المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وهنا يسمى الحق ما لم يذكر اسم الله عليه ب - تفسير الشعراوي - جـ ٧

[الشعراوي]

الفصل: وهنا يسمى الحق ما لم يذكر اسم الله عليه ب

وهنا يسمى الحق ما لم يذكر اسم الله عليه ب «الفسق» وهو ما تشرحه الآية الأخرى وتبرزه باسم مخصوص: {قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 145]

إذن ف «فسقاً» معطوفة على الميتة والدم المسفوح ولحم خنزير، لكنه سبحانه فصل بين المعطوف وهو «فسقاً» ؛ والمعطوف عليه بحكم يختص بالمعطوف عليه، وهذا الحكم هو الرجس وهكذا أخذت الثلاثة المحرمات حكم الرجس. وعطف عليها ما ذبح عليه اسم غير الله كالأصنام وهو قد جمع بين الرجس والفسق.

ويقول الحق: {وإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ} وسبحانه يريد أن يبين لنا أن الفطرة السليمة التي لا يميلها هوى تصل إلى حقائق الخير، ولذلك نجد أن الذين يحثون ويحض بعضهم بعضا على الشر ويعلم بعضهم بخفاء إنما يأخذون مقام الشيطان بالوسوسة والتحريض على العصيان والكفر؛ لأن المسألة الفطرية تأبى هذا، وحين يرتكب إنسان موبقة من الموبقات، إنما يلف لها وبتحايل ليصل إلى ارتكاب الموبقة، وقد يوحي بذلك إلى غيره، فيدله على الفساد. ويكون بذلك في مقام الشياطين الذين يوحون إلى أوليائهم بإعلام خفي؛ لأن الفطرة السليمة تأبى الأشياء الشريرة وتقف أيضاً فيها، ولا يجعلها تتقدم إلى الشر إلى الهوى، فإذا ما أراد شيطان من الإنس أو شيطان من الجن أن يزيّن للناس فعلاً فهو لا يعلن ذلك مباشرة. إنما يلف ويدور بكلام ملفوف مزين.

{وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وفي ذلك إشارة إلى قول المشركين: تأكلون ما قتلتم أنتم ولا تأكلون ما قتل الله وأنتم أولى أن تأكلوا مما قتل الله.

{. . وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:‌

‌ 121]

ص: 3909

وكأن مجرد الطاعة لهؤلاء المشركين لون من الشرك؛ لأن معنى العبادة امتثال وائتمار عابد لمعبود أمراً ونهياً، فإذا أخذت أمراً من غير الله فإنه يخرج بك عن صلب وقلب منهجه سبحانه وبذلك تكون قد أشركت به.

ويقول الحق بعد ذلك: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ. .}

ص: 3910

والحق سبحانه وتعالى كما عرفنا - يعرض بعض القضايا لا عرضاً إخبارياً منه، ولكن يعرضها باستفهام؛ لأنه - جل وعلا - عليم بأنه حين يأتي لك الاستفهام، ثم تدير ذهنك لتجيب فلن تجد إلا جواباً واحداً هو ما يريده الحق. إذن فالأسلوب أحياناً يكون أسلوباً خبرياً أو يكون استفهاماً بالإثبات أو استفهاماً بالنفي. وأقواها الاستفهام بالنفي. وحين يعرض سبحانه القضية التي نحن بصددها يوضح وهو العليم أنك إن أحببت أن تجيب فلن تجد إلا الجواب الذي يريده الحق.

إننا نجد في الآية الكريمة موتاً وحياة، وظلاماً ونوراً.

وما هي الحياة؟ . الحياة هي وجود الكائن على حالة تمكنه من أداء مهمته المطلوبة منه، وما دام الشيء يكون على حالة يؤدي بها مهمته ففيه حياة، وأرقى مستوى للحياة هو ما تجتمع فيه الحركة والحس والفكر، وهذه الأمور توجد كلها في الإنسان. أمّا الحيوان ففيه حس وحركة وليس عنده فكر. غير أن الحيوان له غريزة أقوى من فكر الإنسان، فهو محكوم بالغريزة في أشياء وبالاختيار في أشياء، وليس لك في الغريزة عمل. لكن في مجال الاختيار لك عمل، تستطيع أن تعمله وتستطيع ألا تعمله.

ص: 3910

إذن فالحياة هي أن يكون الكائن على حال يؤدي به مهمته المطلوبة منه. وعلى هذا الاعتبار ففي الإنسان حياة، وفي الحياة حياة، وفي النبات حياة، وفي الجماد حياة، وكلما تقدم العلم يثبت لنا حيوات أشياء كثيرة جداً كنا نظن ألا حياة فيها، وإن ظهر لنا في التفاعلات أن بعض الأشياء تتحول إلى أشياء أخرى، فعلى سبيل المثال الحيوان فيه حياة فإذا ذبحناه وأكلناه، ورمينا عظامه، كانت فيها حياة من نوع ثم صارت أجزاؤه إلى جمادية لها حياة من نوعها، بدليل أنه حين يمر بعض من الزمن يتفتت العظم.

وكنا قديماً في الريف نحلب اللبن في أوعية من الفخار وتوضع في مراقد، ويستمر اللبن أسبوعاً في المرقد، ويكون أحلى في يومه عن أمسه. ويزداد اللبن حلاوة كل يوم، ثم تأخذ زوجة الفلاح قطعة القشطة الأخيرة وتصنع منها الجبن الجميل الطعم. أو الزُّبد لكن بعد أن غلينا اللبن نجده يفسد بعد عدة ساعات؛ لأنك حين وضعته في المرقد، أخذته بالحياة فيه فظلت فيه حيوية حياته، لكن حين غليته فقد قتلت ما فيه من الحياة، فإن لم تضعه في ثلاجة لابد من أن يتعفن، ومعنى التعفن أنه لم يعد يؤدي مهمته كلبن، وإنما انتقل إلى حياة أخرى بفعل البكتريا وغيرها، ولا يُذهب الحياة إلا الهلاك وهو ما قاله الحق:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ. .} [القصص: 88]

إذن، لا تأخذ الميت على أنه شيء ليس فيه حياة، ولكنه انتقل إلى حياة ثانية.

{أوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس. .} [الأنعام: 122]

كأن للإنسان حياة في ذاته، ثم جعل الحق له نوراً يمشي به. كأن الحياة متنقلة في أشياء، ويحتاج الإنسان إلى حياة، ويحتاج إلى نور تتضح به مرائي الأشياء. وكانوا قديماً يعتقدون أن الإنسان يرى حين ينتقل شعاع من عينه إلى المرئي فيراه، إلى أن جاء العربي المسلم ابن الهيثم. وقال هذا رأي جانبه الصواب في قانون الضوء، وقال: إن الإنسان يرى؛ لأن شعاعاً من المرئي يصل إلى عين الرائي. بدليل أن المرئي إن كان في ضوء يدركه الإنسان، وإن كان في ظلمة لا يدركه الإنسان،

ص: 3911

ولو كانت الأشعة تخرج من عين الإنسان لرأى الأشياء سواء أكانت في نور أم في ظلمة، وتعدلت كل النظريات في الضوء على يد العالم المسلم، وجاءت من بعد ذلك الصور الفوتوغرافية والسينما. إذن فالنور وسيلة إلى المرئيات.

ويترك الحق سبحانه وتعالى في أقضية الكون الحسية أدلة على الأقضية المعنوية؛ فالنور الحسيب الذي نراه إما ضوء الشمس وإما ضوء القمر، وإما ضوء المصباح، وإما غير ذلك، وهذا ما يجعل الإنسان يرى الأشياء، ومعنى رؤية الإنسان للأشياء أن يتعامل معها تعاملاً نفعياً غير ضار. ونحن نضيء المصباح بالكهرباء حين يغيب النور الطبيعي - نور الشمس - وعندما نضيء مصابيحنا نرى الأشياء ونتفاعل معها ولا نحطمها ولا تحطمنا، وكل واحد منا يأخذ من النور على قدر إمكاناته. إذن كل واحد يضيء المكان المظلم الذي اضطر إليه بغيبة المنير الطبيعي على حسب استطاعته، فإذا ظهرت الشمس أطفأنا جميعاً مصابيحنا؛ هذا دليل من أدلة الكون الحسيّة الملموسة لنأخذ منها دليلاً على أن الله إن فعل لقيمنا نورا فلا نأتي بقيم من عندنا، مادامت قيمُهُ موجودة.

ويوضح الله أن الإنسان بدون قيم هو ميت متحرك، ويأتيه المنهج ليحيا حياة راقية. ويوضح سبحانه لكل إنسان: احرص على الحياة الثانية الخالدة التي لا تنتهي وذلك لا يتأتى الا اتباع المنهج، وإياك أن تظن أن الحياة فقط هي ما تراه في هذا الوجود لأنه إن كانت هذه هي غاية الحياة لما أحس الإنسان بالسعادة؛ لأنه لو كانت الدنيا هي غايتنا للزم أن يكون حظنا من الدنيا جميعاً واحداً وأعمارنا واحدة، وحالاتنا واحدة، والاختلاف فيها طولاً وقصراً وحالاً دليل على أنها ليست الغاية؛ لأن غاية المتساوي لا بد أن تكون متساوية.

إذن فقول الله هو القول الفصل: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان. .} [العنكبوت: 64]

فهذه هي الحياة التي لا تضيع منك ولا تضيع منها، ولا يفوتك خيرها ولا تفوته. إذن فالذي يحيا الحياة الحسية الأولى وهي الحركة بالنفخ في الروح هو ميت متحرك.

ص: 3912

{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ} [الأنعام: 122]

أي أنه سبحانه قد أعطى لمثل هذا العبد حياة خالدة ونوراً يمشي به، ولا يحطِّم ولا يتحطم.

أما من يقول: إن الحياة بمعناها الدنيوي، لا تختلف عن الحياة في ضوء الإِيمان، لمثل هذا نقول: لا، ليس بينهما تساوٍ فهما مختلفان بدليل ان الحق يقول:{استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال 24]

فسبحانه يخاطبهم، وما دام يخاطبهم فهم أحياء بالقانون العادي، لكنه سبحانه أنزل لرسوله المنهج الذي يحيا به المؤمن حياة راقية، وافطنوا إلى أن الحق سبحانه وتعالى أعطى ومنح الروح الأولى التي ينفخها في المادة فتتحرك وتحس بالحياة الدنيا، إنّه أعطاها المؤمن والكافر. ثم يأتي بروح ثانية تعطي حياة أبدية. ولذلك سمّي منهج الله لخلقه روحاً:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]

فالمنهج يعطي حياة خالدة.

إذن فقوله الحق: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} أي أَوَ من كان ضالاً فهديناه، أو من كان كافراً فجعلناه مؤمناً. ولنلحظ أن فيه «ميْتاً» بالتخفيف، وفيه ميّت بالتشديد. والميّت هو من يكون مآله الموت وإن كان حيًّا، فكل منا ميّت وإن كان حيَّا. ولكن الميْت هو من مات بالفعل وسلبت وأزهقت روحه. ولذلك يخاطب الحق نبيه صلى الله عليه وسلم َ فيقول له:(إنك ميّت) .

أي تؤول إلى الموت وإن كنت حيًّا الآن. لأن كٌلاًّ من مستمر في الحياة إلى أن يتلبس بصفة الفناء، ويقول الحق:«فأحييناه» أي بالمنهج الذي يعطيه حياة ثانية، ولذلك سمّي القرآن روحاً، وسمّي من نزل بالقرآن روحاً أيضاً.

ص: 3913

{وجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس} ولماذا يمشي به في الناس فقط، وليس بين كل الأشياء؟؛ لأن الأشياء الأخرى من الممكن أن تحتاط أنت منها، ولكن كلمة الناس تعبر عن التفاعل الصعب لأنهم أصحاب أغيار. ويتابع الحق:{كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} وهذا تساؤل جوابه: لا، أي ليس كل منهما مساويا للآخر، مثلما نقول: هل يستوي الأعمى والبصير؟ . والفطرة هنا تقول: لا، مثلما تؤكد الفطرة عدم استواء الظلمات والنور، أو الظل والحرور، وهنا يَأْمَنُنَا الله على الجواب؛ لأنه سبحانه - يعلم الأمر إذا طرح السؤال كسؤال وكاستفهام فلن نجد إلا جواباً واحداً هو ما يريد الحق أن يقوله خبراً.

ويذيل الحق الآية: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]

والمعنى هنا أي تركناهم عرضة لأن ينفعلوا للتزيين، ولم يحمهم الحق بالعصمة في اختيارهم؛ لأنه سبحانه قد ترك الاختيار حرًّا للإنسان:{فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]

ويقول الحق من بعد ذلك: {وكذلك جَعَلْنَا فِي. .}

ص: 3914

وقول الحق سبحانه: {وكذلك} تدل على أن شيئاً شبِّه بشيء، فكما وُجد في مكة من يناصبك العداء ويناهضك ويقاومك في أمر الدعوة إلى الله، ويصدّ عن

ص: 3914

سبيل الحق؛ إن تلك قضية لست فيها بدعاً من الرسل؛ لأن هذه المسألة قضية سائدة مع كل رسول في موكب الإيمان، و «كذلك» أي كما جعلنا في مكة مجرمين يمكرون جعلنا في كل قرية سبقت مع رسول سبق هذه المسألة، فلم تكن بدعاً من الرسل. وحيث إنك لم تكن بدعاً من الرسل فلتصبر على ذلك كما صبر أولو العزم من الرسل. وأنت أولى منهم بالصبر؛ لأن مشقاتك على قدر مهمتك الرسالية في الكون كله، فكل رسول إنما جاء لأمة محدودة ليعالج داءً محدوداً في زمان محدود. وأنت قد جئت للأمر العام زماناً ومكاناً إلى أن تقوم الساعة، فلابد أن تتناسب المشقات التي تواجهك مع عموم رسالتك التي خصك الله بها. {وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} [الأنعام: 123]

والإجرام هو مأخوذ من مادة «الجيم» و «الراء» و «الميم» ، الجرْم والجُرْم والجريمة. فيها معنى القطع. و «مجرميها» جمع مجرم، ومجرم من أجرم، وأجرم أي ارتكب الجُرم والجريمة، ومعنى ذلك أنه قطع نفسه بالجريمة عن مجتمعه الذي يعايشه، فهو يعزل نفسه لا لمصلحة لأحد إلا لمصلحته هو، فكأنه قام بعملية انعزال اجتماعي، وجعل كل شيء لنفسه، ولم يجعل نفسه لأحد؛ لأنه يريد أن يحقق مرادات نفسه غير مهتم بالنتائج التي تترتب على ذلك.

إذن فالإجرام هو الإقدام على القبائح اقداماً يجعل الإنسان عازلاً نفسه عن خير مجتمعه؛ لأنه يريد كل شيء لنفسه. ومادام كل شيء لنفسه فعامل التسلط موجود فيه، ويرتكب الرذائل. ولأنه يرتكب الرذائل فهو يريد من كل المجتمع أن تنتشر فيه مثل هذه الرذائل؛ لكي لا يشعر أن هناك واحداً أحسن منه. {. . لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَاّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123]

والمكر - كما نعرف - مأخوذ من التفاف الأغصان بعضها على بعض التفافاً بحيث لا تستطيع إذا أمسكت ورقة من أعلى أن تقول هذه الورقة من هذا الفرع؛ لأن الأغصان والفروع ملفوفة ومتشابكة ومجدولة بعضها مع بعض. والماكر يصنع ذلك

ص: 3915

لأنه يريد أن يلف تبييته حتى لا يُكشف عنه، ومادام يفعل ذلك فاعلم من أول الأمر أنه ضعيف التكوين؛ لأنه لو لم يعلم ضعف تكوينه لما مكر لأن القوي لا يمكر أبداً، بل يواجه، ولذلك يقول الشاعر:

وضعيفة فإذا أصابت فرصة

قتلت كذلك قدرة الضعفاء

والضعيف عندما يملك فهو يحدث لنفسه بأن هذه الفرصة لن تتكرر، فيجهز على خصمه خوفاً من الا تأتي له فرصة أخرى، لكن القوي حين يأتي لخصمه فيمسكه ثم يحدث نفسه بأن يتركه، وعندما يرتكب هذا الخصم حماقة جديدة فيعاقبه.

إذن فلا يمكر الا الضعيف. والحق سبحانه وتعالى في هذه المسألة يتكلم عن المجرمين من أكابر الناس، أي الذين يتحكمون في مصائر الناس، ويفسدون فيها ولا يقدر أحد أن يقف في مواجهتهم. وهناك كثير من الآيات تتعلق بهذه المسألة، وبعضها وقع فيه الجدل والخلاف، ومن العجيب أن الخلاف لم يُصفَّ، وكل جماعة من العلماء يتمسكون برأيهم. وهذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تلتقي مع القول الحق:{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16]

وهذه الآية فيها اشكال، وقامت بسببها معركة بين العلماء؛ فنجد منهم من يقول: وكيف يأمر الله أناساً بالفسق؟ . وحاولوا أن يجدوا تأويلا لذلك فقالوا: إن الحق قد قسر وأجبر أكابر هؤلاء الناس على الفسق. والجانب الثاني من العلماء قالوا: لا، إن الحق لا يقسر البشر على الفسق، بل على الإنسان حين يقرأ كلمة أمر الله في المنهج فلابد أن يعرف أن هذا الأمر عرضة لأن يطاع وعرضة لأن يعصى؛ لأن المأمور - وهو المكلف - صالح أن يفعل، وصالح الا يفعل، وأن الآمر قد أمر بشيء، والمأمور له حق الاختيار؛ وبذلك تجد أكابر القوم إنما استقبلوا أمر الله بالعصيان؛ لأن الحق هو القائل:{وَمَآ أمروا إِلَاّ لِيَعْبُدُواْ الله. .} [البينة: 5]

ص: 3916

والفسق - إذن - مترتب على اختيار المأمور.

وحين نتأمل نحن بالخواطر معنى: «أمر الله» نجد أن أمر الله يتمثل في التكوينات الطبيعية الكونية ولا يوجد لأحد قدرة على مخالفة الله في ذلك، فهو القائل:{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} .

ويتمثل أيضاً أمر الله في التشريعات، وللبشر الذين نزلت لهم هذه التشريعات أن يختاروا بين الطاعة أو العصيان، وسبحانه القائل عن الأمر بالتشريع:{وَمَآ أمروا إِلَاّ لِيَعْبُدُواْ الله} .

وحين يقول الحق: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} .

فسبحانه لا يهلك هذه القرية ظلماً، وإنما يرسل إليها المنهج، فإن أطاعوا فأهلاً وسهلاً، وإن عصوا فلابد لهم من العقاب بالدمار.

وهكذا نرى أن العلماء الذين ظنوا أن الفسق مترتب على الأمر من الله لم يلتفتوا إلى أن ورود الأمر في القرآن الكريم جاء على لونين: أولا: أمر التكوين بالقهريات فلا يستطيع المأمور أن يتخلف عنه، ويمثل الأمر القهري قوله الحق:{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82]

فالأمر جاهز في عالم الأزل ليبرز حين يشاء الحق. والأمر الثاني: هو الأمر التشريعي وهو صالح لأن يختار المكلف بين أن يطيع أو يعصي، وفي هذا الإِطار نفهم قوله الحق:{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}

[الإسراء: 16]

فلا تقل: إن الله يأمر بالفسق؛ فالحق قد أمر المؤمنين بالمنهج لأنه سبحانه لا يأمر بالفحشاء. بل جاء الأمر لكل البشر أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، لكن كبار

ص: 3917

أهل هذه القرية أخذوا البديل للطاعة وهو الفسق والمعصية، فلما أمرهم ففسقوا ماذا يصنع بهم؟ ، هو سبحانه يدمرهم تدميرا فإن كان في الكونيات فلا أحد من خلق الله مكلف في الكونيات، إنما أمره الثاني في اتباع المنهج فلنا أن نفهم أنه الاختيار.

وهكذا نعلم ونفهم معنى هذه الآية لتلتقي مع الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: أي وإذا أردنا أن نهلك قرية أنزلنا منهجاً فأكابرها كانوا أسوة سيئة ففسقوا فيها بعدم إطاعة منهج الله فحق عليها القول فدمرناها تدميرا. وكذلك - أيضاً - نفهم قوله الحق: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَاّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} لأن المكر إنما يريد به الماكر أن يحقق شيئاً من طريق ملتوٍ لأنه ضعيف لا يمكن أن يواجه الحقائق، وهذه الحقائق تستقبلها الفطرة السليمة، وهو يريد تزييف المسألة على هذه الفطرة لذلك يلتوي. ولمثل هذا الماكر نقول: أنت تريد أن تحقق لنفسك خيراً عاجلاً وشهوة موقوتة، ولكنك إن استحضرت العقوبة التي تنشأ من هذا الأمر بالنسبة لك. وكذلك عقوبتك على أنك أضللت الآخرين لرأيت كيف يأتي الشر. {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَاّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123]

أي لا يعلمون، لأنهم لا يوازنون الأمور بدقة تؤدي إلى النفع الحقيقي.

ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ

}

ص: 3918

وكأن الآية التي أرسلها الله مع رسوله وهي القرآن لتثبت لهم صدقه في البلاغ عن

ص: 3918

الله لم تقنعهم، ولم يكتفوا بها، بل طالبوا بآيات أخرى، فهم قد قالوا:{وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} [الإسراء: 90 - 92]

هم لا يريدون أن يؤمنوا بل إنهم يدخلون في اللجاج، والتماس سبل الفرار من الإيمان؛ لذلك تجد أن كل الحجج التي وقفوا بها أمام دعوة الرسول هي أكاذيب؛ فقالوا إنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه، وبين الولد وأبيه، ويدخل بما جاء به - ويزعم أنه من عند الله - الفتنة في الأسرة الواحدة.

لكن لماذا لم يتساءلوا: مادام قد سحر غيرنا فلماذا لم يسحرنا؟ . وهل تأبوا هم على السحر؟ . وهل للمسحور رغبة أو خيار مع الساحر؟ . إنهم في ذلك كاذبون.

ثم قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم َ شاعر. ولو أن أحداً غيرهم قال مثل هذا الكلام لكان مقبولاً لأنه يجهل رسول الله، ولأنه ليس من قوم هم أهل فصاحة وأهل بلاغة وأهل بيان، إنهم يعرفون الشعر، والنثر، والخطابة والكتابة. فلو كان هذا الأمر من غيرهم لكان القول مقبولاً، ولذلك نجد منهم من تصفو نفسه يقول: والله ما هو بقول كاهن ولا بقول شاعر. ويطلب الحق منهم ألا يقولوا رأيا جماهيريا؛ ففي الرأي الجماهيري يختلط ويلتبس الحق بالباطل. بل كان يطلب منهم أن يكون الكلام محدداً بحيث تنسب كل كلمة إلى قائلها فيقول الحق: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ. .} [سبأ: 46]

أي لا تأتوا في أثناء هياج الناس وتتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم َ بالجنون؛ لأن قولكم في الهياج الجماهيري غير محسوب على أحد لكن المطلوب أن تقوموا لله

ص: 3919

مثنى أي اثنين اثنين، وكل اثنين يقولان: هيا بنا نستعرض أمر هذا الرسول ونرى قضاياه: أهو كاهن؟ . أهو ساحر؟ . أهوشاعر؟ فبين الاثنين لا يضيع الحق أبداً لأن كلاًّ منهما يناقش الآخر، وحين يجلس اثنان للنقاش، إذا انهزم منهما واحد أمام الآخر لا يُفضح أمام الغير، لكن حين يتناقش ثلاثة أو أربعة فكل منهم يخاف أن ينهزم أمام غيره، ونجد كل واحد يدافع عن نفسه. ولذلك حين يجلس اثنان معاً ليتناقشا، ويبحثا أي أمر لا يخشى أحدهما الهزيمة؛ لذلك يأتي الأمر من الله أن يقوموا لله مثنى أو فرادى، ويتذكر كل واحد منهم أمر هذا الرسول: أهو مجنون؟ .

إن أفعال المجنون وأعماله تكون متقطعة غير مستقيمة.

ومحمد على خلق عظيم، وهل يقال للمجنون: إنه على خلق عظيم؟؛ لأن الإِنسان منا لا يعرف كيف سيقابله المجنون، أيضربه، أيشتمه، أيقطع له ملابسه؟ . أمّا الخلق العظيم فمعناه الخلق المضبوط بالقيم، وخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم َ مضبوط بالقيم حتى صار ملكة وليس أمرًا افتعاليًّا. وحين يقول الناس عن إنسان إن خلقه الكرم أي تأصلت فيه صفة الكرم تأصلاً بحيث أصبحت تصدر عنه أفعال البذل بيسر وسهولة، وفي أعمال المعاني نسميها خلقاً، وفي أعمال المادة نسميها آلية.

وكلنا يعرف أن الإِنسان إن أراد أن يتعلم قيادة سيارة فهو يتعلم قيادة الأفعال التي تؤدي إلى سير السيارة حتى يكتسب المهارة ويؤديها بيسر وبدون صعوبة، وكذلك الشأن في الخلق حين تصدر وعنه الأفعال بدُربة ومهارة، ونجد - على سبيل المثال - من يتعلم الفقه، فيسأله إنسان عن الحكم في الأمر المعين، فيستعرض الأمر من أوجهه في وقت طويل، لكن من يتدرب يصبح الفقه بالنسبة إليه ملكة، فلا يتعب في استنباط الحكم. كذلك الخلق.

ويوضح لهم الحق: أنتم تقولون عن الرسول: إنه مجنون، فاجلسوا مثنى مثنى أو فرادى وادرسوا تصرفاته ستجدون أنها تصرفات منطقية مبنية على خلق كامل مكتمل، وهو سلوك يختلف بالتأكيد عن سلوك المجنون؛ لأن المجنون لا ضابط له في حركاته ولا في سكناته ولا فيما يدع. وكذلك لا يمكن أن يكون شاعراً؛ لأنكم أنتم أهل شعر، وكذلك ليس بكاهن؛ فالكهنة قد يستبدلون بآيات

ص: 3920

الله ثمنا قليلا، وهو الذي أعلن لكم رفض الملك والثروة والجاه. لكنهم قالوا:{وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله. .} [الأنعام: 124]

وقد حدث الوليد بن المغيرة نفسه بذلك، وكان من ناحية السن أسنّ من رسول الله، ومن ناحية المال كان غنّيا، ومن ناحية الأولاد عنده العزوة والولد، وقال: لو كانت الرسالة بكل هذه الأمور لكنت أنا أولى بهذا لأنني أسنّ ولأنني أكثر مالاً ولأنني أكثر ولداً. وهو قد قاسها بمقاييس البشر، وكأن الوليد لم يكن يعلم أن الرسالة ليست رئاسة، فإذا كنت أنت دون غيرك عندك المال وعندك الأولاد وعندك الزروع وغير ذلك لكنك لست على خلق محمد صلى الله عليه وسلم َ، الذي فطره الله عليه وأعده واصطفاه ليكون رسولا، ولكن مع هذا قال بعضهم:{وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]

ولنسمع رد القرآن: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ. .} [الزخرف: 32]

ويوضح لهم الحق: نحن قسمنا بينهم الأمور الحياتية، لكنكم تريدون تقسيم رحمة الله، وفرق بين الرحمة في الرسالات وبين امتداد الحياة بالأقوات والمال؛ لأن هذه عطاءات ربوبية. لكن الرحمة هي عطاءات ألوهية، انكم تميزتهم في دنياكم بالمال والبنين والبساتين لا لخصوصية فيكم ولكن لأن نظام الكون كله إنما يحتاج إلى مواهب متكاملة لا إلى مواهب متكررة، ولو امتلك كل الناس مثل ما عندك يا وليد من أرض ومال لما وجدت من يفلح لك الأرض، ولما كان عندك من يسرج لك الفرس.

ولهذا جعل الحق مسألة الثروة دولاً، أي يقلب سبحانه هذه الأمور لتكون متداولة بين الناس؛ تكون لهذا في زمن ولآخر في وقت وزمن آخر ولا تدوم لأحد.

وحين جاء الناس إلى أبي جهل يحدثونه في الرسالة قال: زاحمنا بني عبد مناف في

ص: 3921

الشرف؛ أطعموا فأطعمنا، كسوا فكسونا، ذبحوا فذبحنا. حتى صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً الا أن يأتينا بوحي كما يأتيه، ومعنى كفرسي رهان، أي فحين تنطلق الخيل في السباق في وقت واحد كانوا يدقون عوداً في الأرض عند نهاية السباق ومن يجذبه من الأرض يقال له: حاز قصب السبق، وعود القصبة هو غاية المشوار، حتى لا يقولن أحد لقد سبقني بخطوة أو غير ذلك.

وهنا يقول الحق: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ} .

وانظر إلى كلمة {جَآءَتْهُمْ آيَةٌ} ، فمرة يقول:{قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} [طه: 47]، ومرة يقول:{جَآءَتْهُمْ آيَةٌ} ، فكأن الآية بلغت من وضوحها ومن استقلالها ومن ذاتيتها وخصوصيتها أنها تجيء. {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله. .} [الأنعام: 124]

ويقول الله لهم رداً عليهم: لا تقترحوا ذلك على الله؛ لأن {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ؛ لأن الرسالة إنما تجيء لتنشر خيراً في الجميع، ولكنها تعف نفسها عن آثار الانتفاع من ذلك الخير. والغير يريد أن تأتي له الخير ثم يترك بعضاً من الخير للناس. والرسول قد جاء لينشر خيره للآخرين، وهو نفسه لا ينال من هذا الخير إلا البلاغ به. ويأمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قبل أن يموت ألا يأخذ أهله الزكاة، أمّا ما تركه فقد صار صدقة للناس، أي أنه لم ينتفع به في الدنيا؛ لذلك هو مأمون على الرسالة، ولم يردُ أن يأخذ الدنيا ليرثها أهله من بعده. وقد أراده الله كذلك ليكون خيره لكل الناس. فالرسالة تكليف، والنبوة ليس جزاؤها هنا، بل من عظمة الجزاء أنه في الآخرة، «ولذلك حينما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم َ في بيعة العقبة وقالوا: اشترط لنفسك. قال: تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وتعملون كذا وتعملون كذا.»

قالوا له: فما لنا؟ أنت اشترطت لنفسك، فما لنا إن نحن وفينا؟ . ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم َ؟ . قال: لكم الجنة. هذا هو الثمن الذي عنده،

ص: 3922

فمن يريد الجنة يأتي إلى الإيمان، ومن يريد ما هو دون الجنة فليس مكانه مع أهل الإيمان. مع أنه قال لهم فيما بعد ستركبون السفن وتفرشون الزرابي والوسائد وتجلسون عليها، وبشرهم بالكثير، لكنه لم يقل لهم ذلك من البداية لأن من هؤلاء من لا يدرك خيراً في الدنيا مع الإسلام؛ بل يموت والإسلام ضعيف واتباعه في قلة، لذلك أعطاهم الجزاء المضمون لهم جميعاً حين قالوا له: ماذا إن نحن وَفَّيْنا؟ .

قال: لكم الجنة. وكأنه صلى الله عليه وسلم َ يعلمهم أن الدنيا أهون من أن تكون جزاءً على العمل الصالح، فجزاء العمل الصالح خالد لا يفوتك ولا تفوته. {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ. .} [الأنعام: 124]

وحين نتأمل قولهم: {لَن نُّؤْمِنَ} نجد أن في هذا القول إصراراً على عدم الإيمان، أي لن نؤمن حتى في المستقبل إنهم تحكموا في المستقبل. ثم يفضحهم الله فيموت بعضهم على الكفر، ومن بقي منهم يأتون مؤمنين بعد الفتح. ومن العجيب أن العبارة التي ينطقون بها هي عبارة مهزوزة لا تستقيم مع منطق الكفر منهم، قالوا: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله، كأنهم قد عرفوا أن هناك رسلا من الله، والأصل في الآية أن يؤمنوا برسل الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم َ خاتم الرسل، وهذا القول يدل على مجرد المعارضة المقترنة بالغباء، فما دمتم تعرفون أن لله رسلاً يصطفيهم، فكيف تحاولون أنتم تحديد إرادة الله في الاختيار؟ .

إن رسل الله كانت لهم آيات كونية، حسية مرئية، وهي وإن كانت فيها قوة المشهد الملزم، إلا إنه لا ديمومة لها، فمن رأى سيدنا موسى وهو يضرب البحر فينفلق لن يكذب هذه الآية الكونية، إلا أنها أصبحت خبراً والخبر مناسب لمحدودية رسالة موسى، كذلك رسالة عيسى عليه السلام حيث أبرأ الأكمة والأبرص بإذن الله. وهذه الرسالات لزمن محدود وفي قوم محدودين، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم َ جاء ومعه المنهج المعجزة الباقي إلى قيام الساعة، فإن كانت المعجزة حسيّة فلن يراها إلى أن تقوم الساعة. فلا بد له من آية باقية إلى قيام الساعة؛ لذلك كانت الآية في المعنويات والعقليات التي لا تختلف فيها الأمم ولا تختلف فيها الأزمان،

ص: 3923

لكنهم أرادوا معجزة حسية، وأخرى عقلية، حتى إذا جاءت واحدة فقط أنكروا الثانية، فحسم الحق الأمر وقال:{الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} .

ولو نظروا إلى كلمة {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، فكلمة {أَعْلَمُ} تدل على أنه قد يمكّن الله بعضاً من خلقه ليعلموا لماذا اختار الله محمداً صلى الله عليه وسلم َ؛ لأن الذين واجههم صلى الله عليه وسلم َ بأمر الدعوة، هل انتظروا منه أن تكون له آية أو معجزة، أو آمنوا به بمجرد الإخبار؟ . لقد آمنوا بمجرد الإخبار؛ لأن تجربتهم معه أكدت أنه صادق وأمين على خبر الأرض، ولابد أن يكون مأموناً على خبر السماء؛ لأنه لم يكذب عليهم في أمر الأرض، فكيف يكذب في أمر السماء؟

إننا نجد أن سيدنا أبا بكر، بمجرد أن علم بأمر الرسالة قال: صدقت، وسيدتنا خديجة صدقته من فور أن قال، وأخذت صدق بلاغه من مقدمات حياته، وقالت أول استنباط فقهي في الإسلام.

وكذا ذلك لسيدتنا أم المؤمنين خديجة قبل أن يعرف الفقه بمعناه الإصطلاحي الحديث، مما يدل على أن الاستنباطات للأدلة هي استنباطات للعقل الفطري السليم البعيد عن الأهواء. إنه يقدر أن يستقرئ الأمر ولابد أن يهتدي، فحين أعلن لها أنه خائف أن يكون الذي أصابه مرض أو مسٌ من الجن رفضت ذلك لأنه يصل الرحم، ويحمل الكلّ، ويعين على نوائب الدهر، وقال له: والله لا يخزيك الله أبداً.

إذن فقد جاءت بالمقدمات التي ترشح أن ربنا لا يمكن أن يخذله، وكل المقدمات مفاخر، كلها خلق عظيم، وكلها التقاءات إنسانية قبل أن يأتي منهج السماء، التقاءات إنسانية بالفطرة دون تقدير أو تدبير، وكان هذا أول استنباط فقهي في الإسلام. ولذلك نعرف السر لماذا جعل الله لرسوله أم المؤمنين خديجة أو زوجة له؟ لأنه ستمر به فترة لا يحتاج فيها إلى زوجة فقط. بل إلى ناضجة، ذلك النضج الكامل الذي تستقبل به مسائل النبوة، ولذلك حين يخرج إلى الغار تأتي له حكمة خديجة في الاستنباط قبل أن يوجد فقه الإسلام؟

{الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} ؟ ، وهم قد أصروا على ألا يعلموا على الرغم من أنهم وجدوا منه خصالاً وأشياءً حكموا بوجودها فيه وأنها صفات رسول.

ص: 3924

{سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله} [الأنعام: 124]

هنا نجد فجوة انتقالية في الأداء، فمن قبل يتحدث سبحانه عمن يظنون أنهم كبار، فيأتي ليقول: إن الصِّغار سيصيبهم، وليس معنى الصغار الذل والهوان لدى الناس، لا، بل صغار وذل وهوان عند نفس كل منهم ذاتيًّا، فكل منهم سيشعر بالذل أمام نفسه ويستصغر نفسه. كأن الصغار منسوباً إلى عندية الله فهو لا يزول أبداً؛ لأنه لا توجد قوة ثانية تقول لله إن قدرك لن يتحقق. فالصغار والذل والهوان سينزل بهم هم مع كونهم أكابر المجرمين فلن يستطيعوا دفعه عن أنفسهم، وسيصيبهم مع ذلك عذاب شديد.

لماذا العذاب الشديد؟

لقد قلنا من قبل: إن العذاب يوصف مرة بأنه أليم، ويوصف مرة أخرى بأنه مهين، ويوصف هنا بأنه شديد. والعذاب المهين الذي تكون فيه ذلة النفس. والعذاب الأليم الذي يكون في البنية؛ لأن الإِنسان له بنية وله معنويات قيمية، فمن ناحية البنية يصيبه العذاب، ومن ناحية المعاني النفسية تصيبه الإِهانة، فهناك من يتعذب لكنك لا تملك أن تهينه ويتحمل المشقة برجولة، ومهما تلقى من الإِهانة فلا تزال نفسه كريمة عليه، مصدقاً لقول الشاعر:

وتجلدي للشامتين أريهمو

أني لريب الدهر لا أتضعضعُ

لذلك ينزل قدر الله بالعذاب على نوعين: عذاب بنية وعذاب قيم، وهذا هو الصغار، والعذاب الشديد، وهو الذي لا يقوى الإِنسان على تحمله، ولم يُنزل الحق العذاب بهؤلاء جزافاً، لكنه بسبب ما كانوا يمكرون، فسبحانه هو القائل:

{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118]

والحق سبحانه وتعالى حينما عرض هذه القضية عرضها ليبين لنا أنه لم يرغم بقدره خلقاً من خلقه على مسائل الاختيار في التكليف بل أوجد ذلك في إطار:

ص: 3925

{فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ. .} [الكهف: 29]

ولكن الإرغام من الحق جاء للأمور القهرية القدرية الكونية الخارجة عن نطاق التكليف، أما أمر التكليف فالله سبحانه وتعالى قال فيمن يرفضون الطاعة:{سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} وسبحانه قد أوضح لنا: نحن لم نجعل ذلك قهراً منا لهم دون عمل عملوه باختياره بل إن العذاب والصغار كانا جزاءً لمكرهم.

ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى لنا بقضية يقع فيها الجدل التبريري لبعض الناس الذين أسرفوا على أنفسهم، ويريدون أن يجعلوا إسرافهم على أنفسهم في الذنوب خاضعا لأن الله أراد منهم ذلك؛ فيقول سبحانه:{فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ. .}

ص: 3926

نجد من يقول إن ربنا حين يريد لإنسان أن يشرح صدره للإسلام فذلك من إرادة الله وما ذنب المكلف إذن؟ .

وللرد على هذا نقول: لقد عرفنا من قبل أن الهداية لها معنيان: المعنى الأول: الدلالة وهي أمر وارد وواجب حتى للكافر. فإن هُدى الله للكافر أن يدلّه إلى طريق الخير، ولكن هناك هداية من نوع آخر وهي للذي آمن، ويصبح أهلاً لمعونة الله بأن يخفف عنه أعباء التكاليف وييسرها له ويجعله يعشق كل الأوامر ويعشق البغض والتجافي عن كل النواهي.

ص: 3926

يقول بعض الصالحين: «اللهم إني أخاف ألا تثيبني على طاعة، لأني أصبحت أشتهيها» كأنه عشق الطاعة بحيث لم يعد فيها مشقة أو تكليقاً، لذلك فهو خائف، وكأنه قد فهم أنه لابد ان توجد مشقة، ولمثل هذا لإنسان الصالح نقول: لقد فقدت الإحساس بمشقة التكليف لأنك عشقته فألفت العبادة كما ألفتك وعشقتك، وحدث الانجذاب بينك وبين الطاعة، وجعلت رسول الله مثلاً لك وقدوة، فقد كان صلى الله عليه وسلم َ يرى أنه إذا نودي إلى الصلاة يقوم الناس إليها كسالى لكنه «صلى الله عليه وسلم َ يقول لبلال حينما يأتي وقت الصلاة: أرحنا بها يا بلال» .

وهذا غير ما يقوله بعض ممن يؤدون الصلاة الآن حيث يقول الواحد منهم: هيا نصل لنزيحها من على ظهورنا، وهؤلاء يؤدونها بالتكليف لا بالمحبة والعشق. أما الذين ألفوا الراحة بالصلاة حينما يحزبهم ويشتد عليهم أمر خارج عن نطاق أسبابهم، ويقول الواحد منهم: مادامت الصلاة تريح القلب، فلأذهب إليها وألقى ربي زائداً على أمر تكليفه لى متقربا إليه بالنوافل، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة. ومعنى حزبه أن الأسباب البشرية لا تنهض به. فيقوم إلى الصلاة، وهذا أمر منطقي، لله المثل الأعلى.

كان الإنسان منا وهو طفل إذا ما ضايقه أمر يذهب إلى أبيه، فما بالنا إذا ما ضايقنا أمر فوق الأسباب المعطاة لنا من الله فلمن نروح؟ إننا نلجأ لربنا ولقد كان صلى الله عليه وسلم َ إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة.

إذن فعشق التكليف شيء يدل على أنك ذقت حلاوة الطاعة، وقد يجوز أنه شاق عليك؛ لأنه يخرجك أولاً عما ألفت من الاعتياد. فعندما يأتيك أمر فيه مشقة تقول: إن هذه المشقة إنما يريد بها لي حسن الجزاء، فإذا ما عشقت الصلاة صارت حبًا لك، وكان واحد من الصالحين - كما قلت - يخاف ألا يثاب على الصلاة لأنها أصبحت شهوة نفس، والإنسان مطالب بأن يحارب نفسه في شهواتها لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وضع لنا المثل فقال:

«لا يؤمن أحدكم حتى يصبح هواه تبعاً لما جئت به» أي يصبح ما يشتهيه موافقاً لمنهج الله، فإذا وصل وانتهى المؤمن إلى هذه المنزلة فهو نعم العبد السوي.

وهكذا عرفنا أن الهداية قسمان: هداية بمعنى الدلالة، وهداية بمعنى المعونة.

ص: 3927

فإذا ما اقتعنت بهداية الدلالة وآمنت بالحق فسبحانه يخفف عليك أمور التكليف ويجعلك عاشقاً لها، ولذلك يقول أهل الصلاح: ربنا قد فرض علينا خمس صلوات، وسبحانه يستحق منا الوقوف بين يديه أكثر من خمس مرات، وفرض علينا ربنا نصاب الزكاة وهو اثنان ونصف بالمائة، وسبحانه يستحق منا أكثر من ذلك لأنه واهب كل شيء، وهذا عشق التكليف، وهذا هو معنى قوله:{فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ} .

{فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ} أي يدلّه سبحانه كما دل كل العباد إلى المنهج، لكن الذي اقتنع بالدلالة وآمن يسهل عليه تبعات التكليف مصداقاً لقوله الحق:{وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} [مريم: 76]

فهذه هداية المعونة، وفيه فرق هنا بين الإِسلام والإِيمان لأن الإِيمان لا يحتاج فقط إلى الاعتقاد؛ إنما هو حمل النفس على مطلوبات الإِيمان. ولذلك نجد أن كبار رجال قريش رفضوا أن يقولوا:«لا إله إلا الله» ؛ لأنهم علموا أنها ليست مجرد كلمة تقال، ولكن لها مطلوبات تتعب في التكاليف الناتجة عنها ب «افعل» و «لا تفعل» . فالتكليف يقول لك:«افعل» لشيء هو صعب عليك، ويقول لك:«لا تفعل» في شيء من الصعب أن تتركه، لذلك يقول سبحانه:{فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ} [الأنعام: 125]

وسبحانه يشرح صدره للإِسلام بعد أن علم أنه قد اعتقد شريعة التوحيد ورضيها واطمأن بها، فيأتي إلى فهم التكاليف؛ لأن صحيح الإِسلام يقتضي الانقياد لأمور التكاليف، فمن أخذ الهداية الأولى وآمن بربه، يوضح له سبحانه: آمنت بي وجئتني؛ لذلك أخفف عنك تبعات العمل، ويشرح صدره للإِسلام، وشرح الصدر قد يكون جزاءً. فسبحانه هو القائل:

ص: 3928

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]

فقد جازاه ربنا بذلك؛ لأنه أدّى ما عليه وصمد. كأن الله يريد بالإِيمان من المؤمن أن يقبل على الحق، وحينما يقبل على الحق، يبحث العبد ليتعرف على المراد والمطلوب منه فيعلم أنها التكاليف، فإذا رأى الله منك الاستعداد المتميز لقبول التكاليف، فإنّه يخففها عنك لا بالتقليل منها، ولكن بأن يجعلك تشتهيها، وقد تلزم نفسك بأشياء فوق ما كلفك الله؛ لتكون من أهل المودة ومن أهل التجليات ومن الذين يدخلون مع الله في ود، وتلتفت لنفسك وأنت تقول: لقد كلفني الله بالقليل وسبحانه يستحق الكثير. فتزيد من طاعتك وتجد أمامك دائماً الحديث القدسي.

«من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.»

أي بالأمور التي تزيد على ما كلفه في الصلاة والزكاة والصيام والحج.

إذن فمعنى {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ} أي يجعل الأمور التي يظن بعض من الناس أنها متعبة فإنه بإقباله عليها وعشقه لها يجدها مريحة ويقبل عليها بشوق وخشوع. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يترك في خلقه مُثُلاً للناس. فنجد المال عزيزاً على النفس حريصة عليه لأنه إن كان المال قد جاء بطريق شرعه الله وأحله فهو يأتي بتعب وبكدّ؛ لذلك يحرص عليه الإِنسان، فيحنن الله العبد من أجل البذل والعطاء.

إننا نجد المؤمن يعطي للسائل لأن السائل هو الجسر الذي يسير عليه المسلم إلى الثواب من الله، فيقول العبد المؤمن للسائل: مرحباً بمن جاء ليحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة، ولذلك عندما جاء مسلم إلى الإِمام عليّ رضي الله عنه وكرّم الله وجهه -، قال المسلم: أنا أريد أن أعرف أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟

ص: 3929

واختار الإمام عليّ مقياساً للإِيمان في نفس كل مؤمن، وقال له: إن جاءك من يطلب منك، وجاء من يعطيك، فإن كنت تهش لمن يعطيك فأنت من أهل الدنيا، وإن كنت تهش لمن يأخذ منك فأنت من أهل الآخرة؛ لأن الإنسان يحب من يعمر له ما يحب.

إذن ف «يشرح صدره للإسلام» أي يخفف عنه متاعب التكليف بحيث لا توجد مشقة، ثم يرتقي بعد ذلك ارتقاءًَ آخر بأن يعشقه في التكليف. ويهديه الله إلى طريق الجنة، لأن هناك هداية إلى المنهج وهداية إلى الجزاء على المنهج، ولذلك نجد القرآن يقول؛ عمن ضلوا:{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} [النساء: 168 - 169]

كأن هناك هداية إلى العمل وهداية إلى الجزاء، ونجد الحق يقول:{والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4 - 6]

وقد يتساءل إنسان: كيف يهدي الله من قتل، وهل هناك تكليف بعد القتل؟ . نقول: انظر إلى الهداية، إنها هداية الجزاء «سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم» .

وهكذا نعرف أن هناك هداية الجزاء، من يحسن العمل يُجزِه الله الجنة، أما من يسيء فله عذاب في الدنيا والآخرة. {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]

ص: 3930

وهل هذا تجن من الله على خلقه؟ لا، لأنه مادام دعاهم للإيمان فآمن بعضهم وصاروا أهلاً للتجليات، وكفر بعضهم فلم يؤمنوا، فصاروا أهلاً للحرج وضيق الصدر.

ومعنى الضيق أن الشيء يكون حجمه أقل مما يؤدي به مهمته، فحين يقال: ضاق البيت بي وبعيالي، فهذا يعني أن الرجل وزوجه في البداية عاشا في غرفتين، وكان البيت متسعاً. ثم انجبا عيالاً كثيرة فضاق بهم البيت. وهكذا نعلم أنه لم يطرأ شيء على الجدران ومساحة البيت، لكن حين زاد عدد الأفراد شعر رب الأسرة بضيق المنزل. ويقال: صدره ضيّق أوضيْق فقد ورد في القرآن لفظ ضيق على لغتين: فالحق يقول: {. . وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]

وهناك في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها توجد كلمة ضَيّق، والحق يقول:{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ. .} [هود: 12]

فما المراد من «ضائق» ، و «ضيَق» ، و «ضيْق» ؟ . نعرف أن الصدر هو مكان الجارحتين الأساسيتين في التكوين: القلب والرئة، والرئة هي الجارحة التي لا تستمر الحياة الا بعملها؛ فقد تبطئ الأمعاء مثلا، أو تتوقف قليلا عن عملها، ويتغذى الإنسان على خزينته من الدهن أو اللحم ولذلك يصبر الإنسان على الجوع مدة طويلة، ويصبر على الماء مدة أقل، لكنه لا يصبر على افتقاد الهواء لدقائق، ولا صبر لأحد على ترك الشهيق والزفير.

ولقد قلنا من قبل: إن الحق سبحانه وتعالى قد يملكّ بعضاً قوت بعض. وأقل منه أن يملِّك بعضا ماء بعض، لكن أيملّك أحداً هواء أحد؟ لا؛ لأن الرضا والغضب أغيار في النفس البشرية. فإذا غضب إنسان على إنسان، وكان يملك الهواء وحبسه عنه فالإنسان يموت قبل أن يرضى عنه هذا الآخر، ولذلك لم يملّك الله الهواء لأحد من خلقه أبداً.

إذن كل المسألة المتعلقة بقوله: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} نعلم عنها أن الصدر

ص: 3931

هو محل التنفس، والرئة تأخذ الأوكسجين وتطرد ثاني أوكسيد الكربون، وعندما يصاب الإنسان بنوبة برد نراه وهو يجد صعوبة في التنفس، كأن حيّز الصدر صار ضيقاً، فلا يدخل الهواء الكافي لتشغيل الرئتين، ويحاول الإنسان أن يعوض بالحركة ما فاته فينهج. ويشخص الأطباء ذلك بأن المريض يريد أن يأخذ ما يحتاجه إليه من الهواء فينهج؛ لأن الحيّز قد ضاق، وكذلك عندما يصعد الإنسان سلماً، ينهج أيضاً؛ لأن الصعود يحتاج إلى مجهود، لمعاندة جاذبية الأرض، فالأرض لها جاذبية تشد الإنسان، ومن يصعد إنما يحتاج إلى قوة ليتحرك إلى أعلى ويقاوم الجاذبية.

إننا نجد نزول السلم مريحاً؛ لأن في النزول مساعدة للجاذبية، لكن الصعود يحتاج إلى جهد أكثر، فإذا ضاق الصدر فمعنى ذلك أن حيز الصدر لم يعد قادراً على أن يأخذ الهواء بالتنفس بطريقة تريح الجسم، ولذلك يقال:«فلان صدره ضيق» أي أن التنفس يجهده إجهاداً بحيث يحتاج إلى هواء أكثر من الحجم الذي يسعه صدره.

{ومَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} والحرج معناه الحجز عن الفعل، كأن نقول حرًَّجت على فلان أن يفعل كذا، أي ضيقت عليه ومنعته من أن يؤدي هذا العمل. «كأنما يصعّد في السماء» .

وعلمنا أن الصعود لأعلى هو امتداد لفعل الجسم إلى جهة من جهاته. فالجهات التي تحيط بأي شيء ست: هي فوق وتحت، ويمين، شمال، وأمام، وخلف، وعرفنا أن الهبوط سهل؛ لأن الجاذبية تساعد عليه، والمشي ماذا يعني؟ المشي إلى يمين أو إلى شمال أو إلى أمام أو إلى خلف، فهو فعل في الاستواء العادي الظاهر، والذي يتعب هو أن يصعد الإنسان، لأنه سيعاند الجاذبية، وهو بذلك يحتاج إلى قوتين: قوة للفعل في ذاته، والقوة الثانية لمعاندة الجاذبية.

{وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء} وذلك بسبب مشقات التكليف؛ لأنه لم يدخلها بعشق، فلا يدخل إلى مشقات التكليف بعشق إلا المؤمن فهو الذي يستقبل هذه التكاليف بشرح صدر وانبساط نفس وتذكر بما يكون له من الجزاء على هذا العمل، والذي يسهل مشقة الأعمال حلاوة تصور الجزاء عليها؛ فالذي يجتهد في دروسه إنما يستحضر في ذهنه لذة النجاح وآثار هذا النجاح

ص: 3932

في نفسه مستقبلاً وفي أهله. أما الذي لا يستحضر نتائج ما يفعل فيكون العمل شاقاً عليه. {ومَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء. .} [الأنعام: 125]

والسماء هي كل ما علاك فأظلك، فالجو الذي يعلوك هو سماء، وكذلك السحابة، وأوضح لنا ربنا أنه أقام السموات السبع، وهنا أراد بعض العلماء الذين يحبون أن يظهروا آيات القرآن كمعجزات كونية إلى أن تقوم الساعة، أرادوا أن يأخذوا من هذا القول دليلاً جديداً على صدق القرآن، وتساءلوا: من الذي كان يدرك أن الذي يصعد في الجو يتعب ويحتاج إلى مجهودين: الأول للعمل والثاني لمناهضة الجاذبية ولذلك يضيق صدره لأنه لا يجد الهواء الكافي لإمداده بطاقة تولد وقوداً.

ونقول لهؤلاء العلماء: لا يوجد ما يمنع استنباط ما يتفق في القضية الكونية مع القضية القرآنية بصدق، ولكن لنحبس شهوتنا في أن نربط القرآن بكل أحداث الكون حتى لا نتهافت فنجعل من تفسيرنا لآية من آيات القرآن دليلاً على تصديق نظرية قائمة، وقد نجد من بعد ذلك من يثبت خطأ النظرية.

إنه يجب على المخلصين الذي يريدون أن يربطوا بين القرآن لما فيه من معجزات قرأنية مع معجزات الكون أن يمتلكوا اليقظة فلا يربطوا آيات القرآن إلا بالحقائق العلمية، وهناك فرق بين النظرية وبين الحقيقة؛ فالنظرية افتراضية وقد تخيب.

لذلك نقول: أنبعد القرآن عن هذه حتى لا تعرضه للذبذبة. ولا تربطوا القرآن إلا بالحقائق العلمية التي أثبتت التجارب صدقها.

وقائل القرآن هو خالق الكون، لذلك لا تتناقض الحقيقة القرآنية مع الحقيقة الكونية؛ لذلك لا تحدد أنت الحقيقة القرآنية وتحصرها في شيء وهي غير محصورة فيه. وتنبه جيداً إلى أن تكون الحقيقة القرآنية حقيقة قرآنية صافية، وكذلك الحقيقة الكونية. {. . كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]

ص: 3933

والرجس وهو العذاب، إنما يأتيهم بسبب كفرهم وعدم إقبالهم على التكليف.

ويقول الحق بعد ذلك: {وهذا صِرَاطُ. .}

ص: 3934

و «هذا» مقصود به ما تقدم من آيات. من كتاب الإِسلام وهو القرآن، وذلك ما يشرح الصدر القابل للإِيمان، والقرآن هو الحامل لمنهج الإِسلام؛ فمرة تعود الإِشارة إلى القرآن أو إلى الإِسلام. وليس هناك خلاف بين القرآن والإِسلام.

{وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} . و «الصراط» هو الطريق السَّوي، والطريق السَّوي قد يكون مع استوائه معوجاً لكن هذا الطريق مستوٍ ومستقيم، ونعلم أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة للغاية. وعلى هذا فصراط لا تغني عن مستقيم، ومستقيم لا يغني عن صراط، بل لابد من صراط معبد ومستقيم ليكون أقصر طريق إلى الغاية وبلا متاعب، إننا - نحن البشر - نرى المهندسين وهم يقيسون الأبعاد والمسافات والغايات والبدايات والنهايات، وبعد ذلك يربطون البدايات بالغايات.

إنهم يحضرون آلات معينة ليرصدوا استقامة الطريق وكيفية تمهيده. وقد يعترض استقامة الطريق عقبات صبعة شديدة كَأْدَاء كجبل مثلاً، فيقوم المهندسون إما بنحت نفق في الجبل ليضمنوا له الاستقامة، وإما بأن يحني الطريق ليضمنوا جودة تعبيد الطريق. فإن جاء المهندسون وقالوا نمشي من هنا لنضمن استقامة الطريق فإننا نفعل ذلك. وإلاّ جعلوا الطريق متعرجاً أو حلزونيًّا؛ وذلك ليتفادى السائر العقبات التي ليس له قدرة عليها.

لكن إذا كان الصراط قد مهده رب، أتوجد له عقبة؟ طبعاً لا، إذن فهو طريق مستقيم. ولنلحظ أنه سبحانه قال:«صراط ربك» أي أنه جاء بها من ناحية

ص: 3934

الربوبية، والربوبية عطاء الرب، إنه سيد، ومربٍ، وخالق الخلق ويضمن لهم ما يعينهم على مهمتهم في الوجود معونة ميسرة سهلةً. وهكذا نعرف أن طريق الحق هو الصراط المعبد المستقيم، أي الذي يصل بين البداية والنهاية. فإن كان الطريق الذي نتبعه مستقيماً ومعبداً، وسهلاً، فلماذا لا نتبعه؟

«هذا صراط ربك» . ونلحظ أنه سبحانه قد أسند الرب لمحمد، أي من أجل خاطره جعل الصراط مستقيماً؛ لأنه سبحانه هو المتولي لربوبيتك يا محمد، وسبحانه رب الكون كله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم َ عين أعيان الكون. {وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام: 126]

«فصّلنا» أي أنّ كل شيء في هذا الكون مخلوق لما يناسبه، وكل قضية من قضايا الكون خلقها ربنا لتحقق الفائدة منها بدون مشقة، وبدون عنت. والمنهج الذي أنزله الله إنما يصلح الكون ويجعل كل شيء فيه مناسباً لمهمته؛ لأن الله إله كل الناس وهم بالنسبة إليه سواء لأنه لم يتخذ لا صاحبة ولا ولداً. ولا يعطي سبحانه الحياة لمخلوق ويوجده في الكون، ثم يعرّيه من أسلحة الحركة في الحياة، ولكل إنسان سلاح من موهبة أو قدرة وبذلك تتعدد الأسلحة والمواهب والقدرات، فمن يريد أن يبني بيتاً، أنقول له: اذهب إلى كلية الهندسة لتتعلم كيف ترسم البيت وتخططه؟ أنقول له: تعلم كيف تكون فنيًّا وكهربيًّا ونقاشاً؟ إن الفرد الواحد لا يمكن أن يتعلم كل هذه التخصصات، لذلك وزّع الله المواهب على خلقه؛ هذا عنده موهبة ليعمل لنفسه، ويعمل لغيره.

وبعد ذلك يأتي غيره ليؤدي له عملاً ليس له فيه موهبة بحيث يتكامل المجتمع كله ولا يتكرر أفراده.

ولو كنا تخرجنا جميعاً كأطباء أو مهندسين لما نفعت الدنيا، ومن نقول عليهم: إنهم فشلوا في التعليم يقومون بأعمال في الحياة ما كنا نستطيع الحياة بدونها؛ فقد خلقهم الله بقدرات عقلية محدودة ليهبهم قدرات أخرى تصلح في مهمات أخرى. وإن تعلم المجتمع كله تعليماً عالياً لصار الهرم مقلوباً. وإن انقلب الهرم فمعنى هذا أن أجراءً منه ستكون بغير دعائم في الأرض. لذلك نجد أن هناك إعداداً عقليا أراده الحق لكل واحد من الخلق، ولا نستطيع أن نقول لكل إنسان: تعلم وتخرج في

ص: 3935

الجامعة ثم اكنس الشارع. وكن في الغد حداداً. لذلك ربط الحق كل عمل بالحاجة إليه، ومن يحسن استقبال قدر الله في نفسه يُعطِ الله له من العمل كل الخير.

ونلحظ الآن أن من يعمل موظفاً في الدولة يحيا في راتب محدود، بينما تجد السباك يقدر عمله بأجر يحدده هو، ويبقى الويل والتعب لمن كان تقدير عمله في يد غيره {وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} .

وانظر كل قضية في الكون، لم يُدخل ابن آدم فيها أنفه تجدها مستقيمة، ولا يأتي الفساد إلا في القضايا التي أدخل ابن آدم أنفه فيها بدون منهج الله. فإن دخلت في كل مسألة بمنهج الله يستقيم الكون تماماً. ولذلك يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى النظام الأعلى في كونه والذي لا تدخل لنا فيه. ولا سيطرة عليه؛ السموات، والكواكب، والشمس، والقمر، وحركة الأرض، كل تلك الكائنات نجد أمورها تسير بانتظام، ولذلك يقول لنا الحق سبحانه:{والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلَاّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 7 - 8]

فإن أردتم أن تستقيم أموركم في شئونكم وأحوالكم الاختيارية فادخلوا فيها بمنهج الله؛ لأن الأشياء التي تدار بمنهج الله بدون أن يتدخل فيها البشر تؤدي مهمتها كما ينبغي.

فعلى الإِنسان - إذن - أن يتذكر كيف يأخذ من المقدمات التي أمامه ما يوصل إلى النتائج، ولابد أن يأخذ المقدمات السليمة ليصل إلى الغايات الفطرية. وأقصر الأمور أن تسأل نفسك: أنت صنعة من؟ صنعة نفسك؟ لا، هل أنت من صنعة واحد مثلك؟ لا. وهل ادّعى واحد في كون الله - وما أكثر ما يُدَّعى - أنه خلقك أو خلق نفسه؟ لا. بل أنت وهو وكل الكون من صنعة الله، فدعوا الله يقرر قانون صيانتكم، وسيظل الناس متعبين إلى أن يسلموا الصنعة إلى خالقها. {وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} .

ولم يقل فصلنا الآيات لواحد، بل قال «لقوم» حتى إذا ما مال أو غفل واحد في الفكر بعدله غيره. وكلنا متكافلون في التذكير، وهذا التكافل في التذكير يعصم كل

ص: 3936

مؤمن من نفسه؛ فإن حصل عندي قصور من سهو أو من غفلة أو من هوى يعدله غيري. وهذه قضية كونية لو استقرأت الوجود كله وجدتها لا تتخلف أبدا، ولا بد من تذكر الغاية التي جاء بها قوله الحق:{لَهُمْ دَارُ السلام. .}

ص: 3937

أي أن لهؤلاء المتقدمين الذين صبروا وصابروا ورابطوا، لهم دار السلام، وهو أسلوب مكون - كما يقال - من مبتدأ وخبر، الا أن المبتدأ أُخرِّ هنا، والخبر تقدّم، وكان المنطق أن يقال:«دار السلام لهؤلاء» ولكن الأسلوب القرآني جاء ليقدم الخبر المكون من الجار والمجرور ومتعلقه، ويؤخر المبتدأ وذلك لخصوصية أرادها الحق، وهي أن هذه الدار لهم وحدهم دون غيرهم فهي خالصة لهم يوم القيامة و «دار السلام» مكونة من كلمتين، «دار» ومعناها ما يستقر فيه الإنسان، ويجمع هذا المكان كل ما تتطلبه حياة الإنسان، وهي أوسع قليلاً من كلمة «بيت» ؛ لأن البيت مكان يعد للبيتوتة، لكن كلمة «دار» تعد للحياة ولما يتعلق بالحياة من مقوماتها.

و «دار» هنا مضافة إلى السلام، وهو - كما نعلم - اسم من أسماء الله، إذن فالحق هنا يوضح: لهم دار منسوبة للسلام وهو الله، وهم مستحقون لها جزاءً منه، فإذا كانت الدار التي وعدها الله هي دار السلام وهو الله، فلابد أن فيها متعاً وامكانات على قدر فضل المضاف إليه وهو الله، ولماذا لم يقل الله:«دار الله» ؛ لأن الله أراد أن يأتي بوصف آخر من أوصافه؛ ليعطيهم السلام والأمن والاطمئنان.

وهناك فرق بين دور الدنيا، وهذه الدار؛ فدور الدنيا فيها متع، ولكنك فيها بين أمرين: إما أن تفوت أنت ما هي فيه، وإما أن يفوتك ما فيها، ولذلك لا يوجد في الدنيا أمن؛ لأن غيرك قد يناوئك فيها ويعاديك، وقد تأتي لك مكدرات المرض، وقد تأتي لك معكرات الأعداء، كل ذلك ينغص عليك الأمن والسلام في الدنيا. ولذلك أراد الحق ان تكون لك الآخرة دار السلام مادمت قد آمنت، وأن تأمن فيها

ص: 3937

من كل الآفات التي كانت في دار الدنيا. {لَهُمْ دَارُ السلام عِندَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127]

وكأن دار السلام ليست وعداً من الله بأن تكون، ولكنها جاهزة معدة عند الله ومحفوظة لديه تنتظر المؤمنين، وسبحانه قد خلق جناناً تتسع لكل خلقه على فرض أنهم آمنوا، وجعل من النار مثل ذلك على قدر خلقه، على فرض وتقدير أنهم كفروا. وسيأخذ المؤمنون ما أعد لهم من دور الإيمان ويرثون ما أعد للكافرين من دور الإيمان على فرض أنهم آمنوا في الدنيا. {أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10 - 11]

فلم يخلق الحق جناناً محدودة، لا، بل أعد وهيأ من الجنان ما يتسع لكل الخلق إن امنوا، ومن النيران ما يتسع لكل الخلق إن كفروا. ومادامت العندية منسوبة إلى الله فهي عندية مأمونة.

وبعد ذلك أيتخلّى الله عنهم ويكلهم إلى ما أعدّه لهم؟ . لا، بل قال:{. . وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 127]

فهناك إعداد، ثم قيومة ولاية الله، وهذه القيومة لله، هي للمؤمنين في الدنيا، لكن فلنلاحظ أن الولاية في الدنيا قد تكون فيها أسباب مخلوقة لله، لكن في الآخرة هناك الجزاء الذي لا يكله الله للأسباب، فتكون الولاية مباشرة له؛ لأنه سيعطيك فوراً، وإذا خطر أي شيء بباللك تجده حاضراً: فهي متعة على غير ما ألف الناس؛ لأن الناس يتمتعون في الدنيا بواسطة الأسباب المخلوقة لله. ولكن في الآخرة فلا ملكية لأحد حتى في الأسباب، لذلك يقول سبحانه:{لِّمَنِ الملك اليوم. .} [غافر: 16]

ص: 3938

وستجد الإِجابة هي قوله - سبحانه -: {لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16]

والحق هو الولي الذي يليك، قرباً تنتفع به، فلا تضطر حتى أن تنادي عليه ليأتي لك بالمنافع ويدفع عنك المضار كما عمل لك في الدنيا ووفقك للعمل وهو وليك في الآخرة بحسن الجزاء لك بسبب ما كنت تعمل؛ فالعمل في الدنيا هو الزرع وهو الحرث لثمرة الآخرة. ولكن أيعطينا الله على قدر أعمالنا؟ لا، بل يعطينا على قدر صبرنا؛ لأنه إن كان العطاء على قدر الأعمال، إننا لو حسبناها لما أدينا ثمن عشر معشار نعم الله علينا في الدنيا. فكأننا نعمل في الدنيا لنؤدي شكر ما أفاء علينا وأعطانا من النعم، فإذا جاء الحق سبحانه وتعالى وأعطانا بعد ذلك ثواباً فهو الفضل منه، ولذلك يوضح الحق لنا: إياكم حين توفقون في العمل أن تفتتنوا بأعمالكم، بل عليكم أن تتذكروا ان ذلك فضل من الله:{قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فبذلك فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]

وقد شرح النبي عليه الصلاة والسلام ُ هذا الأمر وقال: «لن يُدْخِل أحداً منكم عملُه الجنة، قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة.»

إذن المسألة كلها بالفضل من الله، ولكن فضل الله شرطه العمل الصالح؛ فأنت تعمل العمل الصالح، ويعطيك ربنا أضعافه، وبطبيعة الحال فعملك لن ينفع جلاله أو جماله أو كماله أو يزيده صفة أو يزيده ملكاً، لكنه يعطيك على ما عملته لنفعك ولنفع بني جنسك.

ولذلك نجد الإِمام الرازي رضي الله عنه يقول: إن العمل في ذاته يورث

ص: 3939

الذات شيئا من الصفاء الذي ترتاح له وتسعد به، حتى تجد الجزاء في الراحة، والراحة النفسية هي الأمر المعنوي الذي يوجد في بنية مادية هي قالبك. فساعة يوجد شيء في النفس فهو يؤثر في القالب أغياراً، فإذا غضب الإنسان فهذا الغضب يظهر أثره في البينة نفسها فيحمر الوجه، ويرتعش الإِنسان للانفعال بالغضب، والغضب أمر معنوي لكنه أثّر في البينة، وكذلك إذا ما حدث ما يسرّك، يظهر ذلك في البينة أيضاً؛ فتشرق وتهلل أساريرك. إذن فالعمل يؤثر في البينة، والبينة تؤثر في العمل.

ويقول الحق بعد ذلك: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ

}

ص: 3940

وساعة تسمع «يوم» اعرف أنها «ظرف زمان» ، أي أن هناك حدثاً، وقوله الحق:«ويوم يحشرهم جميعاً» أي اليوم الذي يقف فيه الجميع ويحشدون، وحين ننظر إلى ما بعدها نجد أن الحدث لم يأت، ولكن جاء «يا معشر الجن» وهذا «نداء» . فكأن الحدث هو النداء نفسه، والنداء يقتضي مناديًّا، وهو الحق سبحانه، ومنادى وهو معشر الجن والإِنس، وقولاً يبرز صورة النداء. فكأن العبارة هي: يوم يحشرهم جميعاً فيقول يا معشر الجن والإِنس، و «الحشر» هو الجمع، و «المعشر» هم الجماعة المختلطة اختلاط تعايش، بمعنى أن يكون فيهم كل عناصر ومقومات الحياة، وقد يضاف المعشر إلى أهل حرفة بخصوصها؛ يا معشر التجار، يا معشر العلماء، يا معشر الوزراء. لكن إن قلت: يا معشر المصريين فهي جماعة مختلطة اختلاط تعايش ومعاشرة.

ص: 3940

{يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس [الأنعام: 128]

و «استكثر» أي أخذ منه كثيراً، كمن استكثر من جمع المال، أو استكثر من الأصدقاء؛ فمادة «استكثر» تدل على أنه أخذ كثرة. وماذا يعني استكثارهم من الإنس؟ . نحن نعلم أن من الجن طائعين، ومنهم عاصون، والأصل في العصيان في الجن «إبليس» الذي أقسم:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]

فكأن الحق يوضح: أنكم معشر الجن قد حاولتم جاهدين أن تأخذوا الإنس إلى جانبكم واستكثرتم بهم، فبعد أن كان العاصون فقط من شياطين الجن وجد عصاة من الإنس أيضاً، واستكثرتم منهم، بأن ظننتم ان لكم غلبة وكثرة وعزاً، لأنهم إذا أطاعوكم في الوسوسة أصبحت لكم السيادة، وذلك ما كان يحدث، فكان الإنسان إذا ما نزل وادياً مثلاً قال: أعوذ بسيد هذا الوادي - من الجن - ويطلب أن يحفظه ويحفظ متاعه، وحينما يوسوس له شيء يسارع إلى تنفيذه، وهذا استكثار. {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: 128]

وكذلك لم يستمتع الجن والإنس فقط، بل استمتع أيضاً بالجن، وهكذا نجد تبادل استمتاع من خلف منهج الله، لهؤلاء إغواءٍ وسيادة، يأمرونهم بعمل الأشياء المخالفة لمنهج الله، وهؤلاء يستمتعون بهم يحققون لهم شهواتهم في صور تدين، فيقولون لهم: اعبدوا الأصنام، واعبدوا الشمس، واعبدوا القمر، فيفعلون. وذلك يرضي فيهم غريزة الانقياد التديني؛ لأن كل نفس مفطورة على أن ترتبط بقوة أعلى منها؛ لأن الإنسان إذا نظر لنفسه وإلى أقرنائه وجدهم أبناء أغيار؛ الواحد منهم يكون اليوم صحيحاً وغداً مريضاً، ويكون اليوم غنياً وغداً فقيراً، فمال الذي يضمن للنفس البشرية حماية من هذه الأغيار؟ .

إن الإنسان يحبّ أن يلجأ ويرتبط بقَويّ؛ حتى إذا جاءت هذه الأغيار كانت سنداً له.

ص: 3941

إلا أن هناك من يصعدهُا في التدين وهؤلاء هم الذين يركنون إلى الإيمانية لله ويعتمدون عليه سبحانه ويقبلون على الإيمان بالله بمطلوبات هذا الإيمان في «افعل» و «ولا تفعل» . لكن الأشياء التي يعبدونها من دون الله ليس لها مطلوبات أو تكاليف إلا أن تكون موافقة لأهواء النفس، وهذا الإِكذاب للنفس أي حمل النفس على الكذب لا يدوم طويلاً؛ لأن الإنسان لا يغش نفسه؛ فالإيمان يحمي النفس إذا جاء أمر فوق أسبابك، وليس هناك من يقول: يا شمس أو يا قمر، يا شيطان أو يا صخر! لا يمكن؛ لأنك لن تكذب على نفسك أبداً. ومثال ذلك قول الحق:{وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ. .} [يونس: 12]

وهنا يقول الحق عن الإنس: {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا. .} [الأنعام: 128]

أي أن هذا الاستمتاع أمداً، هو أمد الأجل أي ساعة تنقضي وتنتهي الحياة، ثم يبدأ الحساب فيسمعون قول الحق:{. . قَالَ النار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلَاّ مَا شَآءَ الله إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} [الأنعام: 128]

و «الثواء» هو الإقامة، و «مثواكم» أي إقامتكم، «إلا ما شاء الله» وهذا الاستثناء كان محل نقاش بين العلماء، دار فيه كلام طويل؛ فهناك من قال: إن الحق سبحانه وتعالى قال: «إلا ما شاء الله» أي أن له طلاقة القدرة والمشيئة؛ فيفعل ما يريد لكنه حسم الأمر وحدد هو «ما شاء» فقال: {إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ. .} [النساء: 48]

ص: 3942

وهنا حدد «ما شاء» ، أي أن ما شاء يكون في غير الشرك به فإن الشرك لا يكون محل غفران منه سبحانه. أو يجوز «إلا ما شاء الله» أن بعضاً يفهم أنه بمجرد البعث والحشر ستكون النار مثواهم، ولكن المثوى في النار لن يكون إلا بعد الحساب، وهذا استثناء من الزمن الخلودي، فلن يحدث دخول للجنة أو للنار إلا بعد الحساب. فزمن الحساب والحشر مستثنى وخارج عن زمن الخلود في الجنة أو النار.

ونحن نجد أيضاً {إِلَاّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} في سورة هود حيث يقول الحق: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلَاّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلَاّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 106 - 108]

إذن فهناك الاستثناء في النار والاستثناء في الجنة، فقول الحق:{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلَاّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} فمجيء الاستثناء بعد الوصف بالخلود، يدل على أن الخلود ينقطع مع أنه قد ثبت خلود أهل الجنة في الجنة وخلود أهل النار في النار للأبد من غير استثناء فكيف ذلك؟

والرد على هذا أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار، وحده بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار بما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم ولعنهم وطردهم وإهانته إياهم.

وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما أكبر منها واجل موقعا، وهو رضوان الله كما قال:{وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} فلهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو، فهذا هو المراد بالاستثناء، والدليل عليه قوله:«عطاء غير مجذوذ» ومعنى قوله في مقابلته {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} أن ربك يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب، كما يعطي اهل الجنة الذي لا انقطاع له.

ص: 3943

ويذيل الحق الآية بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} . حكيم في أن يعذب، عليم بمن يستحق أن يعذّب، ومقدار عذابه، وعليم بمن يستحق ان يثاب وينعم، وبمقدار ثوابه ونعيمه، وحكيم في أن يرحم. ويقول الحق بعد ذلك:{وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ. .}

ص: 3944

و «كذلك تشير إلى ما حدث من الجن والإنس من الجدل، فقال الحق على ألسنة الإنس: {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ

} [الأنعام: 128]

ولم يأت بكلام الجن؛ لأن كلامهم جاء في آيات أخرى؛ فالحق هو القائل: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلَاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلَا تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ. .} [إبراهيم: 22]

وكذلك أورد الله ما يجيء عل لسان الشيطان في سورة أخرى: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ

} [الحشر: 16]

وكذلك جاء الحق في آيات أخرى بأقوال الإنس الذين ضلوا:

ص: 3944

{رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلَاّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} [فصلت: 29]

وقوله الحق هنا في سورة الأنعام: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضا} [الأنعام: 129]

أي كما صنعنا مع الجن والإِنس، باستكثار الجن من الإِنس واستمتاع بعضهم ببعض إضلالا وإغواء، وطاعة وانقيادا، نجعل من بينهم ولاية ظالم على ظالم، ولا نولى عليهم واحداً من أهل الخير؛ لأن أهل الخير قلوبهم مملوءة بالرحمة، لا يقوون على أن يؤدبوا الظالم؛ فهم قد ورثوا النبوة المحمدية في قوله يوم فتح مكة:» اذهبوا فأنتم الطلقاء «، ولذلك إذا أراد الله أن يؤدب ظالماً لا يأتي له بواحد من أهل الخير ليؤدبه، إنه - سبحانه - بتكريمه لأهل الخير لم يجعل منهم من يكون في مقام من يؤدب الظالم. إنه - سبحانه - يجعل أهل الخير في موقف المتفرج على تأديب الظالمين بعضهم بعضا.

والتاريخ أرانا ذلك. فقد صنع الظالمون بعضهم في بعض الكثير، بينما لو تمكن منهم أعداؤهم الحقيقيون لرحموهم؛ لأن قلوبهم مملوءة بالرحمة.

ولذلك بلغنا عن سيدنا مالك بن دينار وهو من أهل الخير. يقول: قرأت في بعض الآثار حديثاً قدسيا يقول فيه الحق:» أنا ملك الملوك قلوب الملوك بيدي. «

فإياكم أن يظن الطاغية أو الحاكم أو المستبد أنه أخذ الحكم بذكائه أو بقوته، بل جاء به الحق ليؤدب به الظلمة، بدليل أنه ساعة يريد الله أن تنتهي هذه المسألة فهو

ص: 3945

بجلاله ينزع المهابة من قلوب حرّاسه وبدلاً من أن يدفع عنه البندقية، يصوّب البندقية إليه.

فإياكم أن تظنوا أن ملكا يأخذ الملك قهراً عن الله، ولكن إذا العباد ظلموا وطغوا يسلط الحق عليهم من يظلمهم، ولذلك يقال:» الظالم سيف الله في الأرض ينتقم به وينتقم منه «. {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129]

فكأن ما سلّط على الناس من شرّ عاتٍ هو نتيجة لأعمالهم؛ ولذلك كان أحد الصالحين يقول: أنا اعرف منزلتي من ربي من خُلُق دابتي؛ إن جمحت بي أقول ماذا صَنَعْتُ حتى جمحت بي الدابة؟! وكأن المسألة محسوبة.

وهذه معاملة للأخيار، عندما يرتكب ذنباً يؤاخذ به على الفور حتى تصير صفحته نظيفة دائماً. قال عليه الصلاة والسلام ُ:«ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كَفّر الله بها عنه، حتى الشوكة يُشاكها.»

فإذا فعل العبد من أهل الخير بعضاً من السيئات، يوفيّه الحق جزاءه من مرض في جسمه أو خسارة في ماله، كذلك المسيء الذي لا يريد له الله النكال في الآخرة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم َ:«ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا حط الله تعالى به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها.»

{وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} هم اعتقدوا أنهم أخذوا شيئاً من وراء الله وخلصوا به. نقول: لا، فربك سيحاسبك ثواباً أو عقاباً وذلك بما قدمت يداك من سيئات أو حسنات.

ويقول الحق بعد ذلك:

ص: 3946