الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد جاء لفظ الآيات هنا أكثر من مرة، فقد قال الحق:{وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لَاّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} . ويقول أيضاً: {ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} . ويقول سبحانه: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} .
إذن فالمسألة كلها مناطها في الآيات الكونية للاستدلال على من أوجدها، والإِعجازية للاستدلال على صدق مَنْ أرسل من الرسل، والقرآنية لأخذ منهج الله لتقويم واستواء حركة الإِنسان. {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخرة حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
…
} [الأعراف:
147]
ويقال: حبط الشيء أي انتفخ وورم من علة أو مرض. أي أنهم في ظاهر الأمر يبدو لهم أنهم عملوا أعمالا حسنة ولكنها في الواقع أعمال باطلة وفاسدة، وقد يوجد من عمل عملاً حسناً نافعاً للناس، ولكن ليس في باله أنه بفعل ذلك إرضاء لله، بل للشهرة لينتشر ذكره ويذيع صِيتُه ويثني الناس عليه، أو للجاه والمركز والنفوذ. ولذلك حين «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: من الشهيد؟ . قال:
» من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله «.
لأن الرجل قد يقاتل حمية، أو ليعرف الناس مثلاً أنه شجاع. إذن فهناك من يعمل عملاً ليفتخر به. ويقال مثلاً: إن الكفار هم من اكتشفوا الميكروب وصعدوا إلى الفضاء. ونقول: نعم لقد أخذوا التقدير من الناس لأن الناس كانت في بالهم، ولن يأخذوا التقدير من الله لأنهم عملوا أعمالهم وليس في بالهم الله. والإِنسان يأخذ أجره ممن عمل له، والله سبحانه وتعالى لن يضيع أجر أعمالهم الحسنة، بل أعطى لهم أجورهم في الدنيا، لكن حرث الآخرة ليس لهم. {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا
…
} [الشورى: 20]
فمن زرع وأحسن اختيار البذور، واختيار التربة وروى بنظام يأتي له الزرع بالثمر لأنه أخذ بالأسباب، وهذا اسمه عطاء الربوبية وهو عطاء عام لكن مَن خلق الله، مؤمناً كان أو كافراً، عاصيًّا أو طائعاً، لكن عطاء الألوهية يكون في اتباع المنهج ب» افعل ولا تفعل «وهذا خاص بالمؤمنين، فإذا ما أحسنوا استعمال أسباب الحياة في السنن الكونية. يأخذون حظهم منها، والكافرون أيضاً يأخذون حظهم منها، إذا أحسنوا الأخذ بالأسباب؛ ويكون ذلك بتخليد الذكرى وإقامة التماثيل لهم. وأخذ المكافآت والجوائز وحفلات التكريم. أما جزاء الآخرة فيأخذه من عمل لرب الآخرة، أما من لم يفعلوا من أجل لقاء الله فهو سبحانه يقول في حقهم:{وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23]
وكذلك يقول: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً
…
} [النور: 39]
فالكافرون مثلهم مثل الظمآن الذي يسير في صحراء ويخيل له أن أمامه ماء، ويمشي ويمشي فلا يجد ماء.
أما غير الظمآن فلا يهمه إن كان هناك ماء أو لا يوجد ماء، فالظمآن ساعة يرى السراب يمني نفسه بأن المياه قادمة وأنه سيحصل عليها. {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً
…
} [النور: 39]
وليس المهم أنه لم يجده شيئاً، بل يفاجأ:{وَوَجَدَ الله عِندَهُ} . إنه يفاجأ بأن الإِله الذي كان لا يصدق بأنه موجود يجده أمامه يوم القيامة فيوفيه حسابه ويجزيه على عمله القبيح. إذن فإن عمل الإِنسان عملاً فلينتظر الأجر ممن عمل له، وإن عمل الإِنسان عملاً وليس في باله الله فعليه ألاّ يتوقع الأجر منه، وعلى الرغم من ذلك يعطي الله لهؤلاء الأجر في قانون نواميس الحياة الكونية؛ لأن من يحسن عملاً يأخذ جزاءه عنه.
{والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخرة حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 147]
هم إذن كذبوا بآيات الله، وكذبوا باليوم الآخر، ولم يعملوا وفق منهج الإِيمان، فلهم جزاء وعقاب من الحق الذي أنزل هذا المنهج، ولكنّهم أعرضوا عنه وكذبوه.
ولذلك يقول سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 - 104]
ويقول الحق بعد ذلك: {واتخذ قَوْمُ
…
}
وقوله: {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد ذهابه لميقات ربه بعد أن قال لهارون: {اخلفني فِي قَوْمِي} .
بعد ذلك اتخذ قوم موسى من حليهم عجلاً جسداً له خُوار، ونعرف أن الحلي هو ما يُتَزين به من الذهب، والجواهر والأشياء الثمينة، وسيد هذه الحلي هو الذهب دائماً، ونعلم أن الصائغ الماهر يشكل الذهب كما يريد، وإن انكسر يسهل إصلاحه، كما أن كسر الذهب بطيء، ولذلك يقال: إن الذهب كالإِنسان
الطيب، كسره بطيء، واجباره سهل.
وساعة نسمع كلمة «زينة» قد يدخل فيها الماس والزمرد، والياقوت، لكن الذهب سيد هذه الحلي. ونعلم أن العالم مهما ارتقى، فلن يكون هناك رصيد لأمواله إلا الذهب، ولذلك لم يأت سبحانه بالياقوت، أو بالجواهر، أو بالماس. ولذلك إذا أطلقت كلمة «الحلي» فالمراد بها الذهب.
وهذه الزينة هي التي صنع منها موسى السامري تمثال العجل، وبطبيعة الحال أخذ الحلي الذهبية لأن الماس والجواهر لا يمكن صهرها. لكن من أين جاء قوم موسى بالحلي وقد كانوا مستضعفين، ومستذلين؟ لقد احتالوا على أهل مصر وأخذوا منهم الحلي كسلفة سيردونها من بعد ذلك. ثم جاء رحيلهم فأخذوا الحلي معهم!
وغرق قوم فرعون وبقيت الحلي مع قوم موسى، وصنع موسى السامري من ذهب هذه الحلي عجلاً، والعجل هو الذكر من ولد البقر، وساعة تسمع قوله:{عِجْلاً جَسَداً} أي أنه مُحَجَّم، أي له حجم واضح. وأخذ أهل التفسير من كلمة «جسداً» أن ذلك العجل هو بدن لا روح له، مثلما نقول:«فلان هذا مجرد جثة» . أي كأنه جثة بلا روح.
وقوله الحق: {عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} ، هذا القول يدل على أن جسدية العجل لم تكن لها حياة؛ لأنه لو كان جسداً فيه روح لما احتاج إلى أن يقول عجلاً جسداً له خوار، ولاكتفي بالقول بأنه عجل. لكن قوله سبحانه:{لَّهُ خُوَارٌ} دليل على أن الجسدية في العجل لا تعطي له الحياة. وجاء بالوصف في قوله: {لَّهُ خُوَارٌ} والخُوار هو صوت البقر. وقد صنعه من الذهب وكأنه يريد أن يتميز عن الآلهة التي كانت من الأحجار، وحاول أن يجعله إلهاً نفيساً، فصنعه - كما نعرف - من الحلي المسروقة، وصنعه بطريقة أن هذا العجل الجسد إذا ما استقبل من دبره هبة الهواء؛ صنعت وأحدثت في جوفه صوتاً يشبه صوت وخوار البقر الذي يخرج من فمه، وهذه المسألة نراها في الناي وهو أنبوبة من القصب مما يسمى الغاب البلدي وتصنع به ثقوب، ويعزف عليه العازف ليخرج منه النغمة التي يريدها.
وحين صنع موسى السامري العجل بهذه الحيلة، حدث هذا الصوت مشابها لخوار البقر.
وقصة هذا العجل تأتي في سورة طه بوضوح وسنتعرض لها حين نتعرض بخواطرنا الإِيمانية لسورة طه بإذن الله: {
…
عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148]
ولماذا اختار السامري العجل؟ لأنهم حين خروجهم من مصر، رأوا قدماء المصريين وهم يعبدون العجل لمزية فيه، فقد كانوا يرون فيه مظهر قوة، كما عبد الآخرون الشمس حين رأوا فيها مظهر قوة، وكذلك من عبدوا القمر، والنجوم. وقدماء المصريين عبدوا العجل لأن فيضان النيل كان يغمر الأرض بالمياه، وكانوا يستخدمون العجل. حين يريدون حرث الأرض. وكان أَيِّدًا، أي قويًّا وشديداً في حرث الأرض وهذا مظهر من مظاهر القوة، ولكن كيف اتخذ قوم موسى من بعده عجلاً يعبدونه بعد أن أتم عليهم الله المنة العظيمة حين أنجاهم وأغرق فرعون وآله؟ . وهنا أوضح لنا الله أنه جاوز ببني إسرائيل البحر ومروا على قوم يعبدون الأصنام؛ فقالوا لموسى عليه السلام: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.
ويأتي القول من الحق: {
…
أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148]
وهذه قضية تهدم كل عبادة دون عبادة الله؛ لأن العبد لابد أن يتلقى من المعبود أوامر، وأن يكون عند المعبود منهج يريد من العبد أن ينفذه، وأن يأتي المنهج بواسطة رسل يبلغون رسالات الله وكلام الله للبشر. أما الذين يعبدون الشمس - مثلاً - فنسألهم: لماذا تعبدونها؟ وما المنهج الذي أرسلته الشمس لكم؟ . إن العبادة هي طاعة العابد للمعبود في «افعل» و «لا تفعل» فهل قالت لكم الشمس «افعلوا» و «لا تفعلوا» ؟ لا؛ لأنه لا توجد واسطة كلامية تقول لكم المنهج، وكيف يوجد - إذن - معبود بدون منهج للعابد؟ وهل قالت: إن من يعبدني سأشرق
عليه، وأعطيه الضوء والحرارة، ومن لا يعبدني فلن أعطيه شيئاً من ذلك؟ لم تقل الشمس ذلك فهي تعطي من آمن بها ومن كفر، ولم ترسل خبراً عن الآخرة وقيام القيامة.
وهكذا يبطل أمامنا كل عبادة لغير الله من ناحية أن العبادة تقتضي أمراً ونهيا، في «افعل» و «لا تفعل» ولم يقل معبود من هؤلاء ما الذي نطيعه وما الذي نعصاه. والأصل في المعبود أنه يهدي العابد السبيل الموصل إلى خيره في الدنيا وفي الآخرة. لذلك يقول الحق:{أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} . و {وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} لأنهم أعطوا حقًّا لمن ليس له الحق، والحق سبحانه أعلى قمة في الحق، ولذلك قال عن الشرك به:{إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ
…
}
هذا يوضح لنا أن عبادة العجل بين قوم موسى صار لها جمهور. لكن الناس الذين امتلكوا قدراً من البصيرة، أو بقية إيمان قالوا: هذه الحكاية سخيفة، وما كان لنا أن نفعلها وندموا على ما كان، ويقال: سُقِط في يده، وهذه من الدلالات الطبيعية الفطرية التي لا تختلف فيها أمة عن أمة، بل هي في كل الأجناس، وفي كل لغة تشير إلى أن الإِنسان إذا ما فعل فعلا وحدث له عكس ما يفعل يعض على الأنامل ندماً وغمًّا، وهذه من الدلالات الفطرية الباقية لنا من الالتقاء الطبعي في المخاطبات، في كل الأجناس. ويعض الإِنسان الأنامل لأنه عمل شيئاً ما كان يصح أن يعمله، فإذا كان الشيء عظيماً فهو لا يكتفي بالأنملة بل يمسك يده كلها ويعضها. والحق يقول:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} .
و «سُقط في أيديهم» أي جاءت أنيابهم على أيديهم، كأن الندم بلغ أشده، إن ذلك حدث من التائبين الذين أبصروا بعيونهم ورأوا أن ذلك باطل وخسران. أي قالوا: لئن لم يتداركنا الله برحمته ومغفرته لنكونن من الهالكين، وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى الله عز وجل.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى
…
}
وكون موسى يعود إلى قومه حالة كونه غضبان أسِفاً، يدلنا على أنه علم الخبر بحكاية العجل. والغضب والأسف عملية نفسية فيها حزن وسموها:«المواجيد النفسية» ، أي الشيء الذي يجده الإِنسان في نفسه، وقد يعبر عن هذه المواجيد بانفعالات نزوعية، ولذلك تجد فارقاً بين من يحزن ويكبت في نفسه، وبين من يغضب، فمن يغضب تنتفخ أوداجه ويحمر وجهه ويستمر هياجه، وتبرق عيناه بالشر وتندفع يداه، وهذا اسمه: غضبان. وصار موسى إلى الحالتين الاثنتين؛ وقدّم الغضب لأنه رسول له منهجه. ولا يكفي في مثل هذا الأمر الحزن فقط، بل لابد أن يكون هناك الغضب نتيجة هياج الجوارح.
وقديماً قلنا: إن كل تصور شعوري له ثلاث مراحل: المرحلة الأولى. مرحلة إدراكية، ثم مرحلة وجدانية في النفس، ثم مرحلة نزوعيه بالحركة، وضربنا المثل لذلك بالوردة. فمن يرى الوردة فهذا إدراك، وله أن يعجب بها ويسر من شكلها ويطمئن لها ويرتاح، وهذا وجدان. لكن من يمد يده ليقطفها فهذا نزوع
حركي. والتشريع للإِدراك أو للوجدان لكنه قنن للسلوك. إلا في غض البصر عما حرم الله وذلك رعاية لحرمة الأعراض.
والأسف عند موسى لن يظهر للمخالفين للمنهج. بل يظهر الغضب وهو عملية نزوعية، ونلحظ بكلمة أَسِف. وهي مبالغة. فهناك فرق بين أَسِف وآسف، آسف خفيفة قليلاً، لكن أسِف صيغة مبالغة، مما يدل على أن الحزن قد اشتد عليه وتمكن منه. {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بعدي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ
…
} [الأعراف: 150]
وقوله سبحانه: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} أي استبطأتموني، وهذا نتيجة لذهاب موسى لثلاثين ليلة وأتممها بعشر، فتساءل موسى: هل ظننتم أنني لن آتي؟ أو أنني أبطأت عليكم؟ وهل كنتم تعتقدون وتؤمنون من أجلي أو من أجل إله قادر؟ . ولذلك قال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: عندما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إلى الرفيق الأعلى:
«من كان يعبد محمدًّا فإن محمدًّا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت» . وهنا يقول سيدنا موسى: افترضوا أنكم عجلتم الأمر واستبطأتموني أو خفتم أن أكون قد مت. فهل كنتم تعبدونني أو تعبدون ربنا.
{أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألواح} ، ونعلم أن الألواح فيها المنهج، وقدر موسى على أخيه:{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} وهذا «النزوع الغضبي» الذي جعله يأخذ برأس أخيه، كأن الأخوة هنا لا نفع لها، فماذا كان رد الأخ هارون:؟ {
…
قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الأعدآء وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين} {الأعراف: 150]
نلحظ أنه قال: «ابن أم» ولم يقل: «ابن أب» لأن أبا موسى وهارون طُوي
اسمه في تاريخ النبوات ولم يظهر عنه أي خبر، والعلم جاءنا عن أمه لأنها هي التي قابلت المشقات في أمر حياته، لذلك جاء لنا بالقدر المشترك البارز في حياتهما، ولأن الأمومة مستقر الأرحام؛ لذلك أنت تجد أخوة من الأم، وأخوة من الأب فقط، وأخوة من الأب والأم، والأخوة من الأب والأم أمرهم معروف.
لكن نجد في أخوة الأم حناناً ظاهراً، ويقل الحنان بين الأخوة من الأب. وجاء الحق هنا بالقدر المشترك بينهما - موسى وهارون - وهو أخوة الأم، وله وجود مستحضر في تاريخهم. أما الأب عمران فنحن لا نعرف عنه شيئاً، وكل الآيات التي جاءت عن موسى متعلقة بأمه، لذلك نجد أخاه هارون يكلمه بالأسلوب الذي يحننه:{قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} .
ومادام قد قال: {وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} فهذا دليل على أنه وقف منهم موقف المعارض والمقاوم الذي أدى ما عليه إلى درجة أنهم فكروا في قتله، ويتابع الحق بلسان هارون:{فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الأعدآء وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين} .
والشماتة هي إظهار الفرح بمصيبة تقع بخصم، والأعداء هم القوم الذين اتخذوا العجل، وقد وصفهم بالأعداء كدليل على أنه وقف منهم موقف العداوة، وأن موقف الخلاف بين موسى وهارون سيفرحهم، وقوله:{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} . . إجمال للرأس في عمومها، وفي آية أخرى يقول:{لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} .
ولقد صنع موسى ذلك ليسمع العذر من هارون؛ لأنه يعلم أن هارون رسول مثله، وأراد أن يسمعنا ويسمع الدنيا حجة أخيه حين أوضح أنه لم يقصر. قال: إن القوم استغضعفوني لأني وحدي وكادوا يقتلونني، مما يدل على أنه قاومهم مقاومة وصلت وانتهت إلى آخر مجهودات الطاقة في الحياة؛ حتى أنهم كادوا يقتلونه، إذن فهو لم يوافقهم على شيء، ولكنه قاوم على قدر الطاقة البشرية، لذلك يذيل الحق الآية بقوله سبحانه:{وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين} .
وكأنه يقول: لموسى إنك أن آخذتني هذه المؤاخذة في حالة غضبك، ربما ظُنَّ بي أنني كنت معهم، أو سلكت مسلكهم في اتخاذ العجل وعبادته. وأراد الحق سبحانه