الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ
…
}
وحين تقول: أنا أقلب السلعة فهذا يعني أنك تفحصها. والحق يبلغنا هنا: أنا قلبت قلوبهم على كل لون ولن آخذ بظاهر الفؤاد، بل بلطفي وعظيم خبرتي أعلم الباطن منهم فاطمئنوا إلى أن حكمي هو الحكم الحق الناتج من تقليب لطيف خبير.
وقد يكون هنا معنى آخر، أي أن يكون التقليب لونا من التغيير؛ فمن الجائز أنهم حينما أقسموا بالله جهد أيمانهم كانوا في هذا الوقت قد اقتربوا من الإيمان ولكن قلوبهم لا تثبت على عقيدة. بل تتقلب دائما. ومادامت قلوبهم لا تثبت فأنَّى لنا بتصديقهم لحظة أن أقسموا بالله جهد أيمانهم على إعلان الإيمان إن جاءت آية؟ وهل فيهم من يملك نفسه بعد مجيء الآية أيظل أمره أم يتغير؟ . لأن ربنا مقلب القلوب وما كنت تستحسنه أولا قد لا تستحسنه ثانيا. حين {ونُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} أي أن الحكم قد جاء عن خبرة وإحاطة علم {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} .
إن الإيمان يحتاج إلى استقبال آيات كونية بالبصر، وبعد أن تستقبل الآيات الدالة على عظمة الإِله تؤمن به ويستقر الإيمان في فؤادك. وسبحانه يوضح لنا أنه يقلب أفئدتهم وأبصارهم، هل يبصرون باعتبار واقتناع؟ أو هي رؤية سطحية لا فهم لهم فيها ولا قدرة منهم على الاستنباط؟ وهل أفئدتهم قد استقرت على الإيمان أو أن أبصارهم قاصرة وقلوبهم قاصرة؟
110]
إذن فهم لا يؤمنون ويسيرون إلى ضلالهم. فإن جاءت آية فلن يؤمنوا، وفي هذا عذر للمؤمنين في أنهم يرجون ويأملون أن تنزل آية تجعل من أقسموا جهد الإيمان أن يؤمنوا.
لماذا؟ لأن الحق قال: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، أي أنهم لم يتغيروا ولذلك يصدر ضدهم الحكم {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} والطغيان هو تجاوز الحد، وهم قد تجاوزوا الحد هنا في استقبال الآيات، فقد جاءتهم آيات القرآن وعجزوا عن أن يأتوا بمثلها، وعجزوا عن أن يأتوا بعشر سور، وعجزوا عن أن يأتوا بسورة، وكان يجب ألا يطغوا، وألا يتجاوزوا الحد في طلب الاقتناع بصدق الرسول.
{وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} و «العمه» هو التردد والحيرة، وهم في طغيانهم يترددون، لأن فيهم فطرة تستيقظ، وكفرا يلح؛ يقولون لأنفسهم: أنؤمن أو لا نؤمن؟ والفطرة التي تستيقظ فيهم تلمع كومضات البرق، وكان يجب ألا يترددوا: أو {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} في النار؛ لأن البصر لم يؤد مهمته في الاعتبار، والقلب لم يؤد في الفقه عن الله، فيجازيهم الله من جنس ما عملوا بأن يقلب أبصارهم وقلوبهم في النار.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ
…
}
هنا يوسع الحق المسألة. فلم يقل: إنهم سوف يؤمنون، بل قال:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة} مثلما اقترحوا، أو حتى لو كلمهم الموتى، كما قالوا من قبل:{فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الدخان: 36]
ويأتي القول: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ} و «الحشر» يدل على سوق بضغط مثلما نضع بعضا من الكتب في صندوق من الورق ونضطر إلى أن نحشر كتابا لا مكان له، إذن: الحشر هو سوق فيه ضغط، وهنا يوضح الحق: لو أنني
أحضرت لهم الآيات يزاحم بعضها بعضا وقدرتي صالحة أن آتي بالآيات التي طلبوها جميعا لوجدت قلوبهم مع هذا الحشر والحشد تضن بالإيمان.
{وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} و «قبلا» هي جمع «قبيل» ، مثل سرير وسرر.
{وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} . وهذا يعني أن الحق إن جاء لهم بكل ما طلبوا من آيات، وكأن كل آية تمثل قبيلة والآية الأخرى تمثل قبيلة ثانية، وهكذا. فلن يؤمنوا، أو «قبلا» تعني معاينة أي أنهم يرونها بأعينهم، لأن في كل شيء دبرا وقبلا؛ والقبل هو الذي أمام عينيك، والدبر هو من خلفك. فإن حشرنا عليهم كل شيء مقابلا. ومعاينا لهم فلن يؤمنوا. وإن اخذتها على المعنى الأول أي أنه سبحانه إن حشد الآيات حشدا وصار المعطي أكثر من المطلوب فلن يؤمنوا. وإن أردت أن تجعلها مواجهة، أي أنهم لو رأوا بعيونهم مواجهة من أمامهم فلن يؤمنوا.
وجاء الحق هنا بمشيئته لأن له طلاقة القدرة التي إن رغب أن يرغمهم على الإيمان فلن يستطيعوا رد ذلك، ولكن الإرغام على الإيمان لا يعطي الاختيار في التكليف ولذلك قال سبحانه:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَاّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4]
والله لا يريد أعناقا تخضع، وإنما يريد قلوبا تخشع. لذلك يذيل الحق الآية بقوله:{ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} . والجهل يختلف عن عدم العلم، بل الجهل هو علم المخالف، أي أن هناك قضية والجاهل يعلم ما يخالفها، أما إن كان لا يعلم القضية فهذه أمية ويكفي أن نقولها حتى يفهمها فورا. لكن مع الجاهل هناك مسألتان: الأولى أن نزيل من ادراكه هذا الجهل الكاذب، والأخرى أن نضع في
إدراكه القضية الصحيحة، وما دام أكثرهم يجهلون. فهذا يعني أنهم قد اتبعوا الضلال.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ
…
}
{وَكَذَلِكَ} إشارة من الحق سبحانه وتعالى إلى الرسل والأنبياء ليعطي الأسوة للرسول بإخوانه السابقين له في موكب الرسالات، فلست بدعا - يا محمد - في أنك رسول يُواجَه بأعداء، فكل رسول من الرسل ووجه وقوبل بهؤلاء الأعداء.
وهل فَتّ أعداء الرسل في عضد مَن أرسل إليهم وأضعفوا قوتهم وأوهنوا عزائمهم وأثنوهم عن دعوتهم؟ أو ظل الرسل أيضا صامدين؟ . . إنهم صمدوا وأيدهم الله ونصرهم وإذا كنت أنت خاتم الرسل، وسيد المرسلين، والمعقب على رسالات سبقتك ولا معقب على رسالتك فلابد أن يكون الأعداء الذين يواجهونك مناسبين للمهمة التي تؤديها. وإياك أن تظن أن المقصد في هذه العداوة أننا تركناهم أعداء لمجرد العداء، لا، بل نحن قد أردنا هذه العداوة لصالح الدعوة؛ لأن الإنسان إذا ما كان في منهج خير وأهاجه الشر يتحمس لمزيد من الخير. ولذلك لا تجد الصحوات الإيمانية إلا حين يجد المؤمنون تحديا من خصومهم، هنا تجد الصحوة الإيمانية قد استيقظت لأن هناك خصوما يتحدونها، ولو لم يكن هناك خصوم لبقيت الصحوة فاترة. وهذا ما نراه حين يوجد من خصوم الإسلام من أي لون من ألوانهم مَن يتحدى أي قضية من قضايا الدين. في هذه الحالة نجد حتى غير الملتزم بمنهج الإسلام يغار على الدين.
إذن فالعداوة لها فائدة، وإياك أن تظن أن في أي مظهر في الوجود يُغلب الله على مراداته في كونه، والشر له رسالة لأنه لولا أن الشر موجود ويصاب الناس من أذاه لما تحمس الناس للخير، فالذي يجعلنا نتحمس للخير هو وجود الشر، وأوضحنا من قبل أن الباطل جندي من جنود الحق: لأن الباطل حين يعض ويعربد في الناس يتساءل الناس متى يأتي الحق لينقذنا، وأنك ساعة ترى مريضا يتألم إياك أن تظن أن الألم قد جاءه دون سبب، بل الألم جندي من جند الشفاء. وكأن الألم يقول لمن يصيبه: يا إنسان تنبه أن عطبا في هذا المكان فسارع إلى علاجه. ولذلك نجد أعنف الأمراض وأشرسها وأخبثها، هي الأمراض التي تأتي بلا ألم يسبقها، ولا تظهر أعراضها إلا أن يستعصي شفاؤها، وهكذا نرى أن الألم جندي من جنود العافية.
وحين يكون لك عدو في الحارة أو في البلدة وعيونه مركزة عليك فأنت تخاف أن تقع منك هَنة وعيب حتى لا يشنّع عليك؛ لذلك تسير على الصراط المستقيم لأنك لا تريد أن تنصره على نفسك.
والشاعر القديم، الذي أعجبه الشعر فشطره. يقول لك:
عداي لهم فضل عليّ ومنة
…
فعندي لهم شكر على نفعهم ليا
فهم كدواء والشفاء بمرّه
…
فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا
همُ بحثوا عن زلَّتي فاجتنبتها
…
فأصبحت مِمَّا دنس العرض خاليا
وهم أججوا جهدي ولكن ببغضهم
…
وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
لذلك لابد أن تنظر إلى كل شيء بحكمة إيجاد الحكيم له فقد شاء الحق أن يوجد الأعداء للدعوة الإسلامية حتى تنتصر وتقوى.
وجعل الحق سبحانه وتعالى الأعداء للأنبياء، مهيَّجين ومثيرين للنبي ولأتباعه؛ لأن الأمر إذا حصلت فيه معارضة من مخالف أججت في نفس المقابل قوة حتى لا يهزم
أمامه ولا يغلب أمام منطقه. ولذلك قال الحق: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا} لأي أنهم لم يتطوعوا بالعداوة إنما هو تسخير للعداوة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً} .
وكيف يجعل الله لكل نبي عدوا؟ إنه يفعل ذلك بما أودع في الناس من الاختيار، وما داموا مختارين فالذي اختار الهدى يكون نصيراً للنبي، والذي اختار الضلال يكون عدوا للنبي.
إذن فهم لم يكونوا أعداء بطبيعتهم، وإنما بما أودع الله فيهم من الاختيار.
وإذا كان الله هو الذي أودع الاختيار فقد أراد أن يحقق مشيئته في قوله: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ. .} [الأنفال: 42]
ولو شاء الله الا يكون للنبوة أعداء لفعل ذلك؛ لأن له طلاقة القدرة، ولكن ذلك سيكون بالقهر، والله لا يريد قهراً للعقلاء، وإنما يريد أن يذهبوا إليه بمحض اختيارهم؛ اي وهم قادرون على الا يذهبوا. وكلمة «عدو» في ظاهرها أنها مفرد، ولكنها تطلق على الواحد، وتطلق على الاثنين، وتطلق على الجماعة، فتقول:«هذا عدو لي» ؛ و «هذه عدو لي» ؛ ولا تقل «عدوة» ، وتقول: وهذان عدو لي، وهاتان عدو لي، لأن كلمة «عدو» تطلق على الذكر والأنثى وتقال للمفرد وللمثنى، وللجمع.
اقرأ قول الحق: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلَاّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 77]
واقرأوا قول الحق: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يشقى} [طه: 123]
ولم يقل أعداء، إذن فكلمة «عدو» تطلق على المفرد والمفردة، والمثنى والمثناة،
وعلى جمع المذكر والجمع المؤنث. لكن بعض الذين يحبون أن يكونوا مستدركين على كلام الله. يقول الواحد منهم: كيف يقول: «فإنهم عدو لي» ، أو «اهبطو بعضكم لبعض عدو» ؟! ويقول سبحانه وتعالى:{أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ. .} [الأعراف: 22]
والشيطان عدو، وهم عدو. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:{واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً. .} [آل عمران: 103]
ونقول له: أنت قد فاتك أن الذي يتكلم هو الرب الأعلى. والعداوة نوعان، فإذا تعدد العدو، وجمعته مصلحة واحدة في معاداة المعادي يكونون وحدة في العداوة فهم عدو واحد لاجتماعهم على سبب واحد في العداوة.
لكن إذا تعددت أسباب العداوة فالأمر يختلف، فقد يكون لك عدو لأن مظهرك أحسن منه، وعدو آخر لأنك أذكى منه، وعدو ثالث لأنك أغنى منه. فلتعدد الأسباب صار كل واحد منهم عدوًا برأسه وجمع على أعداء لتعدد سبب العداوة. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ. .} [سورة الأنعام: 112]
وشياطين الإنس والجن كما يقول النجاة بدل من عدو و «شياطين» جمع شيطان وهو اللعين المطرود، البغيض، سواء أكان من الإنس أم من الجن.
{يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً} والوحي - كما نعرف - هم إعلام بخفاء، ولماذا يوحي بعضهم إلى بعض؟ لن غلبة الحق لا تجعلهم قادرين على أن يتجاهروا؛ لذلك يتآمرون مع بعضهم البعض، لكن الناس المحقين في قضية يتحركون في علانية. ولا يستخفون من الناس.
{يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} ومن الذي يوحي؟ ومن الذي يوحى إليه؟ ليس لنا دخل بهذا الموضوع، إنما الوحي: هو إعلام بخفاء، إن كان إلهاماً في النفس، أو إن كان بالإشارة أو بالدس، أو إن كان بالوسوسة، أو إن كان بواسطة رسول نحن لا نراه، كل ذلك أساليب الوحي الشامل للخير والشر.
وإذا كان الوحي من شياطين الجن فهل يوحون إلا بِشَرً؟ نعم. وكذلك هناك شياطين من الإنس يوحون أيضاً بشرّ. مصداقاً لقوله الحق: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول} وزخرف القول، المقصود به أنهم يدخلون على المسائل بالتزيين، فيزينون للناس الشهوة، ولذلك سماها ربنا «وسوسة» ، ونعلم أن المعاني حين يؤخذ لها ألفاظ تؤخذ من الأشياء الحسيّة، والوسوسة هي صوت الحلى، وقد اختار الله لما يفعله الشياطين من الإنس والجن للفظ الموحى بالمعنى المراد لأن وسوسة الحلى تغري بالنفاسة وعظم القيمة، والوسوسة طريقها هو الخفاء.
{يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول} وهم شياطين من الإنس والجن، إنس يوحي لإنس بأن يزين له المعصية والشهوة، وكثيراً ما يقع ذلك.
وجنّي يوحي لجنّي؛ لأن الجن مكلَّف أيضاً. وكذلك يوحي الجن للإنس.
{يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول} الزخرف. هو الشيء لمزين ظاهره لكن باطنه فاسد، ولذلك قال عز وجل:{وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا. .} [الزخرف: 35]
أي أموراً مزخرفة ظاهراً، لكن ليس لها عمق أو عمر أو نفاسة.
{يوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً. .} [الأنعام: 112]
وذلك ليغروهم ويخدعوهم ليفعلوا ويقترفوا المعصية، وإن لم يأتوا للمعصية بكلمات تزخرفها وتزينها فلن يستطيعوا أن يدخلوا بها على الناس؛ لذلك يعرضون ويبدون محاسن المعصية في ظاهر الأمر، مثال ذلك أنك لا تجد من يقول لآخر:
اشرب الخمر لتصاب بتليف الكبد مثلا!! ولكن هناك من يقول: احتس الخمر ليذهب همك وتنشط نفسك ويكثر فرحك.
{زُخْرُفَ القول غُرُوراً} أي ليغروهم؛ بإظهار فائدة موهومة فيه، ويسترون عن الناس مضرّة هذا الشيء ومهالكه.
ويتابع سبحانه: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} إنّ الحق سبحانه وتعالى هو الذي أعطى خلقه اختياراً في أن يكونوا مؤمنين أو أن يكونوا كافرين، مهديين أو ضالين، في نور أو في ظلمة. ويأتي الوقت الذي يثيب فيه سبحانه أو يعاقب؛ لذلك فهو - جل شأنه - لا يرغمهم على فعل ثم يعاقبهم عليه؛ لأنه هو العدل. ولذلك نجد من يقول: لماذا العقاب ولا شيء في الكون يقع على غير مشيئة الله؟ ونقول: نعم كل شيء من فعل الله؛ لأن سبب الاختيار من الله. وسبحانه هو الذي خلق الاختيار. فالكافر لا يقدر أن يؤمن إلا أن شاء الله لكن المطلوب منه أن يؤمن لأن طبيعته صالحة للكفر وصالحة للإيمان.
إذن خلق الله الإنسان مختاراً في أن يفعل أو لا يفعل في بعض الأمور، فالذي ينظر إلى أن كل فعل من الله أي ليس بطاقة من عبد، نقول له: صح رأيك. ومن يقول: إن هذا الأمر من العباد نقول له أيضاً: صح موقفك؛ لأن ربنا خلق الإنسان صالحاً لأن يحصل منه كذا. فإن أردت الحقيقة تجد كل فعل يأتي من الله، فأنت - على سبيل المثال - لم تخلق القوة التي لليد لترتفع، ولا خلقت القوة للأصابع لتنقبض. وإذا أردت أن تقبض يدك. فما هي العضلات التي تتحرك لتفعل الانقباض؟ أنت لا تعرف. إنّك تقبض يدك بمجرد إرادة منك أن تقبضها، والذي خلق لك هذه القوة يأمرك ألا تستعملها في قهر الآخرين، ولكن عليك أن تستعملها فيما يفيد الناس. واليد صالحة للضرب وللعمل الطيب وأنت لم تخلق الطاقة التي في اليد، ولا خلقت الانفعال فيها لإرادتك.
{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي لو شاء عدم فعله لفعل؛ لأن له طلاقة القدرة فلا يقدر أحد أن يخرج عن مراده أبداً. ونحن نرى السماء والأرض وكل ما دون الإنسان مسخراً، ثم لماذا نأخذ أمثلة من السماء والأرض والنبات والجماد والحيوان؟ خذ المثال من نفسك. أنت فيك أشياء ليس لك سيطرة عليها، واختيار لك عليها، ألك اختيار أن تمرض؟ . لا.
ألك اختيار أن يقع عليك حجر وأنت تمشي؟ . لا.
ألك اختيار في أن يصيبك سائق سكران؟ . لا.
ألك اختيار في أن تموت او لا تموت؟ . لا. لقد جعل الله فيك الأمرين الأثنين:
قهرك في أمور. والقهرية تثبت له - سبحانه - القدرة وطلاقتها، وجعلك مختارا في أشياء، والاختيار يثبت صحة التكليف.
ويتابع الحق مذيلاً الآية: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} لأن افتراءهم وكذبهم وزعمهم الباطل لن يغير من حقيقة الأمر شيئاً، وهم يرون أن افتراءهم يعوق الدعوة، لا، فقد صار افتراؤهم وكيدهم وعداوتهم للنبي وقوداً مهيّجاً للدعوة؛ لأن يخلص الدعوة من الشوائب ويصهر المؤمنين بها ويخرج منهم خصال الشر ويملأهم بخلال الخير.
{فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض. .} [الرعد: 17]
ولو لم يكن هناك مهيّجات لهذه المسائل لدخل الدعوة العاطل والباطل ولاندس فينا من لا يعرف قيمة الإيمان؛ لذلك يمحص الله بالأعداء وبالقوم الذين يقفون أمامها حتى لا يكون في حملة الدعوة احد من ضعاف العقائد وضعاف الإيمان، وهم الذين يخرجون هرباً من مسئوليات الإيمان ولا يبقى إلا أصحاب الرسالة الذين يخلصون الصدق مع الله وينقيهم الله بواسطة الأعداء. ولذلك قال:{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً} [التوبة: 47]
فمن الحكمة أنه - سبحانه - ثبط عزيمتهم وضعف رغبتهم في الانبعاث والخروج معكم. {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} [التوبة: 46]
وهنا يقول الحق: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول} وزخرف القول هو لون من الأداء له سُمَّاع، ومن يسمعونه قد لا يؤثر في قلوبهم ولا في نفوسهم، ومرة أخرى يسمعونه ويكون عندهم ميل وليس عندهم عقيدة ثابتة راسخة إلى هذا القول.
وكيف يسلك هؤلاء الناس: {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لَا يُؤْمِنُونَ. .}
كأن من يؤمن بالآخرة لا يقرب منه الزخرف أبداً ولا يميل إليه. وإن زُينت له معصية فإنه يتساءل: كم ستدوم لذة هذه المعصية؟ دقيقتين، ساعة، شهراً؛ وماذا أفعل يوم القيامة الذي يكون فيه الإنسان إمّا إلى دخول الجنة وإمّا إلى دخول النار. إذن فمن يؤمن بالآخرة لا تتقبل أذنه ولا فؤاده هذا الزخرف من القول، ولا يتقبله إلا من لا يؤمن بالآخرة، وهو لا يعرف إلا الدنيا، فيقول لنفسه: فلتتمتع في الدنيا فقط، ولذلك لو استحضرَ كل مؤمن العقوبة على المعصية ما فعلها، وهو لا يفعلها، وهو لا يفعلها إلا حين يغفل عن العقوبة. وإذا كنا في هذه الدنيا نخاف من عقوبة بعضنا بعضاً، وقدراتنا في العقوبة محدودة، فما بالنا بقدرة الرب القاهرة في العقوبة؟! ولذلك نجد الذين يجعلون الآخرة على ذكر من أنفسهم وبالهم إذا عرضت لهم أي معصية، يقارنونها بالعقاب، فلا يقتربون منها. {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} .
والإصغاء هو ميل الأذن إلى المتكلم؛ لأنك قد لا تسمع من يتكلم بغير إصغاء، وحين يسير الإنسان منا في الطريق فهو يسمع الكثير، لكن أذنه لا تتوقف عند كل ما يسمع، بل قد تقف الأذن عندما يظن الإِنسان أنه كلام مهم. ولذلك يسمونه التسمع لا السمع، وهذا هو الإصغاء. ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام ُ: من تسمع غانية - أي امرأة تغني بخلاعة - ولم يقل: «من سمع» ، والإنسان منا قد يسير ويذهب إلى أي مكان والمذياع يذيع الأغاني، ويسمعها الإنسان، وآلة إدراك
السمع منطقة وليست مفتوحة؛ فهو لا يتصنت، وآلة إدراك الانطباقية أو الانفتاحية مثل العين؛ فالعين لا ترى وهي مغمضة، إنها ترى وهي مفتوحة، والعين تغمض بالجفون أما الأذن فليس لها جفون يقول لها: لا تسمعي هذه، وهذه اسمعيها.
إذن فالسمع ليس للإنسان فيه اختيار، لكن التسمع هو الذي له فيه اختيار.
{ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113]
كأن فيه شيئا ينبع طلب السمع فيه من الفؤاد، أي يوافق ما في الأعماق، وشيئا آخر يمر عليه الإنسان مر الكرام غير ملتفت إليه. والأفئدة هي القلوب، صحيح أن الآذان هي التي تصغي، لكن القلوب قد تتسمع ما يقال، وكأن النفس مستعدة لهذه العملية؛ لأنها لا تؤمن بأن هناك آخرة وعندما استعداد لأن تأخذ لذة الدنيا دون التفات للآخرة. ولذلك ينقل الحق سبحانه الإصغاء من الأذن إلى الفؤاد وهذا إدراك.
{ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالآخرة. .} [الأنعام: 113]
ثم تأتي المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة:
{وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113]
وقد يصغي إنسان، ثم تتنبه نفسه اللوامة، ويمتنع عن الاستجابة.
لكن هناك من يصغي ويرضى وجدانه ويستريح لما يسمع، ثم ينزع للعمل ليقترف الإثم. وهذه ثلاث مراحل: الأولى هي: {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالآخرة} . ثم المرحلة الثانية: {وَلِيَرْضَوْهُ} ، ثم المرحلة الأخيرة:{وَلِيَقْتَرِفُواْ} أي يرتكبوا الإثم، وهذه المسألة حددت لنا المظاهر الشعورية التي درسها علماء النفس فالإدراك؛ «لتصغى» ، والوجدان؛ «ليرضوه» ، والنزوع؛ «ليقترفوا» .
وقبل أن يولد علم النفس جاء القرآن بوصف الطبيعة البشرية بمراحلها المختلفة من إدراك ووجدان، ونزوع والشرع لا يتدخل عند أي مظهر من مظاهر شعور المرء إلا عند النزوع إلا في حالة واحدة حيث لا يمكن فصل النزوع عن الوجدان وعن الإدراك؛ لذلك يتدخل الشرع من أول الأمر، وهو ما يكون في عملية نظر الرجل إلى المرأة؛ لأنك حين تنظر تجد نفسك: تحبها وتعشقها تفتن بها، ومحرم عليك النزوع، فحين تتقدم ناحيتها يقول لك الشرع: لا. ولأن هذا أمر شاق على النفس البشرية، ولا يمكن فصل هذه العمليات؛ لأنه إن أدرك وَجِد، وإن وَجِد نزع، فأمر الحق بالامتناع من أول الأمر:{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ. .} [النور: 30]{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ. .} [النور: 31]
إذن فقد منع الإدراك من بدايته ولم ينتظر حتى النزوع، لماذا؟ لأن الإدراك الجمالي في كل شيء يختلف عن الإدراك الجمالي في المرأة. الإدراك الجمالي في المرأة يُحدث عملية كيماوية في الجسم تسبب النزوع، ولا يمكن فصلها أبداً. {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} .
وساعة ما نقول: «ما» ويأتي الإبهام فهذا دليل على أن هناك أموراً كثيرة جدًا.
ولذلك يقول الحق: {. . فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]
أي أنه أمر لا يمكن أن تحدده الألفاظ، مثله مثل قوله:{وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} .
أي أن كل واحد يقترف ويكتسب ويعمل ويرتكب ما يميل إليه؛ فهناك من يغتاب أو يحسد أو يسرق وغير ذلك من شهوات النفس التي لا تحدد؛ لذلك جاء لها باللفظ الذي يعطي على العموم.
وما دامت المسألة في نبوّة واتباع نبوّة، وفي أعداء شياطين من الإنس والجن
ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً إذن فهذه معركة، وحتى يتم الفصل فيها لابد من حاكم يحكم. فأوضح الحق: يا محمد أنا أرسلتك، ولك أعداء وسيكيدون لك بكذا وكذا ويبذلون قصارى جهدهم في إيذائك ومن اتبعك، فإياك أن تبتغي حكما غيري؛ لأني أنا المشرع وأنا من أحكم، وأنا الذي سوف أجازي.
لماذا؟ لأن الخلاف على ما شرع الله، ولا يستقيم ولا يصح أن يأتي من يقول مراد المقنن كذا، أو المفسر الفرنسي قال كذا، والمفسر الإِنجليزي قال كذا، لا، إن الذي يحكم هو من وضع القانون، ومراداته هو أعلم بها، والحق الواضح هو أعلم به، وسبحانه هو من يحكم، والرسول صلى الله عليه وسلم َ يقول:
أي إياك أن يقول واحد: إن النبي قد حكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم َ قد حكم بظاهر الحجة، وقد يكون واحد من المختصمين قوي الحجة، والآخر لا يجيد التعبير عن نفسه. إذن فالحكم هو الله لأنه هو الذي قنن، ومادام هو الذي قنن وهو الذي يحكم بينكم، فليطمئن كل إنسان يتخاصم مع غيره؛ لأن القضية يفصل فيها أعدل العادلين وأحكم الحاكمين.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي
…
}
فسبحانه هو من يحكم وهو من قنن، وهو من يعلم القانون ويعلم من يتبع
القانون، ومن يخالف القانون. وساعة تقول:{أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً} . فهذا دليل على أنك واثق أن مجيبك لن يقول لك إلا: لا تبتغي حكما إلا الله، ولذلك يطرح المسألة في صيغة استفهام، ويقول صلى الله عليه وسلم َ: مبلغا عن ربه: {وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلاً} ، ولم يقل رسول الله: وهو الذي أنزل عليّ الكتاب، بل قال مبلغاًَ عن رب العزة:{وهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} كأن العداوة ليست لمحمد وحده، لكنها العداوة لأمة الإيمان كلها، والحكم لأمة الإيمان كلها. ومع أن القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أولاً، ولكن مهمته البلاغ إلى الناس والغاية منه للمؤمنين كلهم، وهكذا تكون العداوة للنبي عداوة للمؤمنين كلهم، ولذلك أنزل عليه الحق هذا التساؤل:{أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً} كما أنزل عليه من قبل القول الحق: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن} [الأنعام: 112]
إذن فعدو النبي هو عدو المؤمنين به والمتبعين له، لكن قمة العداوة تكون للنبي المرسل من الحق:
{والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [الأنعام: 114]
وكلمة {مِّن رَّبِّكَ بالحق} فيها إغراء للمؤمنين بأن كل الأمر يعود عليكم أنتم بالفائدة؛ لأن غاية إنزال الكتاب لكم أنتم، والكتاب جاء بهذا المنهج لصالحكم ولن يزيد في صفات الله صفة، ولن يزيد في ملك الله ملكا. بل الغاية أنتم.
{أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} [الأنعام: 114]
وسبحانه لم ينزل الكتاب إلا بتفصيل لا تلتبس فيه مسألة بأخرى:
{والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [الأنعام: 114]
والمقصود هنا بالذين آتيناهم الكتاب اليهود والنصارى؛ لأنهم يعلمون صفاتك يا رسول الله ويعلمون نعتك ويعلمون الكثير من كتابك فكل ما يتعلق بك موجود عندهم لكن الآفة أنهم اعتنقوا دينين: دينا يعلن يبدونه ويظهرونه، ودينا يُسَرّ به، فما يسر به لا يعلنونه ويُحرِّمون السؤال فيه، ولا يقبلون فيه نقاشاً، وعندما تصل إلى الحقيقة وتعرضها عليهم لا يقبلونها، وما الذي جعلهم يلتوون هكذا؟ لأن لهم حالين اثنتين: حال أيام أن كانوا يعاديهم من لا يؤمن بالسماء ومنهج السماء كعبدة الأوثان والمشركين. وقال فيه الحق: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} [البقرة: 89]
لقد كانوا من قبل أعداء للذين كفروا وأشركوا فكان همهم وشغلهم الشاغل أن ينتصروا على هؤلاء الكافرين، وقالوا:
(أظل زمان نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم)
وحينما جاءهم ما عرفوا كفروا به لأنهم: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً
…
}
[التوبة: 9]
وكان الثمن هو بقاء السلطة في أيديهم، وعندما تأتي النبوة تنزع منهم السلطة، فليس في الإِسلام سيطرة لرجال الدين ولا كهنوت. وكانوا يريدون أن تستمر سيادتهم، فاشتروا بآيات الله ثمنا قليلا.
{والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [الأنعام: 114]
وهم يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، وهم يعلمون أن الذي يشيعونه هو باطل. إذن فهناك علم بينهم وبين نفوسهم؛ وعلم آخر يقولونه للآخرين. وقوله الحق:{فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي الشاكين في أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن منزل من عند ربك بالحق. هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم َ، ونعلم أنه إذا طلب المتكلم من المخاطب أمرا هو فيه فالمراد المداومة عليه والزيادة؛ لأن هناك أموراً قد تزلزل الإيمان؛ لذلك يأتي الأمر بالثبات، أو هو إهاجة له، أو هو تسلية للمؤمنين إذ قال لهم لا تمتروا ولا تشكوا.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً. .}
وكلمة «تمت» تدل على أن المسألة لها بداية ولها خاتمة، فما المراد بالكلمة التي تمت؟ . أهي كلمة الله العليا بنصر الإسلام وانتهاء الأمر إليه؟ أو هو تمام أمر الرسالة حيث قال الحق:{اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً. .} [المائدة: 3]
أو «كلمة ربك» المقصود بها قرآنه؟ . ونرى أن معنى «تمت» استوعبت كل أقضية الحياة إلى أن تقوم الساعة، فليس لأحد أن يستدرك على ما جاء في كتاب الله حكماً من الأحكام؛ لأن الأحكام غطت كل الأقضية. ولفظ «كلمة» مفردة لكنها تعطي معنى الجمع. وأنت تسمع في الحياة اليومية من يقول: وألقى فلان كلمة طيبة قوبلت بالاستحسان والتصفيق. هو قال كلمات لكن التعبير عنها جاء ب «كلمة» إذن {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} المقصود بها المنهج الذي يشمل كل الحياة، واقرأ قوله الحق:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ. .} [الكهف: 5]
أهي كلمة أو كلمات؟ أنها كلمة ولكن فيها كلمات. إذن لفظ «كلمة» تطلق ويراد بها اللفظ المفرد، وتطلق ويراد بها الكلام. والكلمة في الأصل لفظ مفرد، أي لا يكون معها لفظ آخر، ولكنها تدل على معنى، فإذا كان المعنى غير مستقل بالفهم؛ ويحتاج إلى ضميمة شيء إليه لنفهمه فهذا حرف، وأنت تقول:«في» وهو لفظ يدل على الظرفية، إلا أنه غير مستقل بالفهم؛ لأن الظرف يقتضي مظروفاً ومظروفاً فيه، فتقول:«الماء في الكوب» لتؤدي المعنى المستقل بالفهم. وكذلك ساعة تسمع كلمة «من» تفهم أن هناك ابتداء، وساعة تسمع كلمة «إلى» تعلم أن هناك انتهاء. وإن كان يدل على معنى في نفسه وهو غير مرتبط بزمن فهو الاسم. وإن كان الزمن جزءاً منه فهو «الفعل» . أما «الكلام» فهو الألفاظ المفيدة.
وحين تسمع «سماء» تفهم المعنى، وكذلك حين تسمع كلمة «أرض» وهو معنى مستقل بالفهم. وحين تسمع كلمة «كتب» فهي تدل على معنى مستقل بالفهم، والزمن جزء من الفعل، فكتب تدل على الزمن الماضي و «يكتب» تدل على الحاضر و «سيكتب» تدل على الكتابة في المستقبل. إذن ف «الكلمة» لفظ يدل على معنى فإن كان غير مستقل بالفهم فهو حرف. و «الكلمة» قد يقصد بها الكلام.
وقوله الحق: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} تعني الكثير. فإن أردت بها القرآن فالمقصود هو كلمة الله. وكلام الله نسميه «كلمة» لأن مدلوله كلمة واحدة. انتهت وليس فيها تضارب، هذا إن أردنا بها القرآن، ولتفهم أن القرآن قد استوعب كل شيء، وكل قضية في الوجود وأيضاً لم ينس أو بدّل فيه حرف؛ بل بقى وسيبقى كما أنزل؛ لأن الآفة في الكتب التي نزلت أنهم كتموا بعضها ونسوا بعضها، وحرفوا بعضها، وكان حفظها موكولاً إلى المكلفين، ومن طبيعة الأمر التكليفي أنه يطاع مرة، ويعصى مرة أخرى.
وإن أطاعوا حافظوا على الكتب، وإن عصوا حرفوها بدليل قوله تعالى الحق:{إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله. .} [المائدة: 44]
و «استحفظوا» : أي طلب منهم أن يحافظوا عليه، وهذا أمر تكليفي عرضة أن يطاع، وعرضة أن يعصى، لكن الأمر اختلف بالنسبة للقرآن فقد قال الحق:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]
فسبحانه هو من يحافظ على القرآن، وليس ذلك للبشر لأن القرآن معجزة، والمعجزة لا يكون للمكلَّف عمل فيها أبداً.
إذن فقوله الحق: {وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} المقصود بها أن تَطْمَئِن على أن القرآن الذي بين يديك إلى أن تقوم الساعة هو هو لن تتغير فيه كلمة، بدليل أنك تتعجب في بعض نصوص القرآن، فتجد نصًا مساويا لنص، ثم يختلف السياق، فيقول الحق:{كَلَاّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} [المدثر: 54 - 55]
ومرة أخرى يقول سبحانه: {كَلَاّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 11 - 12]
ومرة أخرى يقول: {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الإنسان: 29]
فهذا لون ونوع من المتشابه من الآيات ليقول لنا الحق: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]
والحق يقول:
وفي آية أخرى يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34]
وكل ذلك يدلك على أن كل كلمة وصلتك كما أنزلت، وبذلك تكون كلمة ربك قد تمت. أو قول الله:{وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} ليدل على أن كلمة الله هي العليا، ولذلك تلاحظ أن «كلمة الله هي العليا» لم يجعلها الحق جعلاً، وإنما جاءت ثبوتاً، وسبحانه القائل:{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى. .} [التوبة: 40]
هذا السياق الإعرابي حصل فيه كسر مقصود، والسياق في غير القرآن أن يقول: وجعل كلمة الله هي العليا، ولكنه سبحانه يقول:{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا}
وسبحانه أراد بذلك أن نفهم أن كلمة الله هي العليا دائماَ وليست جعلاً. وهذا دليل على أن كلمته قد تمت.
ونلحظ أن قول الحق: {وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} تأتي بعد {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً} ، واستقرىء موكب الرسالات من لدن آدم، وانظر إلى حكم الله بين المبطلين
والمحقين، وبين المهتدين والضالين: إنه الحق القائل:
{فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} [العنكبوت: 40]
والحاصب هو الريح التي تهب محملة بالحصى وكانت عقوبة لقوم عاد. {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة} [العنكبوت: 40]
وهم قوم ثمود، يسميها مرة الصيحة، وأخرى يسميها الطاغية:{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5]
ومرة يخسف بهم الأرض مثلما فعل مع قارون: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} وكذلك: {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} .
وقد أغرق الله قوم فرعون وكذلك أغرق - من قبلهم - المكذبين لنوح. إذن كل قوم أخذوا حكم الله عليهم، لكنك يا محمد مختلف عنهم وكذلك أمة محمد التي أصبحت مأمونة على الوصية، وعلى المنهج، ولذلك قال الحق:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] وبعد أن بعث الحق رسوله صلى الله عليه وسلم َ قال: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]
إذن {تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} ، وهي الفصل النهائي: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا
لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 - 173]
وأنتم المنصورون لأنكم منسوبون إلى منهج غالب، والنصر للمنهج الغالب يقتضي الإخلاص، فإن تنصروا المنهج باتباعه ينصركم من أنزل المنهج، فهو القائل:{لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي. .} [المجادلة: 21]
وما قاله كان هو الواقع وما جاء به الواقع كان مطابقاً للكلام. {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً. .} [الأنعام: 115]
أي وافق الواقع الكوني ما قال الله به وكيف كان الواقع صادقاً وعادلاً في آن واحد؟ لنفرض أنك أحضرت مدرساً خصوصيًّا لولدك، وصادف أنه هو الذي يدرس في المدرسة وهو الذي يدرس لابنك ثم قلت له: أريد أن ينجح الولد في الامتحان. ووعد المدرس بذلك ثم جاء الامتحان ونجح الولد، فتكون كلمة المدرس قد صدقت. لكن هل هذا عدل؟ قد يكون المدرس هو واضع الأسئلة ولّمح للولد بالأسئلة، ويكون النجاح حينئذٍ غير عادل، لكن كلمة الله تجيء مطابقة لما قال، موقعها مطابق لما قال، وهي كذلك عدل؛ لأنه سبحانه أوضح الثواب والعقاب:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} . لأنه لا مبدل لكلمات الله، ولا يوجد إله آخر يعارضه فله سبحانه طلاقة القدرة.
أما بالنسبة للبشر فقد علَّم الله عباده احتياط الصدق في كلامهم؛ فأوصاهم: {وَلَا تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلَاّ أَن يَشَآءَ الله. .} [الكهف: 23 - 24]
لأن فعل ذلك غداً والإتيان به وإحداثه هو أمر يتعلق بالمستقبل الذي لا نتحكم فيه، فاحم نفسك وقل:«إن شاء الله» ، فإن لم يحدث يمكنك أن تقول: لم يشأ
ربنا حدوث ما وعدت به، وبذلك يحمي الإنسان نفسه من أن يكون كاذباًَ ويجعل نفسه صادقاً فلا يتكلم إلَاّ على وفق ما عنده من قوانين الفعل وعدم الفعل؛ لأنه عندما تقول:«أفعل ذلك غداً» . ماذا ستفعل غداً وأنت لا تضمن نفسك وحياتك وظروفك؟! لكن الله إذا قال: «سأفعل» فله طلاقة القدرة.
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَاّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السميع العليم} [الأنعام: 115]
ومادامت الكلمات ستتحقق والحكم سيصدر فهذا دليل على أنه سبحانه سميع لما قالوه في عدواتهم، وعليهم بما دبروه من مكائدهم، وهو القائل من قبل:{وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ. .} [الأنعام: 121]
أي ليعلموهم بخفاء، فإن كان كلامهم ظاهراً فهو مسموع، وإن كان بخفاء فهو معلوم.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض
…
}
و {مَن فِي الأرض} المقصود بهم المكلفون؛ لأنهم هم من يتميزون بالاختيار ولهم أوامر ونواه، فما دون الإنسان لا أمر له، و «أكثر» لا يقابلها بالضرورة كلمة «قليل» أو «أقل» ، وما دام القول هو:«أكثر» . فقد يكون الباقون كثيراً أيضاً، وأمّا كثير فإنها، تعطي له كميته في ذاته وليست منسوبة إلى غيره، ولذلك كنا نسمع من يقول: مكتوب على محطة مصر أو على «المطار» أو على «الميناء» ، يا داخل
مصر منك كثير، أي إن كنت رجلاً طيباً فستجد مثلك الكثير، وإن كنت شريراً فستجد مثلك الكثير أيضاً.
ويقول الحق: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب. .} [الحج: 18]
فكل الكائنات مقهورة مسخرة، وعند الناس انقسم الأمر؛ لأن لهم اختياراً، فراح أناس للطاعة وذهب أناس للمعصية، فلم يقل الحق: والناس. بل قال «وكثير من الناس» ، ولم يقل الحق: وقليل حق عليه العذاب، لكنه قال:{وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} فهؤلاء كثير وهؤلاء كثير، وإن نظرت إليهم في ذاتهم فهم كثير، والآخرون أيضاً إذا نظرت إليهم تجدهم كثيراً. ولماذا يقول الحق:{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} ؟
«الطاعة» - كما نعرف - استجابة للأمر في «افعل» ، والنهي في «لا تفعل» إذا قال الحق للإنسان افعل كذا؛ فالإنسان صالح لأن يفعل، وأن لا يفعل، وإن كان هناك شيء لا تقدر عليه فلن يقول لك: افعله. والإنسان عادة حين يؤمر أو يُنهي إنما يؤمر وينهي لمصلحته، فإن لم يوجد أمام مصلحةٍ معارض من منهج إلهي فهذا من مصلحته أيضاً؛ لأن الله أجاز له حرية الفعل والتّرك. ويوضح الحق: من رحمتي أن جعلت لكم تشريعاً؛ لأننا لو تركنا الناس إلى أهوائهم فسيأمر كل واحد من الذين لهم السيطرة على الناس بما يوافق هواه، وسينهي كل واحد من الناس بما يخالف هواه؛ لذلك نعصم هذا الأمر بالمنهج. حتى لا يتضارب الخلق ولا يتعاكس هواك مع هوى أخيك. ومن المصلحة أن يوجد مطاع واحد لا هوى له، ويوجد منهج يقول للجميع «افعلوا كذا» و «لا تفعلوا كذا» وبذلك يأتي الاستطراق لنفعهم جميعاً. ولذلك يقول الحق:{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله. .} [الأنعام: 116]
فهناك أناس مؤمنون وهم أصحاب الفطرة السليمة بطبيعتهم؛ لأن الخير هو الفطرة في الإنسان، وقد جاء التشريع لينمي في صاحب الفطرة السليمة فطرته أو يؤكدها له، ويعدل في صاحب النزعة السيئة ليعود به إلى الفطرة الحسنة.
والذين يضلون عن سبيل الله ماذا يتبعون؟ يقول الحق: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظن} .
كل واحد منهم يظن أن هذا الضلال ينفعه الآن، ويغيب عنه ما يجر عليه من الوبال فيما بعد ذلك.
و «الظن» - كما نعلم - هو إدراك الطرف الراجح ويقابله الوهم وهو إدراك الطرف المرجوح والظن هنا، هو ما يرجحه الهوي:{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَْ} [الأنعام: 116]
و «إن» - كما نعرف - تأتي مرة جازمة: إن تفعلْ كذا تجدْ كذا، وتأتي مرة نافية، مثل قوله الحق:{مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَاّ اللائي وَلَدْنَهُمْ. .} [المجادلة: 2]
أي: ما أماتهم؛ ف «إن» هنا نافية. وقوله الحق: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظن} أي ما يتبعون إلا الظن. هم إما أن يتبعوا الظن وإمّا أن يخرصوا. (فالخارص) هو من يتكلم بغير الحقيقة، بل يخمن تخميناً، كأن ينظر إنسان إلى آخر في سوق الغلال ويسأله: كم يبلغ مقدار هذا الكوم من القمح؟ . فيرد: حوالي عشرة أرداب أو اثنى عشر أردباً، وهو يخمن تخميناً بلا دليل يقيني أو بلا مقاييس ثابتة، أو يقول كلاماً ليس له معنى دقيق.
فإذا اتبعت الناس فسوف يضلونك. لأنهم لا يملكون دليلاً علمياً، ولاحقًا يقينيًا، بل يتبعون الظن إن كان الأمر راجحاً، ويخرصون ويخمنون حتى ولو كان الأمر مرجوحاً.
وساعة ترى «هو» هذه فاعرف أنها تَرُدّ وتجيب على ما يمكن أن يقال، فهناك من يقول: أنا سوف أرى تصرفات فلان، ولأنك من البشر فمهما علمت عنه فأنت محدود الإداراك؛ لأنك سترى تصرفات فقط، ولن ترى انفعالات قلبه وتقلبات عقله، ولكن الحق سبحانه وتعالى هو الأعلم؛ لأن الميزان كله عنده، إنه يدرك الظاهر والباطن، وهو سبحانه يقول هنا:«أعلم» وهناك «عليم» ، و «العليم» هو من يرى ظاهر الأمر ويحيط به، لا الخافي منه، أما الذي يرى الظاهر والخفي فهو أعلم.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم َ في مسائل كثيرة يعامل الناس بعلانيتهم، ويترك سرائرهم إلى الله. «وعندما قتل مسلم رجلاً أعلن الإسلام، سأله صلى الله عليه وسلم َ لماذا؟ ، قال: لأنه أعلن الإسلام نفاقاً. فقال صلى الله عليه وسلم َ: أشققت عن قلبه؟ {»
وسبحانه وتعالى «أعلم» ؛ لأنه يعلم الظاهر والباطن، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ويقول الحق:
{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ
وَمَا لَكُمْ أَلَاّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَاّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين}
ما الذي أدخل هذه المسألة في هذا السياق؟ لقد تكلم الحق عن أن هناك أعداء لكل نبي يلتمسون ثغرة في منهجه ليتكلموا فيها، وهذه هي مهمتهم التي هيأها الله لهم، فحين يقولون الاعتراضات نجد المنهج يرد عليهم وبذلك تنتفع الدعوة إلى أن تقوم الساعة.
مثال ذلك نجد الجماعة الذين عارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في الإسراء والمعراج، فحين قال لهم: أنني أسرى بي إلى المسجد الأقصى وعرج بي إلى السماء في ليلة واحدة، التمسوا له ثغرة لينفذوا منها ويضللوا غيرهم وقالوا له: أتدّعي أنك أتيتنا في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟} {لكنْ أبو بكر الصديق قال: إن كان قال فقد صدق، وهذا هو الإيمان الذي يحسن استقبال الأمر المخالف للنواميس. ويجادلون أبا بكر، فيقول: أنا صدقته في خبر السماء فكيف أكذبه في ذلك، مادام قال فقد صدق، وهذا كلام منطقي.
لكنَّ المعارضين لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ قالوا: أتدّعي أنك أتيتها في ليلة، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً} فأعطى صلى الله عليه وسلم َ لهم الأمارات ووصف لهم العير التي في الطريق، وغير ذلك من العلامات التي تجعل من الأمر حجة إلى يوم القيامة، ولو مرّت مسألة الإسراء والمعراج من غير أن يعترض أحد من الأعداء، لما وجدنا الحرارة في تصديقها.
إننا نجد حالياً من يقول: وهل من المعقول أنه صلى الله عليه وسلم َ راح إلى بيت المقدس وجاء في ليلة؟ لابد أن ذلك كان حلماً. لو لم يقولوا هم هذا ما كنا عرفنا الرد؛ إنما هم قالوها حتى نعرف الرد ويظل الرد رادعاً إلى أن تقوم الساعة، وهذه هي المهمة التي جعلها الله للأعداء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم َ لو قال
لهم: إنني حلمت أني رحت بيت المقدس. أكان هناك من يعترض على أن يحلم النبي حتى ولو قال: إنه ذهب إلى آخر المعمورة إنه لا يجرؤ واحد أن يكذبه، لكنهم ما داموا قد كذبوه، ورفضوا تصديق الإسراء فهذا دليل على أنهم فهموا من الذهاب أنه ليس ذهاب رؤيا وإنما ذهاب قالب، لقد فهموا عنه أنه انتقل بجسده من مكة إلى بيت المقدس، ولذلك كذبوه، وهذا التكذيب منهم ينفعنا الآن، لنردَّ به على المكذبين المعاصرين.
إذن فوجد الأعداء يهيج القرائح التي يمكن أن نرد على أية شُبَهٍ يثيرها أي إنسان سواء أكان ماضياً أم معاصراً.
والحق هنا يقول: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام 118]
هذه الآية لها قصة توضح كيف يحاول الأعداء اصطياد الثغرات لينفذوا منها، وقالوا: يقول النبي لكم: إن الميتة لا يحل أن تأكلوا منها، وما تذبحونه بأيديكم كلوا منه، والذبح لون من الموت، هذه هي الشبهة التي قالوها، وهي أولاً مغالطة في الأساليب؛ لأن الميتة غير المذبوحة وغير المقتولة. فالمذبوحة إنما ذبحناها لنطهرها من الدم؛ لذلك فالمناقشة الفقهية أو العلمية تهزم قولهم؛ لأن هناك فرقاً بين الموت والقتل. فالموت هو أخذ للحياة بدون سلب للبنية، إنما القتل هو سلب للبنية أولاً فتزهق الروح ويبقى الدم في الجسم. ثم هل يأخذ المشرع وهو الرب الأعلى الحكمة منّا أو أن الحكمة عنده هو وحده؟ .
وقد تبين لنا في عصرنا أن غير المؤمنين بدأوا في الاهتداء إلى أن الميتة فيها كل الفضلات الضارة، واهتدوا إلى إزالة كل الفضلات الضارة من الحيوانات التي يريدون أكلها؛ لأن تكوين جسم الحيوان يتشابه مع تكوين جسم الإنسان، فهو يأكل ويهضم ويمتص العناصر الغذائية ليتكون الدم والطاقة، وفي الجسد أجهزة تصفي وتنقي الجسم من السموم الضارة، فَالكُلْية مثلاً تصفّي الدم من البولينا وغيرها، ويسير الدم ليمر على الرئة ليأخذ الأوكسيجين، وكل ذلك لتخليص الجسد من الفضلات الضارة، وأوعية الدم في الإنسان والحيوان فيها الدم الصالح والدم
الفاسد، والدم الفاسد هو الذي لم تتم تنقيته، وعندما نذبح الذبيحة ينزل منها الدم الفاسد وغيره، أي أننا ضحينا بالدم الصالح في سبيل وقايتنا من الدم الفاسد. لكنها إن ماتت دون ذبح؛ فآثار الدمين الاثنين موجودة. وكذلك آثار الفضلات التي كان يجب أن يتخلص منها، وهذا ما نفعله في هذا الأمر، لكن هل لنا مع الحق سبحانه وتعالى تعقل في شيء إلا في توثيق الحكم والاطمئنان إلى مجيئه منه جلت قدرته؟
كان جدلهم انهم قالوا: أنتم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله، فأنتم تظنون أنفسكم أحسن من الله، وهذا افتراء منهم.
ثم إن الحيوان حين يموت لم يذكر عليه اسم الله، لكن الذبيحة التي نذبحها نذكر عليها اسم الله، فكأن الحق سبحانه وتعالى يوضح: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه. أي غير الميتة وغير ما يذبح للأصنام. {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام 118]
إنَّ تلقي أي حكم من الحق، لا يصح أبداً أن نبحث عن علته أولاً ثم نؤمن به، بل علينا بعد أن نثق بأنه من الله الذي آمنا به. علينا إذن أن نأخذ الحكم الذي أمر به الله.
وللآيتين - كما علمنا - سبب نزلتا من أجله وهو أن بعض المعارضين لرسول الله الذين يقفون من الدعوة موقف التكذيب والعمل على إبطالها والقضاء عليها كانوا يُشيعون عند المؤمنين إشاعات قد تفت في عضدهم العقدي فعرضوا هذه المسألة وهي في ظاهرها تشكيك. وهم قد عرضوا القضية بهذا الشكل غير المتسق؛ لأن من الذي قتل؟ لقد قالوا: إن الميتة قتلها الله، فهل الله هو الذي قطع رقبتها؟ وهل
ضربها الله على رأسها فأمات أصل إدارة الحياة وهو المخ؟ هل صوّب شيئاً إلى قلبها؟ سبحانه جل وعلا منزه عن مثل هذه الأفعال البشرية، فكيف يسمون الموت قتلاً؟ إن تسمية الموت قتلَا هو الخطأ، فقولهم: كيف تبيحون لأنفسكم ما قتلتموه أي بالذبح. ولا تبيحون ما قتله الله أي أماته، فيه مغالطة في عرض القضية، ويريد الله سبحانه وتعالى أن يضع عند المؤمنين مناعة من هذه الهواجس التي يثيرونها؛ فقال:{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام 118]
وما معنى الذكر؟ إنّ عدم تحديد العلماء المعنى المقصود بالذكر، هو الذي أوجد بينهم خلافاً كبيراً. فسيدنا الإمام مالك يرى أنك إذا ذبحت ولم تذكر اسم الله سواء أكنت ناسياً أم عامداً فلا يصح لك ان تأكل من الذبيحة. ويرى الإمام أبو حنيفة: إذا كنت لم تسم ناسياً فكل مما ذبحت، لكن إن كنت عامداً فلا تأكل، والإمام الشافعي رضي الله عنه يرى: ما دمت مؤمناً ومقبلاً على الذبح وأنت مؤمن فَكُلْ مما لم تذكر اسم الله ناسياً أو عامداً لأن إيمانك ذكر لله.
ونقول: ما هو الذكر؟ هل الذكر أن تقول باللسان؟ أو الذكر أن يمر الشيء بالخاطر؟ إن كنتم تقولون إنّ الذكر باللسان فلنبحث في الحديث القدسي الذي قاله الله تعالى: «أنا عند ظن عبدي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم.»
إذن فقد سمّي ربنا الخاطر في النفس ذكراً وبذلك يصبح من حق الإمام الشافعي أن يقول ما قال.
لذلك أقول: يجب أن نحدد معنى الذكر أولاً حتى ننهي الخلاف حول هذه المسألة، فليس من المقبول أن نقيم معركة حول معنى «الذكر» ؛ لأن الذكر وهو خطور الأمر على البال قد يصحبه أن يخطر الأمر على اللسان مع الخطور على البال، وقد يظل خطوراً على البال فقط، بدليل ما جاء في الحديث السابق.
والمؤمن حين يجد أمامه أشياء كثيرة، قد يوجد شيء جميل وآخر ليس له من الجمال شيء؛ فالجاموسة أقل في الجمال من بعض الحيوانات التي حرم الله أكلها، وأقبل المؤمنون على ذبح الجاموسة ليأكلوا منها. ولم نسمع عن مسلم تقدم إلى حيوان حرم الله أكله ليذبحه، لماذا؟ لأن المؤمن يقبل على ما أحل الله، وهذا الإقبال دليل على أنه ذكر في نفسه المحلل والمحرم وهو الله، إذن اختياره حيواناً للذبح دليل على أنه ذكر الله في النفس أو في القول، وبهذا نتفق على أن ذكر المؤمن يكون في قلبه قال أو لم يقل، وينتهي الخلاف في هذه المسألة. إذن الإمام الشافعي أخذ بهذه المسألة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم َ حينما سئل عن أكل المسلم من ذبيحة لا يعرف من ذبحها وهل سمّى أو لم يسمّ، أوضح لمن سأله: سمّ وَكُلْ.
فالإنسان منا لا يحضر وقت الذبح دائماً، ويكفيه أن يستحضر المحلل والمحرم ساعة الأكل. والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: اذكروا اسم الله، وسبحانه يعلم أنك تقبل على أشياء لتفعلها. وهذه الأشياء تنقسم إلى قسمين: قسم يمر على بالك قبل أن تفعله، وقسم لا يمر على بالك، بل تفعله تلقائياً بدون ما يمر على البال، ومثال ذلك الأفعال العكسية كلها التي يفعلها الإنسان إنها لا تمر على باله. فلو حدث أن حاول واحد أن يضع إصبعه في عين آخر، فهذا الآخر يغمض عينيه تلقائياً. ويختلف ذلك عن الفعل الذي تفكر فيه قبل أن تفعله. فالذي يفعل الفعل بعد أن يمر بخاطره هو فعل ذو بال. ولذلك أراد الرسول عليه الصلاة والسلام ُ ألا يكلفنا عناء أو مشقة؛ فقال:«كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع.»
والأمر ذو بال هو الأمر الذي يكون قد خطر على بالك أن تفعله أو لا تفعله.
إذن فالله سبحانه وتعالى لا يكلفنا إلا عند الأمر الذي يمر على الخاطر؛ لأنك حين تقبل على أي فعل فينفعل لك كما تريد، إن هذا من عطاء الله لك، وأنت حين تذبح عجلاً، أو خروفاً، وتتأمل أنت كيف يُقدرك الله على هذا الكائن الحي. وإنك لم تفعل ذلك إلا لتسخير الله كٌلَّ الكائنات لك. فباسم الله تذبحه.
إذن هناك أمور كثيرة وأفعال ذات بال تمر عليك ومن حسن الأدب والإيمان أن
تقبل عليها باسم الله. ولذلك يخطئ بعض الناس حين يظنون أن الإنسان عندما يذبح حيواناً فهو يؤذيه. لا، بل ذبح هذا الحيوان هو تكملة لمهمته في الحياة؛ لأنه مخلوق لهذا الهدف ومذلل له.
لقد قلنا سابقاً: إن هناك عجيبة من عجائب المزاولات الفعلية، هذه العجيبة أنك حين تأتي إلى الحيوانات التي لم يحلها الله للإِنسان، كالحمار مثلا إذا ما تعرضت هذه الحيوانات إلى ما يميتها، كأن التف حول عنقه حبل، واختنق فهو يموت دون أن يمد رقبته إلى الأمام، لكن الحيوان الذي أحله الله للأكل؛ مثل الجاموسة أو الخروف أو العجل، نجد الحيوان من هذه الحيوانات إن اختنق يمد رأسه إلى الإمام، فيقول أهل الريف في مصر: إنه يطلب الحلال، أي الذبح. فلا يسمى ذبح الحيوان اعتداء عليه؛ لأن الحيوان مخلوق لهذه المهمة.
إذن فمعنى كلمة «باسم الله» أي أنني لم أجترئ على هذا العمل إلا في إطار اسم الله الذي أحل لي هذا.
بعد ذلك يقول الحق للمؤمنين: لا تسمعوا كلام الكافرين، ويأتي السؤال الاستنكاري:{وَمَا لَكُمْ أَلَاّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} والمعنى: أي سبب يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه؟ وقد فصل لكم ما حرم عليكم، فما ذكر اسم الله عليه ليس من ضمن المحرمات التي نص الله عليها، فربنا سبحانه هو من حلل وحرم. وإن قيل: ما دام قد حرم علينا بعض الأشياء فلماذا خلقت هذه الأشياء؟
ونقول: إن من يفكر بمثل هذا الأسلوب يتناسى أن كل مخلوق من الحيوانات ليس مخلوقاً للأكل، بل لكلٍ حيوان مهمة. وإن ذبحت محرماً، فقد يناقص هذا الفعل مهمته فالخنزير - مثلاً - حرّمه ربنا؛ إن ذبحته فستذهب به بعيداً عن مهمته؛ لأنه مخلوق كي يلم جراثيم الأشياء التي لا تراها العين، فأنت حين تذبحه تخرجه عن مهمته. والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإِنسان، ويعلم ما يناسبه من غذاء يولد الطاقة ولا يهدر الصحة؛ لذلك حرم وحلل له، وإياك أن تقول: إن الله سبحانه وتعالى لم يحرم إلا الشيء الضار؛ فقد حرم شيئاً غير ضار لأنه يريد بذلك الأدب في: «افعل هذا» و «لا تفعل هذا» .
ولذلك قال الحق سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]
وفي حياتنا اليومية هل تقول: إن الذين يربون أبناءنا في الجيش بالشدة، يقسون على الأبناء؟ لا، بل إنهم يعدّونهم لمواجهة المهام الشاقة. وأن يتعوّدوا التزام الأدب والطاعة والانضباط، فكذلك حلل الحق ما أراد وحرم ما شاء ليجعل الكون منضبطاً بقدرة الحكيم القادر، فسبحانه يحرم أشياء مثل المخدرات، ونحن في بعض الأحيان نتناولها لنداوي بها الأمراض، فلو أخذها الإِنسان من غير مرض أو داعٍ فإنّها تسرق الصحة من بنية الإِنسان، وإن أخذها من بعد ذلك للعلاج لا تأتي بالمفعول المطلوب منها. ولذلك نجد من الأطباء من يسأل الإِنسان قبل إجراء الجراحات الدقيقة إن كان المريض قد تناول المخدرات أو لا، وذلك حتى يتعرف الأطباء على حقيقة ما يصلح له من ألوان التخدير.
وسبحانه وتعالى قد منع عنا تلك الألوان من مغيبات العقول، لعلنا نحتاج إليها في لحظة الشدة والمرض.
إذن فالحق سبحانه وتعالى قد ربط كل حكم من الأحكام التحليلية والتحريمية ب «إن كنتم مؤمنين» ، ومعنى «إن كنتم مؤمنين» أي يا من آمنتم بالإِله الحكيم الذي لا يأمر إلا بما فيه مصلحتكم، امتنعوا عن مثل تلك الأفعال، وإذا أقبلت على أي شيء مما أحله الله لك فأقبل عليه باسم الله، وسبحانه وتعالى له أسماء علمها لنا، وأنزلها في كتابه، وأسماء علمها لأحد من خلقه، وأسماء استأثر بها في علم الغيب عنده، وهذه الأسماء هي صفات الكمال لله، التي لا توجد في غيره. وحين نستحضر الاسم الجامع لكل صفات الكمال نقول: باسم الله. وتنهي المسألة. وحين ناقش العلماء مسألة التحريم والتحليل، قال بعضهم: إن الحق سبحانه وتعالى قال في أول سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3]
وهنا في سورة الأنعام يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]
والمتنبهون من العلماء قالوا: إن سورة المائدة مدنية، ومعنى كونها مدنية أنها نزلت بعد
السورة المكية، وسورة الأنعام مكية، وهل يقول الحق في السورة المكية {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} في السورة المدنية؟ وبعض العلماء الذين أعطاهم ربنا نور بصيرة قال: لقد فصل لكم في سورة المائدة وجاء أيضاً في سورة الأنعام فقال: {قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 145]
أي فصل لك في هذه السورة المكية. وقد يأتي واحد من المولعين بالاعتراض أو من خصوم الإسلام ويقول: لم تذكر الآية كل الأشياء المحرمة لماذا؟
ونقول: القرآن هو الخطوط الأساسية في المنهج، وتأتي السنة بالتفصيل في إطار:
{وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا. .} [الحشر: 7]
والحق يقول هنا: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَاّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ. .} [الأنعام: 119]
واضطرار هو أمر ملجئ إلى شيء غير الأسباب الكونية المشروعة. ومعنى كونه مضطراً أنه يلجأ إلى شيء فقد أسبابه المشروعة كالذي يريد أن يأكل ليستبقي الحياة، فإذا لم يجد من الحل ما يستبقي به الحياة فهو مضطر. ونقول له: خذ من غير ما أحل الله بالقدر الذي يدفع عنك الضرورة فكل من الميتة بقدر الضرورة ولا تشبع.
والحق يقول: {فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ. .} [المائدة: 3]
والمخمصة هي المجاعة. إذن فالاضطرار هو شيء فوق الأسباب المشروعة
للعمل. والله سبحانه وتعالى يعطي الإنسان الرخصة في أن يتناول ما حرمه إذا كان مضطراً. {إِلَاّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ. .} [الأنعام: 119]
والذين يضلون بأهوائهم بغير علم هم من أرادوا زراعة الشك في نفوس المسلمين ومعنى الضلال بالهوى أي أن تكون عالما بالقضية، ولكن هواك يعدل بك عن مراد الحق من القضية. ولذلك يصف الحق رسوله صلى الله عليه وسلم َ:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3]
وحين يقول الحق: {وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِ} فمعنى ذلك أنه يوجد ضلال بغير هوى، وهو عدم وصول الإنسان إلى الحقيقة؛ لأنه لا يعرف الطريق إليها، والضلال بالهوى أي أن تكون عندك الحقيقة وأنت عارف بدورها ولكنك تعدل عنها:{وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ. .} [الأنعام: 119]
وساعة ترى مجيء متعلق بعد «يضلون» وهو قوله: {بِأَهْوَائِهِم} تقول كأن هناك ضلالاً بغير علم، وهو غير مذموم؛ لأن صاحبه لا يعرف الحكم في القضية، وهذا يختلف عن الذي يضل وهو يعرف الحكم، فهذا ضلال بالهوى، وهذا الفهم يحل لنا إشكالات كثيرة أيضاً. و {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي ليس عندهم علم بالقضية وأحكامها.
ويذيل الحق الآية بقوله: {. . إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين} [الأنعام: 119]
وقد أفسح الله في النص القرآني لبعض خلقه الذين يعرفون المهتدى من غير المهتدى، والكثير من الناس لا يعلمون المهتدى من غير المهتدى ولكن إن علموا فالله أعلم.
هذه تقنينات السماء التي تحمي المجتمع من بعضه وذلك في ألا تقع عين أحد على مخالفة من أحد، وإذا وقعت عينك على مخالفة من غيرك تكون المخالفة مما يدرك لكنها ليست كل الفساد في المجتمع؛ ففساد المجتمع يأتي من أشياء كثيرة لا تقع تحت دائرة الإِدراكات. وهناك أشياء تكون في منابع النفس البشرية التي تصدر عنها عوامل النزوع؛ فقبل أن يوجد إثم ظاهر يوجد إثم باطن، والإِِثم الباطن سابق على الإِثم الظاهر. والتقنينات البشرية كلها تحمينا من ظاهر الإِثم، ولكن منهج السماء يحمينا من فساد ظاهر الإِثم وباطن الإثِم.
ويوضح لنا الحق الفرق بين تقنين البشر للبشر وتقنين الإِله، فسبحانه رقيب على مواجيدكم ووجداناتكم وسرائركم، فإياكم أن تفعلوا باطن الإِثم، ولا يكفي أن تحمي نفسك من أن يراك القانون؛ لأن قصارى ما يعمل القانون أن يمنع الناس من أن يتظاهروا بالجريمة ويقترفوها علانية، والفرق بين تشريع السماء وتشريع الأرض أن تشريع الأرض يحمي الناس من ظاهر الإِثم، ولكن تشريع السماء يحمي الناس من ظاهر الإِثم وباطن الإِثم، وباطن الإِثم هو أعنف أنواع الإِثم في الأرض.
وبعض أهل الاكتساب في الشر برياضتهم على الشر يسهل عليهم فعل الشر وكأنهم يفعلون أمراً قد تعودوا عليه بلا افتعال.
و «كسب» - كما نعلم - تأتي بالاستعمال العام للخير، و «اكتسب» تأتي للشّر لأن الخير يكون فيه الفعل العملي رتيباً مع كل الملكات، ولا افتعال فيها، فمن يريد - مثلاً - أن يشتري من محل ما فهو يذهب إلى المحل في وضح النهار ويشتري. لكن من يريد أن يسرق فهو يرتب للسرقة ترتيباً آخر، وهذا افتعال، لكن الافتعال قد يصبح بكثرة المران والدربة عليه لا يتطلب انفعالاً، لأنه قد أضحى لوناً
من الكسب. و «يكسبون» تدل على الربح؛ لأن «كسب» تدل على أنك أخذت الأصل والزيادة على الأصل، والإنسان حين يصنع الخير إنما يعطي لنفسه مقومات الحياة ويأخذ أجر الآخرة زائداً، وهذا هو قمة الكسب.
ويريد الحق سبحانه وتعالى من العبد في حركته أن يحقق لذاته نفعاً هو بصدد الحاجة إليه، ولكن الإنسان قد يحقق ما ينفعه وهو بصدد الحاجة إليه، ثم ينشأ من ذلك الفعل ضرر بعد ذلك؛ لذلك يحمي الله الإنسان المؤمن بالمنهج حتى يمييز بين ما يحقق له الغرض الحالي ويحقق نفعاً ممتداً ولا يأتي له بالشر وما يحقق له نفعاً عاجلاً ولكن عاقبته وخيمة ونهايته أليمة، إننا نجد الذين يصنعون السيئات ويميلون للشهوات - مثلاً - يحققون لأنفسهم نفعاً مؤقتاً، مثل التلميذ الذي لا يلتقفت إلى دروسه، والذي ينام ولا يستيقظ، والذي إن أيقظوه وأخرجوه من البيت ذهب ليتسكع في الشوارع، هي في ظاهر الأمر يحقق لنفسه راحة، لكن مآله إلى الفشل.
بينما نجد أن من اجتهد وجدَّ وتعب قد حقق لنفسه النفع المستمر الذي لا تعقبه ندامة. {إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120]
ففي الدنيا نجد أن الجزاء من بشر لبشر، ولكن ماذا عن لحظة العرض أمام الله وهو العليم بظاهر الإثم وباطن الإثم؟
فالذي يصون المجتمع - إذن - هو التقنين السماوي، فالمنهج لا يحمي الإنسان ممن حوله فحسب ولكنه يقنن لحركة الإنسان لتكون صحيحة.
ويعود الحق بعد ذلك إلى قضية الطعام فيقول: {وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله. .}