الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توطئة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى
(1) سورة آل عمران: الآية 102.
(2)
سورة النساء: الآية 1.
(3)
سورة الأحزاب: الآية 70 - 71.
محمد صلى الله عليه وسلم. وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (1).
فإن الله تعالى جلت حكمته أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كتابًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) ثم وكل سبحانه إلى رسوله الأمين تبيان هذا الكتاب، فقال سبحانه وتعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (3) والرسول صلى الله عليه وسلم في بيانه للقرآن الكريم لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4): لذلك أوجب الله علينا طاعته وحذرنا ومعصيته، فقال تبارك وتعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (5): وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (6) فالقرآن والسنة من مشكاة واحدة وهما أساس للدين والنور الهادي إلى الصراط المستقيم، وضياع شيء منهما ينافي ما وعد الله به من حفظه للقرآن الكريم في قوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (7) فالكتاب والسنة توأمان لا ينفكان ولا يتم التشريع إلا بهما جميعًا، والسنة مبينة للكتاب وشارحة له، وموضحة لمعانيه ومفسرة لمبهمه ومقيدة لمطلقه
(1) هذه خطبة الحاجة علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وانظر: تخريجها للشيخ ناصر الألباني في كتاب خصصه لهذه الخطبة.
(2)
سورة المائدة: الآية 16.
(3)
سورة النحل: الآية 44.
(4)
سورة النجم: الآية 4.
(5)
سورة الحشر: الآية 7.
(6)
سورة النور: الآية 63.
(7)
سورة الحجر: الآية 9.
ومفصلة لمجمله، فهي من الكتاب بمنزلة الشرح له، يفصل مقاصده ويتمم أحكامه.
ولما كان للسنة النبوية هذه المكانة العظمى عرف السلف الصالح قدرها ومكانتها، فرعوها حق رعايتها وحفظوها في الصدور وأودعوها سويداء القلب ودونوها في المصنفات والكتب، واجتهدوا في التوثق من صحة كل حديث وكل حرف رواه الرواة ونقدوا أحوالهم ورواياتهم واحتاطوا أشد الاحتياط في النقل وكل هذا على ضوء قواعد وضعوها لقبول الحديث ورده، وحرروا هذه القواعد وحققوها بأقصى ما في الوسع الإِنساني، وقيدوها في الكتب، وسموه بعلم مصطلح الحديث، بدأ تأسيسه في منتصف القرن الأول، وتكامل حتى نضج واحترق وبلغ ذروته، حتى وصل إلينا في هذا الشكل الجميل، ونظرًا إلى أن كتابنا هذا - الإِرشاد - هو في علوم الحديث ومصطلحه يحسن بي أن أقدم إلى القارئ الكريم لمحة عن تاريخ هذا العلم ونشأته وتطوره ثم تقعيد قواعده في كتب مستقلة.
* * *
إن علم أصول الحديث وقواعد اصطلاح أهله لا بد منه للمشتغل برواية الحديث إذ بقواعده يتميز صحيح الرواية من سقيمها، ويعرف المقبول من الأخبار والمردود وهو للرواية كقواعد النحو لمعرفة صحة التراكيب العربية، فلو سمى منطق المنقول وميزان تصحيح الأخبار، لكان اسمًا على مسمى (1).
وقد حرر العلماء، هذه القواعد التي وضعوها لقبول الحديث، وحققوها بأقصى ما في الوسع الإِنساني، احتياطًا لدينهم. فكانت قواعدهم التي ساروا عليها أصح القواعد للإِثبات التاريخي وأعلاها وأدقها، واتبعهم فيها العلماء في أكثر الفنون النقلية، فاتبعهم علماء اللغة وعلماء الأدب وعلماء التاريخ وغيرهم، فاجتهدوا في رواية كل نقل في علومهم بإسناده، وطبقوا قواعد هذا العلم عند إرادة التوثق من صحة النقل في أي شيء يرجع فيه إلى النقل، فهذا العلم في الحقيقة أساس لكل العلوم النقلية.
وقد نشأ هذا العلم مع نشأة الحديث الشريف في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام هو الواضع لجذور هذا العلم وأسسه، فقد جاء عنه أنه قال: "نضر الله امرءًا سمع منا حديثًا، فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس
(1) مقدمة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة على الباعث الحثيث، ص 11.
بفقيه" (1). وقوله صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة" (2).
فهذان الحديثان أصلان عظيمان في ضبط الرواية وحسن تحملها وأدائها، وفي وجوب تبليغ الحديث ونقله.
وقد فهم المسلمون من كل هذا أنه يجب عليهم أن يحفظوا عن رسولهم كل شيء وقد فعلوا، وأدوا الأمانة على وجهها، ورووا الأحاديث عنه إما متواترة باللفظ والمعنى، وإما متواترة في المعنى فقط وإما مشهورة أو غير مشهورة.
وكذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"(3).
وهذا الحديث أصل عظيم في التحذير من وضع الحديث واختلاقه
(1) أخرجه أبو داود في السنن، باب فضل نشر العلم (ح) رقم 3660، 4/ 68، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه؛ والترمذي في السنن، باب الحث على تبليغ السماع (ح) رقم 2656، 2657، من حديث زيد وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهما، وحسن الأول وقال في الثاني: حسن صحيح 5/ 33 - 34؛ وابن ماجه في المقدمة من السنن من حديث زيد (ح) رقم 230، 1/ 84؛ والإِمام أحمد 1/ 437، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. والحديث متواتر.
(2)
أخرجه أبو داود في العلم باب كراهية منع العلم 4/ 67 (ح) رقم 3658؛ والترمذي في العلم، باب ما جاء في كتمان العلم 5/ 29 (ح) رقم 2649، وحسنه؛ وابن ماجه في السنن 1/ 96 (ح) رقم 261؛ والإِمام أحمد في المسند 2/ 263؛ والخطيب في الكفاية، ص 37، كل هؤلاء الناس من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري في العلم باب اثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم 1/ 199 (ح) رقم 106، 107، 108، 109، 110؛ ومسلم في المقدمة 1/ 66 مع النووي، والحديث متواتر.
عليه صلى الله عليه وسلم. كما أن في القرآن الكريم توجيهًا عامًا إلى بعض قواعد هذا الفن وهو التثبت من صدق الراوي والتروي في تصديق خبره، وذلك من قوله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (1).
إلا أن الصحابة الكرام كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم، أمناء ضابطين، وما صدر عن بعضهم هو نوع من السهو والخطأ وهو نزر يسير، لا تنبني عليه قواعد.
وقد تلقوا أقوال النبي صلى الله عليه وسلم منه مباشرة وشهدوا أفعاله وأحواله فإذا أشكل عليهم شيء، كان يمكنهم الرجوع إليه صلى الله عليه وسلم لرفع هذا الإِشكال (2). فلم يكن لتشعب هذا العلم من حاجة في حياته صلى الله عليه وسلم لأن العصر هو عصر وحي وتشريع، فلم يكن يحتاج لأكثر من التحرز عن الوهم.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عصر الخلفاء الراشدين، تشدد (3)
(1) سورة الحجرات: الآية 6.
(2)
انظر: مقدمة الشيخ محمد محيي الدين على توضيح الأفكار، ص 12 لبيان طرق معرفة الصحابة، رضي الله عنهم، للشرع من الرسول صلى الله عليه وسلم.
(3)
قال الحافظ الذهبي رحمه الله في تذكرة الحفاظ 1/ 2، في ترجمة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه: كان أول من احتاط في قبول الأخبار. فروى الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئًا، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئًا، ثم سأل الناس، فقام المغيرة بن شعبة، فقال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس. فقاله له: هل معك أحد، فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه. وقال في التذكرة 1/ 6 في ترجمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل، وربما كان يتوقف في خبر الواحد، إذا ارتاب. طلب من أبي موسى الأشعري البيّنة على حديث الاستئذان، وهدده إن لم يأته بها، فجاء بأبي سعيد الخدري فشهد معه رضي الله عنهما. وقال في التذكرة 1/ 10 في ترجمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان إمامًا متحريًا في الأخذ بحيث أنه كان يستحلف من يحدثه بالحديث، قال =
هؤلاء الخلفاء في قبول الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعملوا على التقليل منها، خشية انصراف الناس عن القرآن الكريم واشتغالهم بها وخوفًا من أن يتخذها المنافقون ذريعة للتزيد فيها وسلمًا لتزييف الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولئلا تزل أقدام المكثرين، فيسقطوا في هوة الخطأ والنسيان فيكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرون (1).
وأما عملهم على التقليل من الرواية، فقد روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قيل له: أكنت تحدث في زمن عمر هكذا؟ فقال: لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته (2).
= عثمان بن المغيرة الثقفي عن علي بن ربيعة عن أسماء بن الحكم الفزاري، أنه سمع عليًا يقول: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وكان إذا حدثني عنه غيره استحلفته، فإذا حلف صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر
…
الخ.
قلت: قد تتابع كتّاب هذا العصر على نقل هذه الرواية عن علي رضي الله عنه مصدقين لها محتجين بها، لكن رد العلامة المعلمي على هذه الرواية بقوله: أقول هذا شيء تفرد به أسماء بن الحكم الفزاري، وهو رجل مجهول، وقد رده البخاري وغيره، كما في ترجمة أسماء من تهذيب التهذيب، وتوثيق العجلي وجدته بالاستقراء كتوثيق ابن حبان، أو أوسع، فلا يقاوم إنكار البخاري وغيره على أسماء، على أنه لو فرض ثبوته، فإنما هو مزيد احتياط، لا دليل على اشتراطه، هذا ومن المتواتر عن الخلفاء الأربعة، أن كلًا منهم كان يقضي ويفتي بما عنده من السنة بدون حاجة إلى أن تكون عند غيره، وأنهم كانوا ينصبون العمال من الصحابة وغيرهم، ويأمرونهم أن يقضي ويفتي، كل منهم بما عنده من السنة، بدون حاجة إلى وجودها عند غيره
…
الخ ما أطال.
انظر: الأنوار الكاشفة، ص 68؛ والتاريخ الكبير للبخاري 2/ 54؛ وتاريخ الثقات للعجلي، ص 63؛ وتهذيب التهذيب 1/ 267.
(1)
انظر: الحديث والمحدثون، ص 66.
(2)
انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 7؛ ونحوه في البداية والنهاية 8/ 107.
وجاء مسندًا إلى عمر رضي الله عنه، أنه قال: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم (1).
وجاء عن عثمان بن عفان رضي الله عنه مسندًا، أنه أرسل السائب بن يزيد إلى أبي هريرة رضي الله عنه، فقال: قل له: يقول لك أمير المؤمنين: ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لقد أكثرت لتنتهين، أو لألحقنك بجبال دوس (2).
وقد دافع أبو هريرة رضي الله عنه عن نفسه لما خشي على نفسه التهمة، فأجاب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما قالت له: ما أكثر ما تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ انك لتحدث بأشياء ما سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله: كان يشغلك عنها المرآة والمكحلة، ولم يشغلني عنها شيء (3).
وكذا استعمل الصحابة طريقة نقد الحديث، بعرضه على كتاب الله تعالى ونصوص آياته المحكمة، فقد كانوا يردون بعض الروايات، إن خالفت نصًا من القرآن الكريم.
فمن ذلك، ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رد رواية
(1) انظر: المحدث الفاصل، ص 553، باب من كره كثرة الرواية.
(2)
انظر: المحدث الفاصل، ص 554، وليس فيه طعن في أبي هريرة رضي الله عنه، لأنه ينهاه عن الإكثار من الرواية عندما لا تكون هناك حاجة إلى الإكثار منها وأبو هريرة رضي الله عنه نفسه لم ير في هذا مطعنًا، ولم يترك كل هذا أثرًا في نفسه، فنراه مستعدًا للمدافعة عن عثمان رضي الله عنه يوم الدار، لو سمح للناس بها.
انظر: البداية والنهاية 7/ 181؛ وطبقات ابن سعد 3/ 70.
(3)
انظر: المحدث الفاصل، ص 555؛ وطبقات ابن سعد 2/ 364؛ والبداية 8/ 108.
فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثًا، فلم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها سكنى ولا نفقة بقوله: لا نترك كتاب الله ولا سنة نبينا لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة. قال الله عز وجل:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1).
ومنه قول عائشة رضي الله عنها حينما سمعت حديث عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد. ولكن قال: إن الله يزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه، وقالت: حسبكم القرآن: ولا تزر وازرة وزر أخرى (2).
وجدير بالتنبيه أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك للاحتياط في ضبط الحديث، لا لتهمة أو سوء ظن، فهذا عمر رضي الله عنه يقول: أما أني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
(1) سورة الطلاق: الآية 1.
انظر: لهذه القصة صحيح مسلم مع النووي 10/ 104، باب المطلقة البائن لا نفقه لها. وأبا داود في السنن، باب من أنكر ذلك على فاطمة 2/ 717 (ح) رقم 2291.
وانظر: نحوها في الإِجابة لا يراد ما استدركته عائشة على الصحابة، ص 1555.
(2)
سورة فاطر: الآية 18.
والحديث في صحيح مسلم مع النووي كتاب الجنائز 6/ 231؛ والإِجابة، ص 76.
(3)
انظر: الرسالة للشافعي، ص 435، فقرة 1198، ويرى ابن حزم رحمه الله أن عمر رضي الله عنه كان يرى ذلك أول مرة، فلما عاتبه أبي رجع عن ذلك، وأصبح يقبل خبر صحابي واحد.
انظر: الأحكام 2/ 140.
وتلكم عائشة رضي الله عنها، فقد جاء عنها في الحديث الذي ردت فيه حديث تعذيب الله تعالى الميت ببكاء أهله عليه، زيادة قولها: انكم لتحدثونني عن غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطئ (1).
وكذلك رد بعض الأحاديث كان اجتهادًا منهم، لمخالفتهما ما استنبطوه من القرآن، لذلك نجد بعض الصحابة، ومن بعدهم عملوا بما رده غيرهم، لأنهم باجتهادهم رأوه غير معارض للأدلة.
ولم يكونوا في هذه الفترة يسألون عن الرواة، لأن الراوي إما من الصحابة، والصحابة كلهم عدول بتعديل الله تعالى لهم، وإما أن يكون من كبار التابعين الذين تلقوا عن الصحابة، وليس فيهم من يستحل الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما وقعت الفتنة بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما تبع ذلك من التفرق وظهور الأحزاب والفرق في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وخاصة بعد مقتله، كالشيعة والخوارج وغيرهم، وما رافق ذلك من دخول بعض الملحدين بين صفوف المسلمين، لإِيقاد نار الفتنة بين تلك الفرق، وتوسيع شقة الخلاف فيما بينها، نشط بعض أولئك الملحدين وأهل البدع والأهواء في وضع الأحاديث المكذوبة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصرة مذهبهم، وتأييد بدعتهم والالتفاف حول فرقتهم (2).
وعند ذلك تنبه العلماء إلى هذا الخطر على السنة، فوقفوا تجاه هذا الخطر موقفًا يقظًا حكيمًا، يدل على نباهتهم ودقتهم، فلم يعودوا يقبلون
(1) انظر: صحيح مسلم مع النووي كتاب الجنائز 6/ 232؛ والإِجابة لا يراد ما استدركته عائشة على الصحابة، ص 77.
(2)
انظر: بحوث في تاريخ السنة، ص 21؛ والسنة ومكانتها، ص 75؛ ومنهج النقد، ص 55.
الأحاديث من أي إنسان، حتى يذكر أسماء من روى عنهم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد أخرج مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين أنه قال: لم يكونوا يسألون عن الإِسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى حديث أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع، فلا يؤخذ حديثهم (1).
وحث علماء الصحابة الناس على الاحتياط في حمل الحديث عن الرواة، وألا يأخذوا إلا حديث من يوثق به دينًا وحفظًا، حتى شاعت في عرف الناس هذه القاعدة: إنما هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذونها (2).
كما روى مثل هذا القول عن مالك وغيره (3).
وبذلك نشأ علم ميزان الرجال "الجرح والتعديل" الذي هو قطب الرحى بالنسبة لعلوم الحديث. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع أساس هذا العلم في حياته، فقال لحفصة أم المؤمنين رضي الله عنها:"إن عبد الله رجل صالح"(4).
وهذا تعديل وتزكية لعبد الله بن عمر رضي الله عنه من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما الجرح، فقد روى الخطيب بسنده عن عائشة رضي الله عنها،
(1) انظر: مقدمة صحيح مسلم مع النووي 1/ 84؛ والعلل للترمذي 5/ 740؛ والكفاية، ص 122؛ والمنهج الحديث في علوم الحديث، ص 20.
(2)
أخرج ذلك ابن أبي حاتم عن عدد من التابعين في الجرح والتعديل 2/ 15؛ والكفاية، ص 123؛ والإِلماع، ص 60.
(3)
انظر: الكفاية، ص 124؛ والإِلماع، ص 60.
(4)
مسند الإِمام أحمد 2/ 5؛ وتهذيب التهذيب 5/ 330.
أن رجلًا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"ائذنوا له فبئس رجل العشيرة" الحديث (1).
قال الخطيب: ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم، للرجل: بئس رجل العشيرة. دليل على أن أخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم والدين، من النصيحة للسائل، ليس بغيبة، إذ لو كان ذلك غيبة لما أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد عليه السلام بما ذكر فيه - والله أعلم أن بئس للناس الحالة المذمومة منه، وهي الفحش فيجتنبوها، لا أنه أراد الطعن والثلب له (1).
قال: ومما يؤيد ذلك حديث فاطمة بنت قيس حيث قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد.
ففي هذا الخبر دلالة على أن إجازة الجرح للضعفاء من جهة النصيحة لتجتنب الرواية عنهم، وليعدل عن الاحتجاج بأخبارهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر في أبي جهم أنه لا يضع عصاه عن عاتقه، وأخبر عن معاوية أنه صعلوك لا مال له عند مشورة استشير فيها لا يتعدى المستشير، كان ذكر العيوب الكامنة في بعض نقلة السنن التي يؤدي السكوت عن إظهارها عنهم وكشفها عليهم إلى تحريم الحلال وتحليل الحرام، إلى الفساد في شريعة الإِسلام أولى بالجواز وأحق بالإِظهار (1).
وقد تكلم من بعده صلى الله عليه وسلم من الصحابة في الرجال، عبد الله بن عباس وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك.
(1) انظر: الكفاية، ص 38 - 46، باب وجوب تعريف المزكي ما عنده من حال المسؤول عنه.
ثم تكلم من التابعين، سعيد بن المسيب (ت 93)، وعامر الشعبي (ت 104)، وابن سيرين (ت 110) وكان كلامًا قليلًا، لقلة الضعف وندرته في ذلك العصر (1).
وفي أول القرن الثاني الهجري بدأ عصر تدوين الحديث بأمر الخليفة العادل عمر (2) بن عبد العزيز رحمه الله، فدون ابن شهاب الزهري وغيره من أئمة هذا الشأن، ما وصل إليهم من الأحاديث والآثار، من غير تمييز بين صحيحها وسقيمها، لأن مهمتهم كانت الجمع أولًا، ثم البحث والتنقيب (3).
وعُني ابن شهاب الزهري بأصول علم الحديث، التي كانت في عصره. وبين حدود الحديث المقبول والمردود، حتى قيل: أنه واضع علم مصطلح الحديث (4).
روى ابن أبي حاتم بسنده إلى الزهري، قال: كان ابن شهاب، إذا حدث أتى بالإِسناد، ويقول: لا يصلح أن يرقى السطح إلا بدرجة (5).
وروى الحاكم بسنده إلى الزهري، أنه سمع إسحاق بن أبي فروة،
(1) انظر: منهج النقد، ص 56؛ والخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث، ص 385.
(2)
انظر: سنن الدارمي 1/ 126؛ وطبقات ابن سعد 2/ 387؛ وتقييد العلم، ص 106؛ والسنة ومكانتها، ص 104؛ وبحوث في تاريخ السنة، ص 226؛ ومنهج النقد، ص 58.
(3)
انظر: مقدمة الباعث الحثيث لأحمد شاكر رحمه الله، ص 8؛ وبحوث في تاريخ السنة، ص 229؛ ومنهج النقد، ص 59.
(4)
انظر: شرح الشمائل للباجوري، ص 6؛ والحطة، ص 85؛ ومقدمة تحفة الأحوذي، ص 2 - 3؛ والمنهج الحديث، ص 13، 16.
(5)
انظر: الجرح والتعديل 2/ 16.
يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: له الزهري: قاتلك الله يا ابن أبي فروة، ما أجرأك على الله، لا تسند حديثك؟ تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة (1).
وفي أوائل هذا القرن وجد من يروي المرسل والمنقطع، ووجد الضعفاء من صغار التابعين. وفي منتصفه ازداد أهل البدع والأهواء، وكثرت الفرق، وظهر من يتعمد الكذب، فاضطر أئمة الحديث إلى توسيع النظر، والاجتهاد في التفتيش عن رجال الرواة، ونقد الأسانيد (2).
فتكلم الإِمام مالك (3) في الرواة، وصنف كتاب الموطأ على هذا الأساس، فلم يرو فيه إلا الأحاديث المقبولة، ولم يأخذ إلا عن الموثوقين الضابطين للحديث كما تكلم شعبة ومعمر وهشام الدستوائي ثم ابن المبارك وابن (4) عينية، وما انتهى هذا القرن حتى وجد كثير من أنواع علوم الحديث، ووضعت لها الضوابط والاصطلاحات، بيد أنه لم يدون منها إلا شيء قليل، ومعظمها، كان محفوظًا في الصدور، يتداولها رجال الحديث، إلا ما وجد للإِمام الشافعي من فصول وأبحاث متفرقة لها أهميتها في هذا الفن، فقد تكلم في الرسالة (5) عن الحديث الذي يحتج به، وشرط فيه شروط الصحيح، وتكلم في شرط حفظ الراوي والرواية بالمعنى،
(1) انظر: معرفة علوم الحديث للحاكم، ص 6.
(2)
انظر: منهج النقد، ص 59؛ وبحوث في تاريخ السنة، ص 51؛ والسنة ومكانتها، ص 110.
(3)
انظر: مقدمة الجرح والتعديل، ص 19 - 25.
(4)
انظر: مقدمة الجرح والتعديل، ص 132، 156، 269، 274، و 35 - 49.
(5)
انظر: الرسالة، ص 370، فقرة 1001 و 373، فقرة 1011 و 379، فقرة 1033 و 382، فقرة 1044.
والمدلس وقبول حديثه، كما أنه ذكر في الأم (1) الحديث الحسن وتكلم في الحديث المرسل، وناقش الاحتجاج به بقوة، وبحث في غير ذلك من علوم الحديث.
ولما جاء القرن الثالث، نشطت حركة تدوين الحديث، واستقل كل علم من علومه، استقلالًا متميزًا عن غيره، فصار يقال: علم الحديث الصحيح، وعلوم الناسخ والمنسوخ، وعلم الجرح والتعديل.
وصنفت هذه العلوم مفردة ولكل علم مصنف خاص، فألف (2) يحيى بن معين (ت 233) في تاريخ الرجال، وأحمد بن حنبل (ت 241) في العلل والبخاري (ت 256) في الرجال، ويعقوب بن شيبة السدوسي (ت 262) المسند المعلل، ولم يكمله بل جمع فيه ما يقارب ثلاثين جزء أو لو كمل لجاء في مائتي مجلد.
ومنهم من أكثر في هذا القرن من التأليف في أنواع علوم الحديث، كعلي بن المديني (ت 234) فقد ألف في فنون كثيرة، حتى بلغت مؤلفاته مائتي كتاب (*).
كما وجد في هذا القرن من كان يكتب شيئًا في علوم الحديث، ويجعله كمقدمة لكتاب في الحديث، كالإِمام مسلم (ت 261) في صحيحه، وكذا ما كتبه الإِمام أبو داود السجستاني (ت 275)، في رسالة مستقلة إلى أهل مكة في بيان طريقته في سننه. وقد أفرد الإِمام مسلم
(1) انظر: الأم 8/ 176، باب بيع اللحم بالحيوان، مثلًا؛ والمنهج الحديث في علوم الحديث، ص 20.
(2)
انظر: الإِعلان بالتوبيخ، ص 109؛ والسنة ومكانتها، ص 110؛ وبحوث في تاريخ السنة، ص 59 - 127؛ ومنهج النقد، ص 61.
(*) انظر: تهذيب الأسماء واللغات 1/ 350؛ وتذكرة الحفاظ 2/ 429.
بالتصنيف كتبًا مستقلة في أبواب مصطلح الحديث، ككتاب الوجدان وكتاب الطبقات وكتاب المخضرمين (1) وكتاب الكنى والأسماء (*). ومنهم من كان يجعل تلك الكتابة، كملحق لكتاب من كتب الحديث كالإِمام الترمذي في علل جامعه. وكذا ما بثه في الكلام على أحاديث جامعه في طيات الكتاب من تصحيح وتضعيف وتقوية وتعليل (2).
وهكذا لم ينقض القرن الثالث حتى وجدت مصنفات كثيرة في علوم الحديث، إلا أنها أما تصانيف في باب مفرد من علوم الحديث، وإما جملة أبحاث في بعض فنون الحديث مفرقة بين ثنايا كتاب في فن آخر. كما تقدم.
حتى جاء من بعدهم من القرن الرابع إلى أواخر القرن السادس، فرأى أن هذه الكتب، التي صنفت في القرن الثالث قد تضمنت قواعد واصطلاحات خاصة بعلم الحديث، تعرف بها أحوال الراوي والمروي، وبالتالي، المقبول والمردود فعزموا على تجريد هذه القواعد والاصطلاحات جميعها، وجمعها في مصنف واحد مستقل، تحت اسم علم خاص هو: علوم الحديث أي القواعد والاصطلاحات الناظمة لجميع أصناف علوم الحديث، فكانت هذه التسمية فيما بعد اسمًا وعلمًا على هذا الفن (3). فالصيغة جمع والمعنى على الأفراد، إذ تحولت الصيغة من معناها الأول، وصاوت علمًا واسعًا لعلم خاص، هو العلم الذي نسميه "مصطلح الحديث" كذلك ربما قالوا:"علم الحديث" كما فعل العراقي والسيوطي في ألفيتهما (4).
(1) انظر: تهذيب الأسماء واللغات 2/ 91؛ وتذكرة الحفاظ 2/ 590.
(*) وقد حققه الأستاذ عبد الرحيم الكاشقري لنيل درجة الماجيستير وطبعه المجلس العلمي في الجامع الإِسلامية سنة 1404 هـ.
(2)
انظر: تقديم الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة على الباعث الحثيث، ص 11.
(3)
انظر: الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث، ص 386.
(4)
انظر: التبصرة والتذكرة 1/ 5؛ وألفية الحديث مع شرح أحمد شاكر، ص 2.
وقد اشتهر أن أول مصنف جامع لقواعد ومصطلحات علوم الحديث، هو كتاب "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" الذي صنفه القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي (ت 360) وهو أكبر كتاب وضع في علوم الحديث حتى ذلك العصر، واستوفى فيه مؤلفه البحث في آداب الراوي والمحدث وطرق التحمل والأداء، واجتهاد المحدثين في حمل العلم وما يتعلق بهذا الفن من الأمور، لكنه لم يستوعب أبواب مصطلح الحديث (1).
ثم صنف الحاكم رحمه الله (ت 405) كتابه المشهور "معرفة علوم الحديث" جمع فيه إثنين وخمسين نوعًا من علوم الحديث، لكنه لم يهذب كتابه على الوجه الكامل، وكذلك فاته - كما ذكر العلماء - أمران: استيعاب أنواع علوم الحديث، وتهذيب العبارات وضبطها حتى يتضح المراد من التعريف. نعم شق الطريق لمن جاء بعده، بوضع كتابه هذا. وقد أثنى عليه وعلى كتابه كثيرًا ابن خلدون في مقدمته الشهيرة. وقال الشيخ طاهر الجزائري: في كتابه فوائد مهمة رائعة، ينبغي لمطالعي هذا الفن الوقوف عليها (2). وقد لخصه في كتابه.
وتلاه أبو نعيم الأصبهاني صاحب الحلية (ت 430) فعمل على كتابه مستخرجًا، وزاد على الحاكم أشياء فاتته، ومع ذلك فقد أبقى أشياء للمتعقب (3).
وجاء بعدهم أبو بكر الخطيب البغدادي (ت 463) فصنف كتابًا في
(1) انظر: نزهة النظر، ص 16؛ وتصوير كتاب المحدث الفاصل، ص 28 - 34؛ ومنهج النقد، ص 63؛ والمنهج الحديث، ص 17.
(2)
انظر: نزهة النظر، ص 16؛ ومقدمة ابن خلدون، ص 371؛ وتوجيه النظر، ص 162.
(3)
انظر: نزهة النظر، ص 16.
قوانين الرواية، سماه "الكفاية في علم الرواية" استوفى فيه البحث في قوانين الرواية، وأبان فيه عن أصولها، وقواعدها الكلية، ومذاهب العلماء فيما اختلفت آراؤهم فيه. ويعتبر هذا الكتاب أكبر مرجع في هذا الباب (1).
وصنف في آداب الرواية كتابًا، سماه "الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع" هذا الكتاب فريد في بابه قيم في موضوعه، فقد استوفى فيه الخطيب ذكر ما ينبغي للمحدث وطالب الحديث أن يتحليا به من الآداب والواجبات والأصول التي تقتضيها صنعة الحديث، بل أفاض في ذلك، وجمع فأوعى، ولم يبق زيادة لمستزيد (2). وقل فن من فنون الحديث، إلا وقد صنف فيه كتابًا مفردًا، فكان كما قال أبو بكر ابن نقطة (ت 629): ولا شبهة عند كل لبيب أن المتأخرين من أصحاب الحديث عيال على أبي بكر الخطيب (3).
ثم جاء بعد هؤلاء الناس القاضي عياض (ت 544) فأخذ من هذا العلم بنصيب وافر، وصنف كتابًا، سماه "الألماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع" وهو كتاب جيد في موضوعه، تكلم فيه المصنف على أنواع التحمل بأسرها، وقد بلغ ذروة الكمال في حديثه عن مسألة "الإِجازة" في رواية الحديث، واستوفى الكلام على وجوهها الستة، وقد أحس هو بتفوقه في شرحه لهذا الضرب من ضروب الرواية، فقال في ختامه: وقد تقصينا وجوه الإِجازة بما لم نسبق إليه (4).
(1) انظر: منهج النقد، ص 63، ولتفصيل الكلام على الكفاية؛ الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث، ص 415 - 427.
(2)
انظر: تصوير كتاب الجامع لآداب الراوي 1/ 47؛ والمنهج الحديث، ص 23، لمحمد محمد السماحي، طبع دار الأنوار.
(3)
انظر: الاستدراك لابن نقطة (4/ ب) لدى فضيلة الشيخ حماد الأنصاري؛ ونزهة النظر، ص 16.
(4)
انظر: تصدير كتاب الإِلماع، ص 25؛ والإِلماع، ص 107.
ثم صنف الميانجي أبو حفص عمر بن عبد المجيد (ت 580) جزءًا سماه "ما لا يسع المحدث جهله" وهو رسالة مختصرة، وصفها الدكتور الطحان بشكل يبدو أن المصنف لم يجد في تصنيفها، وأن اسمها لا يناسب مادتها (1).
وكان طابع الجمع في هذه التآليف بارزًا ظاهرًا، فقد عمد المصنفون إلى نقل أقوال أئمة الفن في كل مسألة بأسانيدهم، ووضعوا لكل مجموعة منها عنوانًا يدل على مضمونها، معتمدين على القارئ في فهمها وإدراك مراميها، سوى شيء يسير من الإِيضاح والمناقشة (2).
إلى أن جاء الحافظ الفقيه تقي الدين أبو عمر وابن الصلاح الشهروزوري نزيل دمشق (ت 643). وقد وجد ابن الصلاح لديه تراثًا كبيرًا خلفه العلماء في علوم الحديث، إلا أنه لم يستكمل أركان التصنيف متكاملة، فأكب على هذه الذخائر يفحصها بعين الفقيه المجتهد المتعمق في الفهم والاستنباط، ويزن عباراتها بميزان الأصول الضابط للحدود والتعاريف، وجمع كتابه "علوم الحديث" الشهير بـ "مقدمة ابن الصلاح" لما تولى تدريس الحديث، بالمدرسة الأشرفية، على طريق الإِملاء شيئًا بعد شيء، فلهذا لم يحصل ترتيبه على الموضع المناسب، واجتمع في كتابه ما تفرق في غيره، فجاء كتابًا متكاملًا في فن التصنيف، وكان فاتحة عهد جديد في تدوين علوم الحديث. ويعتبر دور ابن الصلاح دور النضج والاكتمال في تدوين فن علوم احديث، وكان هو رائد هذا التحول العظيم في تدوين هذا الفن (3).
(1) انظر: الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث، ص 447.
(2)
انظر: منهج النقد، ص 65.
(3)
انظر: المدخل إلى علوم الحديث لابن الصلاح، ص 27؛ ومنهج النقد، ص 66.
قال الدكتور نور الدين عتر: وامتاز منهجه على ما سبقه من التصانيف بمزايا جعلته عمدة هذا الفن، نذكر منها:
1 -
الاستنباط الدقيق لمذاهب العلماء وقواعدهم من النصوص والروايات المنقولة عن أئمة الحديث في مسائل علوم الحديث، والاكتفاء بذكر حاصلها، ولم ينقل من تلك الأخبار إلا القدر المناسب للمقام.
2 -
ضبط التعاريف التي سبق بها ووضع تعاريف لم يصرح بها من قبله.
3 -
تهذيب عبارات السابقين والتنبيه على مواضع الاعتراض فيها.
4 -
التعقيب على أقوال العلماء بتحقيقاته واجتهاده (1)
ولذلك نال من العلماء كل حظوة، وصار عمدتهم في هذا الفن، وطارت شهرته بينهم وعم الثناء عليه فيهم، فأقبل عليه العلماء جميعًا دراسة وتأليفًا. قال الحافظ ابن حجر: فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره، فلا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومقتصر، ومعارض له ومنتصر (2). فممن اختصره:
1 -
الإِمام شيخ الإِسلام أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، وسماه "إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق". وهذا هو الكتاب الذي نحن بصدد خدمته. ثم لخصه في كتاب "التقريب والتيسير في معرفة سنن البشير النذير" عني بشرحه تبيين مقاصده وتوسيعه، الإِمام السيوطي (ت 911)، لكن يغلب عليه طابع الجمع، وإن كان لا يخلو من مناقشات مفيدة.
(1) انظر: المدخل إلى علوم الحديث لابن الصلاح، ص 27؛ ومنهج النقد، ص 66.
(2)
انظر: نزهة النظر، ص 17؛ ومقدمة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة على الباعث الحثيث، ص 12.
2 -
المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي. لبدر الدين محمَّد بن إبراهيم بن جماعة (ت 733) امتاز بزيادة مفيدة استدركها أو أضافها على ابن الصلاح، وخالفه في الترتيب - حيث لم يحصل ترتيب علوم الحديث لابن الصلاح على الوضع المتناسب - فرتبه ابن جماعة ترتيبًا يليق به، أفصح عنه في المقدمة (1).
3 -
الخلاصة في أصول الحديث. لحسين بن عبد الله الطيبي (ت 743) واستفاد في اختصاره من مختصر النووي والمنهل الروي لابن جماعة، كما أضاف إليه فوائد مهمته من مقدمة جامع الأصول لابن الأثير وغيره من كتب المصطلح. قاله في المقدمة (2).
4 -
مختصر علوم الحديث لابن الصلاح: لعلاء الدين ابن التركماني (ت 744) محفوظ بالمكتبة السليمانية من لا له لي برقم 390، وهو كتاب نفيس طالعته أثناء إقامتي باستانبول (تركيا).
5 -
اختصار علوم الحديث. للحافظ إسماعيل بن عمر الشهير بابن كثير (ت 774) اختصرها بعبارة سهلة فصيحة، وجمل مفهومة مليحة، واستدرك على ابن الصلاح استدراكات مفيدة (3).
(1) انظر: المنهل الروي، ص 45؛ وتصديره، ص 39، وقد نشر هذا الكتاب بتحقيق الدكتور محي الدين عبد الرحمن رمضان، في مجلة معهد المخطوطات الجزء الأول والثاني من المجلد الحادي والعشرين، سنة 1395 هـ.
(2)
انظر: الخلاصة في أصول الحديث، ص 29، طبع بتحقيق صبحي السامرائي سنة 1391 هـ.
(3)
انظر: مقدمة الشيخ عبد الرزاق حمزة على الباعث الحثيث، ص 13.
وقد طبع اختصار علوم الحديث لابن كثير بتحقيق وشرح أحمد شاكر رحمه الله وسمى شرحه "الباعث الحثيث" وهو متداول بين الناس.
6 -
المقنع في علوم الحديث: لأبي حفص سراج الدين عمر بن علي الأنصاري الشافعي المعروف بابن الملقن (ت 804) لخص فيه علوم الحديث لابن الصلاح، وقربه إلى الأذهان ونقحه وهذبه، مع زيادة عليه مهمة، وفوائد ممتعة، قال: لا تلفى مسطورة، ولا تكاد توجد في الكتب المشهورة (*). انتهى.
7 -
محاسن الاصطلاح في تضمين كتاب ابن الصلاح "لأبي حفص سراج الدين البلقيني (ت 805) لخص فيه علوم الحديث لابن الصلاح مع التهذيب والزيادة عليه"(1).
وممن نظمه:
1 -
الحافظ زين الدين العراقي (ت 806) في ألف بيت، وسماه "ألفية الحديث" زاد فيها مسائل نافعة، وشرحها هو بنفسه، وسماه التبصرة والتذكرة (2). وكذلك شرحها بعده شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت 902) وامتاز بتحقيق وتتبع للمسائل في كتب السنة ومصطلح الحديث فاستوعب استيعابًا يكاد يكون تامًا، وسماه "فتح
(*) انظر: المقنع 1/ 2. وقد حقق هذا الكتاب أخونا جاويد أعظم عبد العظيم الهندي، لنيل درجة الماجستير بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، نوقشت سنة 1403 هجرية.
(1)
طبع هذا الكتاب بتحقيق الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ سنة 1974 م.
(2)
قد طبع التبصرة والتذكرة، وعلى هامشه "فتح الباقي على ألفية العراقي" لزكريا الأنصاري، واعتنى بتصحيحهما وتعليق مقدمة عليهما، محمد بن الحسين العراقي الحسيني.
المغيث" (1) وشرحها أيضًا الشيخ زكريا الأنصاري (ت 925) وسماه "فتح الباقي على ألفية العراقي" (2).
2 -
الإِمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911) في ألف بيت، سماه "ألفية الحديث" انتهى منها في خمسة أيام (3)، رتب فيها أنواع علوم الحديث لابن الصلاح، على وجه مناسب، وهذا الترتيب جعلها فائقة على ألفية العراقي، فإنه فيها على طريقة ابن الصلاح مسايرة لأصله، وقد تقدم أن كتاب ابن الصلاح لم يحصل ترتيبه على الوضع المناسب نص عليه السيوطي، حيث قال:
وهذه ألفية تحكي الدرر منظومة ضمنتها علم الأثر.
فائقة ألفية العراقي، في الجمع والإِيجاز واتساق (4).
شرح السيوطي ألفيته بنفسه وسماه "البحر الذي زخر بشرح ألفية الأثر"(5) ولم يكمله.
ثم شرحه محمد محفوظ بن عبد الله الترمسي المكي، وسماه "منهج ذوي النظر شرح منظومة الأثر". وهو شرح متوسط جيد (6).
(1) قد طبع "فتح المغيث بشرح ألفية الحديث" للسخاوي، بتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان سنة 1388 هـ، ثم بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي. وكلاهما تحقيقان سيئان لا يمكن الاعتماد عليهما لغير مطلع على علم المصطلح.
(2)
انظر: الهامش رقم 2 ص 60.
(3)
انظر: ألفية السيوطي مع شرح أحمد شاكر، ص 189.
(4)
ألفية السيوطي مع شرح أحمد شاكر رحمه الله، ص 2.
(5)
سجله أخونا الزميل أنيس أحمد طاهر السعودي، لنيل درجة الماجستير وسيناقش قريبًا إن شاء الله.
(6)
قد طبع شرح الترمسي في مجلد في مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1352 هـ.
ثم شرحه (1) العلامة الراحل أحمد محمد شاكر رحمه الله.
وممن شرحه:
1 -
بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي (ت 794) وسماه النكت على ابن الصلاح (2).
2 -
الحافظ زين الدين العراقي (ت 806) وسماه "التقييد والإِيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح" ويعرف بالنكت أيضًا (3).
3 -
إبراهيم بن موسى بن أيوب الأبناسي (ت 802) وسماه "الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح" لخصه من كلام العراقي وكلام غيره، وضم إلى ذلك فوائد حديثية ومهمات فقهية، ذكر أولًا كلام ابن الصلاح بنصه، ثم أردف ذلك بكلام العراقي وغيره، واستوفى كلام ابن الصلاح، نوعًا نوعًا، ولم يغادر شيئًا من كلامه، وكذا غالب كلام العراقي.
ولم يطبع هذا الكتاب إلى الآن وتوجد منه نسخة جيدة بخط نسخ بمعهد المخطوطات بمصر برقم 355/ 2 وجاءت مصورة إلى جامعتنا أيضًا (4).
(1) انتهى منه المصنف يوم الجمعة 5/ 2/ 1353 هـ، وهو مطبوع في حجم صغير وقصير في دار المعرفة بيروت.
(2)
سجل هذا الكتاب أخونا الزميل زين العابدين بلا فريج المغربي لنيل درجة الماجستير وسيناقش قريبًا إن شاء الله.
(3)
قد طبع هذا الكتاب أولًا بعناية الشيخ محمد راغب الطباخ المرحوم، وله عليه تعليقات نافعة. ثم طبع بتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان من دار الفكر سنة 1401 ولا يخفى على أهل العلم سوء تحقيقه وكثرة أخطائه.
(4)
انظر: الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح (1/ ب) نسخة المعهد المذكورة.
4 -
شيخ الإِسلام الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني (ت 852) سماه "الإِفصاح على نكت ابن الصلاح" ويعرف: "بالنكت على كتاب ابن الصلاح" أيضًا، وهو مفيد للغاية، لكنه لم يكمله، ولو كمل لكان في بابه عديم النظير (1).
ويلاحظ أن المصنفين في هذا الدور كانوا أئمة أجلة، فلم يقلدوا ابن الصلاح في القواعد العلمية، بل اجتهدوا رأيهم، وناقشوه في كثير من المسائل، أو خالفوه فيما قرره (2).
* * *
(1) حققه أستاذنا الدكتور ربيع بن هادي بن عمير المدخلي الأستاذ بالدراسات العليا، ورئيس شعبة السنة بها، لنيل درجة الدكتوراه بجامعة أم القرى مكة المكرمة. وقد طبع بإشراف المجلس العلمي لإِحياء التراث الإِسلامي بالجامعة الإِسلامية سنة 1404 هـ.
(2)
منهج النقد في علم الحديث، ص 60.