الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروينا عن ابن عباس أنه قال:(إنَّا كنَّا إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله، ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف)، وروى مسلم عن ابن سيرين أنه قال:(إن هذا الحديث أو هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم)، وروى أبو عمر ابن عبد البر في التمهيد أن أبا هريرة قال: إن هذا العلم (يعني: الحديث) دين فانظروا عمن تأخذونه، ومثله مروي عن مالك في التمهيد، وفي المدارك لعياض.
وروينا عن عبد الله بن المبارك: (أن الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء)، وقال عبد الرحمن بن مهدي:(خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن: الحكم والحديث).
وعلى هذه الطريقة جرى الأئمة المشهود لهم بتمام الضبط مثل أصحاب مالك؛ كعبد الله بن المبارك، وابن مهدي، ومن أصحابهم؛ كالإمامين البخاري ومسلم.
وأنا أرى التحري أولى بالمسلمين فقد طفحت عليهم الروايات، فكانت منها دَوَاهٍ وطامَّات.
فإذا كنا متفقين في طريقنا من تغليب جانب التحري فالمراجعة سهلة، ولو لاح الخلاف في أول وهلة، وإن كان كلٌّ ينحو إلى منهج من ذينك المنهجين، فالاختلاف في الفروع تبع للخلاف في الأصول فلنتمسكه بوثاق الود، ولا نهتم باختلاف الأفهام والعقول.
المراجعة التفصيلية:
ثم إن استقراء كتاب «فتح الملك العلي» بلغ بي إلى حصر مدارك الخلاف بيننا في ستة طرق مما سلكتموه:
الطريق الأول: أن كثرة الرواة عن أبى الصلت ترونه موجباً تعديله وأنا أرى أن كثرة الرواة عن المطعون فيه ليست بالتي تفلته من سهام الطاعنين وأنتم تعلمون أن أهل الصحيح والحسن يتوقفون في الرواية عن أحد بقولهم: «تكلم فيه» فكيف والذين رووا عن أبي الصلت كلهم متكلم فيهم.
الطريق الثاني: جعلتم اشتهار أبي الصلت بالزهد والديانة شاهداً لتعديله، وهذا لا أساعد عليه؛ إذ بين الديانة والعدالة بون، فقد قال مالك رضي الله عنه: لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله عند هذه الأساطين وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت
مال لكان أميناً إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن»، وروى ابن وهب عنه أنه قال:«أدركت بهذه البلدة أقواماً لو استسقى بهم القطر لسقوا قد سمعوا الحديث كثيراً ما حدثت عن أحد منهم شيئاً، لأنهم كانوا ألزموا أنفسهم خوف الله والزهد» وهذا الشأن (يعني الحديث) يحتاج إلى رجل معه تُقَى وورع وإتقان وفَهْم وعلم، فيعلم ما يخرج من رأسه وما يصل إليه غداً، وقال يحيى بن سعيد القطان فيما روى عنه مسلم:«لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث (يريد أنهم يكذبون عن توهم وغلط واختلاط في المسموعات وحسن الظن بالرواة)، وقال عبد الله بن المبارك في شأن عَباد بن كثير: «كنت إذا ذكر في مجلس أثنين عليه في دينه وأقول: لا تأخذوا عنه» فإذا سلمنا أن أبا الصلت كان على جانب من التفوق والزهد فلسنا بالذين نسلم أن ذلك كافٍ في قبول حديثه.
الطريق الثالث: الاحتجاج بتوثيق من وثق أبا الصلت مثل الحاكم في المستدرك ومثل ما نقل عن يحيى بن معين، وأنا آخذ في هذا بقاعدة تقديم الجرح على التعديل إلا إذا كان المجرِّح شاذّاً جدّاً وكان متحاملاً، لا سيما وكثير من الذين جرحوا أبا الصلت طعنوه طعناً عميقاً، كما ذكره الخطيب البغدادي في ترجمته، وكما ذكره أئمة الحديث عن أحمد بن حنبل والدارقطني وابن عدي في شأنه.
وقد ثبت أن أبا الصلت كان يروي أحاديث في مثالب ملصقة بمن تثلبهم الشيعة من الصحابة مثل أبي موسى الأشعري ومعاوية? وذلك يدل على خبث تشيعه ورقة ديانته بدخول الفضول بين خيرة الأمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الطعن في الصحابة إطلال من كوى الإلحاد في الدين ورفع الثقة بنقلة الدين إلينا، فكيف تطمئن النفس للرواية عن مثله ولا ينفعه مع هذه النزعة زهده وتقاه، وفي الحديث وصف رسول الله قوماً، فقال:«تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم يمرق أحدهم من الدين كما يمرق السهم من الرمية» ، وفي الحديث:«التقوى هاهنا» ويشير إلى صدره ثلاث مرات.
وقد جزم أحمد بن حنبل وابن عدي بأن أبا الصلت هو واضع حديث: (أنا مدينة العلم)، وناسبه لأبي معاوية، أما ما ينقل عن يحيى بن معين في شأن أبي الصلت، فكلامه فيه متناقض كما ذكره الخطيب في التاريخ فلا يعول على شيء من كلامه.
وهاهنا ملاحظة تتعلق بهذا الطريق وهي أنكم ذكرتم في صفحة (8) عن
الدارقطني عن دعلج أن أبا سعيد الهروي سئل عن أبي الصلت، فقال: نعم، ابن الهيصَم ثقة، فقال: إنما سألتك عن عبد السلام، فقال: نعم ثقة. ا. هـ.
والظاهر أن في النسخة تحريفاً فإن الخطيب البغدادي في التاريخ في ترجمة عبد السلام بن صالح ذكر كلام الدارقطني عن دعلج، ونص جواب الهروي هكذا:
«نعيم بن الهيصم (بالصاد المهملة) ثقة قال سائله: إنما سألتك عن عبد السلام، فقال: نُعَيم ثقة ولم يزد» ، فهذا إعراض من أبي سعيد الهروي عن الجواب عن حال عبد السلام بن صالح الملقب بأبي الصلت، وليس في العبارة نعم، حرف الجواب، بل هو نُعيم اسم بصيغة التصغير ونعيم هذا هروي توفي سنة (228 هـ).
الطريق الرابع: رأيتم أن هذا الحديث روي من غير طريق أبي الصلت؛ إذ رواه محمد بن جعفر الفيدي عن أبي معاوية، وجعفر بن محمد البغدادي الفقيه عن أبي معاوية، وعمر بن إسماعيل بن مجالد، وأحمد بن سلمة الجرجاني، وإبراهيم ابن موسى الرازي، ورجاء بن سلمة، وموسى بن محمد الأنصاري، ومحمود ابن خداش، والحسن بن علي بن راشد، وأبو عبيد القاسم بن سلام.
وقد ذكرت في مقالي ما قيل في جعفر بن محمد، وفي رجاء بن سلمة، وفي أحمد بن سلمة، وفي عمر بن إسماعيل، فيبقى محمد بن جعفر الفيدي، وإبراهيم ابن موسى الرازي، وموسى بن محمد الأنصاري، ومحمود بن خداش، والحسن ابن علي بن راشد، وأبو عبيد القاسم بن سلام.
فأما محمد بن جعفر الفيدي فهو في ذاته ثقة غير أن روايته لم تنقل إلينا بسند معروف حتى ننظر رجاله الراوين عن محمد بن جعفر الفيدي، ثم ننظر صيغة التحديث به عن أبي معاوية إنما رأينا نقلاً نقله الخطيب في التاريخ عن ابن معين بغير سند أن الفيدي روى عن أبي معاوية فالله أعلم بحال سنده.
وأما إبراهيم بن موسى فرواه عنه محمد بن جرير الطبري، وقال: إنه شيخ لا أعرفه ولا سمعت منه غير هذا الحديث، فهو إذن مجهول لراويه، غريب عنده، فلا يعتد به وهو غير إبراهيم بن موسى الرازي الملقب بالقراء وبالصغير فذاك إمام جليل.
وأما موسى بن محمد الأنصاري فقد روى حديث: «أنا دار الحكمة» وقد ذكرت روايته في مقالتي في جملة رواياته وبينت ما فيها، وفي رواته محفوظ ابن بحر الأنطاكي، وقد قال فيه أبو عروبة: إنه كذاب، قاله الذهبي في الميزان.
وأما محمود بن خداش، والحسن بن علي بن راشد فقد كفيتم القول فيهما؛ إذ قلتم: إن الراويين عنهما متهمان.
وأما أبو عبيد ففي الذين حدثوا عنه الجبريني وهو من الضعفاء، وقد ذكرتم متابعة سعيد بن عقبة، ومتابعة عثمان بن عبد الله الأموي، وصرحتم كما صرحنا بقول ابن عدي فيهما فلا يتكثر بهما.
الطريق الخامس: تعضيد هذا الحديث بالشواهد المعنوية مما يدل على فضائل علي رضي الله عنه، وأن فضل علي لا ينكره إلا جاهل ضعيف الإيمان، فهو عند جمهور علماء الإسلام في الرعيل الأول من أفاضل الصحابة، واتفق أهل السنة قاطبة على أنه يتلو في الفضل أبا بكر وعمر واختلفوا في الثالث، فقيل: عثمان وهو قول الجمهور منهم وهو الأصح عن مالك وهو الذي نتقلده، وقيل: الثالث علي، وقيل: هما سواء وهو مروي عن مالك فرضي الله عن جميعهم.
إنما الكلام في فضيلة خاصة وهي أن يكون علي هو الطريق الواضح لعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يكون إلا من نِحَل الرافضة كما بينته في مقالي، ويقوي التهمة المذكورة رواية الإصبغ بن نباتة لهذا الحديث أن رسول الله قال لعلي:«يا علي كذب من زعم أنه يدخلها من غير بابها» فقد صرحت المكيدة بعد أن لوحت بها القرائن العديدة.
الطريق السادس: أن كثرة الروايات والطرق للحديث الضعيف تبلغ به مرتبة الحسن أو الصحة، وهذا إذا سلمناه فإنما يحتمل في الحديث الخفيف ضعفه، وأما الذي نحن بصدد الخوض فيه فهو موضوع أو شديد الضعيف، فكثرة المتابعات لا تفيد على أن نمنع إطلاق القاعدة كما يدل عليه كلام النووي وابن الصلاح.
والخلاصة: أن حال أسانيد هذا الحديث يمنع من إدخاله في حقيقة الصحيح وحقيقة الحسن لفقدان شروطهما فيه فيدور أمره بين الضعف والوضع.
* * *