الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا كقوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [آل عمران: 59- 60] ، ثم أشار إلى تتمة كلام عيسى من الأمر بعبادته تعالى وحده، بقوله سبحانه وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي قويم. من اتبعه رشد وهدى. ومن خالفه ضلّ وغوى.
تنبيهات في فوائد هذه القصة:
الأول- لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته، ولدا زكيّا طاهرا مباركا، عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب. فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة. ولهذا ذكرهما في آل عمران، وهاهنا، وفي سورة الأنبياء. يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه. وأنه على ما يشاء قدير. و (مريم) هي بنت عمران. من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل. وقد ذكر تعالى ولادة أمها لها في سورة آل عمران. وأنها نذرتها محررة للعبادة. وأنه تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا فنشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة. فكانت إحدى الناسكات المتبتلات. وكانت في كفالة زكريا ورأى لها من الكرامات ما بهره فقد كان يجد عندها كلما دخل عليها المحراب رزقا. كما تقدم في سورة آل عمران.
الثاني- استدل بقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
[مريم: 17]، من قال بنبوة مريم. واستدل بقوله تعالى عنها يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا [مريم: 23] ، على جواز تمني المنون لمثل تلك الحال. وبقوله تعالى وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم: 25] على التسبب في الرزق، وتكلف الكسب وإليه أشار القائل:
ألم تر أنّ الله قال لمريم
…
وهزّي إليك الجذع يسّاقط الرطب
ولو شاء أحنى الجذع من غير هزّه
…
إليها، ولكن كلّ شيء، له سبب
في الآية أصل لما يقوله الأطباء، إن الرطب ينفع النساء. واستدل بقوله تعالى:
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ بعد فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا على أن الحالف (لا يتكلم أو لا يكلم فلانا) لا يحنث بالإشارة. وعلى أن السكوت عن السفيه واجب، كما استنبطه الزمخشري، قال: ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها. وفي قوله تعالى ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ معنى قولهم في المثل: من أشبه أباه فما ظلم. وفيه أيضا تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش.
الثالث- نقل الرازيّ عن القاضي في قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ
[مريم: 33]، إلخ أن السلام عبارة عما يحصل به الأمان. ومنه السلامة في النعم وزوال الآفات. فكأنه سأل ربه وطلب منه ما أخبر الله تعالى فعله بيحيى. ولا بد في الأنبياء من أن يكونوا مستجابي الدعوة. وأعظم أحوال الإنسان احتياجا إلى السلامة هي هذه الأحوال الثلاثة: وهي يوم الولادة ويوم الموت ويوم البعث. فجميع الأحوال التي يحتاج فيها إلى السلامة واجتماع السعادة من قبله تعالى، طلبها ليكون مصونا عن الآفات والمخافات في كل الأحوال.
الرابع- قال القاشانيّ: وإنما تمثل لها بشرا سويّ الخلق حسن الصورة، لتتأثر نفسها به وتستأنس. فتتحرك على مقتضى الجبلة. ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة. فتتحرك شهوتها فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد. وقد مرّ أن الوحي قريب من المنامات الصادقة، لهذه القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم. فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا (قلبا) والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية، يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن. وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة. لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن منيّ الذكر في تكوّن الولد، بمنزلة الإنفحة في الجبن. ومنيّ الأنثى بمنزلة اللبن، أي العقد من منيّ الذكر والانعقاد من منيّ الأنثى. لا على معنى أن منيّ الذكر ينفرد بالقوة العاقد ومنيّ الأنثى بالقوة المنعقدة، بل على معنى أن القوة العاقدة في منيّ الذكر أقوى.
والمنعقدة في منيّ الأنثى أقوى. وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئا واحدا. ولم ينعقد منيّ الذكر حتى يصير جزءا من الولد. فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قويا ذكوريا، كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس القويّة القوى، وكان مزاج كبدها حارّا، كان المنيّ المنفصل عن كليتها اليمنى أحرّ كثيرا من الذي ينفصل من كليتها اليسرى.
فإذا اجتمعا في الرحم كان مزاج الرحم قويّا في الإمساك والجذب، قام المنفصل في الكلية اليمنى، مقام الذكر في شدة قوة العقد. والمنفصل من الكلية اليسرى مقام منيّ الأنثى في قوة الانعقاد، فيتخلق الوالد هذا. وخصوصا إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس، متقوية، يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن، ويغير المزاج ويمد جميع القوى في أفعالها بالمدّ الروحانيّ، فيصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس. والله أعلم.
ثم قال في قوله تعالى: وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا في اللوح مقدرا في الأزل. وعن
ابن عباس: فاطمأنت إليه بقوله: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
فدنا منها فنفخ في جيب الدرع، أي البدن، وهو سبب إنزالها على ما ذكرنا. كالغلمة مثلا والمعانقة التي كثيرا ما تصير سببا للإنزال. وقيل: إن الروح المتمثل لها هو روح عيسى عليه السلام عند نزوله واتصالها بها وتعلقه بنطفتها. والحق أنه روح القدس.
لأنه كان السبب الفاعليّ لوجوده كما قال: لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
. واتصال روح عيسى بالنطفة إنما يكون بعد حصول النطفة في الرحم، واستقرارها فيه، ريثما؟ تزج وتتحد وتقبل مزاجا صالحا لقبول الروح. انتهى.
الخامس- التمثّل مشتق من المثل. ومعناه التصور. وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر.
قال إمام الحرمين: تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه.
لم يعيده إليه بعد.
وجزم ابن عبد السلام: بالإزالة دون الفناء وفرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجبا لموته، بل يجوز أن يبقى في الجسد حيّا. لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة.
وقال البلقينيّ: ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه. بل يجوز أن يكون الآتي جبريل بشكله الأصليّ. إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل. وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته. ومثال ذلك القطن، إذا جمع بعد أن كان منتفشا. فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة، وذاته لم تتغير. وهذا على سبيل التقريب. والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أيضا أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط.
والله أعلم. كذا قال ابن حجر في فتح الباري.
ولا يخفى أن هذا البحث من الرجم بالغيب، واقتفاء ما لم يحط بكنهه.
فالخوض فيه عبث ينتهي خائضه إلى حيث ابتدأ. لأنه من عالم الغيب الذي لا يصل علمنا إليه ولن يصل إليه بمجرد العقل. ولم يرد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم فيه نص قاطع.
وكل ما كان كذلك فليس من شأننا أن نبحث فيه. فاعرف ذلك فإنه ينفعك في مواضع عديدة.