الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ساءَ ما يَحْكُمُونَ
وقال عز وجل: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَيْ بِالْعَدْلِ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
ثُمَّ قَالَ جل وعلا: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَيْ إِنَّمَا يأتمر بهواه، فما رآه حسنا فعله وما رَآهُ قَبِيحًا تَرَكَهُ، وَهَذَا قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَعَنْ مَالِكٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ التَّفْسِيرِ لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا عَبَدَهُ، وَقَوْلُهُ: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ يَحْتَمِلُ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَأَضَلَّهُ اللَّهُ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، وَالْآخَرُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْعِلْمِ إِلَيْهِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ وَلَا يَنْعَكِسُ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً أَيْ فَلَا يَسْمَعُ مَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَعِي شَيْئًا يَهْتَدِي بِهِ وَلَا يَرَى حُجَّةً يَسْتَضِيءُ بها. ولهذا قال تعالى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ كقوله تَعَالَى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 186] .
[سورة الجاثية (45) : الآيات 24 الى 26]
وَقالُوا مَا هِيَ إِلَاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَاّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَاّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الدَّهْرِيَّةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي إِنْكَارِ الْمَعَادِ وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا أَيْ مَا ثَمَّ إِلَّا هَذِهِ الدَّارُ، يَمُوتُ قَوْمٌ وَيَعِيشُ آخَرُونَ، وَمَا ثَمَّ مَعَادٌ وَلَا قِيَامَةٌ، وَهَذَا يَقُولُهُ مُشْرِكُو الْعَرَبِ الْمُنْكِرُونَ للمعاد، وتقوله الْفَلَاسِفَةُ الْإِلَهِيُّونَ مِنْهُمْ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ الْبُدَاءَةَ وَالرَّجْعَةَ، وتقوله الْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ الدَّوْرِيَّةُ الْمُنْكِرُونَ لِلصَّانِعِ، الْمُعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي كُلِّ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يَعُودُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا قَدْ تَكَرَّرَ مَرَّاتٍ لَا تَتَنَاهَى، فَكَابَرُوا الْمَعْقُولَ وَكَذَّبُوا الْمَنْقُولَ وَلِهَذَا قَالُوا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أَيْ يَتَوَهَّمُونَ وَيَتَخَيَّلُونَ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يقول تَعَالَى يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ» «1» وَفِي رِوَايَةٍ «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» «2» وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ «3» بِسِيَاقٍ غَرِيبٍ جدا فقال: حدثنا
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 45، باب 1، والتوحيد باب 35، ومسلم في الألفاظ حديث 2، 3، وأبو داود في الأدب باب 169، وأحمد في المسند 2/ 238، 272.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 5/ 299، 311.
(3)
تفسير الطبري 11/ 264.
أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُهْلِكُنَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَهُوَ الَّذِي يهلكنا يميتنا ويحيينا فقال الله تعالى فِي كِتَابِهِ: وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَيَسُبُّونَ الدَّهْرَ فَقَالَ اللَّهُ عز وجل: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مِثْلَهُ.
ثُمَّ رُوِيَ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ» وَأَخْرَجَهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ وَالنَّسَائِيُّ من حديث يونس بن يزيد بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ «يَقُولُ اللَّهُ تعالى: اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُعْطِنِي وَسَبَّنِي عَبْدِي، يَقُولُ وا دهراه وَأَنَا الدَّهْرُ» قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» كَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا إِذَا أَصَابَهُمْ شِدَّةٌ أَوْ بَلَاءٌ أَوْ نَكْبَةٌ قَالُوا يَا خيبة الدهر، فينسبون تِلْكَ الْأَفْعَالَ إِلَى الدَّهْرِ وَيَسُبُّونَهُ، وَإِنَّمَا فَاعِلُهَا هو الله تعالى فَكَأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَبُّوا اللَّهَ عز وجل، لِأَنَّهُ فَاعِلُ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ سب الدهر بهذا الاعتبار، لأن الله تعالى هُوَ الدَّهْرُ الَّذِي يَعْنُونَهُ وَيُسْنِدُونَ إِلَيْهِ تِلْكَ الْأَفْعَالَ، هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ غَلِطَ ابْنُ حَزْمٍ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ فِي عَدِّهِمُ الدَّهْرَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى أَخْذًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أَيْ إِذَا اسْتُدِلَّ عَلَيْهِمْ وَبُيِّنَ لهم الحق، وأن الله تعالى قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَبْدَانِ بَعْدَ فَنَائِهَا وَتَفَرُّقِهَا مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ أَحْيَوْهُمْ إِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَهُ حَقًّا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ أَيْ كَمَا تُشَاهِدُونَ ذَلِكَ يُخْرِجُكُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ أَيِ الَّذِي قَدَرَ عَلَى الْبُدَاءَةِ قَادِرٌ عَلَى الإعادة بطريق الأولى والأحرى وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ أي إنما يجمعكم إلى يوم الْقِيَامَةِ لَا يُعِيدُكُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى تَقُولُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التَّغَابُنِ: 9] لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ [الْمُرْسَلَاتِ: 12- 13] وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هُودٍ: 104] وَقَالَ هَاهُنَا ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ لَا شَكَّ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ فَلِهَذَا يُنْكِرُونَ الْمَعَادَ وَيَسْتَبْعِدُونَ قِيَامَ الْأَجْسَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [الْمَعَارِجِ: 6- 7] أَيْ يَرَوْنَ وُقُوعَهُ بَعِيدًا وَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ ذلك سهلا قريبا.