الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باختلاف الاجتهاد في وسائل المقصد، وربما اقتضى حال الزمان أن يكون المجدد متعددًا في الأقطار بأن يقوم في أقطار الإسلام مجددون دعوتهم واحدة، أو يكون رجلان فأكثر متظاهرين على عمل التجديد في موضع واحد، ولقد جوز ابن السبكي أن يكون ابن سريج وأبو الحسن الأشعري مجددين في نهاية المائة الثالثة أولهما في الفروع، وثانيهما في الأصول، ولا مانع من قيام رجلين بمهم واحد، فقد ظهر ذلك في أعظم مهم وهو الرسالة؛ إذ أرسل الله موسى وأخاه هارون إلى بني إسرائيل وفرعون وملئه، وأرسل رسولين لأهل القرية، ثم عززهما بثالث كما جاء في سورة يس.
ويشترط أن يكون المجدد قد سعى لعمل في التجديد من تعليم شائع، أو تأليف مثبوت بين الأمة، أو حمل الناس على سيرة، بحيث يكون سعيه قد أفاد المسلمين يقظة في أمر دينهم، فسار سعيه بين المسلمين، وتلقوه، وانتفعوا به من حين ظهوره إلى وقت إثماره، سواء كان حصول ذلك دفعة واحدة أم تدريجًا.
ويشترط أن يظهر المجدد في جهة تتجه إليها أنظار المسلمين، وتكون سمعتها بموضع القدوة للمسلمين، مثل أن يكون من أهل الحرمين، أو من مقر الخلافة، أو من البلاد التي تعنو إليها وجوه المسلمين، مثل مصر في بعض عصور التاريخ؛ ولذلك نجزم بأن مظهر المجددين الذين ظهروا في عصور الإسلام كان هو الشرق؛ إذ يلزم أن يكون عمله نافعًا لجميع الأمة لا لصقع خاص.
وليس يكفي للوصف بالمجدد أن يكون رجلاً بالغًا حدًا قاصيًا في الزهد أو في الصلاح أو في التقوى، ولا بالغًا الغاية في الفقه، ولا كائنًا من أهل القضاء بالعدل؛ لأن تلك صفات قاصرة عليه؛ لذلك نرى عد عمر بن عبد العزيز مجدد القرن الثاني غير متجه؛ إذ هو وإن كان بحق خليفة عدل إلا أن الإسلام قبل زمانه لم ترهقه رثاثة، وليت الذين عدوا عمر بن عبد العزيز في المجددين عللوا ذلك بأنه الذي أمر بتدوين السنة.
ذكر المجددين:
التوسم في تعيين المجددين، بحسب أدلة الحق المبين:
لقد قضيت حق البيان في توفيت الزمن الذي نطق فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها» ، وأوضحت
أنه مما قال رسول الله في آخر سني حياته المباركة، فقضى ذلك أن يكون ابتداء الحاجة إلى التجديد من وقت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مدة حياة الرسول هي مدة أكمل أحوال نماء الدين.
إن وفاة رسول الله أكبر نائبة أصابت المسلمين، فإن رسول الله هو مظهر الإسلام وكانت جميع أحواله نفعًا للإسلام، فوفاته بمنزلة رفع الإسلام من جذوره، وكأن الله أراد أن يظهر بركة رسوله لمحة، فيرى الناس كيف اضطرب أمرهم بموته، حتى لا يكون انتقاله هينًا عليهم؛ لأن عواقب المصيبة تزيدها قوة، فكأن الإسلام قد ذهب مشيعًا روح الرسول، ثم عاد بعد التشييع.
فما شاع نبأ وفاته صلى الله عليه وسلم حتى ارتجت المدينة واضطرب أمر الأمة، وهجست خواطر الشيطان في نفوس الأعراب وحديثي الإسلام، وكاد الخلاف أن يدب بين المسلمين في أمر الخلافة، وأخطر ما فيه توقع دبيب الخلاف بين فريقين لم يختلفا ألبتة، وهما المهاجرون والأنصار، فكان موقف أبي بكر أول يوم عقب وفاة رسول الله موقف من رتق الفتق، ورأب الثأي، وبه استقر أمر الجماعة في وطن الإسلام، ومدينة أهل الحل والعقد من قادة الأمة، فبايعوا أبا بكر خليفة لرسول الله في تدبير شؤون المسلمين، فكان ذلك مبدأ تجديد أمر الدين بعد انفتاق نسيجه، ومبدأ إشادة صرحه بعد أن أشرف على الانهيار.
وما أن استقر الأمر بضعة أيام حتى ارتدت العرب، وتسرب الانحلال إلى الجامعة الإسلامية، وبقيت سلطة الخليفة قاصرة على المدينة وقليل من القبائل، فوجم أبو بكر وتحير المسلمون، فاستشارهم أبو بكر في ذلك، فما أقدموا على ارتياء مقاتلة معظم العرب، ولكن أبا بكر قد سدد الله رأيه وثبت فؤاده، فقال:«والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه، كيف لا أقاتل من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال» .
فشرح الله صدر الصحابة إلى تأييد أبي بكر والقتال معه، وامتشق الحسام لنصر الإسلام، فلم يلبث إلا قليلاً حتى هزمت جيوشه جميع قبائل الردة، ورد للإسلام قوته، فكان ذلك أول تجديد للإسلام، وكانت القبائل التي قاتلت معه هم الذين خاطبهم الله على لسان رسوله بقوله:{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]، وثاب العرب إلى الرشد وعاد لهم
إسلامهم وطاعة إمامهم، وكان ذلك دخولاً جديدًا في الإسلام لمعظم قبائل العرب دخولاً لم يخرجوا بعده.
ثم رجع السيف إلى قرابه، واستقر أمر الإسلام في نصابه، وصلح حال المسلمين، وعلم الجميع معنى الإسلام ودوامه، فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه مجددًا معنى الرسالة ومبينًا له، ولم يزل الإسلام يعلو وينتصر ويفيض على الأقطار؛ كالسيل المنهمر ففتحت الأمصار الكثيرة، وذلك إلى أواخر خلافة هشام بن عبد الملك من سنة (105 إلى سنة 125 هـ) من كيد أعدائهم، وانتصبوا لنظام أمرهم، وتأييد أمور دينهم وتلقي علوم الكتاب والسنة، وتدوين الآثار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ابتدأ الاضطراب في داخلة الأمة الإسلامية بظهور بوادر الدعوة العباسية في سنة مائة فظهر دعاة الخلافة العباسية وهم اثنا عشر رجلاً سموهم النقباء.
ولم يزل أمرهم في نمو إلى سنة (109 هـ) تسع ومائة، وسنة (110 هـ) عشر ومائة دعا أثير بن عبد الله السلمي الملقب بالكامل أهل سمرقند وما وراء النهر إلى الإسلام فأسلموا وبنوا المساجد وحفظوا القرآن، ثم ارتد الصغد وبخاري، ولم تزل فتوح المسلمين تتوسع بحق بعد هشام بن عبد الملك، وبأمراء جيوشه من مجدد المائة الثانية.
وانقضى عصر الصحابة، وحمل العلم من كل قطر عدوله وأفاضله، وصار الناس متعطشين إلى ما يؤثر عن رسول الله وخلفائه، ومصيخين لكل من يقول قال رسول الله فتهمم بالرواية أقوام كثيرون، وصار التصدي والتلقي غاية أولي الألباب، ولكن تفاوت الأفهام وتباينها في الضبط والتقوى قد حدا بقوم إلى الاستكثار من الرواية عن رسول الله، والاستهتار بحب الإغراب في ذلك، وبالإصغاء لكل من يتظاهر بأن له علمًا بسنة أو تفسيرًا لآية فكثر الدخيل، وعظم القال والقيل، وتفطن علماء الأمة لهذا الخطب الجليل، وابتدأت الشكاية من تساهل الضعفاء وغلاة الرواة تئن بها صدور أهل العلم والضبط، ففي صحيح مسلم أن عبد الله بن عباس قال: أنا كنا مدة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف.
لقد تصدى للرواية عن رسول الله ولتفسير القرآن أصناف من الناس في العلم
فمنهم أهل الضبط والتحري من أهل الفقه والإفتاء والرواة، ومنهم أهل التساهل من أصحاب السير المتبعين لكل ما جاء فيه أثر، ومنهم الوعاظ الذين تعلقوا بما يناسب دعوتهم من الآثار، وأبهجهم ما أعانهم من أثر يُروى يعضد مقصدهم، ومنهم القصاص في المساجد والنوادي، والمتجولون في الحواضر والبوادي، يلقون إلى اللفيف ما تقبله عقولهم وتبلغ إليه أفهامهم، فيتوخون أن يلتقطوا من المرويات كل ما يسهل على العامة قبوله، ويطابق ما في مخيلاتهم وإن كان ضعيف المعنى واللفظ، ومنهم أهل الأهواء والنحل الذين تعمدوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تساهلوا بحسب جرأتهم على التدليس والترويج، فقد وضع الكرامية عشرة آلاف حديث.
فكان أهل هذه الأصناف الأخيرة غير مكترثين بالبحث عن صحة نسبة الآثار المروية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كاكتراثهم بمناسبة الآثار لأغراضهم، وهنالك اختلط الحابل بالنابل والخاثر بالزباد، ولم يزل تفاقمه في ازدياد حتى بلغ السيل الزبى، وكادت أن تذهب السنة أيادي سبا، ولم تزل طائفة من الأمة ظاهرين على الحق باحثين عن مراتب الخلق، متهممين بانتقاد ما صح عن رسول الله من الآثار، لم يخل عن طائفة منهم قطر من الأقطار، إلا أن جمهرة هؤلاء كانت من علماء المدينة، يتلقى الخلف عن السلف رواية الصحيح؛ إذ كانوا عاكفين على معاهد الرسول وآثاره، سالمين مما تطرق من الابتداع في بعض أقطاره، والإيمان يأرز إليهم، وسنة الرسول شائعة بين ظهرانيهم، وانحصر ذلك في فقهاء المدينة، ورواتها؛ وهم عبد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد ابن أبي بكر، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد، وأبو بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، ولحق بهم محمد بن شهاب الزهري، فكانوا قدوة الرواة.
ثم انحصر علمهم في مالك بن أنس عالم المدينة، فأزبد عنده ذلك المخض، وأفصح عن الخالص المحض، فاشتهر في زمنه بحمل السنة الصحيحة وعرض المرويات على محك النقد، وكان اعتماده في النقد من ثلاثة معايير: عمل أهل المدينة، وقواعد الشريعة، وصفات الرواة، وكان ظهور مالك في أوائل القرن الثاني في حدود سنة (112 هـ)؛ لأن مالكًا قد نبغ وهو شاب، وكانت ولادته سنة (93 هـ)، وقيل (96 هـ) فيكون في حدود سنة (110 هـ) قد بلغ الحلم أو تجاوزه، قال شعبة: دخلت المدينة بعد موت نافع فإذا لمالك حلقة (وموت نافع سنة 117 هـ).
وقد اتفق العلماء من أهل عصره على تأويل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بروايات متقاربة في سنن الترمذي وكتاب النسائي، ومسند أحمد بن حنبل، ومستدرك الحاكم، ومسند الشافعي من قوله صلى الله عليه وسلم:«يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة» . إنه إشارة إلى مالك بن أنس، قال بذلك سفيان بن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن معين، وابن المديني، وجمع كثير.
ثم إن ما بلغه من توقير خلفاء الدولة العباسية، وبرهم إياه، ووقوفهم عند نصائحه مع ما كان له من الشدة على المتساهلين في الحديث وتلقي السنة، قد أعان على نفاذ أصوله في تحمل الحديث، ومكنه من التقريع والتأديب لكل من يبلغه من المتساهلين والمبتدعين وأهل الأهواء.
وحسبك أن المنصور أبا جعفر قد هم همًا قويًا على أن يأمر الناس في أقطار الإسلام باتباع ما في الموطأ دون غيره، وقد انثاب الناس على الأخذ عن مالك وقد اختص بأشياء لم تتأت لغيره، وهي التعمير وكثرة الآخذين عنه، وتفرقهم في سائر الأمصار، وإعلانه بطريقته وتزييف الطرائق المخالفة لها، واجتماع إمامة الفقه والحديث فيه، وهذه صفات لم يشاركه فيها غيره ممن كان يدانيه في صحة الرواية مثل: يحيى القطان، وسفيان بن عيينة، وشعبة بن الحجاج، وعبد الرحمن ابن مهدي، مع شدته في متابعة أصوله لا ينحرف عنها قيد أنملة.
ولأجل تخليد عمله، وتخطيط طريقه، ألف كتاب الموطأ، وهو أول كتاب ألف في الإسلام، فلذلك كله تعين عندي أن يكون مالك من مجددي أول المائة الثانية.
وأرى أنه لم يشاركه أحد في تجديد أمر الدين من ناحية لحقت الدين منها رثاثة؛ فطريقة مالك رحمه الله هي التي كانت الطريقة المثلى للتمييز بين الصحيح والسقيم من الآثار؛ وقد ذهب بها جفاء ما طرأ على الرواية من الخلل، وقد أصبحت تلك الطريقة مسلوكة إلى يومنا هذا، فهو مجدد طريقة وأصل عام في التحمل.
وما فرغ المسلمون من علم قواعد التحمل، ومعرفة المقبولين والضعفاء والمدلسين حتى طفحت الروايات عليهم من كل مكان، فمن صحيح وعليل، وأصيل ودخيل، فأصبح الناس في حيرة في مقام التمييز؛ لاحتياجه إلى علاج بوسائل
القواعد وذلك على الناس عزيز، فكانوا بحاجة إلى تدوين كتاب يجمع صحاح الآثار في كل نوع من أنواع التشريع، ويدحض ما عداها، فكان محمد بن إسماعيل البخاري للأمة شمس هداها؛ إذ ألف «الجامع الصحيح» فاطمأنت نفوس المؤمنين، وألغوا كل معروف بالوضع وكل ظنين.
كان ابتداء ظهور عمل محمد بن إسماعيل البخاري في مبتدأ القرن الثالث من يوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته تلك، أعني في حدود سنة (211 هـ) وقد كان هذا التجديد لناحية من الرثاثة في الدين، وهي رثاثة التساهل في الحديث من حيث جزئيات الأحاديث لا من حيث الأصل الكلي، فذلك وجه غير الذي لمالك وإن جرى على أصل مالك؛ لأن البخاري جدد طريقة تمييز أعيان الأحاديث، ومالكتا جدد طريقة تأصيل قواعد الأخذ للسنة، وتخريج الأحاديث التي هي أصول للتفقه في الدين من صحيح الآثار، فبعد البخاري كان مجدد أمر الأمة على رأس المائة الثالثة وكان خليفة المسلمين في سنة (210 هـ) المأمون العباسي وكانت حالة المسلمين معه في صلاح واستقامة.
هكذا مضى المسلمون آمنين في طريق نقل الآثار الشرعية، ومسالك التفقه في الدين والتفريع فيه، فتميز الحق من الباطل، واستبانت السنن من الابتداع، فكان أهل السنة وأهل الحق غالبين من يغالبهم من أهل الأهواء والبدع الذميمة، وكان العلم الغالب على الأمة في تلك القرون هو النقل والآثار، ولم يكونوا بحاجة إلى تجديد في علم الفقه ولا في علم العقائد.
وفيما هم على تلك الحال من الهدى؛ إذ نبعث فيهم فئات يخوضون في أصول الدين خوضًا يشوب الأدلة الشرعية بالأصول الفلسفية، ويعلنون أن الحق هو الذي يجب أن يكون رائد المسلم في أصول الاعتقاد، ويردون الأدلة السمعية التي تخالف الأصول التي أصلوها ردًا بالتأويل أو الإبطال، وكانوا قد درسوا ما ترجم من علوم الأوائل، وأصبحت مبثوثة بينهم وبين أتباعهم، وصاروا يتطاولون على مخالفيهم بأنهم لا ثقة بعلومهم؛ لعدم ارتياض عقولهم بالعلوم الحقيقية، فدخلت بذلك على الأمة فتن في عقائدها كانت أولاها فتنة القدر، ثم فتنة خلق القرآن، وتبعتها فتنة الاستثناء في الإيمان، وفتنة صحة إيمان المقلد، وفتنة خلق الأفعال وغيرها.
فوجم أهل السنة وجمة عضوا عندها على اعتقادهم بالنواجذ فرث الإسلام من
ناحية العقيدة رثة استدعت رحمة الله بأهله، وضمانه لحفظه، لأن يقيض من يذب عن السنة ويزيف مذاهب أهل الأهواء بنصب أدلة من نوع ما موهوا به على الناس وذلك هو إمام المسلمين الشيخ أبو الحسن على الأشعري.
كان الشيخ من أتباع مذهب الاعتزال فأنهضه الله للذب عن السنة وبين له سقم كثير من أصول المعتزلة، فانبرى لتأييد العقيدة الإسلامية السنية، وكان انتقاله إلى اتباع السنة منذ سنة (300 هـ) وأخذ يدلل العقائد بالأدلة الفلسفية ويعضد بها الأدلة السمعية فتم عمله في حدود سنة (310 هـ)، وتوفي سنة (324 هـ) وقيل سنة (330 هـ) ببغداد، فهو مجدد رأس المائة الرابعة ولا أجدر منه بهذه المزية من علماء ذلك القرن.
لا بأس على المسلمين بعد ذلك في أمور شرعهم واعتقادهم وسلطانهم، ولكن ما طلع القرن الرابع ولاح ظله حتى حدثت في الإسلام دول كثيرة، وادعى كل زعيم في صقعه السلطان لنفسه، وضعف أمر الخلافة العباسية لظهور الدولة السامانية فيما وراء النهر، والدولة البويهية في العراق، ودولة بني طولون بمصر، والدولة الصفارية بسجستان وخراسان، ودولة بني حمدان بالموصل والجزيرة والشام، وفي أول هذا القرن ابتلي المسلمون بولاية الحاكم الفاطمي ملك مصر، وتفاقم حزب غلاة الشيعة بسائر أقطار الإسلام إدلالاً بملوكهم في مصر وأنصارهم في الأقطار بالعراق والشام وجباله وبإفريقية، وآلت الحال بالحاكم إلى أن ادعى الإلهية واستوزر حمزة زعيم الإسماعيلية من الفاطمية، فأصبح المشرق والمغرب في مرج وفتنة من جراء تعدد الدول وظهور ضلال النحل، وأصبحت قوة دول الإسلام مسلطة على أنفسهم بالحروب الطاحنة التي أزهقت النفوس، وكانت قصاراها أخذًا وردًا في أصقاع الإسلام فضعفت السلطنة الإسلامية وجاء أعداء الإسلام، وانقطعت الفتوح، وبث الدعوة الإسلامية الذي كان من أمر الدين منذ ظهر الدين.
فظهر السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي يمين الدولة، صار إليه الملك بغزنة سنة (388 هـ) وكان من أشد الثوار المتغلبين على الدولة العباسية ومس بحروبه كل الممالك التي استبدت على الدولة العباسية.
كان محمود بن سبكتكين بدًا له في سنة (392 هـ) أن يأتي عملاً يكون كفارة عما فرط منه في ابتداء تأسيس سلطانه من قتال المسلمين، فصمم العزم على أن يفتح للإسلام بلاد الهند، فأخذ يستعد لغزو الهند، وهجم على تخومها، وكان يفتح
البلاد ويحمل أهلها على الإسلام.
وكانت الحرب سجالاً، والهدنة تعقب قتالاً، وكان ملوك الهند كلما أحسوا بانصراف يمين الدولة عنهم نقضوا طاعته وكفروا إلى سنة (406 هـ) غزا الهند غزوته الفاصلة، فجهز جيشًا عظيمًا، فابتدأ بغزو بلاد الأفغان، ثم اخترق بلاد الهند وعبر نهر الكنك، وأوقع ببلاد الهند وقائع عظيمة، فلما رأى ملوك الهند أن لا قبل لهم بمقاومته اجتمعوا على أن يراسلوه في الصلح، وبذلوا الطاعة له، فتم له استصفاء بلاد الهند في سنتي (409، 410 هـ) وصارت بلاد إسلام، فالسلطان محمود الغزنوي هو مجدد رأس المائة الخامسة.
واعلم أن يمين الدولة محمودًا لم يكن في أعماله خلوا عن إرشاد علماء الشريعة، فقد كان من أكبر مرشديه الإمام الجليل الأستاذ أبو حامد الإسفراييني، وأحمد ابن أبي طاهر الفقيه الشافعي المتوفى سنة (406 هـ) وهو الذي توسط له لدى الخليفة القادر بالله في ولايته كورة خراسان وما إليها وتلقيبه بيمين الدولة، وقد جاء في التقليد الذي صدر له من دار الخلافة هذه الفقرة:«أوليناك كورة خراسان، ولقبناك يمين الدولة بشفاعة أبي حامد الإسفراييني» .
وكان من جملة العلماء الذين اتصلوا بيمين الدولة أبو القاسم عبد الله القفال المروزي الفقيه الشافعي المتوفى سنة (415 هـ)، وهو الذي صلى بحضرته صلاة لا تصح إلا على مذهب الشافعي (والشافعي موافق فيها للجمهور)، وصلاة تصح على مذهب أبي حنيفة فرأى السلطان ذلك كافيًا في ترجيح مذهب الشافعي في نظر السلطان ترجيحًا خطابيًا يناسب أفكار العامة فكانت سببًا في تقلد السلطان مذهب الشافعي.
فالتجديد في صدر هذا القرن تجديد سياسي وليس تجديدًا علميًا إلا أن فتنة الحاكم بمصر وتفشي أنصاره في الشام وجبالها وبعض بلاد العراق والموصل وتطاولهم على أهل السنة أفضى ذلك خلال السنين إلى حدوث المقاتل الكبرى بين أهل السنة والشيعة، فكانت في سنة (407 هـ) فتنة كبيرة بين أهل السنة والشيعة في واسط، وفي القيروان بإفريقية، وكان مثار هذه الضلالات والفتن والمقاتلات الحاكم وأتباعه، فيمكن أن نعد في المجددين الرجلين المجهولين اللذين قتلا الحاكم سنة (411 هـ) بسعي القائد ابن دواس أحد قواد الحاكم بمصر وبإغراء ست الملك
أخت الحاكم.
فإن قال قائل: كيف تعد محمود الزمخشري في مجددي أمر الدين، فإن ظاهر كلام الرسول عليه السلام ينبئ بأن هذا التجديد مزية دينية، وأن القائم به ميسر من الله لهذا العمل الصالح فيظهر أنه معدود من صالح المؤمنين، وأنت تعلم أن الزمخشري كان معتزلي العقيدة مخالفًا لعقيدة أهل السنة، فهل يتلاقى اعتقاد الاعتزال والقيام بتجديد أمر الدين في ذات واحدة.
قلت: أنا لا أجهل أن الزمخشري كان من المعتزلة العدلية، فإن صح أنه قد رجع عن ذلك إلى عقيدة أهل السنة كما نحاه كثير من علمائنا، فالجواب عن السؤال ظاهر، غير أني لا أطمئن إلى هذه الأمنية، ولا أحسب الزمخشري قد رجع عن مذهب الاعتزال مع كونه من أساطينه، وحينئذ فأنا أجيب السائل بأن الخلاف بيننا وبين المعتزلة العدلية خلاف في أمور خفيفة هي مجال للاجتهاد ومثارة من الأدلة التي تعلقوا بها فيما خالفونا فيه، وتلك الأدلة وإن كان أكثرها ضعيفًا فليس فيها مخالفة للقواطع؛ ولذلك فهم أقرب المخالفين لنا في مسائل الاعتقاد، وجميع ما خالفنا المعتزلة فيه من مسائل العقائد لا يترتب عليه استحلال حرام ولا استباحة دم المخالف ولا ماله ولا تكفيره، فهم يعتقدون عصمة الرسل، وعدالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعظمون آل رسول الله، ويرون حرمة دم ومال وعرض من قال: لا إله إلا الله، ولا يكفرون أحدًا بذنب من أهل القبلة ويثبتون صفات الكمال لله تعالى، ولا يعطلون آيات الوعد والوعيد، ولم يقع بينهم وبين أهل السنة قتال، وغاية أمرهم أنهم يتطاولون في الاستدلال على أهل السنة بعبارات بذيئة، وذلك لا يخلو منه المختلفون في المسائل العلمية بإفراط أو إقلال.
وأيضًا فإن جميع المعتزلة العدلية متبعون في الأعمال الفرعية أحد مذاهب السنة فيها لا سيما مذهب أبي حنيفة ومذهب الشافعي رحمهما الله؛ لأن الاعتزال لا علاقة له بالأعمال، ولأنهم لا ينقصون أئمة المذاهب فمعتقدهم لا أثر له في الأمور العملية، ولا يفضي إلى ارتكاب ما يخالف شرائع الإسلام.
إذن: فاعتقاد الاعتزال ليس فسقًا، وقد صرح علماؤنا بأن حال المخالفين لنا في الاعتقاد مع التزام عقيدة الإسلام إذا لم يصرحوا بالكفر بل قالوا مقالات تجر إلى
الكفر أو إلى مخالفة ظواهر الأدلة من الكتاب أو مخالفة السنة يرجع النظر في تكفيرهم أو تفسيقهم إلى قاعدة أصلية وهي قاعدة المؤاخذة بلازم المذهب، فمن العلماء من يرون لازم المذهب مذهبًا فيرتبون على أقوال الفرق المخالفة لنا في الأصول ما يلزم أقوالهم لزومًا بينًا، فإن لزم منه إبطال أصل من أصول الإيمان أو إنكار معلوم بالضرورة يعتبرونهم كفارًا أو فسقة على تفاوت قوة اللزوم وضعفه، وهؤلاء أمثال الشيعة الغرابية والباطنية، وعلى اختلاف العلماء في اعتبار اللازم مساويًا للملزوم أو اعتباره دون ملزومه فيما يترتب عليه وإن لم يلزم من مذاهبهم كفر، ولكن يلزم منه فسق، مثل الحرورية الذين يكفرون الفرق الإسلامية عدا فرقهم، ومثل الخطابية المجوزين للكذب في الرواية والشهادة، ومثل المرجئة النافين للوعيد، ومثل الذين يقولون بكفر مرتكب الكبيرة، فهؤلاء فساق عندنا وليسوا كفارًا؛ لأن مقالاتهم لا تفضي إلى إنكار أصل من أصول الإيمان، ولكنها تنشأ عنها أعمال هي كبائر؛ كاستباحة دماء كثير من المسلمين العصاة.
وإن لم يلزم من مقالاتهم شيء إلا الخطأ في العلم والدين في مسائل النظر، فهم مخطئون وليسوا كفارًا ولا فساقًا مثل المعتزلة، وكذلك فرق الشيعة الأمامية الذين يفضلون عليًا على أبي بكر، والخطأ العلمي لا ينافي الصلاح في الأعمال.
وأما العلماء الذين لا يرون لازم المذهب مذهبًا فهم لا يعتبرون إلا حالة لوازم أقوالهم وما يترتب عليها من أعمالهم، فكانوا يعدون غلاة الفرق المخالفة فساقًا ولا يعدون من عداهم فساقًا، قال شهاب الدين القرافي في «تنقيح الفصول»:«قد قبل البخاري وغيره رواية عمرو بن عبيد وغيره من المعتزلة نظرًا إلى أنهم من أهل القبلة» أ. هـ، يعني ونظرًا إلى أنهم ليس في أقوالهم ما ينشأ عنه ارتكاب أعمال من الكبائر، وفي كتاب الجنائز من تهذيب المدونة، قال مالك: لا يصلى على أحد من أهل الأهواء، قال أبو الحسن في شرحه: اختلف المالكية في تأويل قول مالك، فقال سحنون: إنما أراد به التأديب وكراهة مخالطتهم، ووافقه ابن رشد على ذلك وجماعة، أي: لا يصلي عليهم أهل السنة، وإنما يصلي عليهم أهل نحلتهم، ألا ترى أن مالكًا لم يفت بأنهم لا يدفنون في مقابر المسلمين، ولم يصرح بأنهم يتركون بدون صلاة عليهم، ولأنه لو لم يوجد في البلد الذي مات فيه أحد من أهل الأهواء من يصلي عليه من أهل نحلته يترك بدون صلاة عليه، وقال غير سحنون: أراد مالك أن أهل الأهواء كفار وأنهم لا يصلى عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين.
وإن فقهاؤنا اختلفوا في صحة الصلاة خلف المبتدعة، فقال ابن القاسم: يعيد المصلي في الوقت، فلم ير الابتداع مبطلاً للصلاة، وقال كبار أصحاب مالك وسحنون: لا إعادة عليه أصلاً، وعن الإمام رحمه الله التوقف في الإعادة، وقال ابن عبد الحكيم: يعيد أبدًا، وإن ذلك كله في أهل الأهواء، أي: الذين يفسرون متشابه القرآن على حسب هواهم، ألا ترى أن أئمة الحديث قالوا بقبول رواية المسلم العدل الذي يعتقد عقيدة باطلة لا تنافي الإسلام بشرط أن تكون بدعته لا تبيح له الكذب، وزاد مالك رحمه الله على ذلك شرطًا وهو أن لا يكون داعية إلى عقيدته.
ولم يزل كثير من عظماء المعتزلة مشهودًا لهم بالتقوى والورع، منهم عمرو بن عبيد إمام المعتزلة الذي قال فيه أبو جعفر المنصور:«كلكم قانص صيد، كلكم طالب أيد، غير عمرو بن عبيد» ، وقد كتب الإمام الحافظ أبو الطاهر أحمد السلفي الأصفهاني الشافعي المتوفى سنة (576 هـ) إلى العلامة محمود الزمخشري يطلب منه الإجازة في جميع سماعاته وإجازاته ورواياته من الحديث والعلوم، وكتب القاضي أبو الفضل عياض المالكي الشهير إلى الزمخشري يستجيزه كذلك، وهل يظن بأمثالهما رواية حديث رسول الله عمن في دينه مغمز، وقد كان العلامة الزمخشري في الورع والتقوى بتلك المثابة حتى لقد بلغت به الخشية مبلغًا عظيمًا كما هو مسطور في ترجمته، ولقد لقبه علماء الإسلام بلقب: جار الله، وقد كتب تفسير الكشاف في المسجد الحرام.
وقد جوز، ابن الأثير في «جامع الأصول» أن يعد في مجددي رأس المائة الرابعة الشريف الرضي علي بن موسى من أئمة الأمامية، وأن يعد في مجددي رأس المائة الثالثة أبو جعفر محمد أو أحمد بن يعقوب الرازي من الأمامية مع أن الأمامية يخالفون أهل السنة في عقائدهم خلافًا أشد من خلاف المعتزلة وحسبك منه مسألة التفضيل ومسألة تفسيق كثير من الصحابة.
وحيث قد توفر فيه المقتضي وانتفى المانع، فما أنا في عده من المجددين ببادع، على أننا لو شئنا أن نقول بالتفكيك بين الصلاح الاعتقادي وبين القيام بتأييد الدين عن حسن نية لم يكن ذلك بعيدًا، إذ قد أصلنا أن للدين في كل ناحية تجديدًا.
اشتد ساعد الدولة الإسلامية ونضجت حضارة المسلمين من سائر نواحيها، فأصبحوا أمة مستكملة الجهاز في كل ما تسابقت فيه الأمم الماضية والمجاورة من ميادين الحضارة والرقي تفكيرًا وعلمًا ونظامًا ورفاهية وقوة وسيادة على العالم، وتوفر لدى المسلمين في خلال خمسة قرون مضت من وقت ابتداء الجامعة الإسلامية ما لم يجتمع لغيرهم من الأمم الحاضرة والغابرة، فظنوا أن الدهر أصبح طوع أمرهم والحوادث لا تسير إلا على حسب مناهم، وأنساهم توالي النعم ما تأتي به الحوادث من الرزايا، وما دروا أن الدهر الذي يواجههم بقوله:«ملكت يداك» هو ينشد من ورائهم في التفاته «غير لاه عداك» .
أصيب المسلمون في آخر القرن السادس وأول القرن السابع بمصائب يتلو بعضها بعضًا ولا يخلصون من واحدة إلى غيرها إلا كالمستجير بالنار من الرمضاء، فكانت الفتن متأججة فيما بين أنفسهم وفيما بينهم وبين أعدائهم هنالك مواثبة الإسماعيلية، وتخالف ورثة السلطان صلاح الدين بن أيوب، وحروب خوارزم شاه مع الغورية في بلاد العجم وغيرها، وهنالك وصول الإفرنج والألمان إلى شطوط الشام ومصر، وقد أشرفوا على امتلاك سائر القطرين، فارتبك حال القرن السابع على مريد التمييز، ولم يتعين من انبرى فيه لأمر المسلمين بالتجديد والتعزيز.
فكان حقًا علينا أن نصف حال هذا القرن وصفًا نترك فيه الحكم للناظر المتبصر؛ ذلك أنه ما استهل القرن السابع حتى كانت الحروب قائمة في بلاد الإسلام من كل مكان، فكان النصارى آخذين بمخانق البلاد الشامية والمصرية التي كانوا ينازلونها من أواخر القرن السادس، وكان قد عرض لهم فتور في أوائل القرن السابع
فنهض البابا صاحب رومة وندب ملوك النصارى إلى إمداد الجيوش المحتلة بالشام ومصر، فوصلت إليهم أمداد عظيمة فيما بين سنة (612 وسنة 614 هـ)، وكان صاحب مصر والشام والجزيرة يومئذ الملك العادل بن أيوب أخا صلاح الدين، فندب الملك العادل ابنه الملك الكامل ليخرج يواجه جيوش النصارى في دمياط، وما لبث أن مرض الملك العادل واضطرب أمر المسلمين، وتنمر الأعداء للمسلمين في البلاد المصرية والثغور الشامية، وتوفي الملك العادل وخلفه ابنه الكامل في ملك مصر وخاف الناس على مصر والشام أن يمتلكها النصارى، وصاروا يتوقعون سقوط البلاد صباحًا ومساء، حتى أراد أهل مصر الجلاء عن بلادهم خوفًا من العدو الذي أحاط بهم من كل مكان، ولولا أن الملك الكامل منعهم من الجلاء لتركوا البلاد خاوية على عروشها.
فلما جل الخطب وعظم الكرب تابع الملك الكامل كتبه إلى أخويه الملك المعظم صاحب دمشق والملك الأشرف صاحب الجزيرة وأرمينية يستنجدهما ويحثهما على الحضور بأنفسهما أو يرسلان العساكر إليه، فسار الملك المعظم إلى أخيه الملك الأشرف لينضم إليه ويسيرا معًا، فوجده مشغولاً عن الإنجاد بما دهمه من اختلاف الكلمة في مملكته مع بعد مملكته عن أن يمسها ضرر من الفرنج، فرجع الملك المعظم ولم يجد هو ولا أخوه الملك الكامل وسيلة خلاص من تلك الورطة إلا بعث الرسل بين المسلمين وبين الإفرنج في تقرير قاعدة للصلح بين الفريقين، وبذل المسلمون للفرنج بيت المقدس، وعسقلان، وطبرية، وصيدا، وجبلة، واللاذقية وجميع ما فتحه صلاح الدين من البلاد الشامية مما كان استحوذ عليه الفرنج في القرن السادس ماعدا الكرك، بذلوا ذلك للفرنج على أن يسلم الفرنج دمياط للمسلمين، فلم يرض الفرنج بذلك وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضًا عن تخريب المقدس ليعمروه بها، وأن يكون الكرك أيضًا في جملة ما يسلم للفرنج، فلم يتم بينهم وبين المسلمين تراض، وبقيت الحرب ترسل من لهيبها كل شواظ.
وما عتم أن زال الخلاف من مملكة الأشرف وأطاعه الملوك الخارجون عنه، واستقامت الأمور هنالك فعادت المراجعة بينه وبين أخويه الكامل والمعظم، فسار الملك الأشرف إلى دمشق بجند عظيم، ولما رأى قوة الفرنج غير منصبة على البلاد
الشامية أكمل السير إلى مصر، وواجه مع أخيه الكامل جيش الفرنج في بحر أشمون، ونزل جيش المعظم دمياط، ثم عرج إلى أشمون، فاستبشر المسلمون بذلك وتفاءلوا، وقويت نفوسهم ودبروا المكيدة لجيش العدو أن يفجروا النيل إلى الجهة التي بها ذلك الجيش فغمرتها المياه، ولم يبق لجيش الفرنج جهة يسلكون منها إلا جهة واحدة ضيقة، وانتصبت جسور المسلمين على النيل عند أشمون وعبرت عليها عساكرهم، فملكوا الطريق الذي يستطيع الفرنج سلوكه إلى دمياط، وقاتلوا سفائن الفرنج المشتملة على الذخائر الحربية والميرة، فلما لم يبق للفرنج مخلص سقط في أيديهم وراسلوا الملكين الكامل والأشرف يطلبون الأمان، وتم الصلح على إرجاع دمياط للمسلمين، وأخذ المسلمون عشرين بين ملك وأمير من الفرنج رهائن على تسليم دمياط، فيكون الملك الكامل صاحب مصر هو المجدد على رأس المائة السابعة بمعونة أخوية الملك الأشرف والملك المعظم.
وفيما الناس يبهجون بخضد شوكة المعتدين من النصارى وإجلائهم عن معظم البلاد بالشرق؛ إذ طلعت سنة (617 هـ) سبعة عشرة وستمائة بنار فتنة طار شرارها ولم يلبث أن صار لهيبًا، تلك هي فتنة ظهور جنكيز خان ومن معه من التتار، وهم يومئذ كفرة مفسدون في الأرض مناوؤون للمسلمين؛ إذ خرجوا من تخوم الصين في حدود تركستان، وجاسوا خلال بلاد الإسلام، وتكالبوا على المسلمين.
وحسبك وصفًا لحالهم كلام ابن الأثير في تاريخه الكامل (وقد شهد وقت ظهورهم وخرج من الدنيا ولم يدر إلى أين مصيرهم)، قال:«من ذا الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن ذا الذي يهون عليه ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل إن الناس منذ خلق آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقًا» .
قصد التتار كاشغر من بلاد تركستان، ثم منها إلى سمرقند وبخاري، وعبرت طائفة منهم خراسان، ثم الري وهمذان وبلاد الجبل إلى حدود العراق، ثم قصدوا أذربيجان وأرانية إيران ودربند شروان وابلان واللكز وبلاد قفجاق، ومضت طائفة منهم إلى غزنة وما جاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، فما مضت سنة حتى احتلوا أكثر بلاد الشرق وأهم معمور البلاد الإسلامية وأحسنه وأكثره عمارة، فأوسعوا أهل تلك الأقطار قتلاً ونهبًا والبلاد تخريبًا وإفسادًا، بحيث لم يبق أحد من المسلمين إلا وهو خائف وجل، ولم ينج منهم إلا قليل من الناس فروا إلى الغياض
ورؤوس الجبال، ولا يجهل ما أصاب مدينة بغداد وحضارتها من جراء عبثهم على يد سلطانهم (هولاكو) سنة (656 هـ)، ومما أعانهم على هذا الانتشار أنهم لا يحتاجون إلى ميرة ولا إلى مدد يأتيهم؛ لأنهم استصحبوا معهم بقرهم وغنمهم وخيلهم يأكلون من لحومها ويشربون من ألبانها، ولا يعلفون دوابهم؛ لأنهم عودوها أن تبحث في الأرض بحوافرها وتأكل عروق النبت، وكادوا أن يستأصلوا الإسلام في أهم مواطنه.
والتتر يومئذ يدينون بالمجوسية، يعبدون الشمس يسجدون لها عند طلوعها وليس في دينهم تحريم لشيء من الأعمال.
وأول من قصدوه بالحرب من ملوك الإسلام محمد خوارزم شاه الذي انفرد يومئذ بملك المشرق وقاتل معظم ملوك البلاد، فهزموا خوارزم شاه، فلما هزموه لم يبق في البلاد من يحمي الممالك من هؤلاء المفسدين، دام حالهم على ذلك نحوا من تسعين سنة إلى أن أسلم ملكهم خربند بن أرغو بن أبغا بن هلاكو، وقتل (قطلوشاه) آخر المشاهير من أمرائهم وقواد جيشهم.
وقد ابتدأ تطرق الديانة الإسلامية بين أمراء التتر من منتصف القرن السابع، ولكنه كان تطرقًا بالهوينا؛ ذلك أن شمس الدين الباخوري كبير الصوفية في بخارى وأحد أصحاب نجم الدين خاطب أميرهم بركا بن دوشي خان الذي ولي ملك التتر سنة (652 هـ) يدعوه إلى الإسلام، فأعمل بركا الرحلة إلى بخارى للقاء شمس الدين وأسلم، وعاهده على ظهور الإسلام بين قومه، وبنى مساجد ومدارس في جميع البلاد: إيران وهمذان وتبريز والمراغة، ووصى الشيخ الباخوري السلطان بركا بأن يكون صديقًا للخليفة المستعصم العباسي، غير أن إسلام السلطان لم يتجاوزه إلى عامة التتر فبقوا كفرة، ولم يستطع كفهم عن الهجوم على ممالك الإسلام، سوى أنه صد أخاه منكوفان أحد قواد جيوش التتر عن الهجوم على ممالك الخليفة المستعصم، ولم يجد ذلك أمام عزم (هولاكو) على غزو بغداد سنة (656 هـ) ومضت فترة من الزمن إلى أن ولي (تكدار بن هولاكو) سنة (681 هـ) فأظهر الإسلام، وكان الذي دعاه إلى الإسلام الشيخ قطب الدين محمود الشيرازي العلامة الجليل الشهير وهو يومئذ قاضي سيواس، وكتب الملك بذلك إلى ملوك عصره، ولا شك أنه كان يرمي بذلك إلى تحصيل هدوء الممالك الإسلامية في وجهه بعد أن صار معظمها في دائرة مفتوحاته، إلا أن قومه نقموا عليه الانتقال من
دينهم، فثاروا عليه وقتلوه، ثم مضت فترة أخرى إلى سلطنة خربند بن أرغو بن أبغا ابن هولاكو سنة (702 هـ)، فأسلم وتسمى محمدًا، وأناب عنه قطلوشاه أحد أمرائهم الكفرة في غزو البلاد فدامت النكاية بالمسلمين، ولم يخلص التتر الإسلام إلا بعد موت قطلوشاه سنة (714 هـ) فحينئذ قطعت جرثومة الوثنية في ملوك التتر وجنده، فصاروا إخوة لبقية المسلمين، وسلم المسلمون من مصائب استئصالهم، واعتز بهم الإسلام بعد أن كانوا يعجلون إلى نكايته.
فبحق يعد الملك خربند التتري ومن حف به من العلماء والصوفية هم مجددو رأس المائة الثامنة، وممن يعرف من هؤلاء العلماء نظام الدين محمود الشيباني، وبدر الدين محمد بن جماعة الشافعي، وتقي الدين أحمد بن تيمية الحنبلي، وجلال الدين محمد القزويني الشافعي، رحمهم الله أجمعين.
لم يكن المشرق الإسلامي في هذا القرن منفردًا بالمصائب والمحن، فقد شاركه المغرب في ذلك، ففي بلاد الأندلس قد اشتدت شوكة ملوك الجلالقة على ملوك الإسلام بعد وقعة العقاب سنة (600 هـ)، ثم تلتها حوادث في مدة السلطان محمد بن محمد بن يوسف بن بني الأحمر ملك غرناطة من سنة (672، إلى سنة 702 هـ) تكالب فيها العدو على بلاد الأندلس إلى أن جرى النصر على يد السلطان إسماعيل بن فرج من بني الأحمر سنة (719 هـ)، فتنفس الحال عن المسلمين بالأندلس مدة طويلة، فلا يبعد أن يكون السلطان إسماعيل فرج سلطان غرناطة في عداد المجددين للإسلام في رأس المائة الثامنة.
وجد الإسلام في قارة آسيا مقر الحضارة العتيقة فنشأ بالحجاز في وسط حضارة بسيطة، وسرى متدرجًا في أقطار الحضارات الكبرى من العراق والشام وفارس، ثم تطرق إلى قارة إفريقيا، فدخل مصر وبرقة والمغربين والصحراء، فمازج الحضارات العتيقة كلها ومازجته، فلم يكن المسلمون في القرون الأولى من تاريخ الإسلام تقصر حضارتهم عن حضارة أفضل الأمم المتمدينة، بل كانت تفوقها بما عليه المسلمون من التخلق بالفضائل الإسلامية، وكانت أوربا أيامئذ منقسمة قسمين: قسم شرقي وهو المجاور لبلاد الشام وهو المسمى (بيزنطة) وعاصمته القسطنطينية، وحضارته تساوي أو تفوق حضارات أفضل الأمم الأخرى، وقسم غربي وهو المجاور لإفريقيا وأشهر عواصمه رومة، ولم يكن يومئذ يداني حضارة القسم الشرقي على أن معظم بلاده لم يكن ذا حضارة معتبرة، ولقد وطأت أقدام
المسلمين غرب أوربا بفتح بلاد الأندلس، وتوغلوا فيها زمنا مستقرين أو مناوشين فنشروا هنالك حضارة وقعت من أمم غرب أوربا بمحل الإعجاب، وكانت لفتح عين نهضتهم أكبر الأسباب.
وقد أخذت ممالك غرب أوربا في القرن الرابع عشر من تاريخهم المسيحي تسعى بخطى واسعة إلى تأسيس تمدن منتظم، وحضارة فكرية سامية ومتماثلة تؤذن بما سيكون لممالك هذه القارة من الشأن والاتحاد التمديني في تاريخ التمدن الحديث، وسيادة العالم عن قريب، وكانت أوربا الشرقية حينئذ مندحرة إلى السقوط والانحلال فكان مستقبل سيادة العالم صائرا إلى غرب أوربا.
ويومئذ كان المسلمون متزحزحين عن ممتلكاتهم الوحيدة في أوربا، وهي كور بلاد الأندلس؛ إذ قد استرد ملوك الجلالقة معظم تلك البلاد التي انتزعها منهم المسلمون، فانحصر ملك المسلمين من الأندلس في أواخر القرن الثامن الهجري وأوائل التاسع في رقعة ضيقة من أرض الأندلس هي كورة البيرة، وهي قطعة بين مدينة رندة ومدينة ألبيرة من الغرب إلى الشرق في مسافة عشر مراحل (أي: ثلاثمائة ميل)، وفيما بين البحر الأبيض وبين غرناطة من الجنوب إلى الشمال في مقدار مسافة مرحلة واحدة (أي: ثلاثين ميلا) على أن تلك القطعة لم تلبث أن سلبت منهم فيما بعد، فيعد المسلمون يومئذ في حكم المسلوبين من الملك في أوربا.
فلو بقي المسلمون منزوين في آسيا وإفريقيا لكانوا عاكفين على حضارة قديمة ولما نالهم شيء من سريان تلك الحضارة الجديدة، وما استطاعوا أن ينغمروا فيها ولكان حظهم عند استتباب العظمة لأوربا هو الخمول والخضوع تحت سلطان أوربا للعجز عن مجاراة أممها الناهضة، ولا ندري مقدار ما كان يحصل من الوهن والضعف في السلطنة الإسلامية، وإلى أين يرمي ذلك الضعف بحكومة الإسلام من مرامي الإهمال تجاه الأمم المعاصرة.
فكان لزاما لاستبقاء حضارة المسلمين وقوتهم وحظهم من السيادة في العالم المتمدن الذي هو بصدد التكون، أن تكون لهم قدم في أوربا مهد تلك الحضارة
الجديدة، وكان امتلاك عاصمة شرق أوربا أجدى على المسلمين من امتلاك بلاد الأندلس؛ لأن تلك العاصمة هي باب أوربا كلها، وهي الحد الجامع بين آسيا وبين أوربا، وهي برزخ الحضارات المتنوعة الكائنة حولها وراءها، فلا يُجهل ما يكون لمالكها من الفائدة في عظمة السلطان وارتقاء المدنية والحضارة، وهي من جهة أخرى مجاورة لأعظم ممالك المسلمين ولمقار قوتهم وعتيد جيشهم، فهم فيها أمكن قدمًا منهم في بلاد الأندلس، فإن توغل المسلمين في بلاد الأندلس وإن كان مفخرًا تاريخيًا ومنبعًا لحضارة دامت عدة قرون، كان أيضًا غلطًا سياسيًا يشبه غلط المسيحيين في توغلهم في بلاد الشام ومصر في عند الحروب الصليبية، وقد ظهرت نتائج ذلك الغلط عندما ضعف نفوذ الخلافة الإسلامية في الأندلس حين قام عبد الرحمن بن معاوية الأموي باستقلال الأندلس، وزادت نتائج تلك الغلطة اتضاحًا عندما انفصلت إفريقية عن الخضوع إلى الخلافة الفاطمية في مدة المعز بن باديس الصنهاجي سلطان إفريقية، فلم يبق بين قوة المسلمين في الشرق وبين مسلمي الأندلس اتصال، وهناك انفتحت أبواب الخطوب على مسلمي الأندلس، وصارت بلادهم تنقص من أطرافها.
وكان نشر سلطان المسلمين في أوربا قد خطر ببال خلفاء الإسلام من عهد معاوية الأول الخليفة الإسلامي الأموي الجليل؛ إذ كانوا جردوا حملات لفتح القسطنطينية في سنة (32 هـ) وفي سنة (43 هـ) وسنة (50 هـ) التي حضر فيها أبو أيوب الأنصاري صلى الله عليه وسلم، فلم يخرج عمل المسلمين في فتحها عن حيز المحاولة والمناوشة.
إن ما توالى على المسلمين من الفتن الداخلية والحروب الخارجية في خلال القرنين السابع والثامن الهجريين، قد حال دونهم ودون التقدم في الحضارة ومجاراة جيرانهم في تناول ما انبلج عصرهم منها؛ إذ كانت همة المسلمين في تلك المدة منصرفة إلى دفع العدو عن كيانهم، وفي ذلك ما يلهيهم عن زيادة تحسن حالهم.
وكان الترك هم أصحاب الزعامة الإسلامية في أواخر القرن الثامن، وقد بلغت فتوحهم تخوم أوربا؛ إذ قد أخ مراد خان الأول مدينة أدرنة وجعلها عاصمة ملكه سنة (762 هـ).
ثم صار الملك إلى ابنه بايزيد يلدرم فعظم ملكه، ولقب بلقب سلطان، فأخذ يستعد لفتح القسطنطينية ببناء أسطول بحري، ويستعد لفتح المجر حدود سنة (797 هـ)
ولقد صار صاحب النفوذ على امبراطور البيزنطيين بالقسطنطينية، المحصور في عاصمة ملكه وفي قطعة من الأرض حولها، فكانت العاصمة في سنة (803 هـ) على وشك السقوط في قبضة بايزيد لو شاء هو أن يتعجل بذلك.
وفيما هو بذلك الصدد إذ حدث حادث ظهور الطاغية (تيمور لنك) وقصد بلاد السلطنة التركية فحدثت بينه وبين يزيد حروب (من سنة 1803 م إلى سنة 1807 م) انتهت بأسر بايزيد، ثم بموت تيمور، فكفى الله شره وعقبها نزاع بين أبناء بايزيد إلى أن انتصر عليهم ابنه محمد جلبي الملقب بالأول سنة (813 هـ)، وخلص له الملك، وأقبل على تعزيز مملكته، فهو الذي أعاد الرجاء إلى ما رسمه والده من الاستعداد لفتح القسطنطينية بحيث أعاد الحالة التي تركها والده العظيم، وبعد ذلك مبدأ فتح تلك العاصمة العظيمة ومُهيئ انتقال التاريخ من العصور الوسطى إلى التاريخ الحديث، وفي تلك المدة أخذ الإسلام ينتشر في أوربا بمن احتلها من جيش الترك المسلمين، وبدعوة مشايخ الصوفية إلى الإسلام بين سكان مدن أوربا.
فيحق علينا أن نعد السلطانين بايزيد يلدرم وابنه محمد جلبي مجددي أمر الأمة على رأس المائة التاسعة، وقد كان في هذا الوقت بإفريقية السلطان أبو فارس عبد العزيز الحفصي، وكان من السلاطين المصلحين بإفريقية، وقد خضد شوكة أهل الفساد وأزهر في زمنه العلم وساد الأمن فهو بحق ممن قيضهم الله لتجديد أمر الأمة في بعض بلاد الإسلام، وقد عده البرزلي في كتابه «الحاوي» مجدد القرن التاسع، وتقدم الكلام على ذلك.
وقد مثلت حالة المسلمين في القرن الثامن للناظر إليها من خلال كلامنا المتقدم حتى كأنها منه رأي العين، وحين بريء أنه يخالجه في استجلائها اشتباه أو مين، وقد رأى كيف انصدع بناء الجامعة الإسلامية مرارًا، ثم كيف منح صدعه انجبارًا يعقب انجبارًا، ولقد وهت من جراء انصداعه المتكرر شرفة كانت حامية جلاله وأبهة جماله، ألا وهي شرفة الخلافة فقد نشأ الإسلام مقارنًا لمنصب عظيم هو ولاية امور أتباعه، والتيقظ لتنفيذ مقاصده في سائر أصقاعه، ولي ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وقام به خلفاؤه من بعده.
فكانت الخلافة الإسلامية أكبر ضمان لوحدة المسلمين يستظلون بلوائها، وإذا انتابها خطب تألموا للأوائها، ثم زالت حرمة الخلافة بثورة دعاة العباسيين وتمزيقهم
إهاب الخلافة الأموية، فما استتب الأمر للعباسيين بعد لأي حتى تطرق الوهن للخلافة حين انشقت عنها الدولة الأموية بالأندلس والحسنية بالمغرب الأقصى، ولقد تحمل خلفاء العباسيين ذلك على تبرم ولسان الحال ينشدهم:
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها
…
فأول راض سنة من يسيرها
وإن ذلك الانشقاق وإن كان صدعًا عميقًا في محيط الجامعة الإسلامية لم يظهر إضراره أيامئذ؛ إذ كانت حرمة الخلافة الإسلامية في الشرق وهو أشهر العالم يومئذٍ ما برحت قائمة في النفوس مرموقة بالجلالة في العيون، وظلت المملكة الإسلامية فيما عدا ذينك القطرين مجتمعة الكلمة قائمة الشوكة، ثم انفتقت الفتوق بظهور استقلال الأمراء والقواد في أطراف الخلافة الإسلامية، وضعف الخليفة من الظفر بهم ابتدأ ذلك من عهد المعتصم بالله العباسي أواخر القرن الثالث، ثم استفحل في صدر ولاية المطيع سنة (338 هـ) فلم يزل أمر الخلافة يتضاءل والفتق يتواصل حتى اتسع الخرق على الراقع، وأصبحت رباعها وهي بلاقع، يوم أقصى هولاكو خان بقية العباسيين من بغداد، فثووا بمصر، وكان حظهم فيها الإبلاس والحصر، فلم يبق للخلافة إلا الدعاء في الجمع والأعياد، وما حياة من ليس حظه غير الرفع على الأعواد.
لقد زلزلت الخلافة بدخول جند التتر بغداد سنة (656 هـ) وسلطانهم هولاكو خان والخليفة يومئذٍ المستعصم بالله عبد الله بن المستنصر فقتلوه، وأعملوا السيف في بني العباس فلم ينج منهم إلا من عصمه الأجل، وقد كان أحمد بن الظاهر العباسي عم المستعصم قد نجا مترددًا في أحياء العرب إلى أن وصل مصر سنة (659 هـ) وسلطان مصر يومئذٍ الظاهر بيبرس، فبادر الظاهر إلى مبايعة أحمد بالخلافة وحاول أن يخضد به شوكة التتر فسيره بجيش إلى بغداد، فلما جهزه بجيشه تلقاه جيش هولاكو في موضع يقال له غانة فقتل هنالك، ثم ظهر بعد مدة غير طويلة رجل من عقب المسترشد العباسي وهو أحمد بن علي بن أبي بكر بن أحمد بن المسترشد، وقدم إلى مصر فسُر به الملك الظاهر وبايع له بالخلافة ولقبه بالحاكم وفوض إليه أمور العامة والخاصة، كما فوض هو للملك الظاهر عهدة البلاد، فبقي هو وعقبه بمصر يُدعى لهم في الخطب، وتكتب أسماؤهم في السكة، ويتبرك بهم وبأسمائهم على أنهم حفظة سياج الدين، وكان ملوك الإسلام يكتبون إلى الخليفة بمصر يستمنحون منه التقليد بالولاية، فكان ذلك مبلغ الخليفة من الخلافة، فكان مقام الخلافة في هذه المدة مقامًا صوريًا.
ولما ظهر شباب دولة آل عثمان وفتحوا القسطنطينية أصبحوا أعظم سلاطين الإسلام، وصار سلطان القسطنطينية أجدر ملوك الإسلام بأن يكون ولي أمر عموم المسلمين حقًا.
ولما بويع السلطان سليم ابن السلطان بايزيد الثاني سنة (918 هـ) ضم إلى مملكته بلاد الأكراد والعراق والشام ومصر والحجاز، وحين دخل مصر كان الخليفة بها يومئذٍ محمد المتوكل على الله العباسي، فرأى من الخرق استمرار ادعاء الخلافة لنفسه حين ذهبت حقيقتها، ثم ذهبت صورتها فتنازل عنها السلطان سليم قائلاً لسان حاله:«بيدي لا بيد عمرو» وأحضر بين يدي السلطان شعار الخلافة وهو البردة والراية والسيف المنسوبة ثلاثتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومفاتيح الحرمين فسلمها إلى السلطان؛ ذلك أول سنة (923 هـ).
فلقب السلطان سليم حينئذٍ بخليفة المسلمين وخادم الحرمين الشريفين، وبذلك أصحبت الخلافة الإسلامية في حقيقتها قولاً وفعلاً، وحصلت بها وحدة إسلامية أعادت لنفوس المسلمين الشعور بعزتهم، وبذلك تأتَّى لدولة آل عثمان أن تضم أقطارًا إسلامية جملة إلى مملكتها الواسعة دون كبير عناء وحسبت الأمم المعادية للمسلمين يومئذٍ لهم حسابهم، وعلموا أن لسان حال السلطان يقرأ:{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25]، فيحق أن نعد السلطان سليمًا هو المبعوث لتجديد أمر الأمة في رأس المائة العاشرة من وقت صدور الخبر النبوي الصادق، وهو وإن كان تجديده أمر الخلافة متأخرًا عن رأس المائة، فإن ولايته السلطنة قريب من رأس تلك المائة، والعبرة بيوم الظهور وإن تأخر التجديد إلى أن تتهيأ الأمور.
لم يعرف تاريخ الإسلام حادثًا انتاب الأمة الإسلامية منذ كيانها، ولا سهمًا أصابها في قلب إيمانها، مثل الحادث الجلل الذي اعترى المسلمين بالأندلس أوائل القرن الحادي عشر من الهجرة، فوجمت له النفوس وذرفت له العيون، وأوقر ذكره الأسماع في جميع البقاع، ولم يجد المسلمون مُدخلاً لاستلال دائه، ولا تأثرًا يثأر لهم أو مصيحًا لندائه، ألا وهو حادث تنصير جميع المسلمين في مملكة غرناطة، تلك الرقعة التي بقيت للإسلام في بلاد الأندلس، والمأوى الذي لجأ إليه المسلمون حين انتزع منهم الجلالقة بقية بلادهم، وهو وإن كان مأوى ضيقًا إلا أنه كان مأهولاً بخيرة البلاد وبقية الناس لما خلصت بلاد الأندلس بأيدي الجلالقة بسقوط كورة
ألبيرة وعاصمتها غرناطة في ربيع الأول سنة (697 هـ) بعد حصار طويل، وبعد أن شرط الملك فردينادو الجاثليقي (لوكاتوليك) ملك أرغون وشركته في الفتح زوجه إيزابيلا الجاثليقية (لاكاتوليك) ملكة قشتالة، وأبعد سلطان المسلمين أبو عبد الله محمد بن علي آخر بني نصر إلى بلاد المغرب الأقصى، وأصبح المسلمون مسلوبي الملك وانحازوا إلى سكنى ربض البيازين من مدينة غرناطة، وسكنى القرى من بادية غرناطة وحوزها المسماة بالبشرات، وكان في عداد الشروط التي اقتطعها المسلمون على الجلالقة تأمين المسلمين على دينهم وتمكينهم من البقاء في أوطانهم، ثم لم تلبث الجلالقة إلا قليلاً من السنين حتى نكثوا العهود، وتظاهروا بالجحود، وتطرقوا إلى فتنة المسلمين في إيمانهم، وإكراههم على اعتناق دين النصرانية بعد أن وثقوا بأنهم عزل من كل وسيلة للدفاع، وأعيياء من كل حيلة يتخلصون بها من تلك البقاع.
قال في أزهار الرياض: «وفي سنة (904 هـ) أربع وتسعمائة انقطعت كلمة التوحيد من بلاد الأندلس أ. هـ. وأنا أبين لك إجماله وأن أول ما ابتدأ به الجلالقة أن صدر أمر الملك فردينادو والملكة إيزابيلا بإحصاء العائلات الذين تحقق أن أسلافهم كانوا نصارى وأسلموا في مدة ملك الإسلام بتلك الديار، فأكرهوهم على الرجوع إلى النصرانية، ثم ارتقى القسيسون في هذا الأمر فصاروا يدعون على من شاؤوا أن جدودهم كانوا نصارى فيكرهون من يدعون عليهم بذلك على أن ينتصروا، فلما شعر المسلمون بالخطر على دينهم ثاروا ثورة واحدة وقتلوا حكامهم النصارى، فصدر الأمر بقتل الثائرين إلا الذين ينتصرون منهم فإن تنصرهم يمنعهم من القتل، فتنصر معظم المسلمين من سكان غرناطة وباديتها عدا بعض القرى مثل: بليفق وأندرش وجبل بلنقة، وامتنعوا من الإلقاء بأيديهم، فانتشر القتال بينهم وبين الجلالقة، وكان الغلب للجلالقة لا محالة فاستأصلوا سكان تلك القرى عدا أهل جبل بلنقة؛ فإنهم لمناعة جبلهم أفنوا جيش العدو المحيط بهم، ثم انعقد بينهم صلح على تمكين المسلمين من الخروج بأموالهم وأهليهم إلى المغرب الأقصى، ظنًا منهم أن المسلمين لا يهجرون أوطانهم، فلما رأوا منهم العزم على الهجرة منعوهم، ومن خرج إلى المراسي بنية الهجرة أرجعوهم، قال السيد محمد بن عبد الرفيع المرسي الأندلسي أحد مهاجري الأندلس إلى تونس في خاتمه كتابه المسمى «بالأنوار
النبوية»: «ولما رأى العدو العزم منهم (أي: من المسلمين) للخروج نقض العهد وردهم رغم أنوفهم من سواحل البحر إلى ديارهم، ومنعهم قهرًا من الخروج» أ. هـ. وهذا الذي وضعه السيد محمد بن عبد الرفيع إجمالاً كان سببه أن سياسة ملوك الجلالقة كانت تضطرب بين الشدة والملاينة بحسب ما يسنح لهم في أحوال المسلمين، وبحسب ما تكون عليه حالة المملكة السياسية من اتحاد أو اختلاف فيما بينهم، ومن مسالمة أو محاربة بينهم وبين جيرانهم من الإفرنج، وبحسب ما كان للأسبان من المطامع في امتلاك تونس والجزائر، فكانوا يكرهون أن تشيع عنهم قسوة المعاملة مع من يدخلون تحت حكمهم؛ ولذلك دام حال المسلمين في الأندلس نحو مائة سنة بين الضغط والتنفس إلى أن باح العدو بما أضمره وكشر لهم عن نابه في النصف الأخير من القرن العاشر الهجري.
فلما ضاقت الأرض بالمسلمين وأصبحوا مستضعفين في أرض الجلالقة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، وفشا فيهم الإكراه على التنصر بالقتل والحرق وأنواع العذاب، أظهروا التنصر، ولعدم اطمئنان النصارى لهم حشروهم إلى جهة واحدة يسكنونها وهي جهة ألبيرة، ووضعوا لهم اسمًا يدل على جماعتهم وهو اسم موريسكوا وأصبحوا كالعبيد؛ ولذلك سماهم إخوانهم من المسلمين الذين خرجوا إلى المغرب باسم المدجنين وأهل الدجن.
وقد كان المسلمون المتنصرون يسرون الإسلام في قلوبهم، ويقيمون الصلوات في خاصتهم، ويتكلمون فيما بينهم بالعربية، ولكن الجلالقة أخذوا يرصدون أحوالهم، فلم يتركوا وسيلة ليحولوا بينهم وبين الاستمرار على ذلك، قال السيد محمد بن عبد الرفيع الجعفري: «ثم بقي العدو يحتال بالكفر عليهم، فابتدأ يزيل لهم اللباس الإسلامي والجماعات والحمامات؛ لأنها من عادات المسلمين، فإن الفرنج
لا يتخذونها والمعاملات الإسلامية مع شدة امتناعهم والقيام على العدو مرارًا، وعدو الذين يحرق بالنار من لاحت عليه أمارات الإسلام ويعذبه بأنواع العذاب، فكم أحرقوا وكم عذبوا وكم نفوا من بلادهم» أ. هـ.
ووصف السيد محمد بن عبد الرفيع بعض أحوال المسلمين في خاصتهم، فقال: «قد أطلعني الله تعالى على دين الإسلام بواسطة والذي رحمة الله عليه، وأنا ابن ستة أعوام أو أقل مع أني كنت إذ ذاك أروح إلى مكتب النصارى لأقرأ دينهم، ثم أرجع إلى بيتي فيعلمني والدي دين الإسلام، فأخذ والدي لوحًا من لوح الجوز كأني أنظر الآن إليه مملسًا من غير طفل ولا غيره، فكتب لي فيه حروف الهجاء ويسألني حرفًا حرفًا عن حروف النصارى تدريبًا وتقريبًا، فإذا سميت له حرفًا أعجميًا يكتب لي حرفًا عربيًا، فيقول لي حينئذٍ هكذا حروفنا، حتى استوفى لي جميع حروف الهجاء في كرتين، فلما فرغ من الكرة الأولى أوصاني أن أكتم ذلك حتى عن والدتي وعمي وأخي وجميع قرابتنا وألا أخبر أحدًا من الخلق، ثم شدد علي الوصية وصار يرسل والدتي إلي فتسألني، وتقول: ما الذي يعلمك والدك، فأقول لها: لا شيء، فتقول: أخبرني بذلك ولا تخف لأني عندي الخبر بما يعلمك، فأقول لها: أبدًا ما يعلمني شيئًا، وكذلك كان يفعل عمي وأنا أنكر أشد الإنكار، ثم أروح إلى مكتب النصارى وآتي الدار فيعلمني، إلى أن مضت مدة، فأرسل إلي من إخوانه في الله الأصدقاء ويسألونني فلم أقر لأحد قط بشيء مع أنه رحمه الله قد ألقى نفسه للهلاك لإمكان أن أخبر بذلك عنه فيحرق لا محالة، لكن أيدنا الله سبحانه وتعالى بتأييده وأعاننا على ذكره وشكره وحسن عبادته بين أظهر أعداء الدين، وقد كان والدي رحمه الله تعالى يلقنني حينئذٍ ما كنت أقول عند رويتي للأصنام
…
إلخ، فلما تحقق والدي رحمه الله تعالى أني أكتم أمور دين الإسلام عن الأقارب فضلاً عن الأجانب أمرني أن أتكلم بإفشائه لوالدتي وعمي وبعض أصحابه الأصدقاء فقط، وكانوا يأتون إلى بيتنا فيتحدثون في أمر الدين وأنا أسمع، فلما رأى حزمي مع صغر سني فرح كثيرًا غاية وعرّفني بأصدقائه وأحبائه وإخوانه في دين الإسلام، فاجتمعت بهم واحدًا واحدًا وسافرت الأسفار لاجتمع بالمسلمين الأخيار من جيان إلى غرناطة وإشبيلية وطليطلة وغيرها من مدن الجزيرة الخضراء، أعادها الله تعالى للإسلام، فتخلص لي من معرفتهم أني ميزت سبعة رجال منهم كانوا كلهم يحدثون بأمور غرناطة وما كان بها في الإسلام حينئذٍ، فسندي عال لكوني ما ثم إلا واسطة واحدة بيني وبين أيام
الإسلام بها» أ. هـ وما قاله السيد محمد بن عبد الرفيع من التعذيب والقتل والتحريق هو إشارة إلى ما تقوم به محاكم التفتيش الدينية النصرانية التي أسستها الكنيسة الرومية في أهم البلاد المسيحية من أواسط القرن الثالث عشر المذكورة في التاريخ، ففي سنة (946 هـ) أصدر الملك فليبو الثاني أمرًا بأن الموريسكيين لا يتكلمون باللغة العربية فيما بينهم، ولا يسمون أولادهم بأسماء المسلمين، وأن يرسلوا أولادهم ممن بلغ ثلاث سنين إلى من عمره خمس عشرة سنة إلى المدارس النصرانية، وفيما قبل هذه المدة كانت حاجة الجلالقة إلى الاستعانة بمعارف المسلمين في العلوم والصنائع قد سمحت للمسلمين بالانتشار في كثير من البلاد الواقعة في حكم الجلالقة، فكان كثير منهم في جيان وبلنسية وإشبيلية ومرسية زيادة على معظم المسلمين الذين كانوا في غرناطة وألبيرة ومالقة وأحوازهن، وقد خرجت جماعات منهم إلى فرنسا لأسباب لم أطلع عليها، فاشترط عليهم هنالك أن لا يفارقوا النصرانية فبقوا هنالك مترددين فيما يصنعون، وكانت فرنسا في تلك المدة قد اصطلحت مع إسبانيا بسبب الاتحاد الكبير بين ممالك أوربا الذي أسسه ملك فرنسا هنري الرابع سنة (1603 م).
ولما لم يبق الجلالقة أملاً للتسامح مع الموريسكو في إقامة عوائدهم الإسلامية وأقاموا عليهم العيون في تتبع أعمالهم في خويصتهم ضاق الأمر بالموريسكو فثاروا ثورة كبرى في كورة ألبيرة وجبالها، ودام بينهم وبين الجلالقة قتال مدة أربع سنين إلى أن كانت الهزيمة على الموريسكو سنة (961 هـ) فأخلدوا إلى الطاعة، ولولا حروب انتشبت عقب ذلك بين الجلالقة وبين الإنجليز أخذ فيها المسلمون نفسًا من العيش، لما استطاعوا الدوام على تلك الحال إلى أوائل القرن الآتي، وقد يسر الله للمسلمين بقاءهم على إيمانهم، وإقامة شعائر دينهم، ودوام التآمر بينهم على ذلك مع انتشارهم وشدة المراقبة عليهم فلم يضمحل الإسلام منهم بحسب الإمكان حتى استطاعوا السعي للخلاص حين سنحت لهم الفرصة.
وتوفي الملك فيليبو الثاني وخلفه ابنه فيليبو الثالث، وكان يميل إلى التسامح مع الموريسكو، فظلوا في سكون وجثوم مدة سنين إلى أن أتيح لنفر منهم أن ارتحلوا عن الأندلس سنة (1013 م) قاصدين بلغراد من مدن السلطنة التركية، وهنالك لقوا الوزير مراد بكلربيك باشا الملقب قيوجي، وكان هو الصدر الأعظم للخليفة السلطان أحمد خان الأول فأخبروه بما حل بالمسلمين من الشدة والتضييق عليهم في
دينهم في إسبانيا وفرنسا، فبسط الوزير الحال إلى السلطان الذي كان غير عالم بما حاق بالمسلمين، وكان يحسبهم قد اختاروا التنصر على الإسلام بدون إكراه، فصدر إذن السلطان إلى الوزير بأن يصدر كتابًا إلى الملك هنري الرابع ملك فرنسا وحليف سلطان تركيا، وقد حكى السيد محمد بن عبد الرفيع ذلك فقال: «فكتب الوزير المشار إليه إلى صاحب فرنسا
…
بإذن من السلطان نصره الله يأمره بأن يُخرج من كان من المسلمين بالأندلس محمولين في أغربته ويوجههم إلى بلاد الإسلام فيسفر من عنده بما يحتاجون إليه، فلما قرئ الأمر السلطاني في ديوان الفرنسيس بباريس دار مملكته وسمعه من كان عنده مرسلاً من قبل صاحب الجزيرة الخضراء (في إسبانيا) وهو فيليبو الثالث أرسل إلى سيده يخبره بأن السلطان أحمد أرسل أمره إلى ملك فرنسا وأمره أن يخرج من عنده من المسلمين، فلما علم فيليبو الثالث هذا دخله الرعب والخوف الشديد، فأمر حينئذٍ بجمع أكابر القسيسين والرهبان والبطارقة وطلب منهم الرأي وما يكون عليه العمل في شأن المسلمين الذين هم ببلاده كافة، فأجمعوا كلهم على إخراج المسلمين كافة من مملكته»، ثم ذكر الظهير الذي أصدره الملك فيليبو الثالث، ونحن نذكره لما فيه من النكت التاريخية الموضحة لحالة آخر المسلمين بالأندلس.
«لما كانت السياسة الحسنة الجيدة لإخراج من يكدر على كافة الرعية النصرانية في مملكتها التي تعيش عيشًا رغدًا صالحًا والتجربة أظهرت لنا عيانًا أن الأندلس الذين هم متولدون من الذين كدروا مملكتنا فيما مضى بقيامهم علينا مرارًا وقتلهم أكابر مملكتنا والقسيسين الذين كانوا بين أظهرهم وقطعهم لحومهم وتعذيبهم بأنواع
التعذيب مع عدم توبتهم مما فعلوه، وعدم رجوعهم رجوعًا صالحًا من قلوبهم لدين النصرانية، ولم تنفع فيهم وصايانا ولا وصايا أجدادنا الملوك، ورأينا عيانًا أن كثيرًا منهم أحرقناهم بالنار لاستمرارهم على دين المسلمين بعيشهم فيه خفية ولاستنجادهم كذلك إعانة السلطان العثماني لينصرهم علينا، وظهر لنا أن بينهم وبين السلطان مراسلات إسلامية ومعاملات دينية تيقنت ذلك من أخبار صادقة وصلت إليَّ، ومع هذا لم يأت إلينا أحد منهم يخبرنا بما يدبرونه في هذه المدة بينهم وفيما سبق من السنين بل كتموه بينهم، وظهر لي ولأرباب العقول والمتدينين الصالحين من القسيسين الذين جمعتهم لهذا الأمر أن بقاءهم بيننا ينشأ عنه فساد كبير بسلطتنا، وأن بإخراجهم من بيننا يصلح الفساد الناشئ من إبقائهم بمملكتي، أردت إخراجهم كافة ورميهم إلى بلاد المسلمين أمثالهم لكونهم لم يزالوا مسلمين» أ. هـ.
وقد توفي الملك فيليبو الثالث عقب هذا وولي ابنه فيليبو الرابع، فخرج المسلمون من الأندلس في زمانه سنة (1017 هـ) سبع عشرة وألف هجرية قاصدين المغرب الأقصى، والمغرب الأوسط، وتونس، ومصر، وبلاد الدولة العثمانية، وكان عدد الخارجين على أظهر التقادير ألف ألف نسمة، وقيل: سبعمائة ألف، وقيل: ستمائة ألف، وكان الداخلون منهم إلى البلاد التونسية نحو ثلاثمائة ألف.
فأنت ترى أن الله أنقذ أمة من المسلمين من حبائل الكفر، وأرجعهم إلى دينهم القويم فنجوا هم ومن تناسل منهم من ذلك المصاب، وقطع الله بذلك مطامع صرف المسلمين عن دينهم في مستقبل الحوادث التي وقع فيها المسلمون تحت حكم غير المسلمين وحسب للخلافة الإسلامية حسابها وقدرت حق قدرها، فكان ذلك الحادث نجاة في نفسه، ومثالاً صالحًا للحوادث التي جرت من بعده، وكل ذلك بهمة السلطان الصالح أحمد خان الأول وزيره الناصح مراد باشا قيوجي.
فلا يعترضنا تردد في أن نعد هذين الرجلين الصالحين مجددي أمر الدين على رأس المائة الحادية عشرة (أي: سنة 1013 هـ) من يوم إخبار الرسول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
ما كانت الأدواء التي انتابت هيكل الجامعة في القرن الحادي عشر الهجري بالتي تتركه سليمًا من أخطار تنخر عظمه، وتنزف دمه، وتشرف به على الهلاك وبإجالة نظرة واسعة على تاريخ الإسلام في ذلك القرن نرى حالة هي أعصب الأحوال التي عرضت للمسلمين عامة، فلقد تفككت الجامعة الإسلامية في كل مكان بما اعتراها
في دخيلتها من فتن الثوار، وانقسام الأهواء، واضطراب الحياة الاجتماعية، وفقدان الأمن في سائر البلاد شرقًا وغربًا.
فقد تضاءل نور العلم، وحل الفساد في الأخلاق، وساد المسلمين الوهن وحب الدعة، وغشت على عقولهم الأوهام والغرور، واحتارت العقول باضطراب الفتن التي أعمى الأمة عُجاجها وغمرهم.
فأما الشرق الإسلامي فقد كان معظمه يومئذٍ للدولتين العثمانية والفارسية فبلاد الدولة العثمانية (وهي بحق يومئذٍ سيدة الممالك الإسلامية) قد صارت بؤرة فتن بجنود الإنكشارية، وآلت كمثل الكرة تتلقفها أيدي زعماء الجنود يترامون بها على حسب أهوائهم، ابتدأت ثورة هؤلاء الجنود على السلطان مصطفى خان الأول سنة (1027 هـ)، فلا نجد من سلم بعده من سلاطين آل عثمان من ثورة آلت إلى قتل أو خلع فصارت الدولة مهزلة في أيدي شياطين الفتنة ودعاة الضلالة المشتهرين بتطلب الرزق من وجوه الغدر والحرابة.
وكانت المملكة الفارسية في ذلك القرن منتزي أمراء بيت الملك الصفوي والأزابكة رؤوساء الجنود بعد وفاة الشاه طهماسب ابن الشاه إسماعيل، واختلاف أولاده الكثيرين في ابتزاز أمر المملكة، حتى انبرى لجمع الكلمة الشاه عباس بن طهماسب، ولكنه لما جمع الكلمة في بلاده حدثت بينه وبين السلطان مراد الرابع العثماني حروب في أثناء عام (1032 هـ) تلك الحروب التي يظهر أن سببها إحن ودخائل قلبية كانت قد نبتت في قلوب الفرس أتباع المذهب الشيعي؛ إذ كانت تضيق صدورهم أيام تفوق الدولة العثمانية عليهم من جراء ما كانوا يلقون منها من الغضاضة والاضطهاد في المعاملة بسبب اختلاف النزعتين، فلما تنسموا نسيم القوة نشطت نفوسهم، فأثمرت تلك الإحن طلب الانتصاف لنصر مذهبهم على مذهب سكان البلاد العثمانية من الأشاعرة والماتريدية، فأخذت الفتن تظهر في بغداد التي هي برزخ بين المملكتين، وملتقى أتباع البلدين، حتى ملأت القلوب إحنًا، والعصور بعدها فتنًا، واستولى الفرس على بغداد استيلاء الجبابرة، فأحرقوا خزائن كتبها، وخربوا ضريح الشيخ الجيلي تشفيًا من أهل السنة.
وكانت بلاد العراق تبعًا لحال هاتين الدولتين إن قامت الفتن بينهما كان مجالها العراق، وإن آلت إلى مُلك الدولة العثمانية كان اختلال حالها تبعًا لاختلال حال
الدولة العثمانية، وكذلك كان حال الممالك الشامية، وكانت الصولة للجند في هذين القطرين العراقي والشامي.
وكانت بلاد الحجاز في فوضى عظيمة من أثناء سنة (1077 هـ) حين توفى أمير الحجاز العظيم زيد بن محسن، فاضطرب الحجاز بنزاع بين الشريف سعد بن زيد المحصل على الإمارة وبين أخيه محمد يحيى، والشريف محمود الداعي لنفسه، فأصبح الحرم الأمين مطار شرار الفتن، وعم النهب والسلب طرق القوافل، ونُهب الحجيج والتجار، ودامت الحال في اضطراب إلى منتهى القرن الحادي عشر، ففي سنة (1099 هـ) قطع العرب طريق الحاج المصري والمغربي، وكان بالحجاز خوف عظيم.
وأما مصر وهي واسطة البلاد الإسلامية بين الشرق والغرب، فكانت في خلال القرن الحادي عشر بحالة فوضى وإهمال؛ لأن حضارتها قد أخذت في الانتفاض من وقت انقراض خلفاء العباسيين منها حين دخلت تحت الدولة التركية في مدة السلطان سليم، إذ صار حكمها للباشوات في القاهرة، وللكشاف (جمع كاشف)، والسناجق في كور مصر الأربع والعشرين، وكان دأب الجميع الجور والعسف والسلب وإذلال الأمة، حتى ماتت الهمم، وصار السير إلى الوراء بعد الأمم، قال المؤرخ محمود فهمي في البحر الزاخر:«وفي ظرف القرنين اللذين أعقبا التغلب العثماني (العاشر والحادي عشر) كانت مصر محكومة بباشوات وسناجق من طرف الدولة العثمانية، فأخذت هذه المملكة في الاضمحلال في الأنفس والأموال، وصار هؤلاء الباشوات والسناجق في طريق السلب والنهب» ، وقال الجبرتي:«إن السلطان سليمًا لما أخذ مصر وخرج راجعًا إلى بلاد سلطنته، أخذ معه الخليفة العباسي، وأخذ معه ما انتقاه من أرباب الصنائع التي لا توجد في بلاده بحيث إنه فقدت من مصر نيف وخمسون صناعة وما ظنك بعاقبة هذه الحالة؟ » .
وما كان المغرب بأهنأ عيشًا من المشرق تلك المدة، فإن طرابلس وتونس والجزائر كانت تابعة للدولة العثمانية، فكانت أدواء تلك الدولة تتسلل إلى هذه الإيالات، وتزيد بما تزيد به من الفقر والجهل وقلة النظام، وكان الحكم في هذه الأقاليم بيد الجند وزعمائه.
فطرابلس خيم عليها الجهل، وأرهقها ظلم الولاة الذين من آخرهم خليل باي الذي كان نصيرًا لمراد باي أبي بالة والي تونس على تخريب القيروان سنة
(1111 هـ)، وتونس كانت قرارة فتن وأكدار من حروب قائمة بين أهلها وبين أهل الجزائر من سنة (1096 هـ)، ومن اشتداد مظالم مراد باي المرادي الملقب بأبي بالة، والمتوثب على إمارة تونس سنة (1110 هـ)، فإنه عاث في البلاد إفسادًا وقتلاً وتمثيلاً، ومجاهرة بالفواحش، وهدم مدينة القيروان وقرى كثيرة من البلاد.
وبلاد الجزائر كانت في فتن مع أهل البلاد التونسية أيام مراد أبي بالة كما قلنا، وكان مراد قد خرب قرى كثيرة بين البلاد التونسية وبين قسنطينة، وكانت أيضًا في حروب مع سلاطين المغرب من جهة تلمسان وسجلماسة، فكانت تلتهمها النيران من أطرافها.
وأما المغرب الأقصى، وهو المملكة الوحيدة في المغرب المستقلة عن حكم الدولة العثمانية، فكان في فتن مضطرمة، من ثورات القبائل، واختلاف الدعاة، وعصيان المدن بما حولها من القبائل، فعصت تازا وفاس ومراكش وتارودانت وغيرها في
أواخر القرن الحادي عشر من سنة (1070 هـ)، وكان الإسبنيول قد انقض على مدينة المهدية المغربية المعروفة بالمعمورة من عام (1020 إلى عام 1092 هـ) وأخذوا الجديدة والعرائش وآصلاً وسبتة.
وأما ما انتاب الجامعة الإسلامية من الخارج فإن دول أوربا الذين كانوا يحسبون محاربة الدولة العثمانية لهم من وقت ظهورها جهادًا دينيًا، كانوا قد ملئت قلوبهم رعبًا من عواقب تلك الحروب قرونًا طويلة، فلما رأوا وهن تلك الدولة من وقت شبوب الحرب بينها وبين دولة الفرس وما عقبه من فوضى الجند، نشطت تلك الدول لاسترداد قواها، فالذين كانوا منها تحت حكم الدولة العثمانية طمحوا إلى الخروج عنها، وجعلوا يظهرون التذمر من مظالم ولاة الترك إياهم ويخيلون تعليل ذلك بأنه الكراهية الناشئة عن التعصب الديني، وزاد الطين بلة، وجسد الإسلام علة أن التكافؤ الفكري والتمدني بين الأمم في الشرق والغرب، قد أخذ يتباعد ويتفاوت بجمود النهضة الفكرية في الشرق وانتشارها في الغرب فكانت الأمم العظيمة في أوربا قد تفوقت في العلم والتفكير على الأمم الإسلامية بنشاط أولئك وخمول هؤلاء، والتحفز إلى طلب الكمال من أولئك وغرور هؤلاء، فكانت دول أوربا قد زالت أدواؤها، وقوي ساعد نفوذها، وانبث سفراؤها وعلماؤها ومفكروها في دواخل البلاد الإسلامية، يسبرون أحوالها، فشعروا شعورًا كاملاً بانحلال الجامعة الإسلامية، وتحفزوا لاحتلال مكانها من سيادة العالم، ولكنهم لم يلبسوا لها جلد النمر، بل دفنوا تحت الرماد شواظ الجمر، وجعلوا يكيدون كيدًا، واستولى أسطولها العتيد على دواخل الدردنيل، وتساجل الفريقان حروبًا كانت الانهزامات فيها أكثر حظوظ الجيوش التركية على أنه وإن كانت من بين تلك الدول دول تظهر المودة من غير عداء فهم وإن لم يباكروها الغارة، ما كانوا يؤملون لجيشها على عدوه انتصاره، فقالوا في نفوسهم: نحن أولى بالغنيمة، وحبائب العروس أحق بانتهاب طعام الوليمة:
قالت رأيت من الأعادي غرة
…
والشاة ممكنة لمن هو مرتمي
فأما الدولة الفارسية فقد كانت في ذلك القرن بعد وفاة الشاه عباس في حالة سكون، وكانت دول أوربا لاهية عنها بتوجه همتها إلى الدولة المزاحمة لعظمتها، وهي الدولة العثمانية.
ثم إن قوة أساطيل الدول المحاربة للدولة العثمانية كانت قد رجحت رجحانًا عظيمًا على أساطيل دول الإسلام، فكانت القرصنة تنال من المسلمين ما لا تناله قرصنة هؤلاء من الأوربيين، فأصبحت أسرى المسلمين في البلاد الأجنبية أوفر بكثير مما بيد المسلمين من الأسرى، وذلك كلف المسلمين إنفاق ذهب كثير لفداء أسرى المسلمين من أيدي البندقيين والجنوبيين والإسبنيول.
وبإجالة نظرة واسعة على حالة المسلمين في القرن الحادي عشر يظهر للناظر أن لم شعث المسلمين قد أصبح أمرًا عسيرًا، وأن تجديد أمرها بمعناه الكامل أوشك أن يكون متعذرًا، وأن حالة التجديد لم يبق مطمع فيها إلا أن تكون بمنزلة التنفيس على الأمة من أضرار حائقة، ونوائب حالقة، كان أمر الدين حينئذٍ في أشد الحاجة إلى استتباب الأمن برًا وبحرًا، وإلى تفوق حربي أو صلح سياسي تلم به بلاد الإسلام شعثها، لتسلم من الرزايا، وتستبقي مالها، ويقبل أهلها على العلم والعمل، فهي أحوج شيء إلى ذلك، ففي ظلمات هذه الفتن بزغ نور في مقر الخلافة باعتلاء السلطان مصطفى الثاني ابن السلطان محمد الرابع عرش السلطنة في جمادى الثانية سنة (1106 هـ)، وصادف أن كانت الدولة استراحت من مزاحمة الدولة الفارسية إثر وفاة الشاه عباس، ثم بانعقاد الصلح بين الدولتين في سنة (1049 هـ)، وقد دعت السلطان أوصافه الجليلة إلى العمل للم شعث الدولة فقاد الجيوش بنفسه، وانتصر انتصارات على البولونيين والروس، والمجر، أعادت للدولة حسن سمعتها في الحروب ووفق الله هذا السلطان إلى اختيار وزير صالح وهو الوزير حسن باشا كوبرلي، فأسند إليه الصدارة العظمى سنة (1109 هـ)، ولما استتب له النصر في معظم وقائعه دبر مع وزيره كوبرلي في استثمار تلك الفرصة لفائدة الأمة، فعقد صلحًا مع مملكة النمسا التي لم تزل شديدة الصراع مع جيوش العثمانيين، وتم الصلح في رجب سنة (1110 هـ) صلحًا اقتضى إرجاع بلاد المجر إلى النمسا، وإرجاع بعض مراسي البحر الأسود إلى الروسيا.
وبذلك الصلح توجهت همة السلطان إلى إصلاح ما انهرش من أحوال المملكة وتوابعها وتجديد ما رث من حالة جيشها، وكان السلطان قد قمع جند الإنكشارية وضرب على أيدي زعمائهم، وأبطل الرشوة، ثم توجهت همته إلى تحسين حال الممالك التابعة له، وفي مقدمتها مصر والحجاز؛ إذ أصبح أمراء القطرين يحسبون للسلطنة حسابها بعد تحقق صرامة السلطان مع جند الإنكشارية، وضربه على أيدي المرتشين والمفسدين.
ومن أحسن الصدف: أن كان مراد أبو بالة والي تونس الجائر المفسد لما أفنت حروبه مع المسلمين عساكره، أرسل أحد قواد جيشه آغة صباحية الترك المسمى إبراهيم الشريف إلى بلاد السلطنة العثمانية ليجمع له جندًا من المتطوعة، فصادف بعثة هنالك بعثها باشا الجزائر إلى الحضرة السلطانية في التشكي من أحوال مراد أبي بالة، فظهر للسلطان أن جمع بين بعثة الجزائر وبعثة تونس، وأمرهم أن يبلغوا باشا الجزائر وباي تونس وجوب عقد صلح بينهما وذلك في سنة (1113 هـ)، فكاتب إبراهيم مراد بذلك، فامتنع وعصى، وقد تحقق السلطان جور مراد أبي بالة، فاستحلف إبراهيم الشريف على المصحف أن لا يكذبه فيما يسأله عنه من أحوال مراد أبي بالة، فحلف أن يصدقه، فسأله عما يتشكى منه أهل الجزائر فأخبره الصدق فعزم السلطان على توجيه جيش للقبض على مراد أبي بالة وكف جوره عن الناس وخلعه من الولاية، ثم إنه وثق من إبراهيم الشريف أن يكون هو الذي يتولى قتل مراد أبي بالة وكف عاديته، فأعطاه منشورًا سلطانيًا بيده مخاطبًا به جند الترك بتونس يأمرهم بطاعة إبراهيم الشريف فرجع إلى تونس سنة (1113 هـ) على مراد أبي بالة فقتل، ونشر الأمر السلطاني إلى الجند فبايعوا إبراهيم الشريف، وبذلك استقر الأمر في نصابه بالإيالة التونسية، وكان إبراهيم الشريف معروفًا قبل ولايته بالخير والعفة والإنصاف، وقد سار سيرة حسنة بعد ولايته إلا أنه كان يتهم بالشعوبية، ودامت تونس في مدته في حالة حسنة ربما خالطها ما لا تخلو عنه بلاد الإسلام من حدوث ثورات قليلة.
وأما الجزائر والمغرب فقد كان من حسنات السلطان مصطفى وقوع صلح بينهما، وذلك في صدر سنة (1109 هـ)، قال في الاستقصاء:«وفي يوم عرفة من سنة (1108 هـ) قدم عشرة رجال من إستنبول ومعهم كتاب من السلطان مصطفى بن محمد العثماني صاحب القسطنطينية العظمى إلى السلطان المولى إسماعيل يندبه إلى الصلح مع أهل الجزائر، فانتدب رحمه الله وامتثل» وقد استرجع السلطان مولاي إسماعيل في أوائل القرن الثاني عشر الهجري عدة مراس من أيدي الإسبنيول والبرتغال وغيرهم بحيث لم تأت سنة (1103 هـ) إلا وقد استخلص معظم بلاد المغرب، وطاعت له وأقبل على تحصينها وتحسينها.
فما أطلت سنة (1113 هـ) ثلاث عشرة ومائة وألف إلا ومعظم بلاد الإسلام
في هدوء وأمن وتراجع إلى الحسنى، وتلك السنة هي رأس المائة الثانية عشرة من عام إخبار الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
فبحق نعد السلطان مصطفى الثاني مجدد أمر المسلمين في رأس المائة الثانية عشرة.
* * *