، ويناغي بذلك تماثيل المشركين، ويردد ذلك على مسامع الناس، فلما بعث الله إبراهيم أمره بإقامة هيكل لعبادة الرب الحق الواحد ليدافع بذلك تظاهر المشركين، قال تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 26، 27]؛ فكان بناء الكعبة رمزًا

ص: 26

للتوحيد؛ ولذلك قال: {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} ، ثم قال:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} ، أي: بالحج لله فاتخذ إبراهيم الكعبة ودعا الناس إلى الحج لعبادة الله الصادقة، فكان الحج مجمعًا لأهل التوحيد يجددون ذكراهم ويدعون إليه من عداهم، وإقام ولده فيها داعيًا بعده وجعل من ذريته سدنة لذلك، وأوصاهم بكلمة التوحيد وبثها، قال تعالى:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، وقال:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28]، وبهذا المعنى يظهر وجه وصف البيت بأنه {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} كما سيأتي، فالكعبة أول بيت توحيد وضع للناس، أي: البشر؛ لأن واضع معابد الوحدانية هو إبراهيم عليه السلام والكعبة أول مسجد وضعه إبراهيم.

ففي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي مسجد وضع أول؟ قال: «المسجد الحرام» ، قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى» ، قلت: كم كان بينهما؟ قال «أربعون سنة» ، ولا شك أن مراد رسول الله بالمسجد الأقصى المسجد الذي بناه إبراهيم هنالك لا المسجد المعروف الذي بناه سليمان ابن داود، ويكون مسجد سليمان مبنيًّا على موضع مسجد إبراهيم، وهذا ما تقتضيه الفقرة السادسة من الإصحاح (12) من سفر التكوين: إن إبراهيم لما مرَّ بأرض كنعان بنى مذبحًا لله في بلوطة مورة في مكان شكيم ومذبحًا غربي بيت إيل، ويؤخذ من تاريخ ابن العربي والقديس أبروسيمرس: أن ذلك في الجبل الذي بنى عليه داود خيمته، وبنى عليه سليمان هيكله فيندفع الإشكال عن الحديث؛ إذ قد ثبت في التوراة أن إبراهيم بنى مذابح، أي مساجد في كثير من البلاد التي مرَّ عليها وحقيق من بينها بذلك البلد الذي أراه الله ووعده أن يعطيه ذريته بلاد العرب سابقًا على الوعد بإعطاء بني إسرائيل بلاد الشام فظهر معنى الحديث أتم الظهور.

وهذا الوجه فيه بقاء الأولية على ظاهرها وبقاء لفظ (الناس) على ظاهر عمومه، وإبقاء نظم القرآن على ظاهره دون صرف الأولية إلى أولية مقيدة بالحال أو بالنسبة إلى بيت المقدس، وليس فيه إلا تأويل البيت بأنه بيت العبادة الحق؛ وذلك تأويل قريب لشيوع إطلاق البيت على بيت العبادة؛ ولأن قرينة السياق تقرب هذا التأويل ويكون مناط التشريف والثناء هو الخبر بأن الكعبة أول بيت؛ إذ الخبر هو محط الفائدة ويكون

ص: 27

الحالان في قوله: {مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} زيادة في تمجيده وتشريفه وليس هما غرض المخبر، إذ ليست الحال عمدة الكلام وكذلك ما بعدها من الصفات.

فكانت الكعبة بهذا أفضل المساجد، وإنما كانت أولية السبق مقتضية التفضيل؛ لأن هذا المسجد كان أصلًا للبقية، فكل فضل لغيره بعده يكون له منه حظ فلا يزال فضله يتزايد؛ ولأن مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة وقوع العبادة فيها؛ إذ هي في ذلك سواء، وإنما تتفاضل بما يحف بها من طول الزمان في عمرانها بالأنوار الملكية وبإخلاص مؤسسيها في تأسيسها، وأي إخلاص أعظم من إخلاص تأسيس أصل معابد التوحيد التي كانت المعابد بعده تقليدًا له محاكاةً لغرضه؛ وإذ قد تبينت أن مساق الآية مساق الاستدلال على علة الأمر باتباع ملة إبراهيم، فكأنك قد استشرفت إلى بيان وجه هذا الدليل، وكيف تمام التقريب فيه؟ .

ووجهه أن الكعبة لما كانت أول هيكل أقيم لإعلان توحيد الله وهو مبدأ الحنيفية فقد ثبتت لهذا البيت أفضلية على كل مسجد تقام فيه دلائل التوحيد، وهذا الأثر أقامه إبراهيم عليه السلام كما دل عليه آخر الآية، وإبراهيم هو رسول الحنيفية الأول، فإذا استقرت فضيلة هذا الأثر على بقية الآثار الدينية الحقة ثبتت الفضيلة لا محالة للملة التي أقيم هذا الأثر دليلًا عليها ومناديًا بها على ممر الأحقاب لكونه دليلها وفيه ظهرت، فتكون أشرف الملل، وهذا الاستدلال جارٍ على طريق دلالة الالتزام فهو استدلال بطريقة الكفاية بشرف المحل على شرف الحال فيه؛ كقول زياد الأعجم (شاعر أموي):

إن السماحة والمروءة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج

وهذه الطريقة في صناعة البلاغة كإثبات الشيء بحجة ولها تأثير على المخاطبين فكانت الحنيفية بذلك أفضل الملل؛ لأنها أقامت للتوحيد أول معبد ومسجد، ولأنها جمعت للدعوة الحق بالقول الدعوة له بالمشاهدة؛ ولأن الملل التي تقدمتها كانت تنسى بوفاة رسلها وانقطاع أقوالهم، والحنفية بقي أثرها ناطقًا، فإذا كان أول مسجد بناه إبراهيم للتوحيد هو الكعبة تكون الملة التي نبعت منه وظهرت فيه أفضل الملل بحكم إعطاء شرف القرين لقرينه.

وقوله تعالى: {مُبَارَكًا} حال من اسم الموصول الصادق على البيت، أي:

ص: 28

مجعولًا ذا بركة، والبركة كثرة الخير ونماؤه من جانب الله تعالى دون سبب عادي، ووصف البيت بذلك باعتبار ذاته؛ إذ كان قد باشر بناءه رسول الله إبراهيم وابنه إسماعيل رسول الله، فلامست أيديهما حجارته وطينه، ثم أعان فيه محمد صلى الله عليه وسلم حين بنتْه قريش، ثم ان هو الواضع للحجر الأسود منه بيده لما اختلف بطون قريش في الذي يتولى وضعه في موضعه، فقد توالى على بنائه ثلاثة رسل وذلك لم يكن لبناء غيره، وذلك الحجر الأسود الذي وضعته أيدي ثلاثة رسل هو لم يزل قائمًا ماثلًا للناس.

وقوله: {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} حال ثانية من الموصول، ويجيّ الحال مصدرًا كالوصف بالمصدر، وكالإخبار بالمصدر لقصد المبالغة، أي: هاديًا للعالمين فجعل كأنه نفس الهدى، ووصف البيت بذلك؛ لأن وضعه كان للدلالة على توحيد الله كما علمت، فكل من يراه يسأل عنه وعن سبب وضعه وعن واضعه فيخبر بذلك فينظر فيهتدي إلى التوحيد؛ ولأن سدنته وحفظته وهم ذرية واضعه قد وكلن إليهم الدعوة إلى ذلك الهدى الذي أراده جدهم، وفي هذا تعريض بالمشركين؛ إذ جعلوا مصدر الهدى إشراكًا، ولذلك لما أزال النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام من الكعبة يوم الفتح قرأ:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} ولم يأمر بذلك في إزالة الأصنام الأخرى؛ لأن وضع الأصنام في هيكل التوحيد من أعظم الباطل والاعتداء زيادة على كون مجرد اتخاذ الأصنام هو من الباطل.

وقوله تعالى: {فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} يجوز أن يكون استئناف كلام، ويجوز أن يكون حالًا ثالثة، وكيفما كان فهو من تفصيل التفضيل، والآيات: جمع آية وهي العلامة المصدقة للدعوى، فالمراد هنا آيات على كونه مباركًا وهدى سواء اشترك في الاهتداء بها سائر الناس أم اختص بها البعض على تفاوتهم في الاختصاص بها بحسب ما يفتح الله لهم من أبواب الإرشاد الإلهي والفتح النوراني.

وقد اقتضى الكلام أن الآيات كائنة في البيت، فإن كانت الظرفية المستفادة من (في) ظرفية حقيقة، فالمراد من الآيات آيات ظاهرة كائنة في المسجد الحرام، وهل عدة، منها: الحجر الأسود، فالمتواتر أنه نزل من السماء رآه إبراهيم حين نزل على جبل أبي قبيس فأخذه وجعله في ركن الكعبة زيادة في تشريفها؛ إذ كان من حجارة جدرانها حجارة نزلت من السماء، ومعنى ذلك: أن يكون الحجر الأسود من الحجارة التي ترمي بها النجوم فتصادف ظهر الأرض تارات، وتكون هذه خصوصية

ص: 29

له لثبوت نزوله برؤية الرسول إبراهيم إياه حين نزوله ولتواتر ذلك عن خبره في العرب، والآية الثانية أثر أقدام إبراهيم في الحجر الذي كان يقف عليه وذلك متواتر عند الناس إلى اليوم، ومن المأثور عند العرب قول أبي طالب من قصيدته:

وموطئ إبراهيم في الصخر قائمًا

على قدميه حافيًا غير ناعل

ومنها: بئر زمزم الذي تواتر عند العرب أن الله فجره لهاجر لما ظمئت وظمئ ولدها إسماعيل، ومنها: أن البيت هو الأثر الوحيد المقطوع بأن إبراهيم أقامه هنالك؛ لأنه لما أقامه أقام له أهله شهداء عليه وتناقلته الأجيال بالتواتر، وهذا لا يوجد في أثر آخر من آثار إبراهيم عليه السلام بل كلها قد اندثرت وما تعين موضع بيت المقدس إلا بوحي وخبر.

وإن كانت الظرفية مجازية، فالمعنى أنه يشتمل على دلائل الوحدانية والرسالة بالدلائل المحسوسة التي ذكرناها وبما علمناه مما حدث فيه من المعجزات لإبراهيم وإسماعيل عليه السلام، ومعجزات محمد صلى الله عليه وسلم مثل: شق صدره، والإسراء به، ونزول الوحي عليه، وعصمة الله تعالى إياه من أعدائه، كل ذلك كائن فيه وحواليه، وبما لم نعلمه من المعجزات والأسرار الواقعة فيه بين الله ورسله مما لا يعلمه إلا الله؛ ومن أطلعه من خاصة عباده.

ومن آياته ما جعل له من الحرمة في نفوس الخلق من العرب وغيرهم من سائر الملل فقد حجته الجبابرة من الملوك والأكاسرة وكسته التبابعة وقدسته سائر العرب واحترموا قريشًا؛ لأنهم سدنته وذرية مؤسسه، وقد قال أبو طالب في خطبته:«وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه، وجعلنا الحكام على الناس» ، ومنها ما يسر الله لسكانه من الأرزاق بسببه وذلك بمجيء الناس للحج من كل فج عميق، قال الله تعالى:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]، وإن من أكبر الآيات فيه للمتهدي أنه مصدر التوحيد والحنيفية، ثم انشقت منه جداول الشرائع. والهدي اشتقاق الجداول من النهر، ثم اجتمعت وأوت إليه في شريعة الإسلام، فعاد النهر إلى مجراه وفي ذلك رمز إلهي إلى أن الدين عند الله هو الإسلام وأنه ابتدأ على يد إبراهيم في مكة كالحبة المزروعة إلى أن آن أوان جناه، فظهر من حيث بدئ ليدل على أن الزرع قد نضج وأن الغرس قد أثمر.

ص: 30

وقوله تعالى: {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} المقام اسم على وزن المفعل مشتق من القيام مراد به مكان القيام، والقيام يطلق أيضًا على الوقوف للدعاء والعبادة كالصلاة، فمقام إبراهيم يصح أن يكون المراد منه مسجد إبراهيم مصلى ومحل وقوفه بين يدي ربه، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل:

عذت بما عاذ به إبراهيم

مستقبل الكعبة وهو قائم

وعليه فمقام إبراهيم هو البيت فيكون قوله: {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} مرفوعًا على الاستئناف كالنعت المقطوع، أي: هو مسجد إبراهيم، والغرض من الإضافة لهذا الاسم التنويه بالمضاف لزيادة تشريف المضاف، ويصح أن يكون المقام مشتقَّا من مطلق القيام، أي: محل قيام إبراهيم لبناء الكعبة، كقول أبي طالب المتقدم.

وموطئ إبراهيم في الصخر قائمًا

... (البيت).

فيكون المراد بالمقام الحجر الذي فيه أثر قدمي إبراهيم عليه السلام وهو مما أطلق عليه المقام من عهد الجاهلية وفي الإسلام، وقد قيل إنه المراد في قوله تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، وقال الفرزدق:

ألم ترني عاهدت ربي وإنني

لبين رتاج قائمًا ومقام

فيكون رفعه على أنه بدل من «آيات» بدل مفصل من مجمل غير أن المبدل منه جمع والبدل مفرد فلم يذكر بقية المفصل اكتفاء بالمهم من الآيات، وعلى هذا المعنى فسر الزجاج وتبعه الزمخشري، وزاد فجعل مقام إبراهيم بمنزلة آيات كثيرة لقوة دلالته أو لأنه يشتمل على آيات؛ لأن بقاء أثر القدم في الصخرة الصمَّاء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، ولأنه بعض الصخرة دون بعض آية ا. هـ.

وقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا} [آل عمران: 97]، لفظه لفظ الخبر، والظاهر أن معناه كذلك فيكون من جملة صفات البيت، ويكون هذا من دلائل عناية الله بما سخر الأمم وألهمهم لاحترامه وتأمين داخله؛ فقد كان العرب مع شدة حقهم على أعدائهم يلقى الرجل في المسجد الحرام قاتل ابنه أو أبيه فلا يتعرض له، ويكون هذا المعنى آية ثانية؛ فيكون البدل من الجمع قد وقع باثنين وسكت عن الثالث، ونظيره في الكشاف بقول جرير:

كانت حنيفة أثلاثًا فثلثهم

من العبيد وثلثٌ من مواليها

ص: 31

ولم يذكر الثلث الثالث، ثم يبقى على هذا الوجه أن بقية الآيات ترك ذكرها اكتفاءً بهاتين الآيتين العظيمتين أو بما يتضمنه قوله:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا} [آل عمران: 97]، من آيات كثيرة منها تيسير الأرزاق ولذلك جمع إبراهيم في دعوته للبلد الحرام ملاك الخيرات؛ إذ قال فيما حكى الله عنه:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126]، ويجوز أن تكون الآية الثالثة هي مضمون قوله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، الخ، لما يقتضيه الحج من الخيرات لأهل مكة.

وقيل: إن معنى هذا الخبر الأمر أي أمَّنُوا من دخله؛ كقوله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن» ، أي فأمَّنوه وهو لا يفيد المقصود من التشريف؛ ولكنه يدل على تشريف مقرر قديم والحمل على الأول أولى، ولا يرد عليه أنه قد انتهكت حرمة أمنه في بعض الأزمنة مثل ما فعله القرامطة؛ لأن الآية هي أمنة فيما مضى، يسَّره الله لهم ليكون ملجأ قائمًا مقام العدل، ثم أتى الله بعد ذلك بالإسلام، ولأن القضايا النادرة لا تقدح في الشرف الأثيل، على أن أمن من دخل البيت لا يقتضي أمن كل من كان بالمسجد الحرام أو ببلد مكة.

واعلم أن مغزى هذه الآية مع سابقتها هو التنويه بملة الإسلام وبيان أنها هي الحنيفية التي فضلها الله تعالى والتي بعث إبراهيم بأصولها، أو أنها دعوة إبراهيم فيما حكى الله عنه من قوله:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129]، فكانت ملة الإسلام هي كمال الحنيفية وتفصيلها، وقد نصب الله على ذلك آية خفية تظهر للمهتدي وهي أن إبراهيم أظهر الحنيفية في مكة وأقام لذلك علمًا وهو المسجد الحرام، وأقام ابنه إسماعيل داعيًا لها هنالك، ثم لم يبعث الله رسولًا بعد إبراهيم وابنه في ذلك البلد فتطوحت الشرائع في بلاد الله حتى جاء الدين الذي أراده الله لإظهار الشريعة الجامعة، وفي بقاء هذا الأثر المبارك من آثار إبراهيم واندثار غيره معجزة خفية وإشارة إلهية إلى أن جميع الشرائع التي تفرعت عن ملة إبراهيم من شريعة موسى وغيره شرائع زائلة، وأن الشريعة الخالدة هي الشريعة التي تظهر مرة أخرى من جانب هذا الأثر، فبعث الله من مكة رسولًا يلم بدعوته أشتات الأمم، ويزجي بهم إلى الانضواء تحت ذلك العلم، وبذلك حق مراد الله تعالى وتم.

ص: 32