الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونلاحظ أنه قال هنا: {يَامَعْشَرَ الجن والإنس} لأنه يريد أن يقيم عليهم الحُجة بأنه سبحانه لم يجرم أعمالهم ولم يضع لهم العقوبات إلا بعد بلغهم بواسطة الرسل؛ فقد أعطاهم بلاغاً بواسطة الرسل عما يجب أن يفعل، وما يجب أن يترك. فلم يأخذهم - سبحانه - ظلماً.
وهنا وقفة؛ فالخطاب للجن والإنس {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} فقال بعض العلماء: إن الجن لهم رسل، والإنس لهم رسل، وقال آخرون: الرسل من الإنس خاصة؛ لأن القرآن جاء فيه على لسانهم: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} .
إذن فقد احتج الجن بكتاب أنزل من بعد موسى عليه السلام وعندهم خبر عن الكتاب الذي جاء بعده، كأن الجن يأخذون رسالتهم من الإنس؛ فكأن الله قد ارسل رسلاً من الإنس فقط وبلغ الجن ما قاله الرسول، وهو هنا يقول سبحانه:{يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ. .} [الأنعام:
130]
وأنت حين تأتي إلى اثنين: أولهما معه مائه جنيه، والثاني يسير معه وليس معه شيء وتقول:«هذان معهما مائه جنيه» فهذا قول صحيح. فقوله سبحانه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} أي من مجموعكم. أو أن الرسل تأتي للإنس، وبعد ذلك من الجن من يأخذ عن الرسول ليكون رسولاً مبلغاً إلى أخوانه من الجن:
فكأن المنذرين من الجن يأخذون من الرسل من الأنس وبعد ذلك يتوجهون إلى الجن. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي. .} [الأنعام: 130]
والآيات تطلق على المعجزات التي تثبت صدق الرسل، وما يكون من شرح الأدلة الكونية الدالة على صدق الرسل. وكلمة {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} أي يروون لهم الموكب الرسالي من أول «آدم» إلى أن انتهى إلى «محمد» صلى الله عليه وسلم َ. و {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} قول يدل على دقة الأداء التاريخي؛ لأن «قص» مأخوذ من قص الأثر، ومعناها تتبع القدم بدون انحراف عن كذا وكذا، وهكذا نجد أن المفروض في القصة أن تكون مستلهمة واقع التاريخ. {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا. .} [الأنعام: 130]
وهو اليوم المخزي حيث سيقفون أمام الله ويذكرهم الحق أنه قد نبههم وقد أعذر من أنذر. {
…
قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأنعام: 130]
وقولهم: {شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا} إقرار منهم على أنفسهم؛ فقد شهدوا على أنفسهم، ولكن ما الذي منعهم أن ينضموا إلى الإيمان بمواكب النبوة؟ . تأتي الإجابة من الحق:{وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} .
والذي يغرّ هو الشيء الذي يكون له تأثير، وهو موصوف بأنه «دنيا» !! لذلك فالغرور الذي يأتي بالدنيا هو قلة تبصّر.
{وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} . ومن يستقرئ آيات القرآن يجد آية تقول: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]
فمرة ينفون عن أنفسهم أنهم كفروا، ومرة يثبتون أنهم كافرون، وهذا لاضظراب المواقف أو اختلافها. أو أنهم {وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ} ؛ بمعنى أن أبعاضهم شهدت عليهم؛ لأن الإنسان في الدنيا له إرادة، وهذه الإِرادة مسيطرة على ما له من جوارح وطاقات مخلوقة لله؛ لأن الله جعل للإِرادة في الإِنسان ولاية على الأبعاض التي تقوم بالأعمال الاختيارية. لكن الأعمال الاضطرارية القهرية ليس للإِنسان إرادة فيها؛ فلا أحد يملك أن يقول للقلب انبض كذا دقة في الساعة، ولا أن يقول للأمعاء: تحركي الحركة الدّودية هكذا. لكنه يقدر أن يمشي برجليه إلى المسجد، أو يمشي إلى الخّمارة. ويستطيع أن يقرأ القرآن أو يقرأ في كتاب يضر ولا يفيد.
إذن فإرادة الإِنسان مسيطرة على الأبعاض لتحقق الاختيار المصحح للتكليف. لكن يوم القيامة تسلب الإِرداة التي للإِنسان على أبعاضه، وتبقى الأبعاض كلها حُرّة، وحين تصير الأبعاض جُرّة فالأشياء التي كانت تقبلها في الدنيا بقانون تسخيرها لإِرادتك قد زالت وانتهت، فهي في الآخرة تشهد على صاحبها؛ تشهد الجلود والأيدي والأرجل: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ
…
} [فصلت: 21]
وحين يقولون لربنا: ما كنا مشركين، فهذا كلامهم هم، لكن جوارحهم تقول لهم: يا كذابون، أنتم عملتم كذا.
ويقول الحق بعد ذلك:
{ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ
…
}
{ذلك} إشارة إلى ما تقدم، وهو إرسال الرسل مبلغين عن الله؛ حتى لا يكون لأحد حُجة بعد الرسل، وقد أقروا بأن الله أرسل إليهم رسلاً، وشهدوا على أنفسهم، وماداموا قد أقرّوا على أنفسهم بأن الله أرسل لهم رسلاً وشهدوا على أنفسهم بذلك، إذن فهذا إقرار جديد بأن الله لم يكن مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قبل أن يعاقب على جُُرم، وقبل أن يجرّم ينزل النص بواسطة الرسل. أي أن الله لا يهلكهم بسبب ظلم وقع منهم إلا بعد ذلك البلاغ.
{وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} ، و «الغفلة» ضد اليقظة، فاليقظة، هي تنبّه الذهن الدائم، و «الغفلة» أن تغيب بعض الحقائق عن الذهن، ومعنى أن ربنا لا يهلك القرى بظلم وأهلها غافلون أي غير يقظين؛ فلو أنهم كانوا يقظين ومتنبهين لما احتاجوا إلى الرسل؛ لأن الله عندما خلق الخلق أرسل آدم إلى ذريته، وكان المفروض كما يلقن الآباء الأبناء وسائل حياتهم أن يلقنوهم مع ذلك قيم دينهم. فكما أن الآباء يعلمون ذريتهم وسائل حياتهم، ثم ينقلونها ويزيدون عليها بابتكاراتهم، كان من الواجب على الآباء أن يقوموا بهذا العمل بالنسبة للقيم فتعيش القيم في الناس كما عاشت وسائل حياتهم.
ولماذا - إذن - عاشت وسائل حياتهم وتوارثوها وزادوا عليها أشياء؟ {لأن زاوية الدين هي التي يغفل الناس عنها، بسبب أنها تقيد حركتهم في «افعل» و «لا تفعل» ، ولكنهم يريدون الترف في وسائل حياتهم. لماذا إذن أيها الإِنسان تحرص على الترقي في ترف الحياة ولا تحرص على الترقي في القيم؟ . لقد كنت - على سبيل المثال - تشرب من الماء أو النبع بيدك ثم صنعت كوباً لتشرب منه، ونقيت الماء من الشوائب ونقلته من المنابع في صهاريج. أنت ترفه حياتك المادية والمعيشية فأين إذن الاهتمام بقيم الدين؟} !
ولو كانوا متيقظين لكان كل أب قد علم ابنه ما ورثه من آبائه من القيم، وعلى الرغم من ذلك رحم الحق سبحانه وتعالى هذه الغفلة، وكرّر التنبيه بواسطة الرسل. وكلما انطمست معالم القيم التي يحملها المنهج فهو - جل وعلا - يرسل رسولاً رحمة منه وفضلاً وعدالة، ولم يكن يهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، والغفلة ضد اليقظة.
إذن لو كانوا متيقظين لما كانت هناك ضرورة للرسل؛ لأن الآباء كانوا سينقلون لأبنائهم القيم كما ينقلون إليهم وسائل حياتهم، وهذا الأمر مستمر معنا حتى الآن؛ إن الأب - مثلاً - إن غاب ابنه عن المدرسة يوماً يلوم الابن، وإن أهمل في دروسه أو رسب فهو يعاقب الابن، وهذه هي الغيرة على المستقبل المادي للابن، ولا غيرة على أدائه لفروض الدين، لماذا؟ . إن الناس لو عنوا بمسائل قيمهم كما يعنون دائماً بمسائل حياتهم لاستقام منهج الخير في الناس وأصبح أمراً رتيباً.
وعرفنا أن الغفلة ضدها اليقظة، كما أن السهو ضده التذكر، والغروب ضده الشروق، والغياب ضده الحضور.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ. .}
{وَلِكُلٍّ} ، وجاءت بالتنوين أي لكلٍّ من الإِنس والجن درجات مما عملوا، فكأن الأعمال تتفاوت؛ فقد تكون في ظاهرها قوالب متحدة، لكن التفاوت إنما ينشأ بكثرة العمل، أو بإخلاص المقارف للعمل والمكتسب والفاعل له، فهناك من يخلص بكل طاقته، وهناك من يؤدي عمله بنصف إخلاص، ومسألة الإِخلاص هذه لا تحددها لوائح ولا قوانين إنما يحددها الحق سبحانه وتعالى، ولذلك يقول محمد صلى الله عليه وسلم َ مبلغاً عن رب العزة هذا الحديث القدسي: «
الإِخلاصُ سر من سري استودعته قلب من أحببت من عبادي.»
إذن فمقاييس الإِخلاص لا يعرفها إلا ربنا سبحانه وتعالى، وعلى مقدار ذلك تكون الدرجات. وتكون الدرجات على مقدار ما يزيده العبد من جنس ما فرضه الله عليه؛ فالحق قد فرض صلوات خمساً، فيزيد العبد عشر ركعات في الليلة مثلاً. والله قد فرض الصيام شهراً، فيصوم العبد يومي الاثنين والخميس.
والذي يقف عند ما فرض الله يجازيه الله على إخلاصه في أداء ما عليه، وحينما سأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عن موقف الذي لا يؤدي إلا الفروض فقط، قال له:«أفلح إن صدق،» فالذي يزيد عما فرض الله من جنس ما فرض الله أشد فلاحاً. ولا يصل الإِنسان إلى المرتبة التي هي أشد فلاحاً إلا إذا كان في درجة أعلى، وكلمة {دَرَجَاتٌ} تفيد العُلّو، وكلمة «دركات» تفيد الهبوط، والحق لا يغفل عن ظاهر وباطن كل عمل لأي عبد.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَرَبُّكَ الغني ذُو الرحمة. .}
وهنا يحنننا الله سبحانه وتعالى إلى عبادته، وإلى تكاليفه؛ يحنننا إلى فضيلة الطاعة، وكل ذلك لمصلحتنا وهذا مطلق الربوبية الرحيمة، فيحسن لنا الجزاء، ويفخم لنا فيه لنعمل لصالحنا نحن؛ لأن كل أعمالنا - كما قلنا - لا تزيد في ملك الله قدر جناح بعوضة، وكل معصياتنا لا تنتقص من ملك الله قدر جناح بعوضة؛ لأن الله بكل صفات الكمال خلقنا، ولم نزده نحن شيئاً. لقد أوجد الدنيا من عدم،
وفرق بين الصفة القائمة بذات الله، وإيجاد متعلق الصفة. فالله خالق؛ والله رحمن، والله رحيم، والله قهار، وسبحانه رحمن ورحيم وقهار وخالق حتى قبل أن يبرز ويظهر ما يخلقه؛ لأنه بصفة الخالق فيه خلق، وهو رزاق قبل أن يخلق المرزوق، فالصفة موجودة فيه قائمة به، وبهذه الصفة رزق، وبوجود هذه الصفات فيه يقول للشيء كن فيكون، وله هذا الكون كله، وهو غني عن العباد وله كل الملك، وكذلك خلق التوبة، والرسول صلى الله عليه وسلم َ يقول:«لَلَّهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة.» {وَرَبُّكَ الغني ذُو الرحمة إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133]
إذن فالخلق مستمر الإيجاد من العدميات وهو دليل على أن صفة الخالقية موجودة.
وما آدم في منطق العقل واحد
…
ولكنه عند القياس أو ادم
فالكون كله من أول آدم موجود، وكل الكون المسخر لآدم كخليفة في الأرض خاضع لله، فإن شاء اذهب الخلق وأتى بخلق جديد. ويقول الحق بعد ذلك:{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ. .}
والحق سبحانه وتعالى لأنه لا إله إلا هو، إذا وعد فلابد أن يتحقق وعده، وإذا أوعد فلابد أن يأتي وعبده. والوعد إذا أطلق فهو في الخير، والوعيد يكون في الشر. والذي يخلف الوعد أو الوعيد من الخلق فهذا أمر متوقع لأنه من الأغيار، فيتغير رأيه
فلم يعد أهلاً لهذا الوعد؛ لأنه ربما يكون قد وعد بشيء كان يظن أنه في مكنته، وبعد ذلك خرج عن مكنته، فليس له سيطرة على الأشياء، لكن إذا كان من وعد قادراً، ولا يوجد إله آخر يناقضه فيما وعد أو أوعد به فلابد أن يتحقق الوعد أو يأتي الوعيد. . ولذلك حينما يحكم الله حكماً فالمؤمن يأخذ هذا الحكم قضية مسلمة؛ لأنه لا إله مع الله سيغير الحكم، وسبحانه ليس من الأغيار، والمثال أنه قال:{تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1 - 5]
وهذا وعيد في أمر لهم فيه اختيار، ومع ذلك لم يسلموا. وجاء بعدها ما يؤكد لكل مسلم: إياك أن تأخذ هذه القضية مأخذ الشك، وتقول: قد يتوب أبو لهب هذا وزوجه ويسلمان، ألم تتب هند؟ {ألم يسلم أبو سفيان؟} . لكنه سبحانه عالم بما يصير إليه اختيار أبي لهب واختيار زوجه، وإن كان كل منهما مختاراً، ولا يوجد إله سواه ليغير الأمر عما قال. {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ
…
} [الإخلاص: 1]
أي لا يوجد إله أخر ليعدل هذا الأمر. {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام: 134]
قد يظن بعض الناس أن الله قد يأتي بما وعد به لكنهم قد يهربون منه، ولكن ليس الأمر كما يظنون؛ فالوعد آت وأنتم لا تستطيعون الهرب منه، ولا أحد بقادر على أن يمنع الله عن تحقيق ما وعد أو أوعد، ولن تفروا من وعده أو وعيده، ولن تغلبوا الله أو تفوتوه وتعجزوه؛ فالله غالب على أمره.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: