الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهل الممسوخ يظل ممسوخاً؟ . إن الممسوخ قرداً أو خنزيراً، يظل فترة كذلك ليراه من رآه ظالماً، ثم بعد ذلك يموت وينتهي.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ
…
}
وتَأَذَّن نجد مادتها من الهمزة والذال والنون، فمنه أُذُن، ومنها أَذَان، وكلها يراد بها الإِعلام، والوسيلة للإِعلام هي الأذن والسمع، حتى الذي سنُعلمه بواسطة الكتابة نقول له ليسمع. ثم يكتب ويقرأ، وما قرأ إلا بعد أن سمع؛ لأنه لن يعرف القراءة إلا بعد أن يسمع أسماء الحروف «ألف» ، «باء» إلخ، ثم تهجاها. إذن فلا أحد يقرأ إلا بعد أن يسمع، وهكذا يكون السمع هو الأصل في المعلومات، ونقول في القرآن:{إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 1 - 2]
وأذنت لربها. . أي سمعت لربها، فبمجرد أن قال لها:«انشقي» امتثلت وانشقت. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌْ} [الأعراف:
167]
والكلام هنا بالنسبة لبني إسرائيل، ويبين لنا سبحانه أنهم مع كونهم مختارين في أن يفعلوا، «فإن مواقفهم الإِيمانية ستظل متقلبة مترددة، ولن يهدأ لهم حال
في نشر الفساد وإشاعته، ولذلك يسلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ولماذا؟ .
لأنهم منسوبون لدين، والله لا يسوم العذاب للكافر به وللملحد، لأنه بكفره وإلحاده خرج عن هذه الدائرة، إذ لم يبعث الله له رسولا. ولكن المنسوب لله ديانة، والمنسوب لله رسالة، والمنسوب لله كتاباً؛ إذا فسد مع كون الناس ويعلمون عنه أنه تابع لنبي، وأن له كتاباً، حينئذ يكون أسوة سيئة في الفساد للناس، فإذا ما سلط الله عليهم العذاب فإنما يسلط عليهم لا لأجل الفساد فقط، ولكن لأنه فساد لمن هو منسوب إلى الله. وعرفنا أن مادة أذن كلها مناط الإِعلام، وحينما تكلم الله عن خلقنا قال: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة
…
} [النحل: 78]
إنّ الحق - سبحانه - يسمي العرب المعاصرين لرسول الله أميين، أي ليس عندهم شيء من أسباب العلم، وسبحانه خلق لنا وسائل العلم. بأن جعل لنا السمع والأبصار والأفئدة، وهي وسائل العلم التي تبدأ بالسمع ثم بالأبصار ثم الأفئدة. ومن العجيب أنه رتبها في أداء وظيفتها؛ لأن الإِنسان منا إذا كان له وليد - كما قلنا سابقاً - ثم جاء أحد بعد ميلاده ووضع أصبعه أمام عينه فإنه لا يطرف؛ لأنه عينه لم تؤد بعد مهمة الرؤية، وعيون الوليد لا تؤدي مهمة الرؤية إلا بعد مدة من ثلاثة أيام إلى عشرة، ولكنك إذا جئت في أذنه وصرخت انفعل.
إن هذا دليل على أن أذنه أدت مهمتها من فور ولادته، بينما عينه لا تؤدي مهمة الرؤية إلا بعد مدة، فأولاً يأتي السمع، ثم يأتي البصر، ومن السمع والبصر تتكون المعلومات، فتنشأ عند الإِنسان معلومات عقلية، ويقولون للطفل مثلاً: إياك أن تقبل على هذه النار حتى لا تحرقك، فلا يصدق، ومنظر النار يجذبه فيلمسها، فتلسعه مرة واحدة، وبعد أن لستعه النار مرة واحدة، لم يعد في حاجة إلى أن يتكرر له القول: بأن النار محرقة.
فقد تكونت عنده معلومة عقلية. فأولاً
يأتي السمع، ثم الأبصار، ثم تأتي الأفئدة. ولذلك قال سبحانه:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . تشكرون له سبحانه أن أمدكم بوسائل العلم ليخرجكم مِن أميتكم.
وهناك لفتة إعجازية أخرى؛ فحين تكلم الحق عن وسائل العلم، تكلم عن السمع بالإِفراد، وعن الأبصار بالجمع. مع أن هذه آلة، وهذه آلة؛ فقال:(السمع والأبصار) ولم يقل السمع والبصر، ولم يقل الأسماع والأبصار؛ لأن السمع هي الآلة التي تلتقط الأصوات، وليس لها سد من طبيعتها، أما العين فليست كذلك، ففي طبيعة تكوينها حجاب لتغمض. وإذا أنت أصدرت صوتاً من فمك يسمعه الكل، وعلى هذا فمناط السمع واحد، لكن في أي منظر من المناظر قد تكون لديك رغبة في أن تراه، فتفتح عينيك، وإن لم تكن بك رغبة للرؤية فأنت تغمضهما.
إذن فالأبصار تتعدد مرائيها، أما السمع فواحد ولا اختيار لك في أن تسمع أو لا تسمع. أما البصر فلك اختيار في أن ترى أو لا ترى، وهذه الأمور رتبها لنا الحق في القرآن قبل أن ينشأ علم وظائف الأعضاء، ورتبها سبحانه فأفرد في السمع، وجمع في البصر مع أنهما في مهمة واحدة، إلا آية واحدة جاءت في القرآن: {
…
إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإِسراء: 36]
قال الحق ذلك لأن المسئولية هنا هي الفردية الذاتية، وكل واحد مسئول عن سمعه وبصره وفؤاده، وليس مسئولاً عن أسماع وأبصار وأفئدة الناس. ونرى مادة السمع قد تقدمت، وبعدها جاءت مادة البصر إلا في آية واحدة أيضاً، تتحدث عن يوم القيامة: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا
…
} [السجدة: 12]
هنا قدّم الحق مادة الإبصار على مادة السمع؛ لأن هول القيامة ساعة يأتي سنرى تغيراً في الكون قبل أن نسمع شيئاً.
وتأذَّن أي أَعْلم الله إعلاماً مؤكداً بأنكم يا بني إسرائيل ستظلون على انحراف دائم، ولذلك سيسلط الله عليكم من يسومكم سوء العذاب، إما من جهة إيمانية، مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في بني النضير وبني النضير وبني قريظة وبني قينقاع وخيبر، وإما أن يسلط عليهم حاكماً ظالماً غير متدين، مصداقاً لقوله الحق: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً
…
} [الأنعام: 129]
وكذلك مثلما حدث من بختنصر، وهتلر. إذن {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} أي أعلم ربك إعلاماً مؤكداً؛ لأن البشر قد يُعْلمون بشيء، ولكن قدرتهم ليست مضمونة لكي يعملوا ما أعلموا به، فإذا أعلمت أنت بشيء فأنت قد لا تملك أدوات التنفيذ، أمّا الله - سبحانه - فهو المالك لأدوات التنفيذ، والإعلام منه مؤكد، ولذلك يُعْلم بالشيء، أما غيره فالظروف المحيطة به قد لا تساعده على أن ينفذ.
مثال ذلك: صحابة رسول الله الأول وهم مستضعفون ولم يستطيعوا أن يحموا أنفسهم من اضطهاد المشركين والكافرين، وصار كل واحد يبحث لنفسه عن مكان يأمن فيه؛ منهم من يذهب إلى الحبشة أو يذهب إلى قوي يحتمي به، فينزل الله في هذه الظروف العصيبة آية قرآنية لرسول الله يقول فيها:{سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45]
وتساءل البعض كيف يُهزمون ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا. فعندما نزلت هذه الآية قال سيدنا عمر: أي جمع يُهزم، قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - يثب في الدروع وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} ، فعرفت تأويلها يومئذ. إن الله سبحانه وتعالى أَعْلَمَ بالنصر. وهو قادر على إنفاذ ما أعْلَم به على وفق ما أعَلم؛ لأنه لا يوجد إله آخر
يصادمه. إذن {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} يعني أعلم إعلاماً مؤكداً، وحيثية الإعلام المؤكد أنه لا توجد قوة أخرى تمنع قدرته ولا تنقض حكمه. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة
…
} بالأعراف: 167]
أي يبعث الله عليهم من يسومهم سوء العذاب. وهناك بنص القرآن مبعوث، والله يخلي بينه وبينهم، فلا يمنعهم الله منه، إنما يسلط الله عليهم العذاب باختيار الظالم. مثلما قال الحق:{أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم: 83]
أي أنه - سبحانه - أرسلهم لهذه المهمة وخلّى بينهم وبين الذين يستمعون إليهم: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة} .
وكلمة {إلى يَوْمِ القيامة} تفيد أن هذا العنصر، المشاكس من اليهود سيبقى في الكون كخميرة (عكننة) إلى أن تقوم الساعة، لماذا؟!
هم يقومون بمهمة الشر في الوجود، ولولا أن هذا الشر موجود في الوجود، ويعضُّ الناس بمساوئه وإفساداته، لم يكن من الناس من يتهافت على الحق وعلى الخير. فالشر - إذن - جاء ليعضّ الناس بآلامه وإفساده ليتجه الناس إلى الخير، ولذلك تجد أقوى انفعالات تعتمل في صدور المسلمين وأقوى نزوع حركي إلى الإِسلام حين يجدون مَن يضطهد قضية الإِسلام.
إنَ مهمة الشر في الوجود أنه يجمع عناصر الخير في الوجود ومهمة الباطل في الوجود أنه يحفز عناصر الحق ويحضهم على محاربة الشر ومناهضته؛ لأن الباطل حين يعم، ويتضايق منه الناس، ترفع يدها وتقول: يا ناس افعلوا الخير. ولو لم يحدث ذلك فلن تجد من يقبل على الخير بحمية وحرارة. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب.
. .} [الأعراف: 167]
(ويسوم) من مادتها سام، ونسمعها في البهائم ونسميها السائمة وهي التي تطلب مقومات حياتها، وليس صاحبها هو الذي يجهز لها مقومات حياتها. أما البهائم التي تُرْبط وليست سائمة التي تجد من يجهز لها طعامها، إذن أصل «سام» أي طلب، وبهيمة سائمة أي تطلب رزقها وأكلها بنفسها.
و «سام» أيضاً أي طلب العذاب. ولا يطلب أحد العذاب إلا أن يكون قد أفرغ قوته في التعذيب. فيطلب ممن يقدر على العذاب أن يعذب، أي أن الله يسلط ويبعث عليهم من يقوم بتعذيبهم جهد طاقته، فإذا فترت طاقته أو ضعفت فإنه يستعين على تعذيبهم بغيره.
إذن فطلب العذاب معناه أنّه: عَذَّب هو، ولم يكتف بأنه عذَّب بل طلب لهم عذاباً آخر، و {يَسُومُهُمْ سواء العذاب} أي العذاب السيء الشديد. ويذيل الحق الآية بقوله تعالى: {
…
إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌْ} [الأعراف: 167]
ومعنى سرعة الشيء أن تأخذه زمناً أقل مما يتوقع له؛ لن السرعة هي اختصار الزمن. {لَسَرِيعُ العقاب} هي للدنيا وللآخرة، فساعة يقترفون ذنباً. يسلط عليهم من يعذبهم في الدنيا، أما الآخرة ففيها سرعة عالية؛ لأن مسافة كل إنسان إلى العذاب ليست هي عمر الدنيا، فالإِنسان بمجرد أن يموت تنتهي الدنيا بالنسبة له. والرسول صلى الله عليه وسلم َ يقول:«إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته» .
إن هناك سرعة لحساب الآخرة. وحتى لو افترضنا أننا سنبقى جميعاً دون حساب إلى أن تنتهي الدنيا، فإن الحساب سيكون سريعاً لأن كل لحظة تمر على أي إنسان تقربه من العقاب، وحتى لو كان عمر الدنيا مليون سنة، فكل يوم يمر سينقص من عمر الدنيا.
وحين يقول الحق سبحانه بعد سرعة العقاب {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌْ} قد نجد من يسأل كيف والحديث هنا عن العقاب؟ ونقول: إنه سبحانه الذي يتكلم. وهو القادر، فإذا قال: أنه لسريع العقاب، فهذا يعني أنه يسرع بعقاب المفسدين والظالمين؛ لأنه غفور رحيم بالمظلومين الذين يُظلمون، إذن فسرعة عقاب الظّلمَة رحمة منه بالمظلومين. أو أن الله كما قال «سريع العقاب» فإنه - سبحانه - يأتي بالمقابل لكي يشجع كل إنسان على الدخول في رحمته.
ويقول سبحانه بعد ذلك: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض
…
}
وقد قال سبحانه قبل ذلك أيضاً: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً
…
} [الأعراف: 160]
ولكن القول هنا يجيء لمعنى آخر: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} .
وقد قطعهم الحق حتى لا يبقى لهم وطن، ويعيشون في ذلة؛ لأنهم مختلفون غير متفقين مع بعضهم منذ البداية، كانوا كذلك منذ أن كانوا أسباطاً وأولاد إخوة على خلاف دائم. وهنا يقول الحق:{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً} .
ومعنى {وَقَطَّعْنَاهُمْ} أي أن كل قطعة يكون لها تماسك ذاتي في نفسها، وأيضاً لا تشيع في المكان الذي تحيا فيه، ولذلك قلنا: إنهم لا يذوبون في المجتمعات أبداً، - كما قلنا - فعندما تذهب إلى أسبانيا مثلاً تجد لهم حيًّا خاصًّا، كذلك
فرنسا، وألمانيا، وكل مكان يكون لهم فيه تجمع خاص بهم، لا يدخل فيه أحد، ولا يأخذون أخلاقاً من أحد، وشاء الحق بعد ذلك أن قال لهم: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ
…
} [المائدة: 21]
فبعد أن مَنَّ عليهم بأرض يقيمون فيها، قالوا: {
…
إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]
فحرم الله عليهم أن يستوطنوا وطنا واحداً يتجمعون فيه، ونشرهم في الكون كله لأنهم لو كانوا متجمعين لعم فسادهم فقط في دائرتهم التي يعيشون فيها. ويريد الله أن يعلن للدنيا كلها أن فسادهم فساد عام. ولذلك فهم إن اجتمعوا في مكان فلابد أن تتآلب عليهم القوى وتخرجهم مطرودين أو تعذبهم، وأظن حوادث هتلر الأخيرة ليست بعيدة عن الذاكرة، وقد أوضحنا ذلك من قبل في شرح قوله الحق: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض
…
} [الإِسراء: 104]
لقد قلنا: إن السكن في الأرض هو أن يتبعثروا فيها؛ لأنه - سبحانه - لم يحدد لهم مكانا يقيمون فيه، فإذا جاء وعد الآخرة ينتقم الله منهم بضربة واحدة، ويأتي الحق بهم لفيفاً تمهيداً للضربة القاصمة:{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} .
وهناك فريق منهم جاء إلى المدينة المنورة ووسعتهم المدينة وصاروا أهل العلم وأهل الكتاب، وأهل الثراء وأهل المال، وأهل بنايةٍ للحصون، وحين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عقد معهم معاهدة. فالذي دخل منهم في الإِيمان استحق معاملة المؤمنين، فلهم ما لهم وعليهم وما عليهم، والحق قد قال:
{وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]
وقلنا إن هذه تسمى صيانة الاحتمال لمن يفكرون في الإِيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم َ: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} . و «دون» أي غير، فالمقابل للصالحين هم المفسدون. أو منهم الصالحون في القمة، ومنهم من هم أقل صلاحاً. فهناك أناس يأخذون الأحسن، وأناس يأخذون الحسن فقط.
ويتابع الحق سبحانه: {
…
وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الاعراف: 168]
كلمة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} هي التي جعلتنا نفهم أن قول الحق سبحانه وتعالى: أن منهم أناساً صالحين، ومنهم دون ذلك، أي كافرون؛ لأنهم لو كانوا قد صنعوا الحسن والأحسن فقط، لما جاء الحق ب {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . أو هم يرجعون إلى الأحسن.
و «بلونا» أي اختبرنا؛ لأن لله في الاختبارات مطلق الحرية، فهو يختبر بالنعمة ليعلم واقعاً منك لأنه - سبحانه - عالم به، من قبل أن تعمل، لكن علمه الأزلي لا يُعتبر شهادة منا. لذلك يضع أمامنا الاختبار لتكون نتيجة عملنا شهادة إقرار منا علينا:{وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات} . وسبحانه وتعالى يختبر بالنعمة ليرى أتغزنا الأسباب في الدنيا عن المُسبِّب الأعلى الذي وهبها: {كَلَاّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6 - 7]
فالواجب أن نشكر النعمة ونؤديها في مظان الخير لها. فإن كان العبد سيؤديها بالشكر فقد نجح، وإن أداها على عكس ذلك فهو يرسب في الاختبار. إذن فهناك الابتلاء بالنعم، وهناك الابتلاء بالنقم. والابتلاء بالنقم ليرى الحق هل يصبر العبد أو لا يصبر، أي ليراه ويعلمه واقعاً حاصلاً، وإلا فقد علمه الله أزلاً.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
إننا نجد من يقول: {ربي أَكْرَمَنِ} . ومَن يقول: {ربي أَهَانَنِ} والحق يوضح: أنتما كاذبان. فليست النعمة دليل الإِكرام، ولا سلب النعمة دليل الإِهانة. ولكن الإِكرام ينشأ حين تستقبل النعمة بشكر، وتستقبل النقمة بصبر. إذن مجيء النعمة في ذاتها ليس إلا اختبارا. وكذلك إن قَدَر الله عليك رزقك وضيقه عليك، فهذا ليس للإِهانة ولكنه للاختبار أيضاً.
ويوضح الحق جل وعلا: {كَلَاّ بَل لَاّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلَا تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً} [الفجر: 17 - 20]
أنتم لا تطعمون في مالكم يتيماً ولا تحضون على طعام مسكين. فكيف يكون المال نعمة؟ إنه نقمة عليكم. وهنا يقول الحق: {وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . ولله المثل الأعلى، نقول: إن فلاناً أتعبني، لقد قلبته على الجنبين، لا الشدة نفعت فيه، ولا اللين نفع فيه، ولا سخائي عليه نفع فيه، ولا ضنى عليه نفع فيه، وقد اختبر الله بني إسرائيل فلم يعودوا إلى الطاعة مما يدل على أن هذا طبع تأصل فيهم.
ويقول الحق بعد ذلك: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
…
}
والخَلَف أو الخَلْف أو الخليفة هو من يأتي بعد ذلك، ويقال: فلان خليفة فلان، ومن قبل قرأنا أن سيدنا موسى قال لسيدنا هارون: {اخلفني فِي قَوْمِي
…
} [الأعراف: 142]
أي كن خليفة لي، إلا أنك حين تسمع «خَلْفُ» بسكون اللام، فاعلم أنه في الفساد، وإن سمعتها «خَلَفٌ» بفتح اللام فاعلم أنه في الخير، ولذلك حين تدعو لواحد تقول: اللهم اجعله خير خَلَف لخير سلف. وهنا يقول الحق: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} . والحديث هنا عن أنهم هم الفاسدون والمفسدون، والشاعر يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
…
وبقيت في خَلْفٍ كجلد الأجرب
الشاعر هنا يبكي موت الكرماء وأهل السماحة، فلم يعد أحد من الذين كان يعيش في رحاب كرمهم وسماحتهم؛ فقد ذهب الذين يُعاش في أكنافهم أي جوارهم؛ لأن هذا الجوار كان نعمة أيضاً. وحين يجاور رجل ضُيِّق وقُدِر عليه رزقه رجلاً طيباً عنده نعمة، فتنضح عليه نعمة الرجل الطيب. والشاعر هنا قال:«وبقيت في خَلْفٍ كجلد الأجرب» أي أن جلده قريب ولاصق لكنه جلد أجرب.
وعرفنا قصة «أبودلف» وكان رجلاً كريماً في بغداد. يعيش في نعمته كل الناس ومن يحتاج يعطيه. وطرأ طارئ على جار فقير له، وأراد أن يبيع داره، فعرض الدار للبيع، وسألوه عن الثمن الذي يرتضيه، فقال: داري بمائة دينار.
لكن جواري لأبي دلف بألف دينار، فبلغ هذا الكلام أبا دلف فقال: إن رجلاً قدر جوارنا بعشرة أمثال ما قدر به داره لحقيق ألا يفرّط فيه. قالوا له: فليبق جاراً لنا وليأخذ ما يريد من مال.
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب} . والكتاب هو التوراة، والخَلْف أخذوه ميراثاً، والشيء لا يكون ميراثاً إلا إذا حمله السابق بأمانة وأدّاه للاحق، ولكن لأنهم أهل إفساد فلنر ماذا فعلوا في الكتاب؟ لقد ورثوه. وبُلِّغ إليهمُ وعرفوا ما فيه. {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ
…
} [الأعراف: 169]
أي لا حجة لهم في ألاّ يكونوا أصحاب منهج خير، لكنهم لم يلتفتوا إلى ما في الكتاب - التوراة - من المواثيق، والحلال، والحرام، وافعل كذا ولا تفعل كذا؛ لم يلتفتوا لكل هذا؛ لأنهم قالوا لأنفسهم: إن هذا الكتاب يعطي النعيم البعيد في الآخرة، وهم يريدون النعيم القريب، فمنهم من قبل الرشوة واستغلال النفوذ. وبذلك أخذوا عَرَضَ الحياة الأدنى وهو عرض الدنيا. ولم يأخذوا إدارة الدنيا بمنهج الله، والدنيا فيها جواهر أو أعراض، والجوهر هو الشيء الذاتي، فالإِنسان بشحمه ولحمه «جوهر» أما لونه إن كان أسمر أو أبيض فهذا عَرَض، قصيراً أو طويلاً، صحيحاً أو مريضاً، وغنيًّا أو فقيراً فهذا عرض.
إذن فالأعراض هي ما توجد وتزول، والجواهر هي التي تبقى ثابتة على قدر ما كتب لها من بقاء، وكما يقول علماء المنطق: الجوهر ما قام بنفسه، والعَرَض ما قام بغيره.
وهم قد أخذوا العرض من الحياة الدنيا، وعرض الدنيا قد يتمثل في المال الحرام، وأن يغشوا ويستحلوا الرشوة. ونعلم أن الإِنسان - حتى المؤمن - قد تحدث منه معصية ولا يمنع ربنا هذا؛ لأن المشرع الأعلى حين يشرع عقوبة لجريمة، فهذا إذْنٌ بأنها قد تحدث، وحين يقول الحق: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا
…
} [المائدة: 38]
إنَّ معنى هذا القول أن المؤمن قد تسول له نفسه أَنْ يسرق مثلاً، ولم يترك
الحق هذا الجرم بدون عقوبة. وإن رأينا مسلماً يسرق، نقل له هذا فعل مُجَرَّم من الإِسلام، وله عقوبة، والمُجْرَم لا يمكن أن يرتكب الجُرْم وهو ملتزم بالدِّين، بل هو منسوب للدين فقط، وعندما يرتكب مسلم ذنباً أو معصية ثم يندم ويتوب ويعزم على أنه لن يعود تصح توبته، وكذلك لو ألحَّت عليه معصيته فيعود إليها، ثم تاب، المهم أنه في كل مرة لا يصر على الفعل، ثم يقول: سوف أتوب. وهم كانوا يصرون على المعصية ويقولون: سبغفر الله لنا، بل إنهم لم يفكروا في التوبة، ووجدنا منهم من يقول: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ
…
} [المائدة: 18]
ويأتي الرد: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ
…
} [المائدة: 18]
إذن هم يأخذون عرض هذا الأدنى، ويحكمون في أخذهم بهذا العرض أنه سبحانه سوف يَغْفِر لهم. وبذلك استحلوا الحرام وانتقلوا من منطقة المعصية إلى منطقة الكفر؛ لأن هناك فرقاً بين أن تفعل الشيء وتقول هو معصية. لكن أن يرتكب الإِنسان المعصية ويقول: ليست بمعصية، فهذا انتقال من العصيان إلى الكفر، ومثال ذلك الربا حين نجد من يحلله، نقول له: اقْبَلْ أن تكون عاصيًّا ولا تدخل نفسك في الكفر؛ لأنك إن حللت ما حرم الله يقع عليك الكفر وتوصف به والعياذ بالله، أما إن قلت: هو حرام ولكن ظروفي صعبة ولا أقدر على نفسي فقد يغفر الله لك. لكن قوم موسى كانوا يصرون على المعصية ويقولون: سيغفر الله لنا:
ويقول الحق: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} .
وهم بعد ذلك تركوا الأعلى وأخذوا عرض الحياة الأدنى ويتمادون في غيهم ويرتكبون المعاصي تلو المعاصي دون أن يدقوا باب التوبة. لذلك ينبههم الحق سبحانه:
{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب أَن لَاّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلَاّ الحق
…
} [الأعراف: 169]
لقد ورثوا الكتاب، وفي الكتاب قد أُخذ عليهم عهدٌ موثقٌ ألا يقولوا على الله إلا الحق، لكن هل يعدل الفاسق عن الباطل ويعود إلى الحق؟ . طبعاً لا، هم إذن تجاهلوا ما في هذا الكتاب، رغم أنهم قد درسوا ما فيه مصداقاً لقوله الحق:{وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ}
وكلمة «دَرَسَ» تدل على تكرار العمل، فيقال:«فلان درس الفقه» أي تعلمه تعلما متواصلاً ليصير الفقه عنده ملكة.
وهو مختلف عمن قرأ الكتاب مرة واحدة، هنا لا يصبح الفقه عنده ملكة. وحتى نفهم الفرق بين «العلم» و «الملكة» ، نقول: إن العلم هو تلقي المعلومات، أما من درس المعلومات وطبقها وصارت عنده المسألة آلية، فهذا هو من امتلك ناصية العلم حتى صار العلم عنده ملكة.
إذا التقى صائم - مثلا - بفقيه وسأله عن فتوى في أمر الصيام يجيبه فوراً؛ لأنه علم كل صغيرة وكبيرة في الفقه. لكن إن تسأل تلميذاً مبتدئاً في الأزهر فقد يرتبك وقد يطلب أن يرجع إلى كتبه ليعثر على الإجابة؛ لأن الفقه لم يصبح لديه ملكه. والملكة في المعنويات هي مقابل الآلية في الماديات التي تحتاج إلى دُرْبة، فمن يمسك النول لينسج النسيج ويتقن تمرير المكوك بين الفتلتين لا يفعل ذلك إلا عن دُرْبة. إنه قد تعلم ذلك بصعوبة وتكرار تدريب.
إذن فقوله: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} اي تكررت دراسة الكتاب حتى عرفوا ما فيه من علم. ونحن أخذنا «درس العلم» من مسألة حسية هي «درس القمح» ، ويعلم من تربى في الريف كيف ندرس القمح، حين يدور النورج على سنابل القمح فيخرج لنا الحب من أكمامه، ويقطع لنا العيدان، وهذه العملية تسمى «درس القمح» .
إن ما فعلوه من عصيان ليس عن غفلة عن هذا الميثاق في ألاّ يقولوا على الله إلا الحق، لأنهم درسوا ما في الكتاب المنزل عليهم وهو التوراة دراسة مستوعبة، لكنهم أخذوا العرض الأدنى. وكان لابد أن يأتي بمقابل العرض الأدنى فيوضح لنا أنّ مصير من يريد الدار الآخرة هو الثواب الدائم ولذلك يقول الحق:
{
…
والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169]
وهذا يعني التنبيه بأنه من الواجب قبل أن تفعلوا الفعل أن تنظروا ما يعطيه من خير، وأن تتركوه إن كان يعطي الكثير من الشر، وزنوا المسألة بعقولكم، وساعة أن تَزنوا المسألة بعقولكم ستعرفون أن عمل الخير راجح.
ويقول الحق بعد ذلك: {والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب
…
}
إنّ الكثير من بني إسرائيل ورثوا الكتاب، وأخذوا العرض الأدنى، ولم يزنوا الأمور بعقولهم؛ لذلك لم يتمسكوا بالكتاب، وتركوه، وساروا على هواهم؛ كأنهم غير مقيدين بمنهج افعل كذَا ولا تفعل كذَا، ويقابلهم بعض الذين يتمسكون بالكتاب الذي ورثوه، ولا يقولوا على الله إلا الحق.
ومادة الميم والسين والكاف تدل على الارتباط الوثيق؛ فالذي يجعل الانسان متصلاً بالشيء هو ماسكه، وتقول:«مسَكَ» وتقول: «مَسَّكَ» ، و «أمسك» ، وتقول «استمسك» ، و «تماسك» ، وكلها مادة واحدة. وقوله الحق:«يمسِّكون» مبالغة في المسك، كُل قطع وقطَّع، ولكن قطَّع أبلغ.
و (مسَّك) يعني أن الماسك تمكن مما يمسك، و (استمسك) أي طلب، و (تماسك) أي أنّ هناك تفاعلاًً بين الاثنين؛ بين الماسك والممسوك. ومن رحمة ربنا أنه لا يطلب منا أن نمسك الكتاب. بل يطلب أن نستمسك بالكتاب، ولذلك يوضح لك الحق سبحانه وتعالى: إن أنت ملت إلى القرب مني والزلفىإليّ، فاترك الباقي عنك فالمعونة منّي أنا، ولذلك يدلنا على أن من ينفذ منهج القرآن لا يلقى الهوان أبدا {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لَهَا} وهنا يستخدم
الحق سبحانه كلمة (استمسك) لا كلمة مسَك، فمن وجه نيته في أن يفعل يعطيه الله المعونة، ولذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي:
فأنت بإيمانك بالله تعزز نفسك وتقويها بمعونه الله لك. فإن أردت أن يذكرك الله فاذكر الله؛ فإن ذكرته في نفسك يذكرك في نفسه، وإن ذكرته في ملأ يذكرك في ملأ خير منه، وإن تقربت إليه شبراً تقرب إليك ذراعاً، فماذا تريد أكثر من ذلك، خاصة أنك لن تضيف إليه شيئاً، إذن فالموقف في يدك، فإذا أردت أن يكون الله معك فسر في طريقه تأت لك المعونة فوراً. وهكذا يكون الموقف معك وينتقل إليك، وذلك بإيمانك بالله وإقبالك على حب الارتباط به.
ولذلك قلنا من قبل: إن الانسان إذا أراد أن يلقى عظيماً من عظماء الدنيا وفي يده مصلحة من مصالح الإِنسان فهو يكتب طلباً، فإما أن يوافق هذا العظيم وإما ألاّ يوافق، وحين يوافق هذا العظيم يحدد الزمان ويحدد المكان، ويسألك مدير مكتبه عن الموضوعات التي ستتكلم فيها، وحين تقابله وينتهي الوقت، فهو يقف من كرسيه لينهي المقابلة، هذا هو العظيم من البشر، لكن ماذا عن العظيم الأعظم الأعلى الذي تلتقي به في الإِيمان؟ أنت تلقى الله في أي وقت، وفي أي مكان، وتقول له ما تريد، وأنت الذي تنهي المقابلة، ألا يكفي كل ذلك لتستمسك بالإِيمان؟ .
{والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} [الأعراف: 170]
والكتاب هنا هو الكتاب الموروث، والمقصود به التوراة وهو الذي درسوا
ما فيه، وقد أخذ الله في هذا الكتاب الميثاق عليهم ألا يقولوا على الله إلا الحق، والحق يقول هنا:{وَأَقَامُواْ الصلاة} فهل هذا الكتاب ليس فيه إلا الصلاة؟ لا، ولكنه خص الصلاة بالذكر. لأننا نعلم أن الصلاة عماد الدين، وعرفنا في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم َ أن الصلاة قد فرضت بالمباشرة، وكل فروض الإِسلام - غير الصلاة - قد فرضت بالوحي.
لقد قلنا من قبل ولله المثل الأعلى، إن رئيس أي مصلحة حكومية حين يريد أمراً عادياً رُوتينياً، فهو يوقع الورق الذي يحمل هذا الأمر ويكتب عليه:«يعرض على فلان» ويأخذ الورق مجراه، وحين يهتم بأمر أكثر، فهو يتحدث تليفونياً إلى الموظف المختص، وحين يكون الأمر غاية في الأهمية القصوى فهو يطلب من الموظف أن يحضر لديه، وهكذا فرضت الصلاة بهذا الشكل لأنها الإِعلان الدائم للولاء لله خمس مرات في اليوم، وإن شئت أن تزيد على ذلك تنفلا وتهجداً فعلت.
إنك بالصلاة توالى الله بكل أحكامه، إنك توالي الله بالزكاة كل سنة، وبالصوم في شهر واحد هو رمضان، وبالحج مرة واحدة في العمر إن استطعت. لكن الصلاة ولاء دائم متجدد، ولأن الصلاة لها كل هذه الأهمية؛ لذلك لا تسقط أبداً. وأركان الإِسلام - كما نعلم - خمسة؛ شهادة أن لا إله إلا اله وأن محمداً. رسول الله، إنها الإِيمان بالله وبالرسول كوحدة واحدة لا تنفصل، ويكفي أن ينطقها الإِنسان مرة لتكتب له، ثم تأتي أركان الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والحج ليس ركناً مفروضاً إلا على من يستطيعون. قد لا يكون للإِنسان مال يخرج عنه الزكاة؛ فلا يجب عليه إخراج شيء حينئذ، وقد يكون الإِنسان مريضاً أو مسافراً فلا يصوم.
إذن فبعض فروض الإِسلام قد تسقط عن المسلم، إلا الصلاة فهي لا تسقط أبداً؛ لأن في الصلاة في ظاهر الأمر قطعا لبعض الوقت عن حركة عملك، وإن كان كل فرض يأخذ مثلاً نصف ساعة، فالإِنسان يقتطع من وقته ساعتين ونصف الساعة كل يوم في أداء الصلاة. والوقت عزيز عند الإِنسان. ففي الصلاة بذل لبعض الوقت الذي يستطيع أن يكسب الإِنسان فيه مالاً، وفيها أيضا الصوم عن الأكل والشرب ومباشرة الزوجات، ففيها كل مقومات أركان الإِسلام، لذا فهي لا تسقط أبدا.
{والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة
…
} [الأعراف: 170]
إذن الاستمساك واضح هنا جداً، وأداء الصلاة تعبير عن الالتزام بالاستمساك بمنهج الإِيمان.
ولذلك نسمع من يقول: حين ذهبنا إلى مكة والمدينة عشنا الصفاء النفسي والإِشراق الروحي، وعشنا مع التجلِّي والنور الذي يغمر الأعماق. وأقول لمن يقول ذلك: إن ربنا هنا هو ربنا هناك، فقط أنت هناك التزمت، وساعة كنت تسمع الأذان كنت تجري وتسعى إلى الصلاة، وإذا صنعت هنا مثلما صنعت هناك فسترى التجليات نفسها. إذن إن صرت على ولاء دائم مع الحق سبحانه وتعالى فالحق لن يضيع أجرك كاحد المصلحين. لأنه القائل:{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} .
وهذه قضية عامة، والحق سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المصلح. وقوله:{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} بعد قوله: {يُمَسِّكُونَ بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة} دليل على أن أي إصلاح في المجتمع يعتمد على من يمسكون بالكتاب ويقيمون الصلاة؛ لأن المجتمع لا يصلح إلا إذا استدمت أنت صلتك بمن خلقك وخلق المجتمع، وأنزل لك المنهج القويم. ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل
…
}
والجبل معروف أنه من الأحجار المندمجة في بعضها والمكونة لجرم عالٍ قد يصل إلى ألف متر أو أكثر، والحق يقول عن الجبال:{والجبال أَرْسَاهَا} ولا يقال أرساها إلا إذا كان وجد شيء له ثقل، فأنت لا تقول:«أرسيت الورقة على المكتب» ، ولكنك تقول:«أرسيت لوح الزجاج علىلمكتب ليحميه» ، وأنت بذلك ترسي شيئاً له وزن وثقل.
وقد أرسى ربنا الجبال وجعلها في الأرض أوتادا، والوَتِد - كما نعلم - ممسوك من الموتود والمثبت فيه، بدليل أنه لو تخلخل في مكانه نضع له ما نسميه «تخشينة» لتلصقه وتربطه بما يثبت فيه، وهنا يقول الحق:{وَإِذ نَتَقْنَا الجبل} «نتقنا» أي قلعنا، وهناك قول آخر: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُواْ فِي السبت
…
} [النساء: 154]
وقال الحق أيضا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور
…
} [البقرة: 63]
وهنا اختلاف بين «نتق» و «رفع» ؛ لأن الجبل راسٍ في الأرض، وممسوك كالوتد؛ لذلك يحتاج قبل أن يرفع إلى عملية نزع واقتلاع من الأرض، ثم يأتي من بعد ذلك الرفع، و «نتقا» تعني نزعنا الجبل من مكان إرسائه حتى نرفعه، وقد رفعه الله ليجعل منه ظلة عليهم، أي أن هناكَ ثلاث عمليات: نتق أي نزع وخلع، ثم رفع، ثم جعله سبحانه ظلة لهم، وهذا يحتاج إلى اتجاه في المرفوع إلى جهة ما. والحق يقول:«وإذ» أي اذكر إذ نتقنا الجبل، أي نزعناه وخلعناه من الأرض، ولا ننزعه ونخلعه من الأرض إلا لمهمة أخرى أي نجعله ظلة، وكان تظليل الغمام رحمة لهم من قبل، وصار الجبل ظلة «عذاب» ؛ لأن الحق أنزل لهم التوراة على موسى فقالوا له: إن أحكام هذه التوراة شديدة. وللإِنسان أن يتساءل: لماذا كل هذا التلكؤ مع التشريعات التي جاءت لمصلحة البشر؟ . وجاء لهم العقاب من الحق بأن رفع فوقهم الجبل كظلة تحمل التهديد كأنه قد يقع فوقهم {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} .
لذلك نجد أن كل يهودي يسجد على حاجبه الأيسر، على الرغم من أن السجود
يقتضي تساوي وضع الجبهة على الأرض، ولكنهم يسجدون بميل إلى الحاجب الأيسر لأن السابقين لهم رأوا الجبل فوقهم وتملكهم الخوف من سقوط الجبل، وكانوا يسجدون وفي الوقت نفسه يرقبون الجبل، وبقيت هذه المسألة لازمة فيهم، وصاروا لا يسجدون إلا على حاجبهم الأيسر، بسبب حكاية الجبل الذي نتقه الله وقلعه فصار فوقهم. {وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} .
والظن هو رجحان قضية، وقد يأتي ويراد به أنه رجحان قوى قد يصل إلى درجة اليقين، مثل قوله الحق:{الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ}
وحين بقيت الحالة هذه، وخافوا من الجبل أن يقع عليهم، ولأن هناك كتابا قد أنزل إليهم وهو التوراة وهم يعصون ويتمردون على ما فيه؛ لذلك قال لهم الحق: {.
. . خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171]
و «خذوا» فعل أمر، والأمر يقتضي آمرا، ولابد له من شيء يأمر به. وكلمة «القوة» هذه هي الطاقة الفاعلة، والأصل في الكون كله أن نقبل على كل شيء بقوة؛ لأن الكون الذي تراه مسخراً ليس له رأي في أن يفعل أو لا يفعل، بل هو فاعل دائما إذا أمُر، وكما قلنا من قبل: لم تغضب الشمس على الناس وقالت: لن أطلع هذا اليوم، وكذلك لم يمتنع الهواء، وأيضاً لا يرفض الحمار مثلاً أن يحمل الروث، أو أن ينظفه صاحبه ويأتي له ب «البرذعة» ليجعله ركوبة متميزة، الحمار إذن لا يعصي هنا ولا يعصي هناك، والكون كله مسخر بقوانين مادية ثابتة. {لَا الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلَا اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]
وقد وضع الحق هذا النظام للكون نظراً لأنه مقهور وليس له تكليف، والمحكوم بالغريزة الكونية صالح للحياة عن المحكوم بالاختيار الفعلي، ومع هذا الاختيار
فالإنسان له أشياء تفعل فعلها فيه ولا يَدْرِي عنها شيئاً مع أن بها قوام حياته، فلا أحد يمسك قلبه ويضبطه ويقول له: دق، والرئة كذلك وحركة التنفس، والحركة الدودية في الأمعاء، والحالب، ويرغب الإنسان في دخول دورة المياه عندما تمتلئ المثانة بالبول، كل هذه مسائل رتيبة لا اختيار للإنسان فيها أبدا، والأمور المحكومة بالغرائز ليس لنا فيها اختيار، كأن يأكل الإنسان ويتكلم في أثناء تناول الطعام فتنزل حبة أرز في القصبة الهوائية فيحاول الإنسان أن يطردها بالسعال، هذا اسمه «غريزة» أي أمر غير محكوم بالفعل الاختياري.
وكذلك الحيوان إذا أحضرت له طعاما فهو لا يأكل أكثر من طاقته حتى لو ضربه صاحبه. أما الإنسان فقد يأكل بعد أن يشبع، وحين يقول له مُضيفه - على سبيل المثال -: أنت لم تذق هذا اللون من اللحم، فيأكل. ولهذا نجد أن الأمراض في الانسان أكثر من الأمراض في الحيوان؛ لأن اختيار الإنسان يمتد إلى مجالات متعددة متفرقة قد تضر به وتؤذيه.
ونعرف جميعاً هذا المثال للفارق بين الإنسان والحيوان، نجد الإنسان يغلي النعناع ويشربه، ويطبخ الملوخية ليأكلها، وقد فعل ذلك لأنه اختبر الاثنين، فلم يأكل النعناع وأكل الملوخية، رغم تشابه أوراقهما. لكن هات شجرة النعناع أمام الجاموسة أو الحمار، وهات النجيل الناشف وضع الاثنين أمام الجاموسة أو الحمار، ستجد الجاموسة والحمار يتجهان إلى النجيل الناشف ويتركان نبات النعناع الأخضر الرطب، وهما يفعلان ذلك بالغريزة، فالمحكوم بالغريزة له نظام، ولو كان الحيوان مختارا لارْتَبَكت حركة الحياة كلها واختلطت واشتد على الناس شأنها.
وهكذا نعرف أن مقومات الحياة تقوم على قوانين الغريزة، وهذه القوانين موجودة في الكون لتخدمنا نحن بني البشر. فالكهرباء مثلاً كانت موجودة قبل أن ننتفع بها، لكن بعد ذلك انتفعنا بها، وكذلك الجاذبية، كانت موجودة في الكون منذ الأزل، لكنا لم ننتبه لها، وحين اكتشفناها زادت قدراتنا على الاستفادة منها، وهكذا نرى أن الإنسان واحد من هذا الكون، إلا أنه يتميز بأن له جهة اختيار في
بعض الأمور، وله جهة قهر في البعض الآخر، فهو يشارك الكون في القهر، ويتميز عن بقية المخلوقات - عدا الجن - بالاختيار في أمور أخرى. ونجد على سبيل المثال أن الإنسان الذي يعاني قلبه من ضعف ما، عندما يصعد هذا الإنسان سلماً ينهج ويتتابع نَفَسه من الإعياء وكثرة الحركة، لأنّ غريزته المحكوم بها تُنبه الجسد إلى ضرورة أن تعمل الرئة أكثر لتعطي الأوكسجين الذي يساعد على الصعود.
ومثال آخر، نجد الذكر في الحيوانات يقترب من أنثاه ليشمها، فإن وجدها حاملاً لا يقربها، والحيوان في هذا الأمر مختلف عن الإنسان؛ لأن الحيوان تحركه الغريزة التي تبين له أن العملية الجنسية بين الذكر والأنثى لحفظ النوع، ومادامت الأنثى قد حملت، فالذكر لا يقربها، فاختلف الإنسان عن الحيوان في هذا الأمر؛ فلذة الإنسان في الجنس أعلى من لذة الحيوان؛ لأنها في الحيوان ترضخ للغريزة فحسب، أما في الإنسان فإنها مع الغريزة ترضخ أيضا للاختيار الذي منحه الله للإنسان.
ومن رحمة الله - إذن - أن يكون الإنسان مقهوراً في بعض الأشياء ومختاراً في أشياء أخرى، ب «افعل» و «لا تفعل» حتى يختار بين البديلات.
وهنا يقول الحق: {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّة}
أي خذوا ما آتاكم في الكتاب بجد واجتهاد. وكان هذا القول مقدمة لما جاء به العلم في شرح معنى القوة. وقد وصل إلينا خبر العلم قبل أن يصل لنا واقعه المادي، فصرنا نرى الطاقة التي تعطي القوة. وجاء نيوتن ليكشف لنا قانون الجاذبية، القانون الأول والثاني والثالث، واكتشف أن كل جسم يظل على ما هو عليه، فإن كان ساكناً يبق على سكونه إلى أن يأتي محرك يحركه. وإن كان الجسم متحركاً فهو لا يتوقف إلى أن يصدمه صادم أو يمسكه ماسك. وسمّى العلماء هذا التأثير بالقصور الذاتي. أو التعطل، أي أن الساكن يُعَطّلُ عن الحركة إلا أن يحركه محرك، والمتحرك يُعَطّلُ عن السكون إلا أن يوقفه موقف، فأنت إذا ركبت سيارة وأنت قاعد وساكن والسيارة تسير، فإنك تظل ساكناً، إلى أن يوقفها السائق فجأة فتتحرك من مكانك ما لم تمسك بشيء.
وفي الأسواق نرى الحواة وهم يؤدون بعض الألعاب ليسحروا أعين الناس فيأتي بمنضدة وعليها مفرش لامع وأملس، ثم يضع عليها أطباقاً وأكواباً، ثم يحرك المفرش بخفة لينزعه بهدوء من تحت الأكواب حتى لا تتحرك بحركة المفرش.
وحين جاء نيوتن عقد مقارنة وموازنة بين القوة والحركة والعطالة، وقلنا: إنّ العطالة تعني أن الساكن يتعطل عن الحركة، والمتحرك يتعطل عن السكون، وهذه هي القضية المادية في الكون التي خدمت العلم الفضائي الخاص بسفن الفضاء والصواريخ. ونحن نرى السفن الفضائية ونعتقد أنها تدور في الفضاء بالوقود، رغم أن حجمها لا يسع الوقود الذي يسيرها لسنوات، والحقيقة أنها تسير بقانون القصور الذاتي أو العطالة إنّها بدون وقود، وهي تندفع إلى الفضاء بقوة الصاروخ إلى أن تخرج إلى الفضاء الكوني، وتظل متحركة ما لم يوقفها موقف. ونرى ذلك في التجربة اليسيرة حين يطلق إنسان رصاصة من مسدس فتنطلق الرصاصة بقوة الطلقة مسافة ثم تقع إن لم يوجد حاجز يصدها، وهي تقع بعد مسافة معينة؛ لأن الهواء يقابلها فيصادم الحركة إلى أن تتوقف، أما في الفضاء الخارجي فليس هناك هواء؛ لذلك لا تتوقف سفينة الفضاء، لأنها تسير بقانون القصور الذاتي أو العطالة.
وهذه السفن الفضائية تعتمد في صعودها إلى الفضاء على الصواريخ لتصل إلى المدار الخارجي. والصواريخ تسير بالغاز المتفلت الذي أخذ القانون الثالث من قوانين نيوتن، وهو القانون القائل: إن كل فعل له رد فعل يساويه ومضاد له في الاتجاه، وحين يسخن هذا الغاز المتفلت يخرج من خلف الصاروخ بقوة فيندفع الصاروخ للأمام.
وهكذا نرى قول الحق: {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} في الواقع المادي والواقع القيمي. وانظر إلى غير المتدينين تجدهم ساكنين في بعض الأمور ولا يتحركون عنها ولا يجاوزونها، فالواحد منهم لا يصلي، ولا يزكي، ولا يقول كلمة معروف، وهو في ذلك يحتاج إلى قوة تحرك سكونه عن طاعة الله. ونجد أيضا من غير المتدينين من يشرب خمرة. أو يزني أو يسرق أو يرتشي. وهو هنا يحتاج إلى قوة لتصده
عن مثل هذه الحركة. ولذلك نقول: إن الإنسان في أفعاله الاختيارية يحتاج إلى أمرين: الأول إن كان ساكناً عن فعل الخير نأت له بقوة تحركه إلى هذا الخير، وإن كان متحركا إلى الشر نأت له بقوة توقفه عنه، وهذا هو ما يقدمه المنهج الإيماني في «افعل» ، و «لا تفعل» . فمن يتراخى عن الصلاة وسكن عنها نقول له صلّ. ومن يذهب للقمار ويتحرك إليه لا يمكن أن يقف إلا إذا جاءت له قوة توقفه عن ذلك وتمنعه، إذن فالقوة الشرعية تكون في المنهج ب «افعل» ليحرك الساكن، و «لا تفعل» ليقف المتحرك شريطة أن يكون كل من السكون والحركة في ضوء المنهج.
ولنعرف أن الله سبحانه وتعالى يسخر لنا الكافرين ليبينوا لنا المستغلق علينا في قوانين الكون، فقد اكتشفوا قوانين القوة المادية وفهمناها نحن في إطار الماديات والمعنويات، وليس اكتشاف الكافرين للقوانين في الكون مدعاة للكسل والاعتماد عليهم، بل علينا أن نشحذ الهمم لنتقدم في العلم الذي يُسير أمور الحياة، ولنعلم أنه لا شيء ينشىء فينا فطرة جديدة؛ لأن البشر من قديم مفطورون على الفطرة السليمة التي تلفتهم إلى أن لهذا العالم صانعاً، فكل ذراتنا وكل اتجاهاتنا تؤكد لنا وجود إله واحد. بل إن الفلاسفة حينما بحثوا وارء المادة تأكد لهم ذلك، وأغلب الفلاسفة كانوا غير مؤمنين، وهم ببحثهم وراء المادة إنما يبحثون عن الخالق الأعظم؛ لأن الإنسان لا يبحث عن شيء لا يظن وجوده. ولأنهم جميعا يعلمون أن الإنسان طرأ على كون، وهذا الكون مقام بهندسة حكيمة، ومخلوق بقوة لا تستطيع قوى البشر جميعا أن تأتي بمثلها، إذن لابد لهذا الكون من الخالق.
لقد بيّنا أن القوانين التي تظهر لنا في المادة تتماثل مع قوانين القيم، إلا أن الناس يتهافتون على قانون المادة لأنها تحقق لهم خيراً أو تدفع عنهم شرا، فيأخذون ما ينفعهم ويدعون ويتركون ما يضرهم، ولذلك احتاج الإنسان إلى منهج من السماء ليوضح ويبين له قوانين القيم التي تحقق له السعادة العاجلة في الدنيا والآجلة في الآخرة، أما قوانين المادة في الأرض فتركها الله لنشاط العقل، حتى الذين لا يؤمنون بالله يذهبون إلى قوانين المادة ويصنعونها، ويتهربون من قوانين القيم لأنها تحد من شهوات النفس، وتتعب بمشقة التكليف، فشاء الحق
سبحانه وتعالى أن يقول فيها: {
…
خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171]
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطي من قانون المادة ما يقرب لنا قوانين القيم في الفعل ورد الفعل، لنفهم أن كل حركة للشر قد تحبها النفس لأنها تحقق لها شهوة من شهواتها، لكن يجب ألا يغيب عن ذهنك أيها الإنسان أن لكل فعل رد فعل مساوياً له في الحركة ومضاداً له في الاتجاه، فإن كنت ترتاح في هذا العمل وتحبه وتشتهيه فتذكر جيداً رد الفعل الذي يأتيك بالعقاب عليه، وكذلك مشقات التكليف، حين تفعل الطاعة تكون صعبة عليك ولكن يجب أن تذكر رد الفعل فيها وهو الراحة وحسن الثواب، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:{كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية} [الحاقة: 24]
وفي هذا القول فعل ورد فعل، الفعل هو العمل الصالح في الأيام التي مضت، ورد الفعل هو الطعام والشراب الهنيء في الآخرة. ولمن اغتر واعتز بنفسه وجبروته وقوته يقول له الحق: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً
…
} [التوبة: 82]
وهكذا نجد البكاء الكثيف الشديد الكثير نتيجة للضحك القليل.
ويأتي الإنسان من هؤلاء يوم القيامة ليقال له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49]
إن كنت قد فهمت أنك عزيز كريم فأسأت إلى الناس فلسوف تتلقى العقاب.
ولذلك يقول لنا الحق عن المنهج: {واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وإياكم أن تطرأ عليكم الغفلة من هذه الناحية، فالذي يتعب الناس في مناهج الله أنهم يغفلون عنها؛ لأن الطاعة تكلفهم مشقة وبعض عناء، والمعاصي تكسبهم لذة وشهوة، فأوضح الحق: اذكروا جيدا الفعل ورد الفعل في هذه القيم.
ونعلم أن الذِّكْر يحتاج إلى أشياء كثيرة جدا، فالواعظ مثلاً يذكرهم دائماً، وقلنا إن «الوعظ» هو نوع من إعادة التذكير بالإعلام بالحكم، فأنا أعظ من عَلِمَ الحكم؛ لأني أريد أن يفعله، فبعد أن علمه الموعوظ علماً فقط يريد منه الوَاعظ أن ينفذه عملياً. فكلنا نعلم أن الصلاة ركن، وأن الحج ركن، والزكاة ركن من أركان الإسلام، وكلنا جاءنا العلم بذلك، لكن منا من يكسل في تطبيق هذا العلم. ونظل ندق على دماغه بالتذكير والوعظ، وهذا من خيرية أمته صلى الله عليه وسلم َ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
…
} [آل عمران: 110]
ولماذا هذا التذكير؟ . يجيب الحق: {تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر
…
} [آل عمران: 110]
الأمر بالمعروف عظة قولية، والنهي عن المنكر عظة قولية، ويعددها الرسول صلى الله عليه وسلم َ لبقاء التذكير، وليأخذ كل مسلم منهج الله بقوة، فيقول في الحديث:
«من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان» .
إذن فقد نقل الرسول المسألة من الأمر وهو القول والنهي وهو قول أيضاً إلى أن نباشرها فعلاً، فإن لم يستطع الإنسان منا تغيير المنكر بلسانه أو بيده فلينكره بقلبه، ونجد القرآن قد جاء بها أمراً ونهياً، والرسول جاء بها فعلاً، لأن هناك فرقاً بين
المعلومة التي تدخل الذهن، وحمل النفس على مطلوب المعلومة. ولذلك نحن ندرس الدين في مدارسنا، وندرس فيها أيضا الجبر والهندسة، والكيمياء والطبيعة، والمتعب ليس تدريس الدين، بل الذي يتعب الناس هو حمل النفس على مطلوب الدين. لكن التلميذ حين يتعلم الجبر والهندسة أو الكيمياء، فهذه علوم تعطي الإنسان خير الدنيا فيذهب لها، لكن مسألة الدين مسألة قيم؛ لذلك لا يكفي أن نعلم الدين بل لابد أن تنفذ ذلك العلم، وتنفيذ هذه المسألة يكون بالتطبيق في سلوك من أسوة حسنة وقدوة طيبة.
وهب أن الذي يُعلم الدين يدرسه معلومة ويدخلها في نفوس التلاميذ، ثم لا يجدون من أثر هذه المعلومة نضحاً على سلوك مَن علَّمها، ماذا يكون الموقف؟ . هنا تضعف ثقة التلميذ في أستاذة، وتضعف ثقته في الدين؛ لأنه لم ير من الدين إلا كلاماً يقال، بدليل أن من يقولونه لا ينفذونه، وفي هذا فشل في تعليم منهج الدين، والخطأ إذن أن الناس يظنون أن منهج الدين يقف عند تعليم المعلومات الدينية، لا.
إن تعليم الدين يقتضي تنفيذ ما فيه من معلومات، عكس العلوم الأخرى التي تعطي المعلومة فقط. وإن أراد الإنسان أن ينتفع بها في حياته انتفع، وإن لم يرد فهو حر في ذلك.
إذن فالتذكير مرة يكون بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، ومرة يكون بالفعل، «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه» وماذا يعني التغيير باللسان؟ . يعني أن الإنسان إن كان عنده حسن تأد واستعداد للعظة ومعرفة أدب النصح فله أن يقبل على تناول العظة. وليس كل إنسان صالحا لأن ينصح؛ لأن المنصوح يخالف المنهج، والناصح يقف أمامه حتى لا يخالف المنهج، إنه يخرجه عما ألف وأحب، لذلك يجب أن يتلطف الناصح في النصح.
ومثال ذلك نجد الطبيب حين يذهب إليه المريض يصف له الدواء، والدواء قديماً كان كله مرًّا. وكانت الناس تأخذ الدواء بصعوبة، ويمسك الكبار الأطفال ليعطوهم الدواء. وحين ارتقت صناعة الدواء، قام الصيادلة بتغليف جرعة الدواء بغلاف يحجب المرارة. ليتلطفوا مع مريض الجسم، فما بالنا بمريض القيم؟ . إنه يحتاج إلى المسألة نفسها. لذلك لابد أن نجعل النصح خفيفاً، ولا نجمع على المنصوح بين
أن نخرجه عما ألف وما يكره من الأساليب، ولذلك قلنا: إن النصح ثقيل، لأنك حين تنصح إنسانا فمعنى ذلك أنك افترضت أنك أفضل سلوكاً منه، وهو أقل منك في ذلك، وهذا هو أول مطب، وينظر لك المنصوح على أنك تفهم أحسن منه. ولهذا قالوا في الأثر: النصح ثقيل فلا ترسله جبلا، ولا تجعله جدلاً. وقيل أيضا: الحقائق مرة فاستعيروا لها خفة البيان. هكذا يكون التذكير، وإن لم تستطع أن تمنع بالفعل فامنع بالقول؛ لأن التغيير باليد يحتاج إلى سلطة المغيِّر على المغيَّر، وهذا لا يأتي إلا بأن يكون للمغير مقدمة وسابقة مع المغيَّر يثبت فيها المغيِّر أنه يحب مصلحة المغيَّر. وقد يكون ذلك وارداً من غير أن تقول. كأن تكون أباه أو أمه، والأب والأم يقومان برعاية الابن، وتلبية احتياجاته طعاماً ومشرباً ومسكناً ومصروفاً. وكل منهما هو المتولي لمصالح الابن. وإذا كان الناصح ليس له هذه الصلة بالمنصوح، فعليه أن يتلطف له أولاً بما يحب. فحين يطلب منك أمراً تقوم بإجابته إلى طلبه، وتنبهه بعد ذلك إلى ما تريد أن تنصحه إنك قد قدمت له شيئاً من المعروف فيتحمل منك النصح.
ومثال آخر: افرض أن ابنك قد طلب منك أن تحضر له ساعة، وبعد ذلك قالت لك أمه: إنه لم يستذكر دروسه حتى الآن. ثم تأتي له بالساعة وتقول له: يا ولد أنت أردت مني ساعة وأحضرتها لك، وتناولها له وتقول: إن أمك قالت لي إنك غير مهتم بدروسك، ولو تذكرت قولها لما أحضرت لك الساعة.
وقد توجه له توبيخاً فيضحك لأنك قد حننت قلبه، وبينت له أنك تحبه فيقبل النصح، حتى ولو صفعته قد يقبل لأنه يعلم أنك تحب مصلحته. إذن للتذكير ألوان متعددة: عظة بالقول، وتغيير بالفعل وإنكار بالقلب.
{واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} والأصل في التقوى أن تتقي شيئاً بشيء؛ تتقي مؤلماً بجعل وقاية بينك وبينه، وهي تأتي كما علمنا في المتقابلات؛ فالحق سبحانه يقول:{واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]
وهو سبحانه وتعالى يقول: {
…
واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189][آل عمران: 130]
ونجد من يتساءل: كيف يقول: «اتقوا الله» ، «واتقوا النار» ؟
نقول: نعم؛ لأن اتقوا الله تعني اتقوا غضب الله عليكم، واتقوا عذاب الله لكم بأن تجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية، ولابد أن تجعل بينك وبين النار وقاية؛ لأن الحق سبحانه وتعالى كما علمنا لَه صفات جلال وصفات جمال، وصفات الجمال هي التي تسعد الإنسان ككونه - سبحانه - «غفوراً» ، و «رحيماً» ، «باسطاً» ، وكما أن لله صفات جمال تعطيك الرغبة والإقبال عليه - سبحانه - فله صفات جلال تعطيك الرهبة، فهو - جل شأنه - جبار منتقم. فاتق الله حتى تحجب عن نفسك متعلقات صفات الجلال التي منها جبار منتقم.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن
…
}
وإذ تنصرف إلى الزمن، أي اذكر وقت أن أخذ الله من بني آدم، والآخذ هو الله، والمأخوذ منه بنو آدم، والشيء المأخوذ هو ذريتهم، هذه هي العناصر. ولنتأمل
ذلك بدقة، إن الرب هنا هو الآخذ، وبنو آدم مأخوذ منهم، والمأخوذ هو الذرية. وبنو آدم هم أولاد آدم من لدنه إلى أن تقوم الساعة، وهنا اتحد المأخوذ والمأخوذ منه، ولابد أن نرى تصريفاً في هذا النص؛ لأنه يشترط أن يكون المأخوذ منه كلاً، والمأخوذ بعضه.
والمثال: إن أنا أخذتُ منك شيئاً، فالمأخوذ منه هو الكل، والمأخوذ بنفسه هوالبعض. لكننا هنا نجد المأخوذ هو عين المأخوذ منه، وأزال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ هذا الإشكال في هذه الآية فقال صلى الله عليه وسلم َ فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه:
إذن ذرية آدم أُخذت من ظهر آدم. وعرفنا من قبل أنّ كُلاً منا قبلَ أن تحملَ به أمّه كان ذَرَّةً في ظهر أبيه، وأبوه كان ذرّة في ظهر أبيه حتى آدم. وهكذا نجد أنَّ كل واحد مأخوذ من ظهره ذرية، هناك أناس يؤخذون - كذرية - ولا يؤخذ منهم، مثًل من فرض عليهم الله أن يكون الواحد منهم عقيماً، وكذلك آخرُ جيل تقومُ عليه الساعة، ولن ينجبوا. وآدم مأخوذ منه لأنه أول الخلق، وهو غير مأخوذ من أحد. وما بين الأب آدم وآخر ولد؛ مأخوذ ومأخوذ منه. وبذلك يكون كل واحد مأخوذ ومأخوذ منه، وهكذا يستقيم المعنى.
والمأخوذ منه آدم ثم كل ولد من أول أولاد آدم إلى الجيل الأخير الذي سينقطع عن النسل.
وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم َ: أن ربنا سبحانه وتعالى مسح بيده على ظهر آدم وأخرج منه الذرية، وقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. وبهذا عَلمْنا أنَّ كل ذرّة من الذرات قد أُخذت مما قبلها، وأُخذ منها ما بعدها؛ وكلها مأخوذ ومأخوذ منه، اللهم إلا القوسين؛ القوس الأول: آدم لأنه مأخوذ منه وليس مأخوذاً من شيء، والقوس الثاني: آخر ولد من أولاده مأخوذ وليس مأخوذاً منه؛ لأن الإنسان منا وُجد من حيوان أبيه المنويّ.
ولو أن الحيوانَ المَنَويَّ أصابه موت لما أنجب الأب. ومن وُلد من حيوان مَنَوِيَّ لأب، هذا الأب مأخَوذ من حيوان مَنَوِيَّ حيّ من الجد أيضاً، وسلسلها إلى آدم؛ ستجد أن كل واحد منا فيه جزيء حَيّ من لدن آدم لن يدركه موت أبداً.
لذلك يقول ربنا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ
…
} [الأعراف: 172]
ولا تقل إن الكل سيكون في ظهره؛ لأن المأخوذ منه هو الأساس الموجود في ظهره، ومادام كل شيء يتكاثر فهو قد وجد من أقل شيءٍ ونعلم أن الأقل يوجد فيه الأكثر مطموراً. وقد أخذ ربنا من ظهور بني آدم الذرية وخاطب الذرية بقوله تعالى:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ؟ .
وهنا قد يقول قائل: أكان لهذه الذرية القدرة على النطق؛ إنها ذرية تنتظر التكوين الآخر؛ لتتحد مثلاً ب «البويضة» في رحم الأم؟ فنرد عليه ونقول: لماذا تظن أن مخاطبة ربنا لهم أمرُ صعب؟ إن الواحد من البشر يستطيع أن يتَعلَّم عَشْرَ لغاتٍ، ويتزوجَ من أربع سيدات، وكل سيدة ينجب منها ذرية، ويقعد يوماً عند سيدة وذريتها ويعلمهَا اللغة الإنجليزية مثلا، ويجلس مع الأخرى ويعلمها اللغة الألمانية، ويعلم الثالثة وأولادها اللغة العربية وهكذا، بل يستطيع أن يتفاهم حتى
بالإشارة معَ من لا يعرف لغته، وإذا كان الإنسانُ يستطيع أن يعدد وسائل الأداء، ألَا يقدر أن يعدد وسائل الأداء لمخلوقاته؟ إنه قادر على أن يعدد ويخاطب، ألم يقل الحق تبارك وتعالى للجبال: {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ
…
} [سبأ: 10]
كيف إذن لا يتسع أفق الإنسان لأن يدرك أن الله قادر على أن يخاطب أيّاَّ من مخلوقاته؟ . إنه قادر على أن يخاطب كل مخلوق له بلغة لا يفهمها الآخر. وهو القائل سبحانه: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ
…
} [الأنبياء: 79]
ونعلم أن القرآن الكريم كذلك أن الجبال تسبح أيضاً من غير داود، شأنها شأن المخلوقات جميعها مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
…
} [الإسراء: 44]
وحتى ذرات يد الكافر تسبح، وإن كان تسبيحها لا يوافق إرادته.
وقول الحق سبحانه: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ}
يبين لنا أن الجبال كانت تردد تسبيح داوود وتلاوته للزبور، ولا يقتصر أمر الحق إلى الجبال بل إلى كل مخلوق، فنحن - على سبيل المثال - نقرأ في القرآن الكريم أن ربنا اوحى إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً من الشجر ومما يعرشون. إذن فلله مع خلقه أدوات خطاب؛ لأنه هو الذي خلق الكون والمخلوقات، وله سبحانه خطاب بألفاظ، وخطاب إشارات، وخطاب بإلهام، وخطاب بوحي، فإذا قرأنا أن الحق تبارك وتعالى قال لذرية آدم: ألست بربكم؟ فهذا يعني أنه قالها
لهم باللغة التي يفهمونها، لأنه هو سبحانه الذي قال للسماء والأرض:
{
…
ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11]
ولقد تكلمت النملة وفهم سليمان كلامها، ولو لَمْ يُعْلِم اللهُ سليمانَ كيف يفهم كلامها لما عرفنا أنها تكلمت: {قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ
…
} [النمل: 18]
إنها تفهم ما يفعله البشر حين يدوسون على كائنات صغيرة دون أن يروها، ولكن سليمان نبي من أنبياء الله، ولن يعتدي على خلق الله، والنملة التي تكلمت كانت تحرس بقية النمل. وكذلك تكلم الهدهد ليخبر سيدنا سليمان عن مملكة سبأ وحالة بلقيس وقومها.
إذن فالله عز وجل يخاطب جميعَ خلقه، ويجيبُه جميعُ خلقه، فلا تقل: كيف خاطب المولى سبحانه الذر، والذَر لم يكن مكلفاً بعد؟ ولم يحاول العلماء أن يدخلوا في هذه المسألة؛ لأنها في ظاهرها بعيدة عن العقل، ويكفي أن ربنا الخالق القادر قد أبلغنا أنه قد خاطب الذرات قائلا: ألست بربكم؟ . قالوا: بلىَ. ويبدو من هذا القول أن المسألة تمثيل للفطرة المودعة في النفس البشرية. وكأنه سبحانه قد أودع في النفس البشرية والذات الإنسانية فطرةً تؤكد له أنَّ وراءَ هذا الكونِ إلهاً خالقاً قادرا مدبرا.
وقديماً قلنا: هب أنَّ طائرةً وقعت في صحراء، وحين أفقت من إغماءة الخوف؛ فكرّت في حالك وكيف أنك لا تجد طعاماً أو شراباً أو أنيساً، وأصابك غمٌّ من هذه الحالة فنمت، ثم استيقظت فوجدت مائدة عليها أطايب الطعام والشراب، ألا تتلفت لتسأل من الذي أقام لك هذه المأدبة قبل أن تمد يدك إلى أطايب الطعام؟ . كذلك الإنسان الذي طرأ على هذا الكون الحكيم الصنع؛ البديع
التكوين؛ ألا يجدرُ بهِ أن يسأل نفسه من خلق هذا الكون؟ .
إننا نعلم أن المصباح الكهربي احتاج لصناعته إلى علماء وصناع مهرة كثيرين وإلى إمكانات لا حصر لها لينير هذا المصباح حجرة محدودة، وحين نرى الشمس تنير الكون كله، ولا يصيبها كللٌ أو تعبٌ ولا تحتاج منا إلى صيانة، ألا نسأل من صنعها؟ وخصوصاً أنَّ أحداً لم يدَّع أنه قد صنعها، وقد أبلغنا المولى سبحانه وتعالى بأنه هو الذي خلق الأرض وخلق الشمس وخلق القمر، فإما أن يكون هذا الكلام صحيحاً؛ فنعبده، وإما لا يكون الكلام صحيحاً فنبحث عمن صنع وخلق الكون لنعبده.
وبما أن أحداً لم يَدَّعِ لنفسه صناعة هذه الكائنات، فهي تسلم لصاحبها وأنه لا إله إلا الله. إذن فالفطرة تهدينا أن وراء هذا الكون العظيم قدرةً تناسب هذه العظمة؛ قدرة تناسب الدقة؛ هذه الدقة التي أخذنا منها موازين لوقتنا؛ فقد أخذنا من الأفلاك مقياساً للزمن؛ ولولا حركة الأفلاك التي تنظم الليل والنهار؛ لما قسمنا اليوم إلى ساعات، ولولا أن حركة الأفلاك مصنوعة بدقة متناهية؛ لما استطعنا أن نَعُدَّها مقياساً للزمن.
وحينما نستعرض قول الحق سبحانه وتعالى: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5]
نجد أن كلمة «بحسبان» وردت مرتين، فقد أبلغنا الحق سبحانه وتعالى: أنه جعل الشمس والقمر بحسبان، أو حسبانا، وهما من الآيات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه ولم يخلقهما عبثا بل لحكمة عظيمة. {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب
…
} [يونس: 5]
فقد أخذنا من دورة الشمس والقمر مقياساً، ولم نكن لنفعل ذلك إلا أن كانت مخلوقة بحساب؛ لأن الكون مصنوع ومخلوق على هذه الدرجة من الدقة
والإحكام لهذا يجب أن نلتفت إلى أن هناك قدرة وراء هذا العالم تناسب عظمته. لكن أنعرف ماذا تريد هذه القوة بالعقل؟ إن أقصى ما يهدينا العقل هو أن نعرف أنَّ هناك قوةً ولا يعرف العقل اسم هذه القوة، وكذلك لم يعرف العقل مطلوبات هذه القوة، وكان لابد أن يأتي لنا رسولٌ من طرف تلك القوة ليقول لنا مرادَها، وجاء الموكب الرسالي فجاءت الرسل ليبلغ كلُّ رسولٍ مرادَ الحق من الخلق، فقال كلُّ رسول: إن اسم القوة التي خلقتكم هو الله، وله مطلق التصرف في هذا الكون، ومراد الحق من الخلق تعمير هذا الكون في ضوء منهج عبادة الحق الذي خلق الإنسان والكون. وكل هذه الأمور ما كانت لتدرك بالعقل.
وهكذا نعلم أن منتهى حدود العقل هو إيمانٌ بقوةٍ خالقه وراءَ هذا الكون، وتستوي العقول الفطرية في هذه المسألة. أما اسم القوة والمنهج المطلوب لهذا الاله فلابد له من رسول.
وأرهق الفلاسفة أنفسهم في البحث عن هذه القوة ومرادها. وسموها مجال البحث «الميتافيزيقا» أي «ماوراء الطبيعة» وعادة ما يقابل الفلاسفة من يسألهم من أهل الإيمان: ومن الذين قال لكم إن وراء المادة قوة يجب أن تبحثوا عنها؟ .
وغالباً ما يقول الفيلسوف منهم: إنها الفطرة التي هدتني إلى ذلك. وتشعبت الفلسفة إلى مدارس كثيرة. وحاول أهل الفلسفة أن يتصوروا هذه القوة، وهذا هو الخلل؛ لأن الإنسان يمكنه أن يعقل وجود القوة الخالقة، ولا يمكن له أن يتصورها. وغرق الكثيرون من الفلاسفة في القلق النفسي المدمَّر. وأنقذ بعضهم نفسه بالإيمان. وكان يجب على كل فيلسوف أن يرهف أذنه ويسمع ما قاله الرسل ليحلّوا لنا هذا اللغز، بدلاً من إرهاق النفس بالخلط بين تعقل وجود قوة وراء المادة، وبين تصور هذه القوة.
وإنني في هذا الصدد أضرب هذا المثل وأرجو آلا تنسوه أبداً: إننا إذا كنا قاعدين في حجرة، والحجرة مغلقة الأبواب. ودق الجرس وكلنا يجمع على أن طارقاً بالباب؛ وهذا الشيء المجمع عليه من الكل يَعدُّ تعقلاً، لكن أنستطيع
أن نتصور من الطارق؟ رجل؟ امرأة؟ شاب؟ شيخ؟ .
المؤكد أننا سنختلف في التصور وإن اتحدنا في التعقل.
ونقول للفلاسفة: أنتم أولى الناس بأن ترهفوا آذانكم لمجيء رسول يحل لكم لغز هذا الكون، واسم القوة التي وراء هذا الكون، ومطلوب هذه القوة منا.
والحق سبحانه وتعالى يهدينا إلى هذا عبر الرسل، ويقول هنا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ
…
} [الأعراف: 172]
وهذه شهادة الفطرة، ونحن نرى أن الفطرة تكون موجودة في الطفل المولود الذي يبحث بفمه عن ثدي أمه حتى ولو كانت نائمة ويمسك الثدي ليرضع بالفطرة وبالغريزة، وهذه الفطرة هي التي تصون الإنسان منا في حاجات كثيرة، وفي رد فعل الانعكاسي؛ مثال ذلك حين تقرب أصبعك من عين طفل، فيغمض عينيه دون أن يعلمه أحد ذلك.
وقد أشهدنا الحق على وحدانيته ونحن في عالم الذر: {وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ}
ويقال «أشهدته» أي جعلته شاهداً، والشهادة على النفس لَوْنٌ من الإقرار، والإقرار سيد الأدلة؛ لأنك حين تُشهد إنساناً على غيره؛ فقد يغيّر الشاهد شهادته، ولكن الأمر هنا أن الخلق شهدوا على أنفسهم وأخذ الله عليهم عهد الفطرة خشية أن يقولوا يوم القيامة:{إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ}
فحين يأتي يوم الحساب، لا داعي أو يقولَن أحد إنني كنت غافلاً.
ويتابع المولى سبحانه: وتعالى قوله: {أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا
…
}
كأن الحق يريد أن يقطع عليهم حجة مخالفتهم لمنهج الله، فينبه إلى عهد الفطرة والطبيعة والسجية المطمورة في كل إنسان؛ حيث شهد كل كائن بأنه إلهٌ واحدٌ أحَدٌ، ويذكرنا سبحانه بهذا العهد الفطري قبل أن توجد أغيار الشهوات فينا.
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} وهل كان أحد من الذر وهو في علم الله وإرادته وقدرته يجرؤ على أن يقول: لا لست ربي؟ . طبعاً هذا مستحيل، وأجاب كل الذر بالفطرة «بلى» . وهي تحمل نفي النفي، ونفي النفي إثبات مثل قوله الحق:{أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} [التين: 8]
و «أليس» للاستفهام عن النفي؛ ولذالك يقال لنا: حين تسمع «أليس» عليك أن تقول «بلى» وبذلك تنفي النفي أي أثبتّ أنه لا يوجد أحكم الحاكمين غيره سبحانه، وهنا يقول الحق:«ألست بربكم» ؟ وجاءت الإجابة: بلى شهدنا. ولماذا كل ذلك؟ قال الحق ذلك ليؤكد لكل الخلق أنهم بالفطرة مؤمنون بأن الله هو الرب، والذي جعلهم يغفلون عن هذه الفطرة تحرُّك شهواتهم في نطاق الاختيار، ومع وجود الشهوات في نطاق الاختيار إن سألتهم من خلقهم؟ يقولون: الله، ومادام هو الذي خلقهم فهو ربهم.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله
…
} [العنكبوت: 61]
وجاء الحق بقصة هذه الشهادة حتى لا يقولَنَّ أحدُ: {إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ}
وبذلك نعلم أن أعذار العاصين وأعذار الكافرين التي يتعللون ويعتذرون بها تنحصر في أمرين اثنين: الغفلة عن عهد الذر، وتقليد الآباء.
وما الغفلة؟ وما التقليد؟ . الغفلة قد لا يسبقها كفر أو معصية، ويقلدها الناس الذين يأتون من بعد ذلك. والمثال الواضح أن سيدنا آدم عليه السلام قد أبلغ أولاده المنهج السوي المستقيم لكنهم غفلوا عنه ولم يعد من اللائق أن يقول واحد منهم إن أباه قد أشرك. ولكن جاء هذا الأمر من الغفلة، ثم جاء إشراك الآباء في المرحلة الثانية؛ لأن كل واحد لو قلد أباه في الإشراك؛ لانتهى الشرك إلى آدم، وآدم لم يكن مشركاً، لكن الغفلة عن منهج الله المستقيم حدثت من بعض بني آدم، وكانت هذه الغفلة نتيجة توهم أن هناك تكاليف شاقةً يتطلبها المنهج، فذهب بعض من أبناء آدم إلى ما يحبون وتناسوا هذا المنهج ولم يعد في بؤرة شعورهم؛ لأن الإنسان إنما ينفذ دائماً الموجود في بؤرة شعوره. أما الشيء الذي سيكلفه مَشقَّة فهو يحاول أن يتناساه ويغفل عنه، هكذا كانت أول مرحلة من مراحل الانفصال عن منهج الله وهي الغفلة في آبائهم. وهنا يضاف عاملان اثنان: عامل الغفلة، وعامل الأسوة في أهله وآبائه. ولم تكن القضايا الإيمانية في بؤرة الشعور، ولذلك يقال: الغالب ألا ينسى أحد ما له ولكنه ينسى ما عليه؛ لأن الإنسان يحفظ ما له عند غيره في بؤرة الشعور، ويُخرج الإنسان ما عليه بعيداً عن بؤرة الشعور.
ولأن البعض قد يتصور أن في التكليف الإِيماني مشقة، لذلك فهو يحاول أن يبعد عنه وينساه، وكذلك يحاول هذا البعض أن ينأى بنفسه عن هذه التكاليف.
ونأخذ المثل من حياتنا: قد نجد إنساناً مَدِيناً لمحل بقالة أو لنجاَّرٍ وليس عنده مال يعطيه له، لذلك يحاول أن يبتعد عن محل هذا البقال، أو أن يسير بعيدا عن
أعين النجار. وهكذا يكون افتعال الغفلة في ظاهره هو أمراً مَنْجِياً من مشقات التكاليف، لكن البشر في ميثاق الذر قالوا:{بلى شَهِدْنَآ}
وقد أُخِذَ ذلك العهدُ عليهم، وأُقرُّوا به واستشهد الحقُّ بهم، على أنفسهم حتى لا يقولوا يوم القيامه {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} لأنه لا يصح أن نغفل عن هذا العهد أبداً، ولكنَّ الحقَّ تبارك وتعالى عرَفَ أنَّنا بشرٌ، وقال في أبينا آدم: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلىءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ
…
} [طه: 115]
ومادام آدم قد نسي، فنسيانه يقع عليه حيث بيَّن وأوضح لنا الإسلام أن الأمم السابقة على الإسلام تؤخذ بالنسيان، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بخبر واضح: فقال عليه الصلاة والسلام ُ:
«رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»
والخطأ معلوم، كأن يقصدَ الإنسانُ شيئاً ويحدث غيرهُ، والنسيانُ ألَاّ يجيءَ الحكمُ على بال الإنسان. والمُكْرَهُ هو من يقهره من هُو أقْوى منه بفقدان حياته أو بتهديد حريته وتقييدها ما لم يفعل ما يؤمر به، وفي الحالات الثلاث يرفع التكليف عن المسلم. وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم َ أن الله أكرم الأمة المحمدية بصفة خاصة برفع ما ينساه المسلم. وهذا دليل على أن من عاشوا قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ كانوا يؤاخذون به. وإذا سلسلنا من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ نصل إلى سيدنا آدم الذي خُلق بيد الله المباشرة، بينما نحن أبناء آدم مخلوقون بالقانون؛ أن يوجد رجل وتوجد امرأة وتوجد علاقة زوجية فيأتي النسل.
وقد كلف الله آدم في الجنة التي أعدها له ليتلقى التدريب على عمارة الأرض بأمر ونهي؛ فقال له سبحانه وتعالى:
{وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هذه الشجرة
…
} [البقرة: 35]
إذن فقصارى كل تكليف هو أمر في «افعل» ، ونهي في «لا تفعل؛، وقد نسي آدم التكليف في الأمر الواحد البسيط وهو المخلوق بيد الله والمكلف منه بأمر واحد أن يأكل حيث يشاء ويمتنع عن الأكل من الشجرة، وإن لم يتذكر آدم ذلك، فما الذي يتذكره؟ وما كان يصح أن ينسى لأنه مخلوق بيد الله المباشرة ومكلف من الله مباشرة، والتكليف وإن كان بأمرين؛ لكن ظاهر العبء فيه على أمر واحد؛ الأكل من حيث شاءا هو أمر لمصلحة آدم، و» لا تقرب «هو تكليف واحد.
- ولذلك قال الحق في آية أخرى: {
…
وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121]
وهو عصيان لأنه نسيان لأمر واحد، ما كان يصح أن ينساه. لعدم تعدده ويقول الحق تبارك وتعالى:{أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 173]
جاء هذا القول لينبهنا إلى أن الغفلة لا يجب أن تكون أسوة لأن التكاليف شاقة، والإنسان قد يسهو عنها فيورث هذا السهو إلى الأجيال اللاحقة فيقول الأبناء:{أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} .
وهذا يعني أن إيمانهم هو إيمان المقلد، رغم أن الحق قد أرسل لهم البلاغ، وإذا كان الآباء مبطلين للبلاغ بالمنهج فلا يصح للأبناء أن يغفلوا عن صحيح الإيمان.
ويقول الحق بعد ذلك: {وكذلك نُفَصِّلُ
…
}
والآيات التي فصلها الحق هنا هي العهود الخاصة، ورفع الجبل ليأخذوا التوارة بقوة، وكذلك العهد العام الذي اشترك فيه كل الخلق من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة، وجاء سبحانه بكل ذلك ليؤكد لهم أن قضية الإيمان عقيدةً يجب أن تكون في بؤرة الشعور، فمن غفل فليتذكر، ومن قلد آباه في شيء مخالف للمنهج القويم، فليرجع عن هذا التقليد؛ لأن التكاليف الإيمانية تكاليف ذاتية، وسبحانه لا يكلفك وأنت في حاجة إلى أبيك، أو إلى أمك. لكنه يكلفك من بعد البلوغ؛ لأنك بعد البلوغ تستقل بذاتيتك استقلالا كاملا مثل والدك، ومادمت مكتمل الرجولة كوالدك وصالحا للإنجاب فلا ولاية إيمانية لأبيك عليك أبداً، فلا تقل إنني أقلد أبي ولو كان على غير المنهج السليم؛ لأن مثل هذا القول يمكن أن يكون مقبولاً لو كان التكليف للإنسان وهو في دور الطفولة، حيث الأب يسعى لإطعام أبنائه ورعايتهم، لكن التكليف لا يأتي للإنسان إلا بعد البلوغ، ومعنى بعد البلوغ: أنك صالح لإنجاب مثلك ورعاية نفسك.
ولذلك يطلب الحق سبحانه وتعالى من الآباء أن يدربوا أبناءهم ويعودوهم على مطلوبات التكليف قبل مجيء أوان تكليف الله، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام ُ:
الأب إذن يأمرُ ويُعاقب قبل أوان التكليف ليتدرب الأبناء عليه ويصير دربة سهلة لا يتعب منها الإنسَان بعد البلوغ. {وكذلك نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
أي أن على الغافل أن يرجع عن غفلته فيتذكر، وأن يرجع المقلد لآبائه
عن التقليد، ويقتنع اقتناعاً، مصداقاً لقوله الحق: {لَاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً
…
} [لقمان: 33]
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ
…
}
ولأنهم قالوا: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} ، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا خبر هؤلاء فيقول:{واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذيءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا} .
والنبأ هو الخبر المهم وله جدوى اعتبارية ويمكن أن ننتفع به وليس مطلق خبر. ولذلك يقول سبحانه وتعالى عن اليوم الآخر: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم} [النبأ: 1 - 2]
كما يقول {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذيءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا} ، كأن هذا النبأ كان مشهوراً جداً، ويقال: إنه قد قيل في «ابن بعوراء» أو أمية بن أبي الصلت، أو عامر الراهب، أو هو واحد من هؤلاء، والمهم ليس اسمه، المهم أنّ إنساناً آتاه الله آياته ثم انسلخ من الآيات، فبدلاً من أن ينتفع بها صيانة لنفسه، وتقرباً إلى ربه {فانسلخ مِنْهَا} واتبع هواه ومال إلى الشيطان.
وكلمة «انسلخ» دليل على أن الآيات محيطة بالإنسان إحاطة قوية لدرجة أنها تحتاج جبروت معصية لينسلخ الإنسان منها؛ لأن الأصل في السلخ إزاحة جلد
الشاة عنها، فكأن ربنا يوضح أنه سبحانه وتعالى أعطى الإنسان الآيات فانسلخ منها، وهذا يعني أن الآيات تحيط بالإنسان كما يحيط الجلد بالجسم ليحفظ الكيان العام للإنسان؛ لأن هذا الكيان العام فيه شرايين، وأوردة، ولحم، وشحم، وعظام. وجعل الله التكاليف الإيمانية صيانة للإنسان، ولذلك سمي الخارج عن منهج الله «فاسقاً» مثله مثل الرطبة من البلح، فبعد أن تضرب الشمس البلحة يتبخر منها بعض من الماء، فتنكمش ثمرة البلحة داخل قشرتها وتظهر الرطبة من القشرة، ولذلك سمي الخارج عن المنهج «فاسقاً» من فسوق الرطبة عن قشرتها، والله عز وجل يقول هنا:{ءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا} . وكان يجب ألا يغفل عنها، لأن الإتيان نعمة جاءت ليحافظ الإنسان عليها، لكن الإنسان انسلخ من الآيات.
ونعرف جميعاً ثوب الثعبان وهو على شكل الثعبان تماماً، ويغير الثعبان جلده كل فترة، ولا ينخلع من الجلد القديم إلا بعد أن يكون الجلد الذي تحته قد نضج، وصلح لتحمل الطقس والجو، وكذلك حين يندلق سائل ساخن على جلد الإنسان، تلحظ تورم المنطقة المصابة وتكون بعض المياه فيها، وله أفرغ الإنسان هذه المياه تصاب هذه المنطقة بالتهاب، أما إذا تركها فهي تحمي المنطقة المصابة إلى أن يتربى الجلد تحتها وتجف وتنفصل عن الجسم، وكذلك نعلم أن الشاة - مثلاً - لا تسلخ نفسها. بل نحن نسلخها، والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار
…
} [يس: 37]
فكأن الليل كان مجلداً ومغلفاً بالنهار، والليل أسود، والنهار فيه الضوء، ونعلم أن اللون الأسود ليس من ألوان الطيف، وكذلك اللون الأبيض ليس من ألوان الطيف؛ لأن ألوان الطيف: الأحمر، البرتقالي، الأصفر، الأخضر، الأزرق، النيلي، البنفسجي، واللون الأسود يأخذ ألوان الطيف ويجعلها غير مرئية، لأنك لا ترى الأشياء إلا إذا جاءت لك منها أشعة لعينيك، واللون الأسود يمتص كل الأشعة التي تأتي عليه فلا يرتد إلى العين شعاع منها فتراه مظلماً.
والأبيض هو مزيج من
ألوان متعددة إن مزجتها مع بعضها يمكنك أن تصنع منها اللون الأبيض، وهكذا نعلم أن الأبيض مثله مثل الأسود تماماً، فالأسود يمتص الأشعة فلا يخرج منه شعاع لعينيك، والأبيض يرد الأشعة ولا يخرج منه شعاع لعينيك. وقوله الحق:{نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} كأن سواد الليل جاء يغلف بياض النهار.
وإذا انسلخ من آتاه خبر الإيمان عن المنهج يقول الشيطان: إنه يصلح لأن يتبعني، وكأن الشيطان حين يجد واحداً فيه أمل، فهو يجري وراءه مخافة أن يرجع إلى ما أتاه الله من الكتاب الحامل للمنهج، ويزكي الشيطان في نفس هذا الإنسان مسألة الخروج عن منهج ربنا.
وقلنا من قبل: إن المعاصي تأتي مرة من شهوة النفس، ومرة من تزيين الشيطان وأوضحنا الفارق، وقلنا: إن الشيطان لا يجرؤ عليك إلا إن أوضحت للشيطان سلوكك أن له أملاً فيك، لكن إن اهتديت وأصلحت من حالك فالشيطان يوسوس للإنسان في الطاعة ويحاول أن يكرهه فيها، والشيطان لا يذهب - مثلا - إلى الخمارة، بل يقعد عند الصراط المستقيم ليرى جماعة الناس التي تتجه إلى الخير، أما الاخرون فنفوسهم جاهزة له. إذن فالشيطان ساعة يرى واحداً بدأ في الغفلة عن الآيات فهو يلاحقه مخافة أن تستهويه الآيات ثانية، ولذلك لابد لنا أن نفرق بين الدافع إلى المعصية هل هو من النفس أم من نزغ الشيطان، فإن جاءت المعصية وحدثتك نفسك بأن تفعلها ثم عزت عليك تلك المعصية لأي ظرف طارئ ثم ألححت عليها ذاتها مرة ثانية، فاعلم أنها شهوة نفسك. لكن إن عزت عليك ثم فكرت في معصية ثانية فهذا من نزغ الشيطان؛ لأن الشيطان لا يريدك عاصياً بمعصية مخصوصة، بل يريدك بعيداً عن المنهج فقط، لكن النفس تريد معصية بعينها وتقف عندها، فإن رأيت معصية وقفت عندها نفسك، فاعلم أنها من نفسك، وإن امتنعت عليك معصية وتركتها، ثم فكرت في معصية ثانية. فهذا نزغ من الشيطان - ويقول الحق: {
…
فَأَتْبَعَهُ الشيطان فَكَانَ مِنَ الغاوين} [الأعراف: 175]
الغاوي والغَوِيّ هو من يضل عن الطريق وهو الممعن في الضلال، ونعلم أن الهدى هو الطريق الموصل للغاية، ومن يشذ عن الطريق الموصل للغاية يضل أو يتوه في الصحراء. وهو الذي يُسمى «الغاوي» ، ومادام من الغاوين عن منهج الله فالفساد ينشأ منه لأنه فسد في نفسه ويفْسد غيره.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه
…
}
وهنا أمران اثنان، الرفعة: وهو العلو والتسامي، ويأتي بعدها الأمر الثاني وهو الإخلاد إلى الأرض أي إلى التسفل، والفعلان منسوبان لفاعلين مختلفين.
{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ} ، والفعل رفع هنا مسند لله. ولكنه اختار أن يخلد في الأرض. وجاء الأمر كذلك لأن الرفعة من المعقول أن تنسب لله. لكن التسفل لا يصح أن يُنسب لله، وكان كل فعل هو بأمر صاحب الكون. وربنا هنا يرفع من يسير على المنهج، وحين يقول الحق تبارك وتعالى {وَلَوْ شِئْنَا} أي أنها مشيئتنا. فلو أردنا أن نرفعه كانت المشيئة صالحة، لكن هذا الأمر ينقض الاختيار، والحق يريد أن يُبقَي للإنسان الاختيار، فإن اختار الصواب فأهلا به وجزاؤه الجنة، وإن أراد الضلال فلسوف يَلْقى العذاب الحق، ولمزيد من الاعتبار بقصص القرآن اقرأ معي قصة العبد الصالح مع موسى عليه السلام:
ورغم أن موسى رسول من عند الله إلا أنه لم يتأبّ على أن عبداً من عباد الله تقرب إلى الله فاتبعه موسى ليقول له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} .
وفي هذا تأكيد على رغبة موسى أن يستزيد بالعلم ممن أعطاه الله العلم. وجاء القرآن بهذه القصة ليعلمنا أدب التعلم.
وماذا قال العبد الصالح؟ لقد عذر موسى وقال: {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 67 - 68]
أي أنك يا موسى لن تصبر لا لنقص فيك، بل لأنك سترى أمورا لا تعرف أخبارها. لكن سيدنا موسى قال له لا:{ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً} وأصرّ موسى أن يتبع العبد الصالح وأنه لن يعصي له أمرا، واشترط العبد الصالح ألا يسأله سيدنا موسى عن شيء إلا أن يحدثه العبد الصالح. وكان كل ذلك مجرد كلام نظري، فيه أخذ ورد، وحين جاء الواقع تغير الموقف تماما. بعد أن ركبوا في السفينة وخرقها العبد الصالح، لم يصبر سيدنا موسى بل قال: {
…
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف: 71]
وهكذا أثبتت التجربة العملية أن موسى لم يصبر على أفعال العبد الصالح،
وحين ذكره العبد الصالح بما وعد به من ألا يسأل، تراجع موسى، وتكرر السؤال، وتكرر التذكير. إلى أن أوضح العبد الصالح لموسى كل أسرار ما لم يحط به علما وهنا يقول الحق:{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} لماذا؟ . لأن مشيئة الله مشيئة مطلقة، يفعل ما يريده، ولكنه سبحانه قد سبق منه أن جعل للاختيار جزاءً، لهذا لم يرفعه مع أنه مخالف، لأنها سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
وسنة الله أن من عمل عملاً طيباً يثيبه الله عليه. ومن عمل سوءاً يعاقبه، ومشيئته سبحانه مطلقة، ولا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه.
وبمقضى مشيئة الله فهو يعذب المذنب بعدله ويثيب الطائع بفضله، وله سبحانه مطلق الإرادة فهو عزيز، وحكيم في كل فعل. {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ
…
} [الأعراف: 176]
و {أَخْلَدَ إِلَى الأرض} ، أي أنه اختار أن ينزل إلى الهاوية، رغم أن الحق هدى الإنسان وبين له طريق الخير ليسلكه فيصعد إلى العلو، والحق يقول: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
…
} [الأنعام: 151]
ونخطئ حين نفهم أن «تعالوا» بمعنى «أقبلوا» فقط وهذا فهم ناقص، إنها دعوة للقبول وإلى العلو، لأنه سبحانه وتعالى يشرع لنا حتى لا نلزم منهج الأرض السفلى. بل نرتقي ونأخذ منهج الله الذي يضمن لنا العلو. وكأنه سبحانه يقول: تعالوا وتساموا في أخذ منهجكم من الله العلي الأعلى وإياكم أن تأخذوا منهجكم مما وضعه البشر ويناقض ما جاء في شرع الله، لأن في هذا تسفلا ونزولا إلى الحضيض. {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ
…
} [الأعراف: 176]
ويقال: «حملت على الكلب» ، فأنت حين تجلس ويقبل الكلب عليك وتزجره وتطرده وتنهره، فهذا تفسير لقوله:«تحمل عليه» ، أي أنك تحمل عليه طرداً أو زجراً؛ لذلك يلهث، وأن تركت الكلب بدوح حمل عليه طرداً أو زجراً فهو يلهث، لأن طبيعته أنه لاهث دائماً، وهذه الخاصية في الكلب وحده، حيث يتنفس دائماً بسرعة مع إخراج لسانه.
ونعلم أن الحيوانات لا تلهث إلا أن فزعت فتجري، لتفوت من الألم أو من العذاب الذي يترصدها من كائن آخر، وحين يجري الحيوان فهو يحتاج لطاقة، فيدق القلب بشدة ليدفع الدم بما فيه من غذاء إلى كل الجسم، ولابد للقلب أن يتعاون مع الرئة التي تمد الدم بالهواء. ونلحظ أن الكائن الحي حين يجلس برتابة فهو لا يلحظ تنفسه، لكن إذا جرى يلحظ أن تجويف الصدر أو سعة الصدر تنقبض وتنبسط لتسحب «الأوكسجين» من الهواء لتصل به للدم بكمية تناسب الحركة الجديدة، فيحاول أن يتنفس أكثر. ولا تفعل الحيوانات مثل هذه المسألة إلا إذا كانت جائعة أو متعبة أو مهاجمة، لكن الكلب وحده هو الذي يفعلها، جائعا أو شبعان، عطشان أو غير عطشان، مزجوراً أو غير مزجور، إنه يلهث دائماً. ولماذا يشبهه سبحانه بالكلب اللاهث؟؛ لأن الذي يظهر بهذه الصورة تجده مكروهاً دائماً؛ لأنه متبع لهواه، وتتحكم فيه شهواته. وحين تتحقق له شهوة الآن، يتساءل هل سيفعل مثلها غداً؟ وتتملك الشهوة كل وقته، لذلك يعيش في كرب مستمر، لأنه يخاف أن يفوته النعيم أو أن يفوت هو النعيم، ويصير حاله كحال الكلب يلهث آمناً أو غير آمن، جائعاً أو غير جائع، عطشان أو غير عطشان.
{
…
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]
هكذا يكون مصير من كذَّب بالآيات.
وقول الحق: {فاقصص القصص} يوضح لنا أن الله لا يريد أن يعلمنا تاريخاً، لكنه يعلمنا كيف نأخذ العبرة من التاريخ، بدليل أنه يكرر القصة أكثر من مرة وكل مرة يأتي سبحانه بلقطة جديدة، لتعدد ما في القصة الواحدة من العبر، ولو أنه أراد أن يقص علينا التاريخ لقال لنا روايته مرة واحدة. ونجد في القرآن الكثير من قصص الحق مع الباطل، ومن قصص المبطلين مع المحقين، ومن قصص المعاندين مع الرسل؛ لأن القصة أمر واقعي، والتقنين للمناهج أمر لفظي، فيريد سبحانه وتعالى أن يوضح لنا المنهج المناسب للواقع؛ لأن واقع الحياة يعطي القصة القولية حرارة وسخونة فلا يظل المنهج مجرد كلام نظري معزول عن الواقع.
وهكذا بَيّن الحقّ سبحانه وتعالى في هذه الآية، أنه سبحانه قد أنزل علم منهجه بواسطة الرسل إلى بعض خلقه، فمنهم من يأخذ منهج الله بالاستيعاب أولاً، وتوظيف ما علم ثانياً، وبذلك يرتفع من منطق الأرض إلى منطق السماء. ومن يعطيه الله ذلك المنهج، ما كان يصح له أن يترك ارتفاعه إلى السماء، ليهبط إلى مستوى الأرض. وهذا ما يفعله البشر حين يقننون لأنفسهم، ويضعون نظم الحياة على وفق هواهم، وعلى وفق نظمهم، ويتركون منهج الله الذي خلقهم وصنعهم ووضع لهم قانون صيانتهم.
وهذا كلام نظري له واقع في ابن «باعوراء» ، هذا الذي آتاه الله العلم، ولكنه أخلد في الأرض ولم يتبع ما علم، فانسلخ من المنهج كما تنسلخ الشاة من جلدها وقال فيه الحق: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ
…
} [الأعراف: 176]
ومن يريد أن يرفعه الله إلى السماء بالوحي بالمنهج ثم يهبط إلى الأرض نجد
الحق سبحانه وتعالى يمثل حاله بحال الكلب، مع الفارق بين الاثنين؛ لأن الكلب يلهث غريزة. فهو غير مذموم حين يلهث وهو مطرود، ويلهث غير مطرود فهذه غريزة فيه، ولا يذم على هذه ولا على تلك، لكن الإنسان الذي فطره الله على حب الخير وميز غرائزه بمنهج عقلي يصون حركته ما كان يصح له أن يفعل ذلك ولا ينبغي أن تقولوا: وما ذنب الكلب في أنه يلهث، ويضرب به المثل في الكفر؟ لأن الكلب يفعلها غريزة، وهو بغير تكليف فيفعل ما يشاء، أما الإنسان الذي ارتفع بكفره وميزه الله بأن يختار بين البديلات ما كان يصح له أن يصل إلى هذا المستوى، ومثل هذا السلوك في الكلب محمود فيه لأن طبيعته هكذا، وإياك أن تقول: لماذا ربنا يضرب المثل بأشياء وما ذنبها هي؟
والحق - سبحانه - هو القائل عن اليهود:
{مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً
…
} [الجمعة: 5]
هل الحمار حين يحمل أسفاراً يستحق الذم لأنه لم يفقه ما في الأسفار؟ الجواب لا؛ لأن مهمته ليس منها فقه وفهم ما في الأسفار، بل مهته أن يحمل ما عليه فقط، وكأن الحق يقول: لا تكونوا مثل الحمار الذي يكتفي من الخير بأن يحمله، ولكن أريد منكم أن تحملوا المنهج وأن تنتفعوا بما يحويه من التشريع. إذن فهذه الأمثلة ليست ذماً للكلب، ولا هي ذما للحمار. إنما ذم لمن يتشبه بهما؛ لأنه نزل إلى مرتبة لم يرده الله لها، وأراد الله المثل فيها بشيء لا تذم منه، ولكنه مذموم من الإنسان.
والإنسان الذي لا يتبع منهج الله يكون مضطرب الحركة في الحياة، حتى وإن كان في نعمة، لأنه معزول عن الله، ومادام معزولاً عن الله تجده دائم التساؤل: أيدوم لي هذا النعيم أو لا يدوم؟ ويعيش دائما في قلق ورعب مخافه أن يفوت النعيم أو ألا يدوم له النعيم، ومثله كالكلب يلهث حال راحته ويلهث حال تعبه.
{ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
إذن حين يضرب الله لنا مثلاً من الأمثال الواقعية في هذا الرجل المسمى «ابن باعوراء» ، فسبحانه يعطينا واقعاً لما حدث بالفعل.
أي أن الذي يريد الله أن يرفعه بما علمه من منهج فانسلخ من دينه فهو مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، ولستم بدعاً في هذا، فالله يريد أن يرفعكم بمنهج السماء وأنتم تخلدون إلى الأرض، وقد حدث هذا مع ابن باعوراء، وكلمة «مثل» إذا سمعتها هي من مادة ال «م» وال «ث» وال «لام» ، وتنطق كما يأتي: إما أن تنطقها مثْل «يكسر الميم وسكون الثاء» ، وإما أن تنطقها مَثَل «بفتح الميم والثاء» ، والمَثْلَ هو المشابه والنظير، فتقول: فلان مِثْل فلان في الكرم، في العلمَ، في الَطول، في العرض، وبذلك أعطيت تشَبيه ما هو مجهول للمخاطب بما هو معلوم له.
والحق سبحانه يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
…
} [الشورى: 11]
أي لا أحد يشبهه في شيء؛ لأنه مَنَزّه في الذات والصفات والأفعال.
وأيضاً نقول: هذا مَثَل هذا؛ أي أن فلاناً المشبه به يكون أعلى منه فيما يشبهه به، لكن الناس لا تعرف ذلك. وإن كان المشبه به ذائع الصيت؛ بحيث يجري اسمه على كل لسان؛ فنحن نقول: إنَّه مَثَلٌ؛ كقولنا عن الكريم: «هو حاتم» لأن شهرة حاتم في الكرم جعلته مَثَلاً.
والفرق أنك إذا قلت في فلان إنه يشبه حاتماً في الكرم، فقد تكون أول من يخبر عنه، ولك أن تأتي بواحد له شهرة ذائَعة الصيت على كل لسان؛ فهذا مَثَل، كأن تقول: مَثَل حاتم في الكرم، أو مَثل عنترةَ في الشجاعة. والمَثَل في الذكاء إياس، لأن كل واحد منهم مشهور بصفة، ولذلك لما مدح الشاعر الخليفة قال فيه:
إقدام عمرو (في شجاعته) في سماحة حاتم (أي الطائي) في حلم أحنف (الأحنف بن قيس وكان مشهوراً بالحلم عند العرب) وفي ذكاء إياس. وقال رجل من القوم: كيف تُشَبَّهُ الأميرَ بصعاليك العرب؟ إن الأمير فوق من ذكرت جميعاً.
ما عمرو بالنسبة للأمير؟ {
وما حاتم بالنسبة للأمير؟}
فقال الشاعر:
وشبهه المدّاح في الباس والندى
…
بمن لو رآه كان أصغر خادم
ففي جيشه خمسون ألفاً كعنتر
…
وفي خُزنه أُلف ألف كحاتم
أي أن عنده أمثالَ حاتمٍ وأمثال عنترة. فما كان منه إلا أن أسعفته ذاكرته وبديهيته؛ فقال:
لا تنكروا ضربي له من دونه
…
مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
…
مثلا من المشكاة والنبراس
وكأن الشاعر يقول: أنا ضربت بهم المَثل لأنهم أصبحوا المثل المشهور والأمثال لا تتغير.
وأنت تقدر في المثل، فقد تقول: فلان حاتم، وحاتم انقضى عمره، لكنه قد صار مثلاً مشهوراً في التاريخ، أو تقول:«فلان عنتر» ، أو «فلان إياس» ، وفي ذلك يرتقي التشبيه، بأن صار المشبَّه به مشهوراً معلوماً متوارداً على الألسنة وكل واحد يشبه به.
ويُعَرفون المَثَل بأنه: قول شبِّه مورده بمضربه، أي أنك تشبه الحالة التي قيل فيها المثل أولاً، ومثال ذلك: حينما أرسلَ عظيمٌ من عظماء العرب خاطبةً اسمها «عصام» لتخطب له أمَّ إياس؛ فقد بلغه أنها جميلة وأنها وأنها، فقال: اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف، فذهبت الخاطبة وخلَّت أم الفتاة بينها وبينها، وقالت لها: يا هذه، هذه خالتك جاءت لتنظر إلى بعض أمرك فلا تستري عنها شيئاً أرادت النظر إليه، من وجه وخلق، وناطقيها فيما استنطقتك به. ثم أرسلت إلى خباء، ونظرتها كلها وفحصتها فحصاً شاملاً. فلما عادت إلى من أرسلها، وكان ينتظرها في شوق وكأنه على أحر من الجمر، قال لها:«ما وراءكِ يا عصامُ؟» قالت: «أبدي المخض عن الزُّبد» أي أن الرحلة جاءت بفائدة.
وأصبح العرب بعد ذلك كلما أرسلوا رسولاً ذكرا أو أنثى أو مثنى أو جمعاً؛ وبعد أن يعود إليهم ويستعملوا منه عن نتيجة رحلته، فهم يقولون له:«ما وراءَك يا عصام؟» ، ولو كان رجلاً، لأن الأمثال لا تغير. وكل شيء يجدي الجهد فيه يقال عنه:«أبدي المخض عن الزبد» .
فحين ينجح الولد ويأتي بالمجموع المناسب يقال: «أبدي المخض عن الزبد» .
والحق تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ الله لَا يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا
…
} [البقرة: 26]
وكانوا قد قالوا: كيف يضرب الله المثل ببعوضة؛ وقال سبحانه:
{لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ
…
} [الحج: 73]
لقد فهموا قوله: «فما فوقها» أنها أكبر منها، والمراد غير ذلك؛ لأنه سبحانه ضرب المثل بالأقل؛ لذلك قال:«فما فوقها» من باب فما فوقها في الاحتقار منكم والقلة في الحجم مما تنكرونه، وهو الضآلة. وحتى تفهم ذلك نسمع أحياناً: فلان مريض. ويراد السامع وفلان فوقه في المرض. ونجد «فوقه» هنا لا تعني المرض الأقل، بل المرض الأكثر شدة: {
…
ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]
والكلام موجه لليهود: أي أنتم يا بني إسرائيل مَثَلكم مثل الرجل الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، ولقد جاءت لكم في التوراة بشارة بمحمد، ووصفته بسمات وعلامات، بحيث إذا رآه الإنسان يعرف أنه الرسول الذي جاء ذكره في التوراة، ويعرفه الواحد منكم كما يعرف ابناً له، لأنه مذكور لكم بنصه ونعته وشكله وطوله، وعرضه. وكنتم تستفتحون به على العرب. لكنكم امتنعتم عن التصديق بالآيات، وعندما جاءكم بما عرفتم عنه كفرتم به. وصار مثلكم كمثل الرجل الذي آتاه الله الآيات فانسلخ منها. {ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}
وهم بعنادهم وبغيهم وكفرهم قد كذبوا بالآيات الكونية التي يراها البصر؛ السماء والأرض والشمس، والآيات المعجزات التي يثبت بها الرسول صدق بلاغه عن الله، وكذلك آيات القرآن التي تحمل منهج الله.
{فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وعليك يا محمد أن تقصص القصص وأن تقول ما حدث وما كان، وأنت لن تحكي الأمر التافه، بل ستحكي ما يقال له قصص ويكون فيه عبرة؛ تنتفع بها حركة المجتمع.
ويذيل الحق الآية بقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ، ونعلم أن القرآن قد جاء فيه الأمر بالتفكر والتذكر والتدبر.
والتفكر - كما نعرف - هو عمل العقل في المقارنات بين البديلات المتنوعة لِيُرَجّح بدلاً على بديل فتُعقلَ به القضايا.
والتذكر يعني إن غفلت عن هذا فتذكره، حتى يزيح عنك الغفلة عن القضية المعلومة.
أما التدبر فهو أيضاً بحث عقلي. فلا تنظر إلى واجهة الأشياء، بل إلى كلية الأشياء من جميع جهاتها بواجهة وجوانب وخلف، وما ينتج عنها. وعلى سبيل المثال يقال: انظر خلف العبارة، لتجد المعنى الخفي فيما يقال. والمثال في قول الحق: {إِنَّ الله لَا يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا
…
} [البقرة: 26]
وحين تفكرنا وتدبرنا وجدنا أن معنى «فما فوقها» لا يعني الأعلى منها في القوة، بل الأعلى منها في الضعف الذي أنكروه. لذلك لا يجب أن تنظر إلى معنى ومدلول اللفظ حسب ظاهره فقط، بل لما خلف اللفظ، ومعطياته.
{فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي يتفكرون في أسلوب توجيه المنهج؛ لعلهم يؤمنون وهذه فائدة القصص.
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {سَآءَ مَثَلاً القوم الذين
…
}
والحق قال فيهم من قبل: إنهم كذبوا بآياتنا، وضرب لهم المثل بابن باعوراء وكان مشهوراً في أيامهم، لكنهم فاقوا ابن باعوراء لأنه كان فرداً وهم جماعة؛ لذلك لا تقل إن في المسألة تكراراً؛ لأن المثل من قبل ما كان على فرد واحد، أوتي آيات الله فانسلخ منها، ولكنهم كانوا جماعة. لذلك فانسلاخهم عن المنهج يجعل موقفهم أشد سوءاً. {سَآءَ مَثَلاً القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}
و «ساء» أي قَبُح، وحين نقول: ساء فلان؛ أي قبح أمره، ولكن أي أمر من أموره هو القبيح؟ فنقول: ساء صحةً أي صار مريضاً أو ساء حالاً أي صار فقيراً، أو ساء خلقاً أي صار شرساً، وأنت حين تقول: ساء، فهذا السوء عام له جوانب متعددة، ويقتضي الأمر التمييز.
و «ساء مثلاً» أي ساء من جهة المثل، والمثل في ذاته لا يسوء؛ لأن الله تعالى يضرب المثل لنا. والمثل إنما يجيء ليبين ويشرح ويوضح، والمعنى هنا: ساء مثلاً حال القوم. أو القوم أنفسهم هم الذين ساءوا. لأنهم حين كذبوا بالآيات ظلموا أنفسهم، فالتكذيب منهم لم يعرقل منهج الله في الأرض، ولم يعرقلوا بالتكذيب شيئاً في كون الله تعالى، فالكون بنظامه ونسقه يسير بإرادته سبحانه وآيات الكون سائرة. إذن كان تكذيبهم بآيات لن يضير أبداً في أي شيء. والخيبة إنما تقع عليهم. وإن كان التكذيب في الآيات المعجزات فقد بقي ذكر المعجزات إلى الآن. وهم الذين خابوا، وإن كانوا قد كذبوا بآيات المنهج فهم أيضاً الذين خسروا ولم يصب الآيات الإعجازية أو القرآنية أي شيء. وهم قد ظلموا أنفسهم ومثلهم في ذلك مثل المريض الذي لم يسمع كلام الطبيب فإنه يسيء إلى نفسه ولن يضر الطبيب شيء، والله سبحانه قد أعطانا المنهج لتستقيم به حركة الحياة، فمن يأخذه ينفع نفسه، ومن لا يأخذه لن يضر الله شيئاً.
هم إذن ظلموا أنفسهم، ومن يظلم نفسه كان هو أول عدو لها ولن يضر الله شيئاً، ولا الرسول، ولا المجتمع.
{
…
وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 177]
وحين تجد معمولاً تقدم على عامله - قاعدة نحوية - فعلم أن هناك ما يسمى بالقصر في علم البلاغة، وقد نقول:«يظلمون أنفسهم» ويصح أن تعطف قائلاً: ويظلمون الناس. ولكن حين نقول: أنفسهم يظلمون، فمعنى ذلك أنه لا يتعدى ظلمهم أنفسهم، ويكون الكلام فيه قصر وتخصيص، مثلما نقول:«لله الأمر من قبل ومن بعد» ، أي أن الأمر لا يتعدى إلى غيره أبداً.
ويقول المولى سبحانه وتعالى بعد ذلك: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ
…
}
وهذه الآية هي الوحيدة التي جاء فيها سبحانه وتعالى: {المهتدي} - بالياء - بينما جاء المولى سبحانه وتعالى بكلمة «المهتد» - من غير ياء - في آيات متعددة عدا هذه الاية:
واقرأ قوله تعالى: {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد
…
} [الإسراء: 97]
ويقول الحق: {
…
فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 26]
وكذلك تأتي الكلمة بدون «ياء» في قوله سبحانه: {
…
مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً} [الكهف: 17]
والمعركة الخاصة بقضية الهداية والإضلال قائمة من قديم، ولا تزال أيضاً ذيول هذه المعركة موجودة إلى الآن، وأوضحنا هذه القضية من قبل ولكننا نكررها للتأكيد ولتستقر في الأذهان، لأن هناك دائماً من يقول: إذا كان الله هو الهادي والمضل، فلماذا يعذبني إن ضللت؟ . وشاع هذا السؤال وأخذه المستشرقون والفلاسفة ويراد منه إيجاد مبرر للنفس العاصية غير الملتزمة. ونقول لكل مجادل: لماذا قصرت الاعتراض على مسألة الضر والعذاب إن ضللت؟ ولماذا لا تذكر الثواب إن أحسنت وآمنت؟ . إن اقتصارك على الأولى دون الثانية دليل على أن الهداية التي جاءت لك هي مكسب تركته وأخذت المسألة التي فيها ضرر. ولا يقول ذلك إلا المسرفون على أنفسهم.
وضرَبْنا من قَبْلُ أمثلةً كثيرة. لنفرق في هذه المسائل بين المختلفين؛ لأن الجهة عندهم منفكة وهم قد ناقشوا مسألة «خلق أفعال العباد» وتساءلوا: مَنْ خلق هذه الأفعال؟ هل خلقها الله أم أن العبد يخلق أفعاله؟ .
ونسأل: ما هو الفعل؟ . إنه توجيه طاقة لإحداث حدث؛ فطاقة اليد أنها تعمل أيَّ عمل تريده منها؛ قد تضرب بها إنساناً أو تحمل بها إنساناً واقعاً على الأرض، أو تربت بها على اليتيم.
إذن ففي اليد طاقة تصلح لأن تفعل الخير وتفعل الشر، وأنت لحظة أن تضرب إنساناً؛ فأي عضلة تحركها حين ترتفع اليد لتضرب؟ . إنك بمجرد رغبتك في أن تضرب؛ تضرب؛ عكس الإنسان الآلي حين يرفع شيئاً، فله أجزاء وأزرار تعمل. وكلها آلات.
وأنت حين تربت على كتف يتيم، ما هي الأعضاء والأجهزة التي تحركها لتعمل هذا العمل؟ . إذن فالله هو الذي خلق فيك الانفعال للفعل. فإن نظرت إلى ذلك، فكل فعل من الله، ولكن توجيه الجارحة إلى الفعل هو محل التكليف.
إذن فأنت تحاسب لأنك فعلت، لا لأنك خلقت؛ لأن خالق الأفعال هو الله سبحانه وتعالى، وأنت تفعل بمجرد الإرادة والاختيار، مثل اللسان فيه طاقة
مخلوقة لبيان ما في النفس؛ إن أردت أن تقول بها «لا إله إلا الله» صلحت، وصلحت كذلك عند الملحد أن يقول - والعياذ بالله - لا يوجد إله. واللسان لم يعص في هذه ولا في تلك.
إذن فالذي خلق قدرة الجارحة على الفعل هو الله. وأنت توجه الجارحة، إذن فكل الافعال مخلوقة لله، لكن توجيه الطاقة للفعل بالميل والاختيار إنما يكون من العبد. والحق سبحانه وتعالى يهدي الجميع بالمنهج، ومن يقبل عليه بنيَّة الإيمان، يعينه على ذلك، ولذلك لا يصح أن نختلف في مسألة مثل هذه، وأن نسأل من خلق الأفعال، بل علينا أن نحدد الأفعال وكيف توجد، وما دور الإنسان فيها؛ لأننا نعلم أن الله قد يسلب طاقة الفعل على الأحداث، مثل من يريد أن يؤذي إنساناً بيده لكنه يصاب بشلل فلا يقدر أن يرفع يده. ولو كان هو الذي يخلق لرفع يده وآذى بها من أراد، لكنه لا يخلق الطاقة الصانعة للفعل.
وعلى ذلك تكون الهدايةُ نوعين: هداية دلالة، وهي للجميع؛ للمؤمن والكافر؛ لأن الحق لم يدل المؤمن فقط، بل يدل المؤمن والكافر على الإيمان به، فمن يُقْبل على الإيمان به؛ فإن الحق تبارك وتعالى يجد فيه أهلاً للمعونة. فيأخذ بيده، ويعينه، ويجعل الإيمان خفيفاً على قلبه، ويعطي له طاقة لفعل الخير، ويشرح له صدره وييسر له آمره: وسبحانه القائل: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله
…
} [البقرة: 282]
ويقول سبحانه وتعالى: {
…
وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون} [الأعراف: 178]
فإذا كان الله قد عمّم حكماً ثم خصّصه، فالتخصيص هو الذي يحكم التعميم.
ويقول ربنا عز وجل: إن من شاء هدايته فهو سبحانه وتعالى يعطيه الهداية،
ومن شاء له الضلال زاده ضلالاً، وقد بيّن أن من شاء هدايته يهتدي وهذه معونة من الله، والكافر لا يهتدي وكذلك الظالم، والفاسق؛ لأنه سبحانه قد ترك كل واحد منهم لاختياره، وهكذا يمنع سبحانه وتعالى عنهم هداية المعونة. ونقرأ في القرآن الكريم ما يوضح هذه المسألة، فهو سبحانه يقول: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى
…
} [فصلت: 17]
والهداية التي كانت لقوم ثمود إنما هي هداية الدلالة، وليست هداية المعونة.
ويقول سبحانه: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]
أي أنه سبحانه قد زاد من اختاروا الهداية، بالمعونة وجعل بينهم وبين النار وقاية، والحق سبحانه وتعالى يقول لرسوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
…
} [القصص: 56]
أي أنك يا محمد لن تعين أحداً على الطاعة لأن هذا أمر يملكه ربك.
ويقول سبحانه لرسوله: {
…
وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]
أي أنك يا محمد تهدي هدايةَ الدّلالة بالمنهج الذي أنزله الله إليك.
إذن إذا رأيت فعلاً أو حدثاً مُثبتاً لواحد ومنفياّ عنه. . فاعلم أن الجهة منفكة، والكلام هنا لحكيم عليم. ولماذا يقول الحق سبحانه: