الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 78]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78)
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ أي الزرع إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ أي رعته ليلا وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ أي لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما، عالمين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 79]
فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79)
فَفَهَّمْناها أي الفتوى أو الحكومة المفهومين من السياق سُلَيْمانَ أي فكان القضاء فيها قضاءه، لا قضاء أبيه. روي عن ابن عباس أن غنما أفسدت زرعا بالليل، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث، فقال سليمان: بل تؤخذ الغنم فتدفع إلى أصحاب الزرع فيكون لهم أولادها وألبانها ومنافعها. ويبذر أصحاب الغنم لأهل الزرع مثل زرعهم فيعمروه ويصلحوه، فإذا بلغ الزرع الذي كان عليه، ليلة نفشت فيه الغنم، أخذه أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها. وكذا روي عن ابن مسعود موقوفا لا مرفوعا. والله أعلم بالحقيقة. وقوله تعالى: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً أي وكل واحد منهما آتيناه حكمة وعلما كثيرا، لا سليمان وحده. ففيه دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان عليه السلام بالتفهم، من عدم كون حكم داود عليه السلام حكما شرعيّا.
تنبيهات:
الأول- استدل بالآية على أن خطأ المجتهد مغفور له، وعكس بعضهم، فاستدل بالآية على أن كل مجتهد مصيب.
قال: لأنها تدل بظاهرها على أنه لا حكم لله في هذه المسألة قبل الاجتهاد.
وأن الحق ليس بواحد. فكذا غيرها إذ لا قائل بالفصل. إذ لو كان له فيها حكم تعين.
وهذا مذهب المعتزلة، كما بيّن في الأصول. وردّ بأن مفهوم قوله: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ لتخصيصه بالفهم دون داود عليه السلام، يدل على أنه المصيب للحق
عند الله. ولولاه لما كان لتخصيصه بالفهم معنى. والمستدلون يقولون: إن الله لما لم يخطئه، دل على أن كلا منهما مصيب. وتخصيصه بالفهم لا يدل على خطأ داود عليه السلام، لجواز كون كلّ مصيبا. ولكن هذا أرفق وذاك أوفق، بالتحريض على التحفظ من ضرر الغير. فلذلك استدل بهذه الآية كلّ. فكما لم يعلم حكم الله فيها، لم يعلم تعين دلالتها. كذا في (العناية) .
وجاء في (فتح البيان) ما مثاله: لا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطئ، وأما كون كل واحد منهما مصيبا فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها، بل صرح الحديث المتفق عليه في الصحيحين «1» وغيرهما أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر. فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم مخطئا. فكيف يقال إنه مصيب لحكم الله موافق له؟ فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين.
وإلا لزم توقف حكمه عز وجل على اجتهادات المجتهدين، واللازم باطل فالملزوم مثله. وأيضا يستلزم أن تكون العين التي اختلف فيها اجتهاد المجتهدين، بالحلّ والحرمة، حلالا وحراما في حكم الله سبحانه. وهذا اللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله. وأيضا يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كل مجتهد، له اجتهاد في تلك الحادثة، ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه وتعالى فيها إلا بانقطاع المجتهدين. واللازم باطل فالملزوم مثله. والحاصل أن المجتهدين لا يقدرون على إصابة الحق في كل حادثة. لكن لا يصرون على الخطأ. كما رجع داود هنا إلى حكم سليمان، لما ظهر له أنه الصواب.
قال الحسن: لولا هذه الآية، لرأيت الحكام قد هلكوا. ولكن الله حمد هذا بصوابه، وأثنى على هذا باجتهاده.
الثاني- دلت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام. وهو مذهب الجمهور. ومنعه بعضهم. ولا مستند له. لأن قضاء داود لو كان بوحي لما أوثر قضاء ابنه سليمان عليه. ومما يدل على وقوعه دلالة ظاهرة قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] ، فعاتبه على ما وقع منه. ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه.
ومنه ما صح عنه صلوات الله عليه من قوله «2» : (لو استقبلت من أمري ما استدبرت
(1) أخرجه البخاري في: الاعتصام، 21- باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ. الحديث رقم 2593، عن عمرو بن العاص.
وأخرجه مسلم في: الأقضية، حديث رقم 15.
(2)
أخرجه البخاري في: الحج، 81- باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، حديث 826، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم 141.
لما سقت الهدي) ومثل ذلك لا يكون فيما عمله بالوحي، ونظائر ذلك كثيرة في الكتاب والسنة. وأيضا، فالاستنباط أرفع درجات العلماء. فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل. وإلا لكان كل واحد من آحاد المجتهدين أفضل منه في هذا الباب.
قال الرازي: إذا غلب على ظن نبيّ أن الحكم في الأصل معلل بمعنى، ثم علم أو ظن قيام ذلك المعنى في صورة أخرى، فلا بد وأن يغلب على ظنه أن حكم الله تعالى في هذه الصورة مثل ما في الأصل. وعنده مقدمة يقينية، وهي أن مخالفة حكم الله تعالى سبب لاستحقاق العقاب. فيتولد من هاتين المقدمتين ظن استحقاق العقاب لمخالفة هذا الحكم المظنون. وعند هذا، إما أن يقدم على الفعل والترك معا، وهو محال، لاستحالة الجمع بين النقيضين. أو يتركهما وهو محال، لاستحالة الخلوّ عن النقيضين. أو يرجح المرجوح على الراجح وهو باطل ببديهة العقل، أو يرجح الراجح على المرجوح، وذلك هو العمل بالقياس- وهذه النكتة هي التي عليها التعويل في العمل بالقياس. وهي قائمة أيضا في حق الأنبياء عليهم السلام. انتهى.
الثالث- قال السيوطي في (الإكليل) : استدل بها على جواز الاجتهاد في الأحكام ووقوعه للأنبياء. وقد ذكرناه قبل. وأن المجتهد قد يخطئ، وأنه مأجور مع الخطأ غير آثم، لأنه تعالى أخبر بأن إدراك الحق مع سليمان، ثم أثنى عليهما. وقد تقدم أولا. واستدل بها من قال برجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاد إلى أرجح منه.
وفيها تضمين أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار. لأن النفش لا يكون إلا بالليل، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن شريح والزهري وقتادة. ومن عمم الضمان فسره بالرعي مطلقا. وذهب قوم منهم الحسن إلى أن صاحب الزرع تدفع إليه الماشية، ينتفع بدرّها وصوفها حتى يعود الزرع كما كان. كما حكم به سليمان في هذه الواقعة. إذ لم يرد في شرعنا ناسخ مقطوع به عندهم. انتهى.
الرابع: روى ابن جرير عن عامر قال: جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما: إن شياه هذا قطعت غزلا لي. فقال شريح: نهارا أم ليلا؟ فإن كان نهارا فقد برئ صاحب الشياه. وإن كان ليلا فقد ضمن، ثم قرأ هذه الآية.
قال ابن كثير: وهذا الذي قاله شريح شبيه بما
رواه «1» الإمام أحمد وأبو داود «2»
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/ 436. [.....]
(2)
أخرجه أبو داود في: البيوع، 90- باب المواشي تفسد زرع قوم، حديث رقم 3570.
وابن ماجة «1» من حديث الليث بن سعد عن الزهري عن حرام بن محيّصة، أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا. فأفسدت فيه. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط، حفظها بالنهار. وما أفسد المواشي بالليل ضامن على أهلها
. وقد علّل هذا الحديث. وروى ابن أبي حاتم أن إياس بن معاوية، لما استقضى أتاه الحسن، فبكى.
فقال: ما يبكيك؟ قال: يا أبا سعيد! بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار. ورجل مال به الهوى فهو في النار. ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصريّ: إن فيما قصّ الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء، حكما يردّ قول هؤلاء الناس عن قولهم. قال الله تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ
…
الآية. فأثنى الله على سليمان، ولم يذمّ داود.
ثم قال (يعني الحسن) : إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثا: لا يشتروا به ثمنا قليلا. ولا يتبعوا فيه الهوى. ولا يخشوا فيه أحدا. ثم تلا يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:
26] ، وقال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة: 44]، وقال: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة: 41] .
ثم قال ابن كثير:
وقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)
فهذا الحديث يردّ نصّا ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار.
وفي السنن «2» : (القضاة ثلاثة: قاض في الجنة وقاضيان في النار. رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة. ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار) .
ثم بيّن سبحانه ما خص كلّا من داود وسليمان من كراماته، إثر بيان كرامته العامة لهما، بقوله: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ أي سخرنا
(1) أخرجه ابن ماجة في: الأحكام، 13- باب الحكم فيما أفسدت المواشي، حديث رقم 2332.
(2)
أخرجه أبو داود في: الأقضية، 2- باب في القاضي يخطئ، حديث رقم 3573، عن بريدة.
وأخرجه ابن ماجة في: الأحكام، 3- باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق، حديث رقم 2315.