الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و {فَمَنْ أَظْلَمُ} تأتي على صيغة السؤال الذي لن تكون إجابته إلا الإِقرار. ولا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب؛ لأنه أولاً ظلم نفسه، وظلم أمته، وأول ظلم النفس أن يرتضي حياة زائلة وأن يترك حياة أبدية، وأما ظلمه للناس فلأنه سيأخذ أوزار ما يفعلون؛ لأنه قد افترى على الله كذباً. {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} .
أي قوَّل الله ما لم يقله، أو كذَّب ما قاله الله، وكلا الأمرين مساوٍ للآخر. والآية - كما نعلم - هي الأمر العجيب، والآيات أُطلقت في القرآن على معانٍ متعددة؛ فالحق يقول: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
…
} [فصلت: 3]
وكذلك أطلقت على المعجزات التي يرسلها الله تأييداً لرسله. {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون
…
} [الإسراء: 59]
فالآيات هنا هي المعجزات أي الأمور العجيبة.
وحدثنا القرآن عن الآيات الكونية فقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر
…
} [فصلت:
37]
فالآية إذن هي الشيء العجيب وهي تشمل آيات القرآن؛ لأنك حين تنظر إلى نظم آيات القرآن، وإلى استيعابها إلى حقائق الوجود وإلى استيفائها لقضايا الكون
كله تقول لنفسك: هذا شيء عجيب؛ لأن الذي جاءت على لسانه هذه الآيات نبي أمي، ما عرف عنه أنه زاول تعلماً، وما جربوا عليه أنه قال شعراً، أو نثراً أو له رياضة في كلام، وبعد ذلك ما جرب حكم أمم، وما درس تاريخ الأمم حتى يستنبط القوانين التي أعجزت الحضارات المعاصرة عن مجاراتها.
إن الأمة البدوية حينما ذهب بمنهجها إلى الفرس، وكانت الفرس لها حضارة الشرق كلها، وعلى الرغم من ذلك أخذت الفرس قوانينها من هذه الأمة البدوية، وكان كل نظام هذه الأمة المتبدية قبل مجيء الرسالة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يتخلص في نظام القبيلة وكل قبيلة لها رئيس، وبعد أن جاءت رسالته صلى الله عليه وسلم َ جاء بنظام يجمع أمم العالم كلها، ثم ينجح في أدراة الدنيا كلها، وهذه مسألة عجيبة، وكل آية من هذه الآيات كانت معجزة وعجيبة.
وكذلك الآيات الكونية التي نجدها تتميز بالدقة الهائلة؛ فالشمس والقمر بحسبان، وكل في فلك يسبحون، إنه نظام عجيب.
إذن فالعجائب في الآيات هي آيات القرآن، والمعجزات والآيات الكونية. وكيف يكذبون إذن بالآيات؟ . ألا ينظرون إلى الكون. وما فيه من دقة صنع وهندسة بناء تكويني لا تضارب فيه؟ وهي آيات تنطق بدقة الخالق؛ فهو العالم، القادر، الحكيم، الحسيب. وكذلك كيف يكذبون الرسول القادم بالمعجزات، ويقولون: إنه ساحر، وحين تتلى عليهم آيات يكذبونها. إذن هم لم ينظروا في آيات الكون ليستنبطوا منها عظمة الصانع وحكمته ودقته، ولم يلتفتوا إلى الإِيمان به قمة عقيدية، وكذلك كذبوا بالآيات المعجزات التي جاء بها الرسل فلم يصدقوا الرسل وآخرها وقمتها آيات القرآن العظيم.
وحينما عرض الحق سبحانه وتعالى هذه القضية، تساءل: كيف تقولون. إنه سحر الناس فآمنوا به، فلماذا لم يسحركم أنت؟ . وحينما قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ
…
} [النحل: 103]
قال الحق: {
…
لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103]
وقالوا: {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5]
فيعلم الحق رسله أن يقول: {
…
فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16]
وهنا يأمر الحق رسوله أن يذكرهم بأنه عاش بينهم أربعين عاماً فهل عرف عنه أنه يقول أو يتكلم بشيء من هذا؟
فهل يترك الحق من كذبوا بالآيات؟ أنهم خلق الله، والله استدعاهم إلى الوجود، لذلك يضمن لهم مقومات الحياة، وأمر أسباب الكون أن تكون خدمة هؤلاء المكذبين الكافرين كما في خدمة الطائعين المؤمنين. ومن يحسن منهم الأسباب يأخذ نتائجها، وإن أهمل المؤمنون الأخذ بالأسباب فلن يأخذوا نتائجها، وكل هذا لأنه عطاء ربوبية ولأنه خلق فلابد أن يرزق، والنواميس الكونية تخدم الطائع وتخدم العاصي؛ لأن ذلك من سنة الله ولن يجد أحد لسنة الله تبديلا.
إذن فكفرهم لن يمنع عنهم نصيبهم من الكتاب الذي قَدَّر لهم، من الرزق والحياة، ما هو مسطر في الكتاب الذي أنزل عليهم؛ لذلك يقول الحق: {أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب
…
} [الأعراف: 37]
أو ينالهم، أي يصيبهم عذاب مما هو مبين في الكتاب الذي أرسلناه ليوضح أن الطائع له الثواب، والعاصي له العقاب، فيقول الحق هنا: {
…
حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأعراف: 37]
وساعة تسمع {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} تفهم أن الحياة تنتهي، وتنفصل الروح عن الجسد فهذا هو «التوفي» ، فمرة ينسب إلى الحق الأعلى سبحانه وتعالى، ومرة ينسب إلى المَلَك، ومرة يراد منه أتباع المَلَك أي جنوده يقول - سبحانه -:{حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} ، والأساليب الثلاثة ملتقية؛ لأن ملك الموت لم يأت بالموت من عنده، بل أخذ التلقي من الله، فالأمر الأعلى من الله، وأمر التوسط للملك، وأمر التنفيذ للرسل.
و «التوفي» على إطلاقه هو استيفاء الأجل، فإن كان أجل الحياة فهو ترفية بالموت، وإن كان الأجل البرزخ وهو المدة التي بين القبر والحساب. إلى أن يجيء ميعاد دخولهم النار فهذا هو توفي أجلهم الثاني؛ لأن كل إنسان له أجلان: أجل ينهي هذه الحياة، والأجل الذي يأخذه في البرزخ إلى أن يجيء الحساب. وهذا لا يمنع أن يقال: إن قيامة كل إنسان تأتي بموته؛ لأن للقيامة مراحل بدءا من القبر ونهاية بالخلود في الجنة أو في النار.
وحين تسألهم الملائكة: {
…
أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأعراف: 37]
هم إذن يعترفون أن من كانوا يدعونهم من دون الله قد غابوا واختفوا ولا يظهر لهم أثر.
{وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ
…
} [السجدة: 10]
وهم - إذن - يقرون غياب من كانوا يدعونهم من دون الله، والمراد أنه لا وجود لهم، وهم بذلك قد شهدوا على أنفسهم بكفرهم. ولكن هذه الشهادة لا تجدي لأن زمن التكليف قد انتهى، وهم الآن في دار قهر لكل ما يريده الله؛ ففي دار التكليف كان الإِنسان حرًّا أن يفعل أو ألاّ يفعل، ولكن في الدار الآخرة لا تنفع هذه الشهادة. وذلك لتبين عدالة الجزاء الذي يصيبهم، ولن يتأبوا على الجزاء؛ لذلك يقول الحق: {قَالَ ادخلوا في أُمَمٍ
…
}
ويوضح لنا الحق أنه بأوامر «كن» سيدخلون كما دخلتها أمم قد خلت من قلبهم فليسوا بدعاً، وليدخلوا معهم إلى المصير الذي يذهبون إليه، وهم أمم خليط؛ لأن الكفر سوف يلتقي كله في الجزاء.
إن الاقتداء بالأمم التي سبقت هو الذي قادهم إلى الكفر؛ فالأمم التي سبقت كانت أسوة في الضلال للأمة التي لحقت، فإذا ما دخلوا لعنوهم.
وهب أن إنساناً دخل مرة السجن لجرم ارتكبه، وبعد ذلك دخل عليه من كان
يغربه بالجرم. ومن كان يزين له، ومن اقتدى به. بالله ساعة يلتقيان في السجن ألا يلعن الأول الثاني؟ {
…
كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولَاهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لَاّ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38]
وبعد أن يلحق بعضهم بعضاً ويجتمعوا، يحدث بينهم هذا الحوار العجيب: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولَاهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار
…
} [الأعراف: 38]
فإن قلت الأخرى أي التي دخلت النار متأخرة كانت الأولى هي القدوة في الضلال وقد سبقتهم إلى النار، {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولَاهُمْ} ، أي أن الأولى هم القادة الذين أضلوا، والطائفة الأخرى هم الأتباع الذين قلدوا. {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولَاهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا} . وهم يتوجهون بالكلام إلى ربنا:{رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا} .
كيف يتأتى هذا؟ . وكان المقياس أن يقول: قالت أخراهم لأولاهم أنتم أضللتمونا لكن جاء هذا القول، لأن الذين أضلوا غيرهم أهون من أن يخاطبوا؛ لأن الموقف كله في يد الله، وإذا ما قالوا لله المواجه للجميع:{هؤلاء أَضَلُّونَا} فهؤلاء، هذه رشارة إليهم، فكأن القول موجه لله شهادة منهم إلى من كان وسيلة لإضلالهم وهم يقولون لربنا هذا حتى يأخذوا عذاب الضعف من النار مصداقاً لقوله الحق: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار
…
} [الأعراف: 38]
فقال لهم جميعاً: {
…
لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لَاّ تَعْلَمُونَ} .
فلكل أمة منهم ضعف العذاب بما ضلت وأضلت. ونفهم أن الضّعْف معناه «شيء مساوٍ لمثله» ، فأنتم أيها المقلدون غيركم قد أضللتم سواكم بالأسوة أيضاً؛ لأنكم كثرتم عددهم وقويتم شوكتهم وأغريتم الناس باتباعهم.
ويكون لكم ضعف العذاب بحكم أنكم أضللتم أيضاً، وأنتم لا تعلمون أن من يحاسبكم دقيق في الحساب، ويعطي كل إنسان حقه تماماً.
وماذا تقول أولاهم لأخرهم؟ يقول الحق سبحانه: {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لأُخْرَاهُمْ
…
}
أي مادمتم ستأخذون ضعف العذاب مثلنا فقد تساوت الرءوس {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} كأن المجرم نفسه ساعة يلتقي ويستقبل مجرماً مثله، يقول له: اشرب من العذاب نفسه، وليس ذلك تجنياً من الله، ولا بسلطة القهر لعباده، ولكن بعدالة الحكم؛ لأن ذلك إنما حدث بسبب ما كسبتم.
ومعلوم أن التذوق في الطعوم، فهل هم يأكلون العذاب؟ . لا، إنّ الحق قد جعل كل جارحة فيهم تذوق العذاب، والحق حين يريد شمول العذاب للجسم يجعل لكل عضو في الجسم حساسية الذوق كالتي في اللسان.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]
وهذه هي الإذاقة، كأنها صارت لباساً من الجوع يشمل الجسد كله، والإِذاقة أشد الإِدراكات تاثيراً، واللباس أشمل للجسد. {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} .
ولم يقل الحق: بما كنتم تكتسبون؛ لأن اكتسابهم للسيئات لم يعد فيه افتعال، بل صار أمراً طبيعياً بالنسبة لهم، وعلى الرغم من أن الأمر الطبيعي في التكوين أن يصنع الإنسان الحسنة دون تكلف ولا تصنع، وفي السيئات يجاهد نفسه؛ لأن ذلك يحدث على غير ما طبع عليه، ولكن هؤلاء من فرط إدمانهم للسيئات فسدت فطرتهم ولم تعد ملكاتهم تتضارب عند فعل السيئات، بل صاروا يرتكبون الإثم كأمر طبيعي، وهذا هو الخطر الذي يحيق بالمسرفين على أنفسهم؛ لأن الواحد منهم يفرح بعمل السيئات.
ويقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا
…
}
والحق يريد أن يعطي حكماً جديداً ويحدد من هو المحكوم عليه ليعرف بجريمته، وهي جريمة غير معطوفة على سابقة لها، وليعرف كل إنسان أن هذه جريمة، وأن من يرتكبها يلقى حكماً وعقاباً. {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا} .
وقد عرفنا من قبل معنى الايات. وأنها ايات القرآن المعجزة أو الايات الكونية، وأي إنسان يظن نفسه أكبر من أن يكون تابعاً لمنهج جاء به رسول عرف بين قومه بأمانته، وهذا الانسان يستحق العقاب الشديد. فصحيح أن محمداً صلى الله عليه وسلم َ لم يكن له من الجاه ولا سلطان ما ينافس به سادة وكبراء قريش، ولذلك وجدنا من يقول:{وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]
إنهم يعترفون بعلو القرآن، لكنهم تمنوا لو أن القرآن قد نزل على إنسان غيره بشرط أن يكون من العظماء بمعاييرهم وموازينهم المادية.
ومن يكذب الايات ويستكبر عن اتباع الرسول لا تفتح له أبواب السماء. {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء وَلَا يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط وكذلك نَجْزِي المجرمين} [الأعراف: 40]
وبذلك نعرف من هم الذين لا تفتح لهم أبواب السماء، وبطبيعة الحال نعرف أن المقابلين لهم هم الذين تفتح لهم أبواب السماء. . إنهم المؤمنون، وحين تصعد أرواحهم إلى الملأ الأعلى تجد أعمالهم الصالحة تصعد وترتفع بهم إلى أعلى. أما المكذبون فهم لا يترقون بل يهبطون ولا يدخلون الجنة، وقد علق سبحانه دخول الجنة بمستحيل عقلاً وعادة وطبعاً:{وَلَا يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط} .
و {سَمِّ الخياط} هو ثقب الإبرة، أي الذي تدخل فيه فتلة الخيط، ولا تدخل فتلة الخيط في الثقب إلا أن يكون قطر الفتلة أقل من قطر الثقب، وأن تكون الفتلة من الصلابة بحيث تنفذ، وأن تكون الفتلة غير مستوية الطرف؛ لأنها إن كانت مقصوصة وأطرافها مستوية فهي لا تدخل في الثقب؛ لذلك نجد الخياط يجعل للفتلة سناً ليدخلها في ثقب الإبرة.
وحين نأتي بالجمل ونقول له: ادخل في سم الخياط، فهل يستطيع؟ طبعاً لا؛ لذلك نجد الحق سبحانه قد علق دخول هؤلاء الجنة على مستحيل.
بعض الناس قالوا: وما علاقة الجمل بسم الخياط؟
نقول: إن الجمل يطلق أيضاً على الحبل الغليظ المفتول من حبال، مثل حبال المركب إننا نجده سميكاً مجدولاً.
وأخذ الشعراء هذه المسألة؛ ونجد واحداً منهم يصف انشغاله بالحبيب وشوقه إليه وصبابته به حتى يهزل ويستبد به الضعف فيقول:
ولو أن ما بي من جوى
…
وصبابةعلى جمل لم يدخل النار كافر
لأن الجوى والصبابة التي يعاني منهما هذا الشاعر، لو أصيب بهما الجمل فلسوف ينحف وينحف ويهزل، إلى أن يدخل في سم الخياط، وهنا يوضح ربنا: إن دخل الجمل في سم الخياط فسوف أدخلهم الجنة. {
…
حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط وكذلك نَجْزِي المجرمين} [الأعراف: 40]
وهم يستحقون هذا الجزاء بما أجرموا.
ويقول الحق بعد ذلك: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ
…
}
المهاد هو الفراش، ومنه مهد الطفل، والغاشية هي الغطاء، أي أن فرش هذا المهاد وغطاءه جهنم. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ
…
} [الزمر: 16]
إذن الظلل والغواشي تغطي جهتين في التكوين البعدي للإِنسان، والأبعاد ستة وهي: الأمام والخلف، واليمين والشمال، والفوق والتحت، والمهاد يشير إلى التحتية، والغواشي تشير إلى الفوقية، وكذلك الظلل من النار، ولكن الحق شاء أن يجعل جهنم تحيط بأبعاد الكافر الستة فيقول سبحانه: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا
…
} [الكهف: 29]
وهذا يعني شمول العذاب لجميع اتجاهات الظالمين.
وجهنم مأخوذة من الجهومة وهي الشيء المخوف العابس الكريه الوجه، ثم يأتي بالمقابل ليشحن النفس بكراهية ذلك الموقف، ويحبب إلى النفس المقابل لمثل هذا الموقف، فيقول سبحانه: {والذين آمَنُواْ
…
}
وبهذا يخبرنا الحق أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم أصحاب الجنة وهم فيها خالدون، ويضع لنا الحق تنبيهاً بين مقدمة الآية وتذييلها {لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} ؛ لنفهم أن المسرفين على أنفسهم بالكفر وتكذيب الآيات لم يفهموا حقيقة الإِيمان، وأن حبس النفس عن كثير من شهواتها هو في مقدور النفس وليس فوق طاقتها؛ لذلك أوضح لنا سبحانه أنه كلف ب «افعل ولا تفعل» وذلك في حدود وسع المكلَّف.
وحين نستعرض الصورة إِجمالاً للمقارنة والموازنة بين أهل النار وأهل الجنة نجد الحق قد قال في أهل النار: {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء وَلَا يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط وكذلك نَجْزِي المجرمين} [الأعراف: 40]
فهم لن يدخلوا الجنة، وعلى ذلك فقد سلب منهم نفعاً، ولا يتوقف الأمر على ذلك، ولكنهم يدخلون النار، إذن فهنا أمران: سلب النافع وهو دخولهم الجنة، إنه سبحانه حرمهم ومنعهم ذلك النعيم، وذلك جزاء إجرامهم. وبعد ذلك كان إدخالهم النار، وهذا جزاء آخر؛ فقال الحق:
{لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وكذلك نَجْزِي الظالمين} [الأعراف: 41]
في الأولى قال: - سبحانه - {وكذلك نَجْزِي المجرمين} .
وفي الثانية قال: {وكذلك نَجْزِي الظالمين} .
فكأن الإجرام كان سبباً في ألا يدخلوا الجنة، والظلم كان سبباً في أن يكون من فوقهم غواش، لهم من جهنم مهاد، وهم في النار يحيطهم سرداقها.
ومن المناسب بعد تلك الشحنة التي تكرهنا في أصحاب النار وفي سوء تصرفهم فيما كلفوا به أولاً، وسبب بشاعة جزائهم ثانياً؛ أن نتلهف على المقابل. فقال سبحانه:{والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42]
وقول الحق سبحانه وتعالى: {لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} جاء بين المبتدأ والخبر، ككلام اعتراضي؛ لأن أسلوب يقتضي إبلاغنا أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم الخلود في الجنة، وجاءت {لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} بين العمدتين وهما المبتدأ والخبر؛ لأننا حينما نسمع {والذين آمَنُواْ} فهذا عمل قلبي، ونسمع بعده {وَعَمِلُواْ الصالحات} وهذا عمل الجوارح، وبذلك أي بعمل القلب مع عمل الجوارح يتحقق من السلوك ما يتفق مع العقيدة. والاعتقاد هو يسهل دائما السلوك الإيماني ويجعل مشاق التكاليف في الأعمال الصالحة مقبولة وهينة، ولذلك أوضح سبحانه: إياكم أن تظنوا أني قد كلفتكم فوق طاقتكم، لا؛ فأنا لا أكلف إلا ما في الوسع، وإياكم أن تفهموا قولي:{والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} هو رغبة في إرهاق نفوسكم، ولكن ذلك في قدرتكم لأنني المشرع، والمشرع إنما يضع التكليف في وسع المكلَّف.
ونحن في حياتنا العملية نصنع ذلك؛ فنجد المهندس الذي يصمم آلة يخبرنا عن مدى قدرتها، فلا يحملها فوق طاقتها وإلا تفسد.
وإذا كان الصانع من البشر لا يكلف الآلة الصماء فوق ما تطيق، أيكلف الذي خلق البشر فوق ما يطيقون؟ محال أن يكون ذلك.
إذن فيجب أن نوصد الباب أمام الذين يحاولون أن يتحللوا من التزامات التكليف عليهم، فلا تعلق الحكم على وسعك الخائر الجائر، ولكن غلق الوسع على تكليف الله، فإن كان قد كلف فأحكم لأن ذلك في الوسع؛ والدليل على كذب من يريد الافلات من الحكم هو محاولته إخضاع الحكم لوسعه هو؛ أن غيره يفعل ما لا يريد أن يفعله. فحين ينهى الحق عن شرب الخمر تجد غيرك لا يشرب الخمر امتثالاً لأمر الله، وكذلك تجد من يمتنع عن الزنا أو أكل الربا؛ فإذا كان مثيلك وهو فرد من نوعك قادراً على هذا العمل فمن لا يمتنع عن مثل هذه المحرمات هو المذنب لا لصعوبة التكليف.
فالتكليف هو أمر الشارع الحكيم ب «افعل» و «لا تفعل» وسبحانه لا يكلف الإنسان إلا إذا كان قادراً على أن يؤدي مطلوبات الشرع؛ لأن الله لا يكلف إلا على قدر الطاقة، واستبقاء الطاقة يحتاج إلى قوت، طعام، شراب، لباس، وغير ذلك مما تحتاج إليه الحياة، لذلك أوضح سبحانه أنه يوفر للإِنسان كل ماديات الحياة الأساسية، وإياكم أن تظنوا أن الله حين يكلف الإنسان يكلفه شططاً، ولكن الإنسان هو الذي يضع في موضع الشطط. فقال: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
…
} [الطلاق: 7]
{وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ضيق عليه قليلاً.
ويقول سبحانه: {فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَاّ مَآ آتَاهَا
…
} [الطلاق: 7]
إذن لا تفترض وتقدر أنت تكاليف المعيشة ثم تحاول إخضاع وارداتك إلى هذا التصور، بل انظر إلى الوارد أليك وعش في حيز وإطار هذا الوارد، فإن كان دخلك مائة جنيه فرتب حياتك على أن يكون مصروفك يساوي دخلك؛ لأن الله لا يكلفك إلا ما آتاك.
ولننظر إلى ما آتانا الله؛ لذلك لا تدخل في حساب الرزق إلا ما شرع الله، فلا تسرق.
ولا تنهب ولا تختلس ولا ترتش ثم تقول: هذا ما آتاني الله، لا، عليك ألَا تأخذ ولا تنتفع إلا بما أحل الله لك، فإن عشت في نطاق ما أحل الله يعينك الله على كل أمرك وكل حاجاتك، لأنك تحيا بمنهج الله، فيصرف عنك الحق مهمات الحياة التي تتطلب أن تزيد على ما آتاك الله، فلا تخطر على بالك أو على بال أولادك. وتجد نفسك - على سبيل المثال - وأنت تدخل السوق وآتاك الله قدراً محدوداً من المال، وترى الكثير من الخيرات، لكن الحق يجعلك لا تنظر إلا في حدود ما في طاقتك، وكذلك يُحسّن لك الله ما في طاقتك ويبعد عنك ما فوق طاقتك؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا ما آتاها، ولا يحرك شهوات النفس إلا في حدود ذلك.
ولذلك قال الحق: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42]
وأصحاب الجنة هم الذين لا يفارقونها مثلما يحب الصاحب صاحبه؛ فالجنة تتطلبهم، وهم يتطلبون الجنة، والحياة فيها بخلود وما فاتك من متع الدنيا لم يكن له خلود، وأنت في الدنيا تخاف أن تموت وتفوت النعمة، وإن لم تمت تخاف أن تتركك النعمة؛ لأن الدنيا أغيار، وفي ذلك لفت لقضايا الله في كونه، تجد الصحيح قد صار مريضاً، والغني قد صار فقيراً، فلا شيء لذاتية الإنسان. وبهذا يعدل الله ميزان الناس فيأتي إلى الحالة الاقتصادية ويوزعها على الخلق، ونجد الذي لا يتأبى على قدر الله في رزقه وفي عمله يجعل الله له بعد العسر يسراً. وفي الجنة يُخلي الله أهلها من الأغيار.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم
…
}
وقوله الحق: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} ينطبق - أيضا - على أهل الاجتهاد الذين اجتهد كل منهم في الدنيا، واختلفوا، هؤلاء يبعثون يوم القيامة وليس في صدر أحدهم غل ولا حقد. لذلك تجد سيدنا الإِمام عليًّا - كرم الله وجهه - حين يقرأ هذه الآية يقول:«اللهم اجعلني أنا وعثمان وطلحة والزبير من هؤلاء» . لأن هؤلاء هم الذين وقع بينهم الخلاف في مسألة الخلافة، وكل منهم صحابي ومبشر بالجنة، فإن كانت النفوس قد دخلت فيها أغيار، فإياكم أن تظنوا أن هذه الأغيار سوف تصحبكم في دار الجزاء في الآخرة؛ لأن الله يقول:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} .
إن الخلاف كان خلافاً اجتهادياً بين المؤمنين وهم قد عملوا الصالحات وكل منهم أراد الحسن من الأعمال، ونشأ عن ذلك في أغيار الدنيا شيء من عمل القلب، فأوضح سبحانه: إياكم أن تفهموا أن ذلك سوف يستمر معهم في الآخرة؛ لأنهم جميعاً حينما اختلفوا كانوا يعيشون باجتهادات الله، وفي الآخرة لا اجتهاد لأحد. ويريد الحق أن يجعل هذا الأمر قضية كونية، ومثال ذلك تجد رجلاً قد تزوج امرأة بمقاييس غير مقاييس الله في الزواج؛ تزوجها لأنها جميلة مثلاً، أو لأن والدها له جاه أو غني، وبعد الزواج لم يعطه والدها الغني شيئاً من ماله فيقول: غشني وزوجني ابنته، أو كانت جميلة، ثم لقى فيها خصال قبيحة كثيرة فكرهها، ونقول لمثل هذا الرجل: مادمت لم تأخذها بمقاييس الله فعليك أن تنال جزاء الاختيار.
ولكن من تزوج امرأة على دين الله، ووجد منها قبحاً، فلن يصحبه هذا القبح في الآخرة، ولذلك نجد الحق قد جاء بهذه القضية بالذات، ولم يأت بها في الأبناء أو في البنات، بل في الزوج والزوجة لأنهما عماد الأسرة. فبيّن للرجل: إياك أن تتخيل أن المرأة التي أغاظتك أو أتعبتك أو كدرت عليك بخصلة سيئة فيها، إياك أن تظن أن هذه الخصلة السيئة ستصاحبها في الآخرة، ولذلك قال سبحانه:
{وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ
…
} [آل عمران: 15]
وأزواج مطهرة من الأشياء التي كنت تغضب منها وستكون مطهرة بتطهير الله لها. {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار
…
} [الأعراف: 43]
ونجد الحق يقول مرة: {تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} ومرة يقول: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} ، ونجد «مِن» فارقاً بين القولين. إننا نرى من يستقر في قصر ونجد الماء منساباً حوله وتحته يسر العيون، وماء الآخرة هو ماء غير آسن، وليس فيه أكدار الدنيا، وكما أننا نسر بالماء في الدنيا سنسر به أضعاف ذلك في الآخرة. وقد تجري المياه تحت القصر ولكن نبعها من مكان بعيد فيخاف صاحب القصر أن يقطعها آخر عنه، ويطمئن الحق عباده الصالحين: ستجري من تحت جنانكم الأنهار وكل المياه ستكون ذاتيتها من موقع كل مكون أنت فيه ولن يتحكم فيك أحد، ولن يسد أحد عنك منبع المياه وسترى أنهار الآخرة بلا شطآن؛ لأن كل شيء ممسوك لا بالأسباب كما في الدنيا، ولكن ب «كن» التي هي لله.
ولذلك يقول العباد في جنة الآخرة: {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله
…
} [الأعراف: 43]
إنهم يقولون الحمد لله لأنه جل وعلا قد جمعهم ودلهم وأرشدهم إلى الثواب والنعيم دون منغصات، والحمد لله هي عبادة يقولها المؤمنون في الآخرة؛ لأنهم أدوا حق الله في تكاليفه في الدنيا ويعطيهم الله فوق ما يتوقعون في الآخرة. ونعيم الآخرة لا قيد عليه، ولن يستطيع بشر مهما ارتقى بالابتكار أن يصل إلى ما في الجنة؛ لأن الشيء يتحقق لك من فور أن يخطر ببالك. {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ} .
وهذا الحمد لله كان في الدنيا عبادة تكليف، أمّا في الآخرة فهو «عبادة غبطة وسرور وتلذذ. {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله} .
يقولها المؤمن؛ لأن الله لو لم ينزل منهجاً سماوياً يحدد له حركة حياته استقامة وينذره
ويخوفه من المعاصي لما وصل إلى الجنة. والهداية - كما قلنا - هي الدلالة على الطريق الموصل للغاية، إذن لابد أن تعرف الغاية أولاً ثم تضع الطريق الموصل لها، بحيث لا يكون معوجاً ولا يعترضك فيه ما يطيل عليك المسافة، وقوله الحق:{وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله} يمنع أن يضع البشر للبشر قوانين تهديهم إلى الغاية؛ لأن البشر أنفسهم لا يعرفون الغاية؛ لذلك يوضحها لهم خالقهم بمنهجه المنزل على رسوله.
ومادامت الهداية من الله فسبحانه لن يخاطب كل إنسان مباشرة، لكنه سبحانه ينزل الرسل يتلون علينا آيات الله ويوضحون لنا المنهج؛ لذلك يأتي الحق في الآية نفسها يقوله الحكيم: {
…
لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]
أنت في الحياة الدنيا حين تجد من يقول لك: إن أردت أن ترتاح فأنا أنصحك أن تمشي إلى المكان الفلاني واذهب إليه عن الطريق الفلاني، وستجدك سعيداً مرتاح البال، ثم صدقته ونفذت ما قال، ووجدت الرجل صادقاً. ألا تشعر بالسعادة؟ . وإذا كان الحق قد أرسل الرسل بالبينات والآيات والمنهج الصحيح، وسار عليه المؤمنون ثم وجدوا الجنة والنعيم؛ لذلك كان لابد أن يشكروا الله وأن يقولوا:{قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق} لأن الرسل لم يكذبوهم بل جاءوا بالخير لهم. {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وكأن الحق يوضح لنا ونحن في دار التكليف أن نستقبل المنهج على هذا الأساس، وعلى كل واحد أن يحدد مكانه من الجنة؛ بقربه من منهج الله أو بعده عنه؛ لأن دخول الجنة هو جزاء العمل طبقاً لمنهج الحق.
ووقف العلماء هنا - جزاهم الله خيراً - وقالوا: كيف نوفق بين هذه الآية: {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لأعراف: 43]
وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم َ:
«لن يُدخل أحداً عمله الجنة
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟
قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة» .
وأقول: ليس هناك تناقض بين قول الله سبحانه وتعالى وقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم َ الذي بلغ عن الله سبحانه، بل بينهما تأييد؛ فالحق ساعة ما شرع أوضح أن من يعمل العمل الصالح سيدخل الجنة، وهذا التشريع لم يجبر أحد الله عليه، بل هو الذي يعطيه لنا فضلا منه؛ فليس لأحد حق على الله؛ لأنه لا يوجد عمل يعود بفائدة على الله، واتباع المنهج إنما يعود على العبد بالمنفعة والخير، فإن دخلت الجنة فهذا أيضاً بالفضل من الله. وينبهنا القرآن إلى الجمع بين هذه الآيات وأنه لا تعارض بين نص حديثي ونص قرآني. يقول:{قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]
فجزاء كل عمل عائد على الإنسان لأنه يأخذ مكافأته على فعله، فإن كانت المكأفاة أكبر من جزاء الفعل فهي من الفضل؛ لأن الحق هو القائل: {
…
كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} [الطور: 21]
وسبحانه أيضاً هو القائل: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سعى} [النجم: 39]
إن فهمت اللغة وكنت صاحب ملكة ناضجة نقول: هذه «اللام» للملك. وتفيد أنه لاحق لك على الله إلا بسعيك على وفق منهج الله، وأن هذه الآية قد حددت العدل ولم تحدد الفضل.
{قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ
…
} [يونس: 58]
والمثال على ذلك أننا كمسلمين نصلى على الميت المسلم، وقد أمرنا التشريع بذلك، وأن ندعو الله أن يتجاوز عن سيئاته. فهل تضيف هذه الصلاة إلى الميت شيئا زائداً عن عمله؟ لو لم تكن صلاة تضيف شيئاً لما أمر التشريع بها. فهي صلاة على ميت مسلم، وأسلامه من عمله، ونجد الحق يقول: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ
…
} [الطور: 21]
أي أن الآباء والأبناء يشتركون معاً في الإيمان وفي العمل، قوله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
…
} [الطور: 21]
هذا الإلحاق يفيد أن منزلة الذرية كانت أقل من منزلة الآباء، لكن الحق يرفع من منزلتهم إكراماً للآباء. وهذا الإلحاق جزاء للذرية، وقد يكون أيضاً جزاء للآباء؛ فيحضر لهم أولادهم معهم مادام الكل قد اشتركوا في الإيمان، وكان الآباء يتحرون الحلال في إطعام الأبناء ولا يربونهم إلا على منهج الله. وقد يرى الأب أبناء جار له يلبسون الملابس الفاخرة ويأكلون الأكل الطيب، ويتحمل الأبناء ويعيشون عيش الكفاف مع هذا الأب الملتزم بالعمل الصالح والأجر الحلال، وينال الأبناء الجنة مع الأب لأنهم تحملوا معه مشاق الالتزام بالحلال.
وهكذا نجد كل إنسان مؤمن قد أخذ نتيجة عمله وزيادة. {
…
ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لأعراف: 43]
و {أُورِثْتُمُوهَا} من «الإرث» وتدل على أن هناك شيئاً آل إلى الغير. ونعلم أن الله، علم أزلا كيف سيسلك كل مخلوق وما سيفعله من كفر وإيمان وطاعة ومعصية، وعلى رغم ذلك أعد سبحانه لكل واحد من خلقه مكانه في الجنة على أنه مؤمن، وأعد لكل
واحد من خلقه مكاناً في النار على أساس أنه سيكفر.
إذن فقد أعدَّ سبحانه جناناً بعدد خلقه، وأعدَّ أماكن في الجحيم بعددهم، فليست هناك أزمة أماكن عند إله قادر مقتدر. فإن آمنا كلنا فلن يضيق بنا واسع الجنة، ووالعياذ بالله - إن كفر الخلق جميعاً فلن تضيق بهم النار. فإذا كانوا جماعة من خلق سيدخلون الجنة بالعمل، فأين تذهب أماكن أهل النار؟ إن الحق بفضل منه يمنحها المؤمنين.
إذن فقد ورثوا الذين لم يستحقوا الجنة بسبب الكفر.
وبعد الكلام في الجنة والجزاء وفي حمد التلذذ والسرور والغبطة وفي عهد الجنة، بعد ذلك كان من المناسب أن يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن موقف أهل الجنة من أهل النار؛ فيقول سبحانه: {ونادى أَصْحَابُ الجنة
…
}
وهكذا نرى التبكيت، وتصور لنا الآية كيف يرى أهل الجنة أهل النار، وهذا الترائي من ضمن النعيم ومن ضمن العذاب الأليم، فحين يرى المؤمن بمنهج الله من عاداه وقهره وآذاه وهو في النار فهذا من تمام اللذة. والآخر حين يرى مخالفه في الجنة فهذا أيضاً من تمام العذاب. إذن لابد أن يتراءوا، ولذلك يحدث الحوار، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار معترفين بأنهم وجدوا ما وعدهم به الله حقاً وصدقاً، وأن الحق قد وهبهم هذه الجنة. فهل - يا أهل النار - وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟
ونلاحظ أن هناك خلافاً بين الأسلوبين مع أن السياق المنطقي واحد؛ فأهل الجنة يقولون: «قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً» ، ولم يأت بالكاف في كلمة ما وعد (الثانية) بل قال:«فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً» ؟
إنه قال سبحانه: «ما وعد» فقط، ولم يقل ما وعدكم كما قال:(ما وعدنا) لأن المراد أن يلفتهم إلى مطلق الوعد، وليس الخاص بهم فقط، بل وأيضاً الخاص بالمقابل، وهكذا يتحقق الوعد المطلق لله. فأهل الجنة بإيمانهم وأعمالهم في الجنة فضلاً من الله، وأهل النار بكفرهم وعصيانهم عقاباً من الله.
وهنا يجيب أهل النار: (قالوا نعم) .
وهذا إقرار منهم بالواقع الذي عاشوه واقعاً بعد أن، كان وعيداً، وهم لم يكابروا لأن المكابرة إنما تحدث بين الخصمين في غير مشهد، وهم في الدنيا قبل أن يوجد المشهد كانوا يكذبون البلاغ عن الله، وصارت الدار الآخرة واقعاً، وتحقق وجودهم في النار. {
…
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الأعراف: 44]
أي فينادي مناد من الملائكة يُسمع أهلَ الجنَّة وأهل النار بأن الطرد من رحمة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم؛ بعدم الإِيمان وبالتكذيب باليوم الآخر.
ويقول الحق بعد ذلك: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله
…
}
والذي يصد عن سبيل الله هو من امتنع عن سبيل الله، وصد غيره، أي ضلّ في ذاته ثم أضل غيره، وهؤلاء هم الذين يطلبون منهج الله معوجاً، ويذمونه ولا يؤمنون به فيعترضون على إقامة الحدود والقصاص، وينفرون الناس عن منهج الله؛ لينصرف الناس عن الدين. هم إذن قد صدوا عن سبيل الله وطلبوا العوج فيما شرع الله لينفروا الناس عمّا شرع الله، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل هم بالآخرة كافرون، ولو كان الواحد منهم مؤمناً بالآخرة ويعلم أن له مرجعاً ومرداً إلى الله لما فعل ذلك.