الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى التساهل في الرواية لتكميل ما به المفاخرة؛ لأن الولع بذلك يصير هوَّى ومحبةً.
فكان مالك رحمه الله شديد النقد في هذه الأنواع كلها ونافذ البصر بسد مواقع الخلل والتهمة فيها.
فأما نحو السبب الأول وهو الكذب فقد بالغ في نقد الرجال من ثلاث جهات: جهة العدالة، وجهة أصالة الرأي وتمييز المرويات، وجهة اتباع السنة، قال سفيان ابن عيينة: رحم الله مالكًا ما كان أشد انتقاده للرجال والعلماء، وقال ابن المديني: لا أعلم أحدًا يقوم مقام مالك في ذلك، وقال أحمد بن صالح: ما أعلم مالكًا روى عن أحد فيه شيء، والمحدثون وغن قبلوا رواية أهل البدع في الاعتقادات؛ إذ كانوا يحرَّمون الكذب إلا أن مالكًا اشترط في ذلك أن لا يكون ذلك الراوي داعية لمذهبه؛ لأن ذلك يوجب له تهمة.
وأما نحو السببين الثاني والثالث وهما النسيان والغلط فقد اشترط مالك رحمه الله في الرواية أن يكون الراوي من أهل العلم والمعرفة، ابن وهب قال: ما كنا نأخذ الحديث إلا من الفقهاء.
وشدد في نقل الحديث بالمعنى، فقال: لا ينبغي للمرء أن ينقل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم إلا كما جاء، وأما لفظ غيره فلا بأس بنقله بالمعنى، نعم رخص في زيادة مثل الواو والألف في الحديث والمعنى واحد.
وأما نحو السببين الرابع والخامس وهما الترويج والتفاخر فإن مالكًا رحمه الله أخذ الحيطة لذلك بأمرين: بتزييف ما كانوا يصنعون، والحذر مما يودعون، ففي المقام الأول لم يهتم بشيء من التصنع والتحسين في طرق الرواية، فكان يكرر ما يقوله لهم أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر:«إذا أخذتم في الساذج تكلمنا معكم، وإذا أخذتم في المنقوش قمنا عنكم» ، وقيل له: إن فلانًا يحدثنا بالغريب، فقال: مالك من الغريب نفر، وقال له بعضهم: ليس في كتابك غريب، فقال: سررتني.
الغرض من تأليف الموطأ:
عمد مالك إلى تأليف كتابه «الموطأ» ليجمع فيه ما صح عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين وما عليه عمل أهل المدينة، ويودع فيه ما أخذه من مروياته من أحكام شرعية، وقد اشتهر بين أكثر العلماء أنه ألفه بطلب من
الخليفة أبي جعفر المنصور، روى أبو مصعب أن أبا جعفر المنصور الخليفة قال لمالك:«ضُمَّ هذا العلم يا أبا عبد الله ودوَّنه كتبًا وتجنب فيها شدائد عبد الله ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ بن مسعود، واقصد أوسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة» ، وقال الكيا الهراسي: كان الموطأ سبعة آلاف حديث فلم يزل مالك ينتقيها حتى بقي فيه سبعمائة حديث، وفي المدارك لعياض قال سليمان بن بلال:«لقد وضع مالك الموطأ وفيه أربعة آلاف حديث فمات وهي ألف حديث ونيَّف يخلصها عامًا عامًا بقدر ما يرى أنه أصلح للمسلمين وأمثل في الدين» ، وبوَّبه وصنَّفه على أبواب الفقه، وجعل فيه كتاب الجامع وهو أول من ترجم بهذه الترجمة، وفسر ما وقع فيه من غريب الألفاظ العربية، وروى فيه من الآثار ما سلم في معيار النقد وجرب من جهات الصحة؛ فلذلك كانت أحاديث الموطأ أصح الأحاديث، وقد اتفقوا على أن أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
من أجل ذلك كله اتفق أئمة الدين والحديث على أن الموطأ ما جمع إلا الحديث الصحيح، وأنه أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وفي هذا المعنى عبارات مأثورة، قال ابن مهدي: ما كتاب بعد كتاب الله أنفع للناس من الموطأ، وقال: لا أعلم من علم الإسلام بعد القرآن أصح من موطأ مالك، وقال الشافعي: ما في الأرض كتاب في العلم أكثر صوابًا من كتاب مالك، وقال أيضًا: ما على الأرض كتاب أصح من كتاب مالك، وقال أيضًا: ما كتب الناس بعد القرآن شيئًا هو أنفع من موطأ مالك، فالموطأ أول كتاب دُوَّن في الصحيح عند المحققين من الأئمة، قال القاضي أبو بكر ابن العربي في مقدمة كتابه عارضة الأحوذي على كتاب الترمذي: اعلموا -أنار الله أفئدتكم- أن الموطأ هو الأول واللباب، وكتاب الجعفي هو الثاني في هذا الباب وعليهما بناء الجميع كالقشيري أي:(مسلم) والترمذي.
وقال السيوطي: قال بعض العلماء: إن البخاري إذا وجد حديثًا يؤثر عن مالك لا يكاد يعدل به إلى غيره حتى إنه روى في صحيحه عن عبد الله بن محمد ابن أسماء عن عمه جُويرية بن أسماء عن مالك (يعني: بواسطتين بينه وبين مالك