الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، أي أنهم كانوا يعدلون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول، ونظيره في الكلام ما يقول الفاسق الفقير لمن يعظه لست بمنفك مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغني فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقا، فيقول واعظه لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار فيذكره ما كان يقول توبيخا، وإلزاما قال الإمام فخر الدين: وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد وهو أن قوله تعالى لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة مذكور حكاية عنهم، وقوله وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إخبار عن الواقع، والمعنى أن الذي وقع كان بخلاف ما ادعوا أو ثانيها أن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وعلى هذا التقدير يزول الإشكال إلا أن تفسير لفظة حتى بهذا ليس من اللغة في شيء وذكر وجوها أخر قال: والمختار هو الأول ثم فسر البينة فقال تعالى: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أي تلك البينة رسول من الله يَتْلُوا أي يقرأ الرسول صلى الله عليه وسلم صُحُفاً أي كتبا يريد ما تضمنه المصحف من المكتوب فيه وهو القرآن لأنه كان صلى الله عليه وسلم يقرأ عن ظهر قلبه لا عن كتاب مُطَهَّرَةً أي من الباطل والكذب والزّور، والمعنى أنها مطهرة من القبيح، وقيل معنى مطهرة معظمة، وقيل مطهرة أي لا ينبغي أن يمسها إلا المطهرون فِيها أي في الصحف كُتُبٌ أي الآيات المكتوبة وقيل الكتب بمعنى الأحكام قَيِّمَةٌ أي عادلة مستقيمة غير ذات عوج، وقيل قيمة بمعنى قائمة مستقلة بالحجة من قولهم قام بالأمر إذا أجراه على وجهه، ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب فقال تعالى:
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ يعني جاءتهم البينة في كتبهم أنه نبي مرسل قال المفسرون لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله تعالى فلما بعث تفرقوا في أمره، واختلفوا فيه، فآمن به بعضهم وكفر به آخرون، ثم ذكر ما أمروا به في كتبهم فقال تعالى:
[سورة البينة (98): الآيات 5 الى 8]
وَما أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
وَما أُمِرُوا يعني هؤلاء الكفار إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ أي وما أمروا إلا أن يعبدوا الله قال ابن عباس: ما أمروا في التوراة، والإنجيل، إلا بإخلاص العبادة لله موحدين له مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الإخلاص عبارة عن النّية الخالصة، وتجريدها عن شوائب الرّياء، وهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه، والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه والواجب لوجوبه والنّية الخالصة لما كانت معتبرة. كانت النية معتبرة فقد دلت الآية على أن كل مأمور به فلا بد وأن يكون منويا فلا بد من اعتبار النية في جميع المأمورات، قال أصحاب الشّافعي: الوضوء مأمور به ودلت هذه الآية على أن كل مأمور به يجب أن يكون منويا، فتجب النية في الوضوء، وقيل الإخلاص محله القلب وهو أن يأتي بالفعل لوجه الله تعالى مخلصا له، ولا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا غرضا آخر حتى قالوا في ذلك لا يجعل طلب الجنة مقصودا ولا النجاة من النار مطلوبا، وإن كان لا بد من ذلك بل يجعل العبد عبادته لمحض العبودية واعترافا لربه عز وجل بالرّبوبية، وقيل في معنى مخلصين له الدّين مقرين له بالعبودية، وقيل قاصدين بقلوبهم رضا الله تعالى بالعبادة (م) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم، ولا صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» حُنَفاءَ
أي مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وقيل متبعين ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقيل حنفاء أي حجاجا وإنما قدمه على الصّلاة والزّكاة لأن فيه صلاة وإنفاق مال، وقيل حنفاء أي مختونين محرمين لنكاح المحارم، وقيل الحنيف الذي آمن بجميع الأنبياء والرّسل، ولا يفرق بين أحد منهم فمن لم يؤمن بأشرف الأنبياء وهو محمد صلى الله عليه وسلم فليس بحنيف وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي المكتوبة في أوقاتها وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ أي المفروضة عند محلها وَذلِكَ أي الذي أمروا به دِينُ الْقَيِّمَةِ أي الملة المستقيمة والشّريعة المتبوعة، وإنما أضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين وأنث القيمة ردا إلى الملة، وقيل الهاء في القيمة للمبالغة كعلامة، وقيل القيمة الكتب التي جرى ذكرها، أي وذلك دين أصحاب الكتب القيمة، وقيل القيمة جمع القيم، والقيم، والقائم واحد والمعنى وذلك دين القائمين لله بالتوحيد واستدل بهذه الآية من يقول إن الإيمان قول وعمل لأن الله تعالى ذكر الاعتقاد أولا وأتبعه بالعمل ثانيا ثم قال وذلك دين القيمة والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان بدليل قوله فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثم ذكر ما للفريقين فقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فإن قلت لم قدم أهل الكتاب على المشركين.
قلت لأن جنايتهم أعظم في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنهم كانوا يستفتحون به قبل بعثته ويقرون بنبوته، فلما بعث أنكروه وكذبوه وصدوه مع العلم به فكانت جنايتهم أعظم من المشركين فلهذا قدمهم عليهم.
فإن قلت إن المشركين أعظم جناية من أهل الكتاب لأن المشركين أنكروا الصانع والنّبوة، والقيامة وأهل الكتاب اعترفوا بذلك غير أنهم أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإذا كان كذلك كان كفرهم أخف فلم سوى بين الفريقين في العذاب.
قلت لما أراد أهل الكتاب الرّفعة في الدّنيا بإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أذلهم الله في الدّنيا، وأدخلهم أسفل سافلين في الآخرة ولا يمنع من دخولهم النّار مع المشركين أن تتفاوت مراتبهم في العذاب. فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي هم شر الخلق والمعنى أنهم لما استحقوا النار بسبب كفرهم قالوا: فهل إلى خروج من سبيل فقال بل تبقون خالدين فيها، فكأنهم قالوا لم ذلك قال لأنكم شر البرية. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ يعني أنهم بسبب أعمالهم الصّالحة واجتنابهم الشرك استحقوا هذا الاسم جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ قيل الرّضا ينقسم إلى قسمين: رضا به ورضا عنه، فالرضا به أن يكون ربا ومدبرا، والرّضا عنه فيما يقضي ويدبر قال السري: إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تسأله الرضا عنك، وقيل: رضي الله أعمالهم، ورضوا عنه بما أعطاهم من الخير والكرامة ذلِكَ أي هذا الجزاء والرضا لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي لمن خاف ربه في الدّنيا وانتهى عن المعاصي (ق) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب «إن الله أمرني أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ قال وسماني قال نعم فبكى» وفي رواية البخاري «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال الله سماني لك، قال نعم قال وقد ذكرت عند رب العالمين قال نعم قيل فذرفت عيناه» :
(شرح غريب الحديث) أما بكاء أبي فإنه بكى سرورا، واستصغارا لنفسه عن تأهله لهذه النّعمة العظيمة وإعطائه تلك المنزلة الكريمة، والنعمة عليه فيها من وجهين أحدهما: كونه منصوصا عليه بعينه والثاني قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها منقبة عظيمة لم يشاركه فيها أحد من الصّحابة، وقيل إنما بكى خوفا من تقصيره في شكره هذه النعمة.
وأما تخصيص هذه السّورة بالقراءة، فإنها مع وجازتها جامعة لأصول وقواعد ومهمات عظيمة، وكان الحال يقتضي الاختصار، وأما الحكمة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة على أبي فهي أن يتعلم أبي القراءة من ألفاظه صلى الله عليه وسلم، وضبط أسلوب الوزن المشروع وقدره بخلاف ما سواه من النّعم المستعملة في غيره فكانت قراءته على أبي ليتعلم أبي منه لا ليتعلم هو من أبي وقيل إنما قرأ على أبي ليتعلم غيره التواضع والأدب وأن لا يستنكف الشريف وصاحب الرتبة العالية أن يتعلم القرآن ممن هو دونه، وفيه تنبيه على فضيلة أبي والحث عن الأخذ عنه وتقديمه في ذلك فكان كذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم رأسا وإما ما في القراءة وغيرها، وكان أحد علماء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.