الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة القصص
سورة القصص، وهي مكية كلها في قول الحسن، وعكرمة، وعطاء. وقال ابن عباس، وقتادة: إلا آية نزلت بين مكة والمدينة. وقال ابن سلام: بالجحفة في وقت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وهي قوله عز وجل:{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ} . وقال مقاتل: فيها آية من المدني: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ} إلى قوله: {لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ} . وهي ثمان وثمانون آية، وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة، وخمسة آلاف وثمانمائة حرف. انتهى. قرطبي، وخازن.
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
{نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)}
الشرح: {نَتْلُوا عَلَيْكَ} أي: نقرأ عليك بواسطة جبريل؛ لأنه هو الذي ينزل عليك بكلامنا، ووحينا. {مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ} أي: من خبرهما، فقد ذكر الله في هذه السورة قصة موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-وفرعون، وقارون، واحتج على مشركي قريش، وبيّن: أن قرابة قارون من موسى لم تنفعه مع كفره، وكذلك قرابة قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وبيّن: أن فرعون علا في الأرض، وتجبر، فكان ذلك من كفره، فليجتنب العلو في الأرض، وكذلك التعزز بكثرة المال، وهما من سيرة فرعون وقارون، وخص المؤمنين بالذكر؛ لأنهم هم المنتفعون بالتذكير، وقص قصص الأنبياء.
هذا؛ و (النبأ): الخبر وزنا، ومعنى، ويقال: النبأ أخص من الخبر؛ لأن النبأ لا يطلق إلا على كل ما له شأن، وخطر من الأنباء. وقال الراغب: النبأ: خبر ذو فائدة يحصل به علم، أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة، وحقه أن يتعرّى عن الكذب كالمتواتر، وخبر الله تعالى، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا؛ والفعل منه من الأفعال التي
تنصب ثلاثة مفاعيل، وقد يجيء الفعل منه غير مضمن معنى: أعلم، فيتعدى لواحد بنفسه، وللآخر بحرف الجر، كما في قوله تعالى:{وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} .
الإعراب: {نَتْلُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ نَبَإِ:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به؛ لأن {مِنْ} بمعنى بعض، والأخفش يعتبر {مِنْ} زائدة، و {نَبَإِ} مفعولا به، وقيل: المفعول محذوف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة له، التقدير: نتلو عليك شيئا كائنا من نبأ موسى. و {نَبَإِ} مضاف، و {مُوسى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. (فرعون): معطوف على {مُوسى} مجرور مثله، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {بِالْحَقِّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل: {نَتْلُوا} المستتر؛ أي: محقين، أو من:{نَبَإِ مُوسى} أي: ملتبسا بالحق. {لِقَوْمٍ:} متعلقان بالفعل {نَتْلُوا،} وجملة: {يُؤْمِنُونَ} مع المتعلق المحذوف في محل جر صفة: (قوم)، وجملة:
{نَتْلُوا..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} أي: استكبر وطغى وتجبر، وادعى الربوبية.
و {الْأَرْضِ} أرض مصر. {وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً} أي: فرقا؛ يشيعونه فيما يريد، أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته، أو أصنافا في استخدامه، استعمل كل صنف في عمل، أو أحزابا بأن أغرى بينهم العداوة كيلا يتفقوا عليه. {يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ:} يستذلها، ويستعبدها، والمراد: بنو إسرائيل. {يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ:} سمي هذا استضعافا؛ لأنهم عجزوا، وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم، فكان يذبح الصبيان الذكور، ويترك البنات أحياء، وسبب ذلك: أن فرعون رأى في منامه رؤيا أفزعته، فعبرها له الكهنة بأن مولودا يولد في بني إسرائيل، يكون ذهاب ملك فرعون على يديه.
قال الزمخشري: وفيه دليل على ثخانة حمق فرعون فإنّه إن صدق الكاهن؛ لم يدفع القتل الكائن. وإن كذب، فما وجه القتل. أقول: لذا كان قول سيد الخلق، وحبيب الحق، الناطق بالصدق صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب-رضي الله عنه-في ابن صياد:«إن يكنه فلن تسلّط عليه، وإن لا يكنه فلا خير لك في قتله» . هو عين الحكمة، والحق والصواب. {إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} أي:
بقتل الأولاد، وتسخير الكبار، وادعائه الربوبية. وقيل: إنه ذبح سبعين غلاما من بني إسرائيل.
هذا؛ و (الطائفة): الجماعة من الناس، لا واحد لها من لفظها، مثل: فريق، ورهط، وجماعة، وجمعها: طوائف، وقد يطلق لفظ طائفة على الواحد، وعلى الاثنين، مثل قوله تعالى في سورة (التوبة):{إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً؛} لأن مجموع الطائفتين كانوا ثلاثة، كما رأيت في تفسير الآية هناك.
أما (شيع) فهو جمع شيعة، وكل قوم اجتمعوا على أمر، فهم شيعة، وأشياع، وأصله من التشيع، ومعنى الشيعة: الجماعة الذين يتبع بعضهم بعضا، وقيل: الشيعة: هم الذين يتقوى بهم الإنسان. وفي القاموس المحيط: وشيعة الرجل بالكسر: أتباعه، وأنصاره، والفرقة على حدة، وتقع على الواحد، والاثنين، والجمع، والمذكر، والمؤنث. وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى علي بن أبي طالب، وأهل بيته-رضي الله عنهم أجمعين-حتى صار اسما لهم خاصة، قال الكميت:[الطويل]
وما لي إلاّ آل أحمد شيعة
…
وما لي إلاّ مذهب الحقّ مذهب
هذا؛ والمشايعة: المناصرة، والمعاونة، أخذت من الشياع وهو دقاق الحطب؛ لمعاونته النار على الإيقاد في الحطب الجزل، قال عنترة:[الكامل]
ذلل ركابي حيث شئت مشايعي
…
قلبي وأحفزه بأمر مبرم
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِرْعَوْنَ:} اسم {إِنَّ} . {عَلا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى:{فِرْعَوْنَ،} تقديره: «هو» . {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{عَلا فِي الْأَرْضِ} في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ فِرْعَوْنَ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. وقيل: تفسير ل: {نَبَإِ مُوسى} . {وَجَعَلَ:} الواو: حرف عطف. (جعل): فعل ماض، والفاعل يعود إلى:
{فِرْعَوْنَ} . {أَهْلَها:} مفعول به أول، و (ها): في محل جر بالإضافة. {شِيَعاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {يَسْتَضْعِفُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{فِرْعَوْنَ} . {طائِفَةً:} مفعول به. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {طائِفَةً} والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل: (جعل)، والرابط:
الضمير فقط، أو في محل نصب صفة:{شِيَعاً،} أو مستأنفة، والأول أقوى، وجملة:{يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ} بدل منها بدل اشتمال على جميع الوجوه المعتبرة فيها. «(يستحيي)» : فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:{فِرْعَوْنَ} أيضا.
{نِساءَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي بدل مثلها. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها.
{كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى {فِرْعَوْنَ}. {مِنَ الْمُفْسِدِينَ:} جار ومجرور
متعلقان بمحذوف خبر {كانَ،} وجملة: {كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل لأفعاله المذكورة، لا محل لها.
الشرح: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ..} . إلخ: أي: نريد أن نتفضل على بني إسرائيل الذين استضعفهم فرعون، واستذلهم. والتعبير بالمضارع حكاية حال مضت، كما هو الواقع، فإن التقدير: وأردنا أن نمن، وقل مثله إلى آخر الآية التالية. هذا؛ والإرادة: نزوع النفس، وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه. ويقال للقوة التي هي مبدأ النزوع، والأول مع الفعل، والثاني قبله، وكلا المعنيين غير متصور اتصاف الباري تعالى به، ولذا اختلف في معنى إرادته سبحانه وتعالى، فقيل: إرادته لأفعاله: أنه غير ساه، ولا مكره.. ولأفعال غيره أمره بها، فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته.
وقيل: علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل، والوجه الأصلح. وهذا الأخير هو المقبول؛ لأن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر. هذا؛ ولم يرد لفعل الإرادة، ولا لفعل المشيئة أمر فيما أعلم، فهما ناقصا التصرف، وقد كثر حذف مفعول هذين الفعلين؛ حتى لا يكاد ينطق به إلا في الشيء المستغرب، مثل هذه الآية، وقوله تعالى:{لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا} وقال الشاعر الخزيمي: [الطويل]
فلو شئت أن أبكي دما لبكيته
…
عليه ولكن ساحة الصّبر أوسع
وقيد بعضهم حذف مفعول هذين الفعلين بعد «لو» ، وليس كذلك.
{وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} أي: رؤساء يقتدى بهم في الخيرات، وأعمال الطاعات. وقيل: نجعلهم ملوكا. وهو غير مسلم. هذا؛ و {أَئِمَّةً} جمع: إمام، سمي بذلك؛ لأنه يؤتم به في الأفعال، فهنيئا لمن كان إماما في الخير، وويل لمن كان إماما في الشر. هذا؛ والفعل (نجعل) بمعنى:
نصير، فلذا تعدى إلى مفعولين، فإن كان بمعنى: خلق تعدى إلى مفعول واحد، نحو قوله تعالى:{وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} أي: وخلق الظلمات، والنور، وخلق إذا كان بمعنى: صير؛ تعدى إلى مفعولين، نحو قوله تعالى:{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} وإن كان بمعنى: اخترع، وأحدث؛ تعدّى إلى مفعول واحد، وهو كثير. هذا؛ والفرق بين: خلق وجعل الذي له مفعول واحد: أن الخلق فيه معنى التقدير، والجعل فيه معنى التضمين، ولذا عبر سبحانه في كثير من الآيات عن إحداث الظلمات، والنور بالجعل، فقال:{وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما، كما زعمت المجوس، بخلاف الخلق، فإن فيه معنى الإيجاد، والإنشاء، ولذا عبر سبحانه في كثير من الآيات عن إيجاد السموات والأرض بالخلق.
{وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ} أي: لملك فرعون، يرثون ملكه، ويسكنون مساكن القبط، كما قال تعالى في سورة (الأعراف):{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا} . قال ابن عباس-رضي الله عنهما: إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر؛ استطالوا على الناس، وعملوا بالمعاصي، فسلط الله عليهم القبط، وساموهم سوء العذاب إلى أن أنجاهم الله على يد موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-.
الإعراب: {وَنُرِيدُ:} الواو: حرف عطف. (نريد): فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر تقديره:
«نحن» ، والمصدر المؤول من {أَنْ نَمُنَّ} في محل نصب مفعول به. {عَلَى الَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {اُسْتُضْعِفُوا:} فعل ماض، مبني للمجهول، مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال، وهو ضعيف، وجملة:{وَنُرِيدُ..} . إلخ معطوفة على جملة: {إِنَّ فِرْعَوْنَ..} . إلخ، أو هي مستأنفة، وقيل: هي في محل نصب حال من فاعل يستضعف، ولا وجه له قطعا؛ لأن الجملة المضارعية الواقعة حالا لا تقترن بالواو إلا بتقدير: ونحن نريد
…
إلخ. (نجعلهم): معطوف على: {نَمُنَّ} منصوب مثله، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول. {الْوارِثِينَ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ.
الشرح: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ:} أرض مصر، والشام، وأصل التمكين أن تجعل للشيء مكانا يتمكن فيه، ثم استعير للتسليط، وإطلاق الأمر. {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما،} وقرئ «(يرى فرعون
…
)» إلخ برفع هذه الأسماء. {مِنْهُمْ} أي: من بني إسرائيل. {ما كانُوا يَحْذَرُونَ} أي:
يخافون من هلاكهم، وذهاب ملكهم على يد مولود منهم، والحذر والتحرز من الشر، ولا يغني حذر من قدر. هذا؛ وهامان كان وزيرا لفرعون، وهو معين له على ضلاله، وكفره، وادعائه الربوبية.
تنبيه: قال ابن هشام-رحمه الله تعالى-في مغنيه: إنهم يعبرون عن الماضي، والآتي، كما يعبرون عن الشيء الحاضر قصدا لإحضاره في الذهن، حتى كأنه مشاهد حالة الإخبار، ومنه:
قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله تعالى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ..} . إلخ.
الإعراب: {وَنُمَكِّنَ:} معطوف على: {أَنْ نَمُنَّ،} والفاعل المستتر تقديره: «نحن» . {لَهُمْ فِي الْأَرْضِ:} جاران، ومجروران متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل:{فِي الْأَرْضِ} متعلقان بمحذوف
حال، وليس بشيء. {وَنُرِيَ:} معطوف على ما قبله، والفاعل:«نحن» . {فِرْعَوْنَ:} مفعول به، وما بعده معطوف عليه. وعلى قراءة:(يرى) فهو فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. (فرعون): فاعله بالرفع، والجملة الفعلية على هذه القراءة فيها معنى التعليل؛ إذ التقدير: وليرى فرعون
…
إلخ، {وَجُنُودَهُما:} اسم معطوف، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل (نري) على القراءتين. {جُنُودَهُما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان على القراءة الأولى، أو مفعول واحد على القراءة الثانية، وكلاهما بصريان، لكن الأول رباعي فتعدى بالهمزة إلى مفعولين، والثاني ثلاثي يكتفي بمفعول واحد.
{كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، و (كان) واسمها وخبرها صلة {جُنُودَهُما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أو: شيئا كانوا يحذرونه.
الشرح: {وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى:} اختلف في هذا الوحي، فقيل: وحي إلهام، وقيل: كان في المنام، وقيل: كان جبريل يكلمها. وأجمع الجميع على أنها لم تكن نبية. هذا؛ وانظر الوحي في الآية رقم [52] من سورة (الشعراء).
{أَنْ أَرْضِعِيهِ:} قيل: أرضعته ثمانية أشهر، وقيل: أربعة، وقيل: ثلاثة، وكانت ترضعه، وهو لا يبكي، ولا يتحرك في حجرها. {فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ} أي: الذبح. {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} أي: في البحر، والمراد به: نيل مصر، فأطلق عليه اسم اليم لعظمه. {وَلا تَخافِي} أي: عليه من الغرق، وقيل: الضياع. {وَلا تَحْزَنِي} أي: على فراقه. {إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ:} عن قريب بحيث تأمنين عليه، ونرده إليك بوجه لطيف لتربيه. {وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي: من الأنبياء المرسلين مثل أجداده: يعقوب، وإسحاق، وإبراهيم. هذا؛ والفرق بين الخوف، والحزن: أن الخوف غم يلحق الإنسان لشر متوقع. والحزن: غم يلحق الإنسان لشر واقع، والمراد هنا فراق ولدها، والأخطار المحيطة به، فنهيت عنهما، وبشرت برده، وجعله من المرسلين. حكي أن الأصمعي رحمه الله تعالى قال: سمعت جارية أعرابية تنشد، وتقول:[الرجز]
أستغفر الله لذنبي كلّه
…
قبّلت إنسانا بغير حلّه
مثل الغزال ناعما في دلّه
…
فانتصف اللّيل ولم أصلّه
فقلت: قاتلك الله ما أفصحك! فقالت: أو تعد هذا فصاحة مع قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ..} . إلخ، فجمع في آية واحدة بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين. هذا؛ والفعل {تَحْزَنِي} في هذه الآية من باب: فرح، وطرب، فهو لازم، ويأتي من باب: دخل، وقتل، فيكون متعديا، كما يكون متعديا إذا أتى من الرباعي.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: إن أم موسى لما تقاربت ولادتها، كانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى، فلما ضربها الطلق أرسلت إليها، وقالت لها: قد نزل بي ما نزل فلينفعني حبك إياي، فعالجت قبالها، فلما أن وقع موسى بالأرض هالها نور عيني موسى، فارتعش كل مفصل فيها، ودخل حب موسى قلبها، ثم قالت لها: يا هذه ما جئت حين دعوتني إلا مرادي قتل ولدك، ولكن وجدت لابنك حبا، ما وجدت حب شيء مثل حبه، فاحفظي ابنك، فإني أراه عدونا. فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون، فجاءوا إلى بابها ليدخلوا، فقالت أخته: يا أماه هذا الحرس بالباب.
فلفته بخرقة وألقته في التنور، وهو مسجور، فطاش عقلها، فلم تعقل ما تصنع، فلمّا دخلوا؛ فتشوا فلم يجدوا شيئا ورأوا: أنّ التنور مسجور، ورأوا أن أم موسى لم يتغير لها لون، ولم يظهر لها لبن في ثديها، فقالوا: ما أدخل القابلة؟ قالت: هي مصافية لي، فدخلت عليّ زائرة، فخرجوا من عندها، فرجع إليها عقلها، فقالت لأخته: أين الصبي؟ فقالت: لا أدري، فسمعت بكاء الصبي في التنور، فانطلقت إليه، وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما، فاحتملته.
ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الصبيان؛ خافت على ابنها، فقذف الله في قلبها أن تتخذ تابوتا له، ثم تقذف التابوت في النيل، فانطلقت إلى نجار من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتا صغيرا، فقال النجار: ما تصنعين بهذا التابوت؟ فقالت: ابن لي أخبئه في هذا التابوت، وكرهت الكذب، ولم تقل: أخشى عليه كيد فرعون، فلما اشترت التابوت وحملته، وانطلقت به، انطلق النجار إلى الذباحين؛ ليخبرهم بأمر أم موسى، فلما هم بالكلام أمسك الله لسانه، فلم يطق الكلام، وجعل يشير بيديه، فلم تدر الأمناء ما يقول، فلما أعياهم أمره، قال كبيرهم: اضربوه! فضربوه، وأخرجوه، فلما انتهى النجار إلى موضعه؛ رد الله عليه لسانه، فتكلم، فانطلق أيضا يريد الأمناء. فأتاهم؛ ليخبرهم، فأخذ الله لسانه، وبصره، فلم يطق الكلام، ولم يبصر شيئا، فضربوه، وأخرجوه، وبقي حيران، فجعل لله عليه: إن رد عليه لسانه، وبصره ألاّ يدل عليه، وأن يكون معه فيحفظه حيثما كان. فعرف الله صدقه، فرد الله عليه لسانه، وبصره، فخر لله ساجدا، فقال: يا رب دلني على هذا العبد الصالح، فدله عليه فآمن به، وصدقه. انتهى. بحروفه من الخازن، وفي الكشاف قريب منه. أقول: وهذا النجار هو مؤمن آل فرعون الذي سيأتي ذكره في سورة (غافر) -إن شاء الله تعالى-بقوله جل شأنه: {وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ..} . إلخ.
هذا؛ وقد اختلف في اسم أم موسى، فقيل: اسمها: يوحنانذ، وقيل: اسمها: لوخا بنت هاند، بن لاوي بن يعقوب، وقيل: اسمها أيارخا. وقيل: أيارخت. وقيل: بوخابذ. وقيل:
يوخابيل. وقيل: غير ذلك، والمشهور: أنه حنّة، والله أعلم، أما زوجها فهو: عمران، -ويقال بالعبري: عمرام-ابن قاهت بن لاوي، بن يعقوب فهو ابن عمها. وينبغي أن تعلم أن عمران أبا موسى غير عمران أبي مريم أم عيسى؛ لأن بين العمرانين ألفا وثمانمائة سنة. وانظر الآية رقم [19] الآتية.
الإعراب: {وَأَوْحَيْنا:} الواو: حرف عطف. (أوحينا): فعل ماض، وفاعله. {إِلى أُمِّ:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و {أُمِّ} مضاف، و {مُوسى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسره مقدرة على الألف للتعذر. {أَنْ:} حرف تفسير. وقيل: حرف مصدري، ونصب، وهو ضعيف؛ لأنها مسبوقة بجملة فيها معنى القول دون حروفه. {أَرْضِعِيهِ:} فعل أمر مبني على حذف النون؛ لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، وياء المؤنثة المخاطبة فاعله، والهاء في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها مفسرة ل:(أوحينا) على المعتمد عندي، وجملة:{وَأَوْحَيْنا..} . إلخ معطوفة على جملة: {إِنَّ فِرْعَوْنَ..} . إلخ؛ لأنها معها من جملة تفسير النبأ. {فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف وتفريغ. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {خِفْتِ:}
فعل، وفاعل. {عَلَيْهِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {فَأَلْقِيهِ:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (ألقيه): فعل أمر، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب (إذا). {فِي الْيَمِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَخافِي:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وياء المؤنثة المخاطبة فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جواب (إذا) لا محل لها مثلها، وجملة:{وَلا تَحْزَنِي} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا) ضمير متصل في محل نصب اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {رَادُّوهُ:} خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِلَيْكِ:} جار ومجرور متعلقان ب {رَادُّوهُ} . {وَجاعِلُوهُ:} معطوف على: {رَادُّوهُ،} وهو مثله في إعرابه. {مِنَ الْمُرْسَلِينَ:} جار ومجرور متعلقان ب {(جاعِلُوهُ)} معطوف على: {رَادُّوهُ} وهو مثله في إعرابه. {مِنَ الْمُرْسَلِينَ:}
جار ومجرور متعلقان ب: (جاعلوه) وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الاسمية:{إِنّا رَادُّوهُ..} . إلخ تعليل للنهي، لا محل لها.
الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما-وغيره: كان لفرعون يومئذ بنت، ولم يكن له غيرها، وكانت من أكرم الناس عليه، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إليه، وكان بها برص شديد، وكان فرعون قد جمع لها الأطباء، والسحرة، فنظروا في أمرها، فقالوا: أيها الملك، لا تبرأ البنت من برصها إلا من قبل البحر، يوجد فيه شبه الإنسان، فيؤخذ من ريقه، فيلطخ به برصها، فتبرأ من ذلك، وذلك في يوم كذا ساعة كذا حين تشرق الشمس، فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس له على شفير النيل، ومعه امرأته آسية بنت مزاحم، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها تلاعبهن، وتنضح الماء على وجوههن؛ إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج، فقال فرعون: إن هذا لشيء في البحر قد تعلق بالشجر؛ ائتوني به.
فابتدروه بالسفن من كل ناحية حتى وضعوه بين يديه، فعالجوا فتح الباب فلم يقتدروا عليه، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه، فدنت آسية، فرأت في جوف التابوت نورا لم يره غيرها، فعالجته، ففتحت الباب، فإذا هي بصبي صغير في التابوت، وإذا نور بين عينيه، وقد جعل الله رزقه في إبهامه، يمص منه لبنا، فألقى الله محبته في قلب آسية، وأحبه فرعون، وأقبل عليه، وأقبلت عليه بنت فرعون، فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت إلى ما يسيل من أشداقه من ريقه، فلطخت به برصها، فبرأت، ثم قبلته، وضمته إلى صدرها.
فقالت الغواة من قوم فرعون: أيها الملك إنا نظن أن هذا المولود هو الذي نحذر منه من بني إسرائيل رمي به في النيل فزعا منك، فهم فرعون بقتله، فقالت آسية:{قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا} أي: فنصيب منه خيرا، نتخذه ولدا، وكانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون، فوهبه لها، وقال فرعون: أما أنا فلا حاجة لي فيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لو قال يومئذ قرّة عين لي، كما هو لك؛ لهداه الله كما هداها الله» . فقيل لآسية: سمّيه، قالت: سميته موسى؛ لأنا وجدناه في الماء والشجر؛ لأن (مو) هو الماء، و (سا) هو الشجر. انتهى. خازن بحروفه.
هذا؛ وقد قرئ: (حزنا) بفتحتين، وبضم فسكون، وهما لغتان مثل: العدم، والعدم، والسّقم، والسّقم، والرّشد، والرّشد، والحزن: ضد الفرح، والسرور، يحصل للإنسان بسبب مصائب الدهر، ومتاعب الدنيا، وآل فرعون لقوا من موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-ما لقوا من الهم، والغم، والحزن، وما آل إليه أمرهم من الهلاك، والدمار، وقد تفرد الجلال-رحمه الله-بتفسير حزنا، فقال: يستعبد نساءهم. قال الجمل-رحمه الله تعالى-:
ظاهر هذه العبارة: أنّ موسى بعد غرق القبط كان يستعبد نساءهم؛ أي: يعاملهن معاملة العبيد
في التسخير في الأعمال، ولم نر من ذكر هذا في هذه القصة في سائر مواضعها في القرآن.
ويمكن أن يقال: المراد باستعباده نساءهم: تذليلهن، أي: تصييرهن أذلاء ضعفاء لعدم الرجال الذين يقومون عليهن بالخدمة والنفقة. فليتأمل انتهى. بحروفه.
{إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ} أي: في كل شيء، فليس ببدع منهم أن قتلوا ألوفا لأجله، ثم أخذوه يربونه؛ ليكبر، ويفعل بهم ما كانوا يحذرون، أو كانوا مذنبين، فعاقبهم الله تعالى بأن ربى عدوهم على أيديهم. هذا؛ واللام بقوله:{لِيَكُونَ} تسمى لام العاقبة، ولام الصيرورة؛ لأنهم أخذوه؛ ليكون لهم قرة عين، فكان عاقبة ذلك أن كان لهم عدوا، وحزنا، فذكر الحال بالمآل، كما قال الشاعر:[البسيط] وللمنايا تربّي كلّ مرضعة
…
ودورنا لخراب الدّهر نبنيها
وقال آخر: [الطويل] فللموت تغذوا الوالدات سخالها
…
كما لخراب الدّور تبنى المساكن
وقال عبد الله بن الزّبعرى: [المتقارب] فإن يكن الموت أفناهم
…
فللموت ما تلد الوالده
وهذا قول الكوفيين، وقد أنكر البصريون، ومن تابعهم لام العاقبة. قال الزمخشري:
والتحقيق: أنها لام العلة، وأن التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة، وبيانه أنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا، بل المحبة والتبني، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له، وثمرته؛ شبه بالداعي الذي يفعل الفعل لأجله، فاللام مستعارة لما يشبه التعليل، كما استعير الأسد لمن يشبه بالأسد. انتهى. مغني اللبيب.
هذا؛ وينبغي أن تدرك معي: أن كل مخلوق ذي روح حبس عنه الهواء بضع دقائق يموت بلا شك، فكيف بقي هذا المخلوق الصغير الضعيف حيا داخل صندوق محكم الإغلاق؟! إن هي إلا معجزة رب الأرض، والسماء الذي حفظ له روحه دون إزهاق ساعات، وساعات مضت بين إلقائه في النيل، والتقاطه منه، وما أشبه هذه المعجزة بمعجزة يونس-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-الذي التقمه الحوت، وجاب به أعماق البحار، وبقي حيا أيضا حتى نبذه إلى شاطئ البحر بأمر الله الواحد القهار.
الإعراب: {فَالْتَقَطَهُ:} الفاء: حرف عطف. (التقطه): فعل ماض، والهاء مفعول به.
{آلُ:} فاعل، و {آلُ} مضاف، و {فِرْعَوْنَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، والجملة الفعلية معطوفة على جمل مقدرة قبلها، كما يلي: فأرضعته، فوضعته في تابوت، وألقته في نهر النيل، فالتقطه
…
إلخ.
{لِيَكُونَ:} فعل مضارع ناقص منصوب ب: «أن» مضمرة بعد اللام، واسمه يعود إلى:
{مُوسى} . {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما على التنازع. {عَدُوًّا:} خبر (يكون).
{وَحَزَناً:} معطوف عليه، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِرْعَوْنَ:}
اسم {إِنَّ} . {وَهامانَ:} معطوف عليه. {وَجُنُودَهُما:} معطوف أيضا على {فِرْعَوْنَ،} والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {خاطِئِينَ:} خبر كان منصوب
…
إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية تعليلية. وقال الجمل: معترضة بين الجملتين المتعاطفتين جملة: {وَقالَتِ..} . إلخ وجملة: {فَالْتَقَطَهُ..} . إلخ.
الشرح: {وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} أي: لفرعون حين أخرجته من التابوت. {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ:} الخطاب لفرعون، وانظر شرح:{قُرَّتُ عَيْنٍ} في الآية رقم [74] من سورة (الفرقان).
{لا تَقْتُلُوهُ:} خاطبته بلفظ الجمع للتعظيم. {عَسى أَنْ يَنْفَعَنا:} لأن فيه مخايل اليمن، والبركة، ودلائل النفع، وذلك لما رأت منه ما ذكرته في الآية السابقة. {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} أي: نتبناه، فإنه أهل له. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ:} أن التقاطه، وتربيته وبال عليهم.
تنبيه: امرأة فرعون هي آسية بنت مزاحم، وكانت من خيار النساء، ومن بنات الأنبياء، وكانت أمّا للمساكين، ترحمهم، وتتصدق عليهم، قالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه على شاطئ النيل حين التقطوا موسى: هذا أكبر من ابن سنة، وأنت تذبح ولدان هذه السنة، فدعه يكون عندي، وقيل: إنها قالت له: إنه أتانا من أرض أخرى، وليس هو من بني إسرائيل، فاستحياه فرعون، وألقى الله محبته في قلبه. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لو أن عدوّ الله قال في موسى، كما قالت آسية: لنفعه الله به، ولكنه أبى للشقاء الذي كتبه الله عليه. انتهى.
خازن. وفي أبي السعود: وآسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد، الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف الصديق عليه السلام. انتهى.
أقول: أعتمد: أنها من بني إسرائيل، وقيل: إنها بنت عم موسى، وقد تزوجها فرعون قهرا، ولم تنجب منه أولادا، وقد آمنت بموسى وصدّقته، كما ستعرفه في آخر سورة (التحريم) إن شاء الله تعالى. وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كمل من الرّجال كثير، ولم يكمل من النّساء إلاّ مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت
خويلد، وفضل عائشة على النّساء كفضل الثّريد على سائر الطّعام». متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد، وآسية امرأة فرعون» . أخرجه الترمذي، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم يتزوج مريم، وآسية في الجنة، وأخت موسى بن عمران.
فقد روى الزبير بن بكار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة-رضي الله عنها: «أشعرت أنّ الله زوّجني معك في الجنة مريم بنت عمران، وكلثوم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون؟ فقالت: الله أخبرك بذلك؟ فقال: نعم، فقالت: بالرّفاء والبنين» . انتهى. وهذا كان منه صلى الله عليه وسلم قرب وفاتها رضي الله عنها-وأرضاها.
الإعراب: {وَقالَتِ:} الواو: حرف عطف. (قالت): فعل ماض، والتاء للتأنيث.
{اِمْرَأَتُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (التقطه
…
) إلخ لا محل لها مثلها، و {اِمْرَأَتُ} مضاف، و {فِرْعَوْنَ} مضاف إليه مجرور
…
إلخ. {قُرَّتُ:} خبر مبتدأ محذوف، أي: هو قرة. وقال النحاس: وفيه وجه آخر بعيد، ذكره أبو إسحاق، قال: يكون رفعا بالابتداء، والخبر جملة:{لا تَقْتُلُوهُ} . وإنما بعد؛ لأنه يصير المعنى: أنه معروف بأنه قرة عين. وجوازه أن يكون المعنى: إذا كان قرة عين لي ولك؛ فلا تقتلوه. ويجوز النصب بمعنى: لا تقتلوه قرة عين لي، ولك، ولم أر قراءة بالنصب. تأمّل. و {قُرَّتُ} مضاف، و {عَيْنٍ} مضاف إليه، {لِي:}
جار ومجرور متعلقان ب: {قُرَّتُ،} أو بمحذوف صفة له. (لك): جار، ومجرور، معطوفان على ما قبلهما، وجملة: «هو قرّة
…
» إلخ في محل نصب مقول القول. {لا:} ناهية جازمة.
{تَقْتُلُوهُ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {عَسى:} فعل ماض جامد تام هنا مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب {يَنْفَعَنا:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل يعود إلى {مُوسى،} و (نا): مفعول به، وأن والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل {عَسى} . هذا؛ وإن كانت {عَسى} ناقصة فاسمها ضمير مستتر والمصدر المؤول في محل نصب خبرها. والأول أقوى؛ لأنه لا مرجع للضمير. تأمّل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {أَوْ:} حرف عطف.
{نَتَّخِذَهُ:} فعل مضارع معطوف على ما قبله، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به أول. {وَلَداً:} مفعول به ثان. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {يَشْعُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية {وَهُمْ..}. إلخ في محل نصب حال من {(آلُ فِرْعَوْنَ)} والرابط: الواو، والضمير، الذي رأيت تقديره في الشرح.
الشرح: {وَأَصْبَحَ:} صار، فليست أصبح على بابها من التوقيت في الصباح. وقيل: المراد ألقته ليلا، فأصبح فؤادها في النهار فارغا. والفؤاد: القلب، والجمع: أفئدة، ومعنى {فارِغاً:}
صفرا من العقل؛ لما دهمها من الخوف، والحيرة لمّا سمعت بوقوعه في يد فرعون، كقوله تعالى:{وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ} أي: خلاء لا عقول فيها، ومنه قول حسّان-رضي الله عنه:[الوافر] ألا أبلغ أبا سفيان عنّي
…
فأنت مجوّف نخب هواء
وقيل: المعنى: خاليا من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى. وقيل: معناه: ناسيا للوحي الذي أوحاه الله إليها حين أمرها أن تلقيه في اليم بقوله: {وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي،} والعهد الذي عهده إليها أن يرده إليها، ويجعله من المرسلين.
{إِنْ كادَتْ} أي: إنها قاربت. {لَتُبْدِي بِهِ} أي: لتظهر أمره. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي: تصيح عند إلقائه في يد فرعون: وا ابناه. {لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها} أي:
بالصبر، والثبات. {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: من المصادقين بوعد الله إياها. قال يوسف بن الحسين-رحمه الله تعالى-: أمرت أم موسى بشيئين، ونهيت عن شيئين، وبشرت ببشارتين، فلم ينفعها الكل حتى تولى الله حياطتها، فربط على قلبها. انتهى. نسفي؛ أي: بالصبر، والثبات، وقوة الإيمان، والله يتولى الصالحين. وفيه استعارة تصريحية تبعية؛ لأن الربط هو الشد بالحبل.
الإعراب: {وَأَصْبَحَ:} الواو: حرف عطف. (أصبح): فعل ماض ناقص. {فُؤادُ:} اسم (أصبح)، وهو مضاف، و {أُمِّ} مضاف إليه، و {أُمِّ} مضاف، و {مُوسى} مضاف إليه مجرور
…
إلخ. {فارِغاً:} خبر: (أصبح)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وهي من جملة تفسير {نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ}. {إِنْ:} مخففة من الثقيلة مهملة لا عمل لها. {كادَتْ:} فعل ماض ناقص، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هي» ، يعود إلى {أُمِّ مُوسى}. {لَتُبْدِي:} اللام: هي الفارقة بين النفي والإثبات.
(تبدي): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {أُمِّ مُوسى}. {بِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:{كادَتْ،} والجملة الفعلية هذه مستأنفة، لا محل لها. {لَوْلا:} حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط.
{إِنْ:} حرف مصدري ونصب. {رَبَطْنا:} فعل ماض مبني على السكون، وهو في محل نصب ب {إِنْ،} و (نا): فاعله، و {إِنْ} والفعل في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف
وجوبا، والجملة الاسمية ابتدائية، وحالة محل شرط {لَوْلا} . وجواب {لَوْلا} محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: لولا ربطنا على قلبها موجود؛ لأبدت به. {عَلى قَلْبِها:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لِتَكُونَ:} فعل مضارع ناقص منصوب ب: {إِنْ} مضمرة بعد لام التعليل، واسمه مستتر تقديره:«هي» يعود إلى: {أُمِّ مُوسى} . {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (تكون)، و:«أن» المضمرة، والفعل (تكون) في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{رَبَطْنا} . تأمل، وتدبر.
{وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)}
الشرح: {وَقالَتْ} أي: أم موسى. {لِأُخْتِهِ:} أخت موسى، واسمها: مريم بنت عمران وافق اسمها اسم مريم أم عيسى على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام، وذكر ذلك السهيلي، والثعلبي. وذكر الماوردي عن الضحاك: أن اسمها: كلثمة. وقال السهيلي: اسمها:
كلثوم، جاء ذلك في حديث الزبير بن بكار، انظره في الآية رقم [9]. {قُصِّيهِ:} اتبعي أثره حتى تتعرفي خبره. هذا؛ وقص الخبر: أخبر به، والقصص: تتبع الأثر، وسميت الحكاية: قصة؛ لأن الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئا فشيئا.
{فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ:} عن بعد، قيل: كانت تمشي جانبا، وتنظره اختلاسا، ترى: أنها لا تنظره. و «بصر» من الباب الخامس. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ:} أنها أخته، وأنها تراقبه، فكانت تسير على شاطئ النيل بعيدا عنه حتى دخلوا القصر، وأخذوا يبحثون عن مرضع ترضعه.
الإعراب: {وَقالَتْ:} الواو: حرف عطف. (قالت): فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى {أُمِّ مُوسى}. {لِأُخْتِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {قُصِّيهِ:} فعل أمر مبني على حذف النون؛ لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، والياء فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:
{وَقالَتْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {فَبَصُرَتْ:} الفاء: حرف عطف، وتعقيب. (بصرت): فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى (أخته) تقديره:«هي» .
{بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {عَنْ جُنُبٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل (بصرت) المستتر؛ أي: بصرت به مستخفية كائنة عن جنب، أو من الضمير المجرور بالباء؛ أي: بعيدا منها، وجملة:{فَبَصُرَتْ..} . إلخ معطوفة على جملة: (قالت
…
) إلخ لا محل لها مثلها، أو هي معطوفة على جملة محذوفة، انظر الشرح. {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} انظر الآية رقم [9] ففيها الكفاية محلا، وإعرابا.
الشرح: {وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ} أي: منعناه من قبول ثدي مرضعة غير أمه، فلم يقبل ثدي واحدة من المراضع المحضرة، قبل مجيء أمه، وأخته. والتحريم استعارة للمنع؛ لأن من حرم عليه الشيء؛ فقد منعه، وذلك؛ لأن الله منعه أن يرضع ثديا غير ثدي أمه، وقد أهمهم ذلك. هذا؛ وإن الحكم الشرعي وإن نسب إلى ذات، فالطلب لا يتعلق إلا بالأفعال، نحو قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} أي: حرم الاستمتاع بهن، وقوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} أي: أكلها، وقوله:{حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ} أي: تناولها، لا أكلها، لتناول شرب ألبان الإبل، وقوله تعالى:{وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها} أي: منافعها من الركوب، والتحميل. و (مراضع) جمع:
مرضع بضم الميم، وكسر الضاد، وترك التاء إما لاختصاصه بالنساء، أو لأنه بمعنى: شخص مرضع، وفي سورة (الحج):{تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ} لذا قيل: مرضعة بالتاء لمن باشرت الإرضاع، وبلا تاء لمن شأنها الإرضاع، وإن لم تباشره، قال امرؤ القيس يخاطب ابنة عمه عنيزة:[الطويل]
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
…
فألهيتها عن ذي تمائم محول
هذا؛ ويقال: لم يؤنث مرضع في بيت امرئ القيس، ونحوه؛ لأن المراد النسبة، أي: ذات إرضاع، أو ذات رضيع، ومثلها: حائض، وطالق، وحامل. والاسم إذا كان من هذا القبيل عرته العرب من علامة التأنيث، كما قالوا: امرأة لابن تامر، أي: ذات لبن، وذات تمر، ورجل لابن تامر، أي: ذو لبن، وذو تمر، ومنه قوله تعالى:{السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} نص الخليل على أن المعنى: السماء ذات انفطار به؛ لذلك تجرد لفظ منفطر من علامة التأنيث، بخلاف ما إذا بني الوصف على الفعل؛ أنث، فتقول: أرضعت فهي مرضعة كما في آية الحج. والجمع: مراضع، ومراضيع، ومرضعات.
{فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} أي: يتولون تربيته، ورضاعه، وإنما قالت لهم ذلك حين رأت رغبتهم في إيجاد امرأة يقبل ثديها، وحرصهم على حياة الطفل الذي يبكي بين أيديهم من شدة جوعه. {وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ} أي: لا يمنعونه ما ينفعه من تربيته، وغذائه، والنصح: إخلاص العمل من شوائب الفساد. قيل: لما قالت لهم ذلك، قالوا: إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله، قالت: لا أعرفه، ولكن قلت: وهم ناصحون للملك، وقيل: إنها قالت: إنما قلت ذلك رغبة في سرور الملك، واتصالنا به. وقيل: قالوا: من هي؟ قالت: أمي، قالوا: أولأمك ولد؟ قالت نعم هارون، وكان هارون-على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-قد ولد في السنة التي لا يقتل فيها
الغلمان، قالوا: صدقت فائتينا بأمك، فانطلقت إليها، وأخبرتها بحال ابنها، وجاءت بها إليهم، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها، وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه ريا. انتهى. خازن.
روي: أنهم قالوا لأم موسى حين قبل ثديها، والتقمه: كيف ارتضع منك، ولم يرتضع من غيرك؟! فقالت: إني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، لا أكاد أوتى بصبي إلا ارتضع مني.
فاستأجرها فرعون لإرضاعه، وحضانته، وكان يعطيها كل يوم دينارا. روي: أن فرعون-لعنه الله تعالى-قال لها: أقيمي عندنا لإرضاعه، فقالت: لا أقدر على فراق بيتي، إن رضيتم أن أرضعه في بيتي، وإلا فلا حاجة لي فيه، وأظهرت الزهد فيه نفيا للتهمة عنها، فرضوا بذلك، فرجعت به إلى بيتها من يومها، ولم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها، وأتحفها بالذهب، والجواهر.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف حل لها أن تأخذ الأجر على إرضاع ولدها؟ قلت: ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع، ولكنه مال حربي، تأخذه على وجه الاستباحة. انتهى. أقول:
ومن هذا يستباح مال الحربي بأي وجه كان، ولو كان عن طريق المقامرة؛ إذا كان المسلم يعلم من نفسه أنه يقمرهم ويغلبهم. والله أعلم.
الإعراب: {وَحَرَّمْنا:} الواو: حرف عطف. (حرمنا): فعل، وفاعل. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْمَراضِعَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {مِنْ قَبْلُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الْمَراضِعَ}. وبني (قبل) على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى. {فَقالَتْ:}
الفاء: حرف عطف. (قالت): فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى أخت موسى.
{هَلْ:} حرف استفهام. {أَدُلُّكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {عَلى أَهْلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {أَهْلِ} مضاف، و {بَيْتٍ} مضاف إليه. {يَكْفُلُونَهُ:} فعل مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل جر صفة:{أَهْلِ بَيْتٍ،} أو في محل نصب حال منه لتخصصه بالإضافة. {أَدُلُّكُمْ:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {ناصِحُونَ:}
خبر المبتدأ مرفوع.. إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:
الواو، والضمير، وجملة:{وَقالَتْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.
الشرح: {فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها:} تسر، وتفرح من «القرار» ، فإن العين إذا رأت ما يسر النفس؛ سكنت إليه من النظر إلى غيره. أو من «القر» ، فإن دمعة السرور باردة، ودمعة
الحزن حارة، وضعف ناس هذا، وقالوا: الدمع كله حار، فمعنى «أقر الله عينه» أي: سكن الله عينه؛ بالنظر إلى من يحبه حتى تقر وتسكن، وإذا أريد بهذه الجملة الدعاء فيكون المعنى: أقر الله عينه، أي: أسكنها بالموت، فيكون الفعل من الأضداد، وفلان قرة عيني؛ أي: تسكن نفسي بقربه، وقالت ميسون بنت بحدل الكلبية:[الوافر] ولبس عباءة وتقرّ عيني
…
أحبّ إليّ من لبس الشّفوف
وانظر ما ذكرته في الآية رقم [74] من سورة (الفرقان). {وَلا تَحْزَنَ} أي: لفراقه.
{وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ} أي: ما وعدها به من رده إليها، وجعله من المرسلين. {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي: أكثر آل فرعون كانوا في غفلة عن ما قدره الله، وقضاه. هذا؛ وذكر الأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله، أو لتقصيره في النظر، أو لم تقم عليه الحجة؛ لأنه لم يبلغ مبلغ التكليف، أو لأنه يقام مقام الكل. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [6] من سورة (الروم) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {فَرَدَدْناهُ:} الفاء: حرف عطف. (رددناه): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {إِلى أُمِّهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {كَيْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَقَرَّ:}
فعل مضارع منصوب ب {كَيْ} . {عَيْنُها:} فاعل، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، و:{كَيْ} والفعل: {تَقَرَّ} في تأويل مصدر في محل جر بلام تعليل مقدرة قبل {كَيْ} . هذا؛ وإن اعتبرت النصب ب: «أن» مضمرة بعد: {كَيْ،} ف: «أن» تؤول مع الفعل بمصدر في محل جر ب: {كَيْ} . وعلى الاعتبارين فالجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {تَحْزَنَ:} معطوف على {تَقَرَّ} . وقيل التقدير: ولئلا تحزن، والفاعل يعود إلى {أُمِّ مُوسى}. {وَلِتَعْلَمَ:} الواو: حرف عطف. (لتعلم): فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى أم موسى أيضا، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور معطوفان على ما قبلهما.
{أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {وَعْدَ:} اسم {أَنَّ،} و {وَعْدَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {حَقٌّ:} خبر {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول:(تعلم). {وَلكِنَّ:} الواو: حرف استئناف. (لكن):
حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَهُمْ:} اسم (لكن)، والهاء في محل جر بالإضافة. {لا:} نافية.
{يَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(لكن)، والجملة الاسمية مستأنفة، أو معترضة في آخر الكلام لا محل لها، وقيل: في محل نصب حال، ولا وجه له.
الشرح: {وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ:} الأشد: ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين عاما، وقيل: الأشد:
ثلاثة وعشرون سنة. {وَاسْتَوى:} بلغ أربعين عاما هكذا قيل، ومعلوم أن بلوغه سن الأربعين كان عند رجوعه من مدين؛ لأنه أقام في مصر ثلاثين سنة، ثم ذهب إلى مدين، وأقام فيها عشر سنين، ووقعة قتل القبطي كانت قبل ذهابه إلى مدين، فهي السبب فيه؛ لذا تفسير الاستواء بانتهاء الشباب، وتكامل العقل، والقوى أولى بالاعتبار. ولا تنس: أن الله تعالى لم يذكر الاستواء في حق يوسف على نبينا، وعليهم ألف صلاة، وألف سلام. وانظر شرح {اِسْتَوى} في سورة (طه) رقم [5]. و {آتَيْناهُ حُكْماً} أي: الحكمة قبل النبوة. والعلم: الفهم. وقال محمد بن إسحاق:
أي: العلم بما في دينه ودين آبائه، وكان له تسعة من بني إسرائيل يسمعون منه، ويقتدون به، ويجتمعون إليه، وكان هذا قبل النبوة. {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي: كما جزينا أم موسى لما استسلمت لأمر الله، وألقت ولدها في البحر، وصدّقت بوعد الله، فرددنا ولدها إليها مصحوبا بالهدايا والتحف وهي آمنة، ثم وهبنا له العقل، والحكمة، والنبوة، وكذلك نجزي كل محسن على إحسانه. انتهى. قرطبي بتصرف.
الإعراب: {وَلَمّا:} الواو: حرف استئناف. (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه. وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {بَلَغَ:} فعل ماض، وفاعله يعود إلى موسى، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لما) إليها على اعتبارها ظرفا.
{أَشُدَّهُ:} مفعول به، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَاسْتَوى:} الواو: حرف عطف. (استوى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى موسى، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {آتَيْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول.
{حُكْماً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {وَعِلْماً:} معطوف على ما قبله. {وَكَذلِكَ:} الواو: حرف استئناف.
الكاف: حرف تشبيه وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: نجزي المحسنين جزاء كائنا مثل جزاء موسى وأمه على صبرهما، وإحسانهما. واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {نَجْزِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {الْمُحْسِنِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، والكلام مستأنف لا محل له. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
الشرح: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} يعني: موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
والمدينة قيل: هي منف من أعمال مصر. وقيل: هي قرية، يقال لها: حايين على رأس فرسخين من مصر. وقيل: هي مدينة عين شمس. {عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها:} قيل: هي نصف النهار، واشتغال الناس بالقيلولة. وقيل: دخلها ما بين المغرب، والعشاء. وفي سبب دخول المدينة في ذلك الوقت أقوال:
الأول: أن موسى كان يسمى ابن فرعون، وكان يركب في مراكبه، ويلبس لباسه، فركب فرعون يوما، وكان موسى غائبا، فلما جاء؛ قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب في أثره، فأدركه المقيل بأرض منف، فدخلها، وليس في طرقها أحد.
الثاني: أنه كان لموسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه، ويقتدون به، فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه، ومخالفتهم في دينه؛ حتى أنكروا عليه ذلك، وخافوه، وخافهم، فكان لا يدخل المدينة إلا خائفا مستخفيا على حين غفلة من أهلها.
القول الثالث: أن موسى ضرب فرعون بالعصا في صغره، فأراد فرعون قتله، فقالت امرأته:
هو صغير فتركه وأمر بإخراجه من مدينته، فأخرج منها، فلم يدخل عليهم حتى كبر، وبلغ أشده، فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها، يعني: عن ذكر موسى، ونسيانهم خبره لبعد عهدهم به.
وعن علي بن أبي طالب-رضي الله عنه: أنه كان يوم عيد لهم، قد اشتغلوا فيه بلهوهم ولعبهم. انتهى. خازن بحروفه. وفي القرطبي قريب منه، واعتمد المروي عن علي كرم الله وجهه. هذا؛ وعلى حين بمعنى في حين، قال النابغة الذبياني:[الطويل] على حين عاتبت المشيب على الصّبا
…
وقلت: ألمّا أصح والشّيب وازع؟!
وقال القرطبي: يقال في الكلام: دخلت المدينة حين غفل أهلها، ولا يقال: على حين غفل أهلها، فدخلت {عَلى} في هذه الآية؛ لأن الغفلة هي المقصودة، فصار هذا كما تقول: جئت على غفلة انتهى. هذا؛ والغفلة: معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقائق الأمور. وقيل:
حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ، والتيقظ، وهذا في حق الله تعالى محال، فلا بد من تأويل قوله تعالى في سورة (إبراهيم) رقم [42]:{وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ}
{الظّالِمُونَ..} . إلخ فإن المقصود منها: أنه سبحانه ينتقم من الظالم للمظلوم، ففيه وعيد، وتهديد للظالم، وإعلام له بأنه لا يعامله معاملة الغافل عنه، بل ينتقم منه، ولا يتركه مغفلا.
{فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ:} يتخاصمان، ويتنازعان. {هذا مِنْ شِيعَتِهِ} أي: أحدهما من طائفة بني إسرائيل. {وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ:} والثاني قبطي من قوم فرعون عدوه. وقيل: أحدهما مؤمن، والآخر كافر. وقيل: الذي من شيعته هو السامري، والذي من عدوه هو طباخ فرعون، واسمه: فاتون، وكان القبطي يريد أن يأخذ الإسرائيلي ليحمل الحطب إلى مطبخ فرعون، وهذا يرجح ما اعتمدته عن علي-كرم الله وجهه -آنفا. وقال ابن عباس رضي الله عنهما:
لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم؛ حتى امتنعوا كل الامتناع، وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى؛ لأنهم كانوا يعلمون: أنه منهم.
قال ابن هشام في المغني: ليس المراد تقريب الرجلين من موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام، كما تقول: هذا كتابك فخذه، وإنما الإشارة إليهما كانت في ذلك الوقت هكذا، فحكيت.
{فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ:} طلب منه أن يغيثه وأن يعينه على عدوه الفرعوني. وقرئ:
(فاستعانه) وهو بمعناه، والسين والتاء فيهما للطلب. {فَوَكَزَهُ مُوسى} أي: ضرب القبطي بجمع كفه، وقرئ:«(فلكزه)» أي: فضرب به صدره. قال قتادة: ضربه بعصاه، وقال مجاهد: بكفه، أي: دفعه. هذا؛ والوكز، واللكز، واللهز، واللهد بمعنى واحد، وهو الضرب بجمع الكف مجموعا كعقد ثلاثة وسبعين، قال طرفة في معلقته يذم رجلا:[الطويل] بطيء عن الجلى، سريع إلى الخنا
…
ذلول بإجماع الرجال ملهد
ففعل موسى -على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام -ذلك؛ وهو لا يريد قتله، إنما قصد دفعه، فكانت فيه منيته، وهو معنى قوله تعالى:{فَقَضى عَلَيْهِ} وكل شيء أتيت عليه، وفرغت منه قضيت عليه. يروى: أن موسى قال للقبطي: خل سبيله، فقال: إنما أريد أن يحمل الحطب إلى مطبخ أبيك، فنازعه، فقال القبطي لموسى: لقد هممت أن أحمله عليك، فغضب موسى، واشتد غضبه، وكان قد أوتي بسطة في الخلق، وشدة في القوة، فوكزه فقضى عليه.
{قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ} أي: من إغوائه؛ لأنه لم يكن أمر بقتال الكفار، أو لأنه كان مأمونا فيهم، فلم يكن له اغتيالهم، ولا يقدح ذلك في عصمته؛ لأنه قتل خطأ لا عمد، وإنما عده من عمل الشيطان، وسماه ظلما، واستغفر منه على عادتهم في استعظام محقرات فرطت منهم. {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ:} بين الضلال، والإضلال، وانظر شرح (عدو) في الآية رقم [77] من سورة (الشعراء).
الإعراب: {وَدَخَلَ:} الواو: حرف عطف. (دخل): فعل ماض، والفاعل يعود إلى موسى.
{الْمَدِينَةَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله عند بعض النحاة وفي مقدمتهم سيبويه. والمحققون وعلى رأسهم الأخفش ينصبونه على التوسع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب عندهم انتصاب المفعول به على السعة بإجراء اللازم مجرى المتعدي، ومثل ذلك قل في «دخلت الدار، ونزلت البلد، وسكنت الشام» . {عَلى حِينِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من {الْمَدِينَةَ،} أو من الفاعل المستتر؛ أي: مستخفيا. {مِنْ أَهْلِها:} متعلقان بمحذوف صفة:
{غَفْلَةٍ،} و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَدَخَلَ..} . إلخ معطوفة على جواب (لما) لا محل لها أيضا. {فَوَجَدَ:} الفاء: حرف عطف. (وجد): فعل ماض، والفاعل يعود إلى موسى أيضا، {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، تقدم على الأول. {رَجُلَيْنِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى. {يَقْتَتِلانِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، وألف الاثنين فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب صفة (رجلين) وجملة:{فَوَجَدَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.
{هذا:} الهاء: حرف تنبيه. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مِنْ شِيعَتِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب صفة ثانية ل:{رَجُلَيْنِ،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم على حد قوله تعالى: {وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ،} وجملة: {وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ} معطوفة على ما قبلها فلها حكمها. {فَاسْتَغاثَهُ:} الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف.
(استغاثه): فعل ماض. والهاء في محل نصب مفعول به. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية معطوفة، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.
{مِنْ شِيعَتِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة.
{عَلَى الَّذِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ عَدُوِّهِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {فَوَكَزَهُ:} الفاء: حرف عطف. (وكزه): فعل ماض، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {مُوسى:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها.
{فَقَضى:} الفاء: حرف عطف. (قضى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (موسى)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (موسى). {هذا:}
مبتدأ. {مِنْ عَمَلِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {عَمَلِ} مضاف، و {الشَّيْطانِ} مضاف
إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {عَدُوٌّ:} خبر (إن). {مُضِلٌّ:} خبر ثان. {مُبِينٌ:} خبر ثالث. وإن اعتبرت {مُضِلٌّ مُبِينٌ} صفتين ل: {عَدُوٌّ} فالمعنى لا يأباه، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول.
الشرح: ندم موسى -على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام -على ذلك الوكز، الذي كان فيه إزهاق الروح، فحمله ندمه على الخضوع لربه، والاستغفار من ذنبه، ثم لم يزل يعدد ذلك على نفسه مع علمه بأنه قد غفر له، حتى إنه في يوم القيامة يعتذر عن الشفاعة، ويقول: إني قتلت نفسا لم اؤمر بقتلها، وإنما اعتبره ذنبا؛ لأن النبي لا ينبغي له أن يقتل حتى يؤمر. {فَاغْفِرْ لِي} أي: ذنبي الذي حصل من قتل القبطي. {فَغَفَرَ لَهُ:} ذنوبه باستغفاره. {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ:} لذنوب عباده إذا استغفروا، وتابوا، و {الْغَفُورُ} صيغة مبالغة. {الرَّحِيمُ:} بعباده حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، ويغفر لهم ذنوبهم؛ إذا استغفروا.
الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (موسى). {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة
…
إلخ، وانظر الآية رقم [169] من سورة (الشعراء) ففيها البحث كاف واف. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها. {ظَلَمْتُ:} فعل، وفاعل. {نَفْسِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن) والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ مع الجملة الندائية في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَاغْفِرْ:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر. (اغفر): فعل دعاء، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {لِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والمفعول محذوف، تقديره: اغفر لي ذنوبي، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر ب:«إذا» ؛ إذ التقدير: إذا كان ذلك حاصلا مني فاغفر لي، والكلام كله في محل نصب مقول القول. {فَغَفَرَ:} الفاء: حرف عطف. (غفر): فعل ماض، والفاعل يعود إلى:«ربه» . {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قالَ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء
اسمها. {هُوَ:} ضمير فصل، لا محل له من الإعراب، أو هو توكيد لا سم (إن) على المحل.
{الْغَفُورُ:} خبر (إن). {الرَّحِيمُ:} خبر ثان. هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ، وما بعده خبرا عنه، فالجملة الاسمية تكون في محل رفع خبر (إن) والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.
{قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)}
الشرح: {قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أي: من المعرفة، والحكمة، والتوحيد، والإيمان بك.
قال الزمخشري-رحمه الله تعالى -: يجوز أن يكون قسما، جوابه محذوف، تقديره: أقسم بإنعامك علي بالمغفرة؛ لأتوبن. وأن يكون استعطافا، كأنه قال: رب اعصمني بحق ما أنعمت علي من المغفرة، فلن أكون إن عصمتني ظهيرا للمجرمين. فتكون الباء متعلقة ب:«اعصمني» المقدر، أقول: من المعروف: أن جواب القسم الاستعطافي يكون جملة إنشائية، مثل قول الشاعر:[الطويل] بعيشك يا سلمى ارحمي ذا صبابة
…
أبى غير ما يرضيك في السر والجهر
وأيضا قول مجنون ليلى: [الوافر] بربك هل ضممت إليك ليلى
…
قبيل الصبح أو قبلت فاها؟
اللهم إلا أن يقال: الجواب محذوف لدلالة الجملة الآتية عليه، التقدير على الأول: أقسم بحق إنعامك علي؛ لأتوبن! والتقدير على الثاني: أسألك بحق إنعامك علي اعصمني! هذا؛ وانظر البيتين في كتابنا فتح القريب المجيب رقم [995 و 996].
هذا؛ وأراد بمظاهرة المجرمين: إما صاحبة فرعون، وانتظامه في جملته، وتكثير سواده؛ حيث كان يركب بركوبه، كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، وإما بمظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم، والإثم، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له قتله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما-قال: لم يستثن، فابتلي به مرة أخرى، يعني: لم يقل: فلن أكون إن شاء الله ظهيرا؛ أي: معاونا للمجرمين، وهذا كقوله تعالى:{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} .
قال عبيد الله بن الوليد الوصافي: قلت لعطاء بن أبي رباح: إن لي أخا يأخذ بقلمه (أي:
يأخذ أجرة على كتابته بقلمه)، وإنما يحسب ما يدخل، وما يخرج، وله عيال، ولو ترك ذلك لاحتاج، وادان، فقال: من الرأس؟ قلت: خالد بن عبد الله القسري، قال: أما تقرأ ما قال العبد الصالح: {رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} . قال ابن عباس رضي الله عنهما: فلم يستثن، فابتلي به ثانية، فأعانه الله، فلا يعينهم أخوك؛ فإن الله يعينه.
قال عطاء: فلا يحل لأحد أن يعين ظالما، ولا يكتب له، ولا يصحبه، وأنه إن فعل شيئا من ذلك فقد صار معينا للظالمين. وفي الحديث:«ينادي مناد يوم القيامة: أين الظلمة، وأعوان الظلمة؛ حتى من لا ق لهم دواة، أو بري لهم قلما، فيجمعون في تابوت من حديد، فيرمى بهم في جهنم» . ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مشى مع مظلوم؛ ليعينه على مظلمته؛ ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة يوم تزل فيه الأقدام. ومن مشى مع ظالم؛ ليعينه على ظلمه؛ أزل الله قدميه على الصراط يوم تدحض فيه الأقدام» . انتهى. قرطبي، وخذ ما يلي:
عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي، فمن غشي أبوابهم، وصدقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، ولا يرد علي الحوض، ومن غشي أبوابهم، أولم يغش، فلم يصدقهم في كذبهم، ولا أعانهم على ظلمهم، فهو مني، وأنا منه، وسيرد علي الحوض» . رواه الترمذي والنسائي.
الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، وفاعله مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (موسى). {رَبِّ:}
منادى حذف منه أداة النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة
…
إلخ. {بِما:} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية. {أَنْعَمْتَ:} فعل، وفاعل، و (ما) والفعل في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره: أقسم، أو: أسألك بحق إنعامك علي. وانظر الشرح. {عَلَيَّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فَلَنْ:} الفاء: حرف تعليل وتفريغ. (لن): حرف نفي، ونصب، واستقبال.
وقال ابن عصفور، وابن السراج، وآخرون: ودعاء، أي: اعتبروها دعائية هنا، مثل قول الأعشى:[الخفيف] لن تزالوا كذلكم، ثم لا زل
…
ت لكم خالدا خلود الجبال
{أَكُونَ:} فعل مضارع ناقص منصوب ب: (لن) واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: «أنا» .
{ظَهِيراً:} خبر: {أَكُونَ} . {لِلْمُجْرِمِينَ:} جار ومجرور متعلقان ب: {ظَهِيراً،} وجملة: {فَلَنْ أَكُونَ..} . تعليل لما قبلها، والأحسن عطفها على الجواب المحذوف المقدر ب:(لأتوبن)، والكلام {رَبِّ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً} أي: على نفسه من قتله القبطي أن يؤخذ به. و (أصبح) بمعنى: صار، وليس على بابه. {يَتَرَقَّبُ} أي: ينتظر سوءا. والترقب: انتظار المكروه. وقيل:
ينتظر متى يؤخذ به. وقيل، يترقب الأخبار وما يتحدث به الناس. {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ:}
وهو الإسرائيلي؛ الذي قتل القبطي بسببه. {يَسْتَصْرِخُهُ} أي: يستغيث بموسى عليه السلام.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أتي فرعون، فقيل له: إن بني إسرائيل قتلوا رجلا منا، فخذ لنا بحقنا، فقال: اطلبوا قاتله، ومن يشهد عليه، فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة؛ إذ مر موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا آخر، فاستغاثه على الفرعوني، وكان موسى قد ندم على ما كان منه بالأمس من قتله القبطي. هذا؛ والصارخ، والمستصرخ: هو الذي يطلب النصرة، والمعاونة، والمصرخ: هو المغيث، قال سلامة بن جندل:[البسيط] كنا إذا ما أتانا صارخ فزع
…
كان الصراخ له قرع الظنابيب
الظنابيب: جمع ظنبوب، وهو حرف الساق اليابس من قدم، وقال أمية بن أبي الصلت:[الطويل] ولا تجزعوا إني لكم غير مصرخ
…
وليس لكم عندي غناء ولا نصر
{قالَ لَهُ مُوسى} أي: للإسرائيلي. {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} أي: ظاهر الغواية، قاتلت رجلا بالأمس، فقتلته بسببك، وتقاتل اليوم رجلا آخر، وتستغيث بي عليه. هذا؛ والغواية، والغي: ضد الرشد، الذي هو التعقل في الأمور، والتدبير: ألا يفعل فعلا يفضي إلى البلاء على نفسه، وعلى من يريد نصرته. وقال الحسن: إنما قال للقبطي: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} . وهو غير معتمد، وإنما هو للإسرائيلي.
فائدة: الأمس: اسم نكرة يراد به يوم من الأيام الماضية لا على التعيين، وإذا قيل: أمس؛ فإنه يكون معرفة؛ المراد به اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه. وبه يلغز، فيقال: أي اسم إذا عرف، نكر، وإذا نكر؛ عرف. وإذا اقترنت به ال فيكون معربا بالحركات الظاهرة، وإذا جرد منها فللعرب فيه حينئذ ثلاث لغات:
إحداها: البناء على الكسر مطلقا، وهي لغة أهل الحجاز، فيقولون: ذهب أمس بما فيه، واعتكفت أمس، وعجبت من أمس (بالكسر فيهن).
الثانية: إعرابه إعراب ما لا ينصرف مطلقا، وهي لغة بني تميم.
الثالثة: إعرابه إعراب ما لا ينصرف في حالة الرفع خاصة، وبناؤه على الكسر في حالتي النصب والجر، وهي لغة جمهور بني تميم. انتهى. شذور الذهب. هذا؛ وقال الزمخشري: قد يذكر: الأمس، ولا يراد به اليوم الذي قبل يومك، ولكن يراد به الوقت المستقرب على طريق الاستعارة.
الإعراب: {فَأَصْبَحَ:} الفاء: حرف استئناف. (أصبح): فعل ماض ناقص، واسمه مستتر، تقديره:«هو» يعود إلى موسى. {فِي الْمَدِينَةِ:} متعلقان ب: {خائِفاً} بعدهما. {خائِفاً:} خبر
(أصبح)، ويجوز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر:(أصبح)، و {خائِفاً} حالا من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور، كما يجوز اعتباره خبرا ثانيا. {يَتَرَقَّبُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (موسى) أيضا، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية يجوز فيها أن تكون خبرا ثانيا ل (أصبح)، وأن تكون حالا ثانية، وأن تكون بدلا من الحال الأولى، أو من الخبر الأول، أو حالا من الضمير المستتر ب:{خائِفاً} . فتكون حالا متداخلة، وجملة:
{فَأَصْبَحَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{فَإِذَا:} الفاء: حرف عطف وتعقيب. (إذا): هي الفجائية. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {اِسْتَنْصَرَهُ:} فعل ماض، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {بِالْأَمْسِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {يَسْتَصْرِخُهُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} والهاء مفعول به، والمتعلق محذوف، التقدير: على قبطي آخر، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، أو الخبر متعلق:(إذا) فتكون الجملة الفعلية في محل نصب حال من الموصول. وانظر الآية رقم [32] من سورة (الشعراء) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {قالَ:} فعل ماض. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان ب: {قالَ} .
{مُوسى:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف ضمير متصل في محل نصب اسمها. {لَغَوِيٌّ:} اللام: هي المزحلقة. (غوي):
خبر (إنّ). {مُبِينٌ:} صفة له، والجملة الاسمية:{إِنَّكَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {فَلَمّا أَنْ أَرادَ} أي: موسى. {أَنْ يَبْطِشَ:} بطش به: فتك به، وأخذه بصولة، وشدة، وسطا، وانقض عليه فهو باطش، وبطاش وبطيش. وقد أطلق على يوم بدر اسم البطشة الكبرى؛ لأن الله أخذهم أخذة شديدة فيه، كما هو معروف في السيرة النبوية، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [130] من سورة (الشعراء)، فإنه جيد. {بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما} أي: لموسى، وللإسرائيلي، والمراد: القبطي الذي يريد أن يسخر الإسرائيلي؛ لأنه عدو لموسى، وللإسرائيلي. وقيل: الذي أراد أن يبطش هو الإسرائيلي. وليس بشيء، وانظر زيادة {أَنْ} بعد (لما) في الآية رقم [33] من سورة (العنكبوت).
{قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ..} . إلخ: وذلك: أن موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام- أخذته الرقة، والغيرة على الإسرائيلي، فمد يده ليبطش بالقبطي، فظن الإسرائيلي: أنه يريد أن يبطش به، لما رأى من غضب موسى، وسمع من قوله:{إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} وهذا يفيد: أنه لم يكن أحد علم من قوم فرعون: أن موسى هو الذي قتل القبطي، حتى أفشى عليه الإسرائيلي ذلك، فسمعه القبطي، فأتى فرعون، فأخبره بذلك.
{إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبّاراً فِي الْأَرْضِ} أي: بالقتل ظلما. وقيل: الجبار: هو الذي يقتل، ويضرب، ولا ينظر في العواقب. وقيل: هو الذي يتعاظم، ولا يتواضع لأمر الله تعالى. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [130] من سورة (الشعراء) أيضا. {وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ:} بين الناس، فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن، ولما فشا: أن موسى قتل القبطي؛ أمر فرعون بقتله، فخرجوا بطلبه، وسمع رجل من شيعة موسى، ويقال: أنه مؤمن من آل فرعون، واسمه حزقيل، وقيل: شمعون، وقيل: سمعان. أقول: وهو النجار الذي صنع التابوت لأم موسى، كما رأيت في الآية رقم [7] وهو مؤمن آل فرعون المذكور في سورة (غافر).
الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [14]. {أَنْ:} زائدة.
{أَرادَ:} فعل ماض، وفاعله يعود إلى موسى على المعتمد. والمصدر المؤول من:{أَنْ يَبْطِشَ} في محل نصب مفعول به. والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، ولا محل لها على اعتبار (لما) حرفا. {بِالَّذِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {هُوَ:}
ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {عَدُوٌّ:} خبره، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها. {لَهُما:} جار ومجرور، متعلقان ب {عَدُوٌّ،} أو بمحذوف صفة له، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الإسرائيلي.
(يا): حرف نداء ينوب مناب: أدعو. (موسى): منادى مفرد علم مبني على ضم مقدر على الألف في محل نصب ب: (يا). {أَتُرِيدُ:} الهمزة: حرف استفهام. (تريد): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {تَقْتُلَنِي:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل مستتر تقديره: «أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب مفعول به، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، والجملة الندائية، والفعلية كلتاهما في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {قَتَلْتَ:} فعل، وفاعل. {نَفْساً:} مفعول به. {بِالْأَمْسِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و:(ما) المصدرية، والفعل {قَتَلْتَ} في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: أتريد أن تقتلني قتلا كائنا مثل قتلك نفسا بالأمس. وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا
التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر، المفهوم من الفعل المتقدم، وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه، لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها. {أَنْ:} حرف نفي بمعنى: «ما» . {تُرِيدُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {إِلاّ:} حرف حصر. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {تَكُونَ:} فعل مضارع ناقص منصوب ب {أَنْ،} واسمه مستتر تقديره: «أنت» . {جَبّاراً:} خبر: {تَكُونَ} . {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان ب {جَبّاراً،} و {أَنْ تَكُونَ..} . إلخ في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، وجملة:{إِنْ تُرِيدُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَما تُرِيدُ..} . إلخ معطوفة عليها فهي في محل نصب مقول القول أيضا، وإعرابها مثلها بلا فارق.
الشرح: {وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ:} آخرها، أي: من مكان بعيد. {يَسْعى:} يسرع في مشيه، وأخذ طريقا قريبا حتى سبق إلى موسى، وأخبره، وأنذره بما سمع. {قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ:} يتشاورون بسببك. والائتمار: التشاور. يقال: الرجلان يتآمران، ويأتمران؛ لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء، أو يشير عليه بأمر، و {الْمَلَأَ:} الأشراف، والسادة، ولا يقال لغيرهم؛ لأنهم يملئون العيون بكبريائهم، وزينتهم، وما يحاطون به من هيبة، وعظمة، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: معشر، ورهط، ونحوهما. وانظر الآية رقم [34] من سورة (الشعراء) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {إِنِّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ} أي: في الخروج من المدينة.
تنبيه: في سورة (يس) قدّم {مِنْ أَقْصَا} على: {رَجُلٌ؛} لأنه لم يكن من أقصاها، وإنما جاء منها. وهنا وصفه بأنه من أقصاها، وهما رجلان مختلفان، وقضيتان متباينتان، فما هنا في قضية موسى، وما هناك في قضية حواري عيسى. انتهى. جمل. وهل هذا الرجل من القبط، أو من بني إسرائيل؟ المعتمد: أنه من القبط، وأنه الرجل المذكور في الآية رقم [28] من سورة (غافر) انظر شرحها هناك: إن شاء الله تعالى.
الإعراب: {وَجاءَ:} الواو: حرف استئناف. (جاء): فعل ماض. {رَجُلٌ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وقبلها كلام محذوف يفهم من سياق القصة. {مِنْ أَقْصَا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {رَجُلٌ} وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف، و {أَقْصَا} مضاف، و {الْمَدِينَةِ} مضاف إليه. {يَسْعى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى:{رَجُلٌ،} والجملة الفعلية في محل رفع صفة ثانية ل:
{رَجُلٌ،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم على حد قوله تعالى: {وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ}
أَنْزَلْناهُ. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{رَجُلٌ} . {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل، {الْمَلَأَ:} اسم {إِنَّ} . {يَأْتَمِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} . {بِكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {لِيَقْتُلُوكَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والكاف مفعوله، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فَاخْرُجْ:} الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [16]، (اخرج): فعل أمر، وفاعله: أنت. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، والياء اسمها. {لَكَ:} متعلقان بمحذوف يدل عليه ما بعده، التقدير: ناصح لك؛ لأن «ال» موصولة، ولا يتقدم معمول الصلة على الموصول، وقيل: متعلقان بالناصحين؛ لأنه يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها، أو على جهة البيان، أعني: لك. {مِنَ النّاصِحِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {إِنِّي،} والجملة الاسمية: {إِنِّي..} . إلخ تعليل للأمر لا محل لها، وجملة:{فَاخْرُجْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط محذوف، يقدر بإذا، والكلام {يا مُوسى..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ معطوفة على جملة: (جاء
…
) إلخ بواو محذوفة، لا محل لها مثلها، وهو أولى من اعتبارها في محل نصب حال. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ (21)}
الشرح: {فَخَرَجَ مِنْها} أي: من المدينة. {خائِفاً:} من آل فرعون. {يَتَرَقَّبُ:} لحوق طالب له. {قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ:} خلصني منهم، واحفظني من لحوقهم، وهذا لجوء إلى الله لعلمه أن لا ملجأ إلا إليه تعالى.
تنبيه: في هذه الآية، وفي الآية رقم [18] دليل واضح على: أن الخوف من الأعداء، والحذر من شرهم، إنما هو سنة الله في أنبيائه، وأوليائه، مع معرفتهم به، وثقتهم بنصره. ومنه حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين، وأموالهم؛ مع كونه من التوكل على الله، والثقة به بمحل لم يبلغه أحد، ثم ما كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم، مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة تخوفا على أنفسهم من مشركي مكة، وهربا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم، وخاب الفسقة، والفجرة الذين يصمون الصديق-رضي الله عنه-بالجبن، وضعف الإيمان لما ناله من الخوف في ليلة الهجرة الشريفة، ودخوله مع حبيبه الغار، فويل لهم مما يكذبون، وويل لهم مما يفترون.
الإعراب: {فَخَرَجَ:} الفاء: حرف استئناف. (خرج): فعل ماض، والفاعل يعود إلى موسى، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {خائِفاً:}
حال من الفاعل المستتر، وفاعله مستتر فيه. {يَتَرَقَّبُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (موسى) أيضا، ومفعوله محذوف، التقدير: يترقب لحوقهم به، والجملة الفعلية في محل نصب حال ثانية من الفاعل المستتر في الفعل:(خرج) أو من الفاعل المستتر ب: {خائِفاً،} فتكون حالا متداخلة.
{قالَ} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (موسى). {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف. {نَجِّنِي:} فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:
«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {مِنَ الْقَوْمِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الظّالِمِينَ:} صفة القوم مجرور، وعلامة جره الياء
…
إلخ، والجملتان الندائية والفعلية كلتاهما في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ رَبِّ..} . إلخ في محل نصب حال ثانية من فاعل (خرج) المستتر، والرابط: الضمير فقط.
{وَلَمّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22)}
الشرح: لما خرج موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-فارا بنفسه، خائفا منفردا، لا شيء معه: من زاد، ولا راحلة، ولا حذاء نحو مدين. قيل: لأنه وقع في نفسه: أن بينهم، وبينه قرابة؛ لأن أهل مدين من ولد إبراهيم، وموسى من ولد إبراهيم، ومدين هو أحد أولاد إبراهيم، وقد بينته لك في سورة (هود) وغيرها، سميت البلد باسمه، وبين مدين ومصر مسيرة ثمانية أيام، وليس لفرعون سلطان على أهل مدين، ولم يكن لموسى طعام إلا ورق الشجر، ونبات الأرض، حتى رأى خضرته في بطنه. وما وصل إلى مدين؛ حتى وقع خف قدميه. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هو أول ابتلاء من الله لموسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام.
{قالَ عَسى رَبِّي أَنْ..} . إلخ: لما توجه موسى إلى مدين ولم يكن له معرفة بالطرق؛ سأل الله أن يهديه إلى الطريق التي توصله إلى مدين، فاعترضه ثلاث طرق، فأخذ في أوسطها، وكان فرعون أرسل جنوده في طلبه، وقال لهم: اطلبوه في ثنيات الطريق؛ فإنه لا يعرف الطريق، فجاءه ملك راكبا فرسا، فقال له: اتبعني، فاتبعه، فهداه إلى الطريق. قيل: إن هذا الملك هو جبريل عليه السلام. والله أعلم.
هذا؛ وبلاد مدين واقعة حول خليج العقبة من عند نهايته الشمالية، وشمال الحجاز، وجنوب فلسطين تنسب إلى مدين، ويطلق على سكانها: قوم مدين.
هذا؛ و {تِلْقاءَ} يقرأ بالمد، والقصر، قراءتان سبعيتان، وهو يستعمل ظرف مكان كما هنا، ويستعمل مصدرا ك:«التّبيان» ، ولم يجئ من المصادر على التفعال بالكسر غير: التّلقاء،
والتّبيان، والزّلزال، والوسواس، وإذا فتحت الأول صارت أسماء. ولم أعثر على فعل ل:
«تلقاء» على الاعتبارين: المصدرية، والاسمية، وهمزته بالمد منقلبة عن ياء «تلقاي» لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين.
هذا؛ و {سَواءَ} في الأصل مصدر بمعنى: الاستواء، فلذا صح الإخبار به عن متعدد في كثير من الآيات، وقيل: هو بمعنى: مستو، وهو لا يثنى، ولا يجمع. قالوا: هما سواء، وهم سواء، فإذا أرادوا لفظ المثنى، قالوا: سيان، وإن شئت قلت: سواءان. قال قيس بن معاذ، وهو الشاهد رقم [241] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الطويل]
فيا ربّ إن لم تجعل الحبّ بيننا
…
سواءين فاجعلني على حبّها جلدا
واعتبر ابن هشام في المغني هذه التثنية شاذة، وفي الجمع قالوا: هم أسواء، وهذا كله ضعيف، ونادر، وأيضا على غير القياس قولهم: هم سواس، وسواسية، أي: متساويان، ومتساوون. هذا؛ والسواء أيضا: العدل، والوسط، كما في هذه الآية، وقال تعالى:{وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} . وانظر شرح السبيل في الآية رقم [57] من سورة (الفرقان). هذا؛ وفسر الجلال: {سَواءَ السَّبِيلِ} بقصد الطريق، ثم فسر القصد بالوسط.
الإعراب: {وَلَمّا:} الواو: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [14]. {تَوَجَّهَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (موسى). {تِلْقاءَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {تِلْقاءَ} مضاف، و {مَدْيَنَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. وقيل: العلمية، والتأنيث، وليس بشيء، وجملة:{تَوَجَّهَ..} . إلخ لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا.
{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (موسى) أيضا. {عَسى:} فعل ماض جامد من أفعال الرجاء، مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {رَبِّي:} اسم (عسى) مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَهْدِيَنِي:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل يعود إلى {رَبِّي،} والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {سَواءَ:} منصوب بنزع الخافض. وقيل: هو مفعول ثان للفعل قبله، كما في قوله تعالى:{وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً} و {سَواءَ} مضاف، و {السَّبِيلِ} مضاف إليه من إضافة الصفة للموصوف، و {أَنْ يَهْدِيَنِي} في تأويل مصدر في محل نصب خبر:
{عَسى،} وجملة: {عَسى رَبِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له من الإعراب.
الشرح: {وَلَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ:} وصل موسى إلى الماء، وهو بئر لأهل مدين كانوا يسقون منها، ووروده الماء معناه: أنه بلغه لا أنه دخل فيه، ولفظة الورود تكون بمعنى الدخول في المورود، وبمعنى الاطلاع عليه؛ والبلوغ إليه؛ وإن لم يدخل، ومنه قول زهير في معلقته:
رقم [14]. [الطويل]
فلمّا وردن الماء زرقا جمامه
…
وضعن عصيّ الحاضر المتخيّم
{وَجَدَ عَلَيْهِ} أي: قريبا من الماء، أو وجد فوق شفير البئر. {أُمَّةً:} جماعة كثيرة العدد.
{يَسْقُونَ:} مواشيهم الماء. هذا؛ وأمة بمعنى الجماعة، كما رأيت، ولا واحد لها من لفظها، وتكون واحدا إذا كان ممن يقتدى به، كقوله تعالى:{إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ} والأمة:
الطريقة، والملة في الدين، كقوله تعالى حكاية عن قول المشركين:{إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} وبها فسرت الآية رقم [92] من سورة (الأنبياء). وقال النابغة الذبياني من قصيدة يخاطب بها النعمان بن المنذر، ويعتذر له مما وشى به الواشون:[الطويل]
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
…
وهل يأثمن ذو أمّة، وهو طائع؟
وكل جنس من الحيوان أمة، كقوله تعالى:{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} . والأمة: الحين، والوقت، كقوله تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد وقت وحين.
{وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ} أي: في مكان أسفل من مكانهم، وقبل أن يصل إلى الجماعة المحتشدين على الماء. {اِمْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ:} تحبسان أغنامهما من الماء؛ لئلا تختلط بأغنامهم.
قال سويد بن كراع يذكر تنقيحه شعره: [الطويل]
أبيت على باب القوافي كأنّما
…
أذود به سربا من الوحش نزّعا
أي: أحبس، وأمنع. وقيل: تذودان: تطردان. قال جرير يهجو الفرزدق: [الوافر]
لقد سلبت عصاك بنو تميم
…
فما تدري بأيّ عصا تذود؟
أي: تطرد، وتكف. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: تذودان أغنامهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء. وقيل: كانتا تكرهان المزاحمة على الماء. {قالَ ما خَطْبُكُما} أي:
ما شأنكما؟ وحقيقته: ما مخطوبكما؛ أي: ما مطلوبكما من الذياد؟ فسمى المخطوب: خطبا.
هذا؛ والخطب: الأمر العظيم، والنازلة من نوازل الدهر، وجمعه: خطوب، قال جابر بن رألان الطائي الجاهلي، وهذا هو الشاهد رقم [26] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الوافر]
يرجّي المرء ما إن لا يراه
…
وتعرض دون أدناه الخطوب
{قالَتا لا نَسْقِي:} أغنامنا الماء. {حَتّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ} أي: يصرف الرعاة مواشيهم عن الماء، حذرا من مزاحمة الرجال، فإذا صدروا سقينا مواشينا من فضل ما بقي منهم في الأحواض. هذا؛ ويقرأ {يُصْدِرَ} بضم الياء وكسر الدال من الرباعي، وبفتح الياء، وضم الدال من الثلاثي، و {الرِّعاءُ} بكسر الراء جمع: راع، كقائم، وقيام، ويقرأ بضم الراء، وهو اسم للجمع، كالتّوام، والرّخاء. {وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ:} كبير السن لا يستطيع أن يخرج للسقي، فيرسلنا اضطرارا.
هذا؛ والفعل {نَسْقِي} و {يَسْقُونَ} في الآية السابقة، و (سقى) في الآية التالية، و (سقيت) في الآية التي بعدها كل هذه الأفعال من الثلاثي، كما يأتي هذا الفعل من الرباعي: أسقى، وهما بمعنى واحد، تقول: سقى الله هذه البلاد الغيث، وأسقاها الغيث، فيكون بالهمزة تارة، وبدونه أخرى، وشاهد المهموز قوله تعالى:{وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً،} وشاهد غير المهموز قول تعالى:
{وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً،} ويحتملهما قوله تعالى: {وَسُقُوا ماءً حَمِيماً،} وقوله جل ذكره: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ} وقد ورد اللغتان في قول لبيد-رضي الله عنه: [الوافر]
سقى قومي بني مجد وأسقى
…
نميرا والقبائل من هلال
ولكنه حذف المفعول الثاني من كليهما، كما حذف المفعولان من الألفاظ المذكورة في هذه الآيات. هذا؛ وفرق الأعلم بين المهموز، وغيره، فقال: تقول: سقيتك ماء إذا ناولته إياه يشربه، وتقول: أسقيتك إذا حصلت له سقيا.
هذا؛ والشيخ هو الذي استبانت فيه السن، وظهر عليه الشيب، وفي اللغة: هو من تجاوز الأربعين من عمره، وهو السن الذي يكمل فيها العقل، ويغلب فيها صلاح الرجل على فساده، ومن لم يكمل بعد الأربعين، ولم يرجع إلى صوابه فهو من الخاسرين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من بلغ من العمر أربعين سنة، ولم يغلب خيره على شرّه فليتجهّز إلى النّار» . وأصبح الأمل في صلاحه بعيدا. قال زهير بن أبي سلمى: [الطويل]
وإنّ سفاه الشّيخ لا حلم بعده
…
وإنّ الفتى بعد السّفاهة يحلم
ورحم الله من يقول: [الطويل]
إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكن
…
له دون ما يأتي حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى
…
وإن مدّ أسباب الحياة له الدّهر
هذا؛ ويجمع شيخ على: شيوخ، وشيوخ، وأشياخ، ومشيخة، وشيخان وشيخة، وجمع الجمع: مشايخ وأشاييخ، وفي مختار الصحاح عدّ من الجمع: مشايخ، ومشيوخاء، والمرأة شيخة، قال عبيد بن الأبرص في وصف فرسه في معلقته:[مخلع البسيط]
باتت على إرم عذوبا
…
كأنها شيخة رقوب
وقال عبد يغوث بن الحارث، وهذا هو الشاهد رقم (503) من كتابنا:«فتح القريب» : [الطويل] وتضحك منّي شيخة عبشميّة
…
كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
هذا؛ وشيّخته دعوته شيخا للتبجيل والتعظيم، وتصغير الشيخ: شييخ (بضم الشين وكسرها) ولا تقل: شويخ. ويطلق الشيخ على الأستاذ، والعالم وكبير القوم، ورئيس الصناعة، وعلى من كان كبيرا في أعين الناس علما، أو فضيلة، أو مقاما، ونحو ذلك، وشيخ النار: كناية عن إبليس، أخزاه الله تعالى.
هذا؛ ولقد اختلف في الشيخ أبي البنتين اختلافا كبيرا، فأكثر المفسرين على: أنه شعيب النبي على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وقد اشتهر ذلك اشتهارا عظيما، وأولع به الأدباء وأصحاب السير، وهذا أبو العلاء المعري يقول مادحا رجلا عظيما زفت إليه عروسه:[الخفيف]
كنت موسى وافته بنت شعيب
…
غير أن ليس فيكما من فقير
وآخرون يذكرون غير ذلك، فقال جماعة: اسم والد المرأتين: يثرون، وإنه ابن أخي شعيب، على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام. وقال آخرون: اسمه: يثري، فقد ذكر أبو جعفر الطبري في ذلك ثلاث روايات تنتهي كلها إلى ابن عباس-رضي الله عنهما، ليس فيها: أنه شعيب، أو ابن أخي شعيب.
وقال آخرون: إن الذي استأجر موسى هو نبي الله شعيب، وهي رواية ذكرها الطبري بسنده إلى قرّة بن خالد عن الحسن البصري، وذكر هذا الحافظ ابن كثير في تفسيره من قول الحسن البصري، وقول الإمام مالك. وقال آخرون: إن صاحب موسى والد المرأتين هو رجل مؤمن من قوم شعيب. وقال آخرون: كان شعيب قبل زمان موسى بمدة طويلة، والله أعلم بحقيقة الحال.
هذا؛ وقد روى البزار وابن أبي حاتم، كلاهما عن عتبة بن المنذر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند طويل، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: «أبرّهما وأوفاهما» . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ موسى لمّا أراد فراق شعيب-عليه السلام-أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به، فأعطاها ما ولدت غنمه في ذلك العام من قالب لون، قال: فما مرّت شاة إلا ضرب موسى جنبها بعصاه، فولدت قوالب ألوان كلّها، وولدت
ثنتين، أو ثلاثا كلّ شاة، وليس فيها فشوش، ولا ضبوب، ولا كميشة تفوت الكف، ولا ثغول».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فتحتم الشّام، فإنّكم تجدون بقايا منها، وهي السامريّة» . هذا الحديث أورده الحافظ ابن كثير من جملة أحاديث مرسلة، ثم قال: بعد كلام طويل: مدار هذا الحديث على عبد الله بن لهيعة المصري، وفي حفظه سوء، وأخشى أن يكون رفعه خطأ، والله أعلم.
وابن لهيعة أحد رواة سند الحديث. انتهى. قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار بتصرف، واختصار كبيرين. ثم قال عبد الوهاب-رحمه الله تعالى-: من هذا نعلم: أنه لا يوجد حديث صحيح فيه اسم شعيب مصرحا به. انتهى.
شرح ألفاظ الحديث-قالب لون: ذات لونين، ما بين أبلق، وبلقاء، وقال الهروي: إنها جاءت على غير ألوان أمهاتها، والفشوش: هي التي ينفشّ لبنها من غير حلب، وذلك لسعة الإحليل، أي الحلمة التي يخرج منها اللبن، ومثله الفتوح والثّرور، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ الشّيطان يفشّ بين أليتي أحدكم حتّى يخيّل إليه: أنه أحدث» . أي: ينفخ نفخا ضعيفا. والضبوب: الضيقة ثقب الإحليل، والضّبّ: الحلب لشدة العصر، والكميشة، ويروى الكموش، وهما بمعنى: الصغيرة الضرع، سميت بذلك لانكماش ضرعها، وهو تقلصه. والثغول، ويروى بالعين، وهي الشاة التي لها زيادة حلمة. والثعل: ضيق مخرج اللبن أيضا، وزيد في رواية ابن أبي حاتم: ولا عزوز، قال الهروي: العزوز: البكيئة، مأخوذ من العزاز، وهي الأرض الصلبة. انتهى. قرطبي.
الإعراب: {وَلَمّا:} الواو: حرف عطف. (لما): انظر الآية رقم [14]. {وَرَدَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (موسى). {ماءَ:} مفعول به، و {ماءَ} مضاف، و {مَدْيَنَ} مضاف إليه مجرور
…
إلخ، وجملة:{وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ} لا محل لها
…
إلخ. {وَجَدَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (موسى). {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أُمَّةً:} مفعول به أول. {مِنَ النّاسِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {أُمَّةً} . {يَسْقُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله، وقد حذف مفعولاه، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به ثان، أو في محل نصب حال من:{النّاسِ،} أو من:
{أُمَّةً،} والرابط: الضمير. وهذا على اعتبار: وجد بمعنى: لقي. وجملة: {وَجَدَ..} . إلخ جواب (لمّا)، لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، لا محل له مثله.
{وَوَجَدَ:} الواو: حرف عطف. (وجد): فعل ماض، والفاعل يعود إلى موسى أيضا.
{مِنْ دُونِهِمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.
{اِمْرَأَتَيْنِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، واكتفى الفعل بمفعول واحد؛ لأنه بمعنى: لقي. {تَذُودانِ:}
فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، وألف الاثنين فاعله، ومفعوله محذوف،
التقدير: تذودان أغنامهما. وانظر ما ذكرته الآية رقم [9] من سورة (الزمر) عن ابن هشام فهو جيد إن شاء الله. والجملة الفعلية في محل نصب صفة: {اِمْرَأَتَيْنِ،} وجملة: {وَوَجَدَ..} . إلخ معطوفة على جواب (لما)، لا محل لها مثلها. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (موسى). {لَمّا:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {خَطْبُكُما:} خبر المبتدأ، وبعضهم يعتبره مبتدأ مؤخرا، و (ما) خبرا مقدما، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والميم، والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{قالَتا:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، وحركت بالفتح لالتقائها ساكنة مع ألف الاثنين التي هي فاعله. {لا:} نافية. {نَسْقِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، ومفعولاه محذوفان، التقدير: لا نسقي أغنامنا الماء، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة.
{يُصْدِرَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة بعد {حَتّى} . {الرِّعاءُ:} فاعله، ومفعوله محذوف إن كان من الرباعي؛ و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جرّ ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَأَبُونا:} والواو: واو الحال. (أبونا):
مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {شَيْخٌ:} خبر المبتدأ. {كَبِيرٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل:{نَسْقِي} المستتر، والرابط: الواو، والضمير، وجملة:
{قالَتا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {فَسَقى لَهُما:} أغنامهما ماء رحمة بهما، وشفقة عليهما، واختلف كيف كان سقيه لأغنامهما، قيل: اقتلع صخرة كانت على رأس بئر أخرى، كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس، وقيل: زاحم القوم، ونحاهم عن البئر، وسقى لهما الغنم، وقيل: لما فرغ الرعاء من السقي غطوا رأس البئر بحجر، لا يرفعه إلا عشرة نفر، فجاء موسى، فرفع الحجر وحده، ونزع دلوا واحدا، ودعا فيه بالبركة، وسقى الغنم، فرويت.
{ثُمَّ تَوَلّى إِلَى الظِّلِّ} أي: عدل، ومال إلى أصل شجرة من شجر الطلح، فجلس في ظلها من شدة الحر، وهو جائع، وفيه دليل على جواز الاستراحة في الدنيا؛ حتى من كثرة العبادة، فكيف بمن يشقى، ويركض في الدنيا ليلا ونهارا في جمع حطامها الفاني، بخلاف ما يقوله بعض المتقشفة: ولما طال عليه البلاء أنس بالشكوى؛ إذ لا نقص في الشكوى إلى المولى.
{فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما:} لأي شيء. {أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ:} قليل، أو كثير، غث أو سمين، وكان لم يذق طعاما منذ سبعة أيام، حتى لصق بطنه بظهره، وكان يأكل من ورق الشجر ونبات الأرض، فعرّض بالدعاء، ولم يصرح بالسؤال، هكذا روى جميع المفسرين: أنه طلب في هذا الكلام ما يأكله، فالخير يكون بمعنى الطعام كما في هذه الآية، ويكون بمعنى المال، كما في قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ،} ويكون بمعنى القوة، كما قال تعالى:{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ،} ويكون بمعنى العبادة، كقوله تعالى:{وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ} .
{فَقِيرٌ:} محتاج. وعدي باللام؛ لأنه ضمن معنى: سائل، أو طالب. هذا؛ وأصل «فقير» في اللغة: الذي انكسر فقار ظهره، ثم أطلق على المعدم الذي لا يجد حاجته من المال؛ لأنه يشبه الذي انبت ظهره، وعدم الحول والقوة، وهو أسوأ حالا من المسكين عندنا معاشر الشافعية.
تنبيه: وإنما رضي شعيب-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-لابنتيه بسقي الغنم؛ لأن هذا الأمر في نفسه ليس بمحظور، والدين لا يأباه، وأما المروءة فعادة الناس في ذلك متباينة، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر، خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة. انتهى. نسفي.
أقول: لعل الرجل أبا البنتين لم يكن له أولاد ذكور يقومون له بسقي الغنم، وغيرها من الأعمال، فإنني لم أطلع على أولاد ذكور لشعيب في المراجع الموجودة لدي، فتكون الضرورة هي التي ألجأت البنتين لسقي الغنم، وغيرها من الأعمال؛ وقد ذكر: أنه كان له سبع بنات، وانظر ما ذكرته في الشاهد [1031] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ؛ ففيه بحث جيد.
الإعراب: {فَسَقى:} الفاء: حرف استئناف. (سقى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى (موسى)، ومفعولاه محذوفان، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. وقبلها كلام كثير مقدر، كما رأيت في الشرح. {لَهُما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {ثُمَّ:} حرف عطف. {تَوَلّى:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (موسى) أيضا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {إِلَى الظِّلِّ:} متعلقان بما قبلهما. {فَقالَ:} الفاء: حرف عطف. (قال): ماض، وفاعله يعود إلى (موسى) أيضا. {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف. وانظر ما ذكرته في (الشعراء) رقم [169] فإنه جيد.
{إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {لِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {فَقِيرٌ} الآتي، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام، و {أَنْزَلْتَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: إني فقير للذي، أو: لشيء أنزلته. {إِلَى:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما،
{مِنْ خَيْرٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في ما. {فَقِيرٌ:} خبر (إنّ)، والكلام:{رَبِّ إِنِّي..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا.
الشرح: روي: أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس مبكرتين، وأغنامهما حفل بالماء، قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا، رحمنا، فسقى لنا، وقصّا عليه القصة، فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي، وهو قوله تعالى:{فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ} . قيل:
هي الكبرى، واسمها صفوراء. وقيل: صفراء. وقيل: بل هي الصغرى، واسمها: ليا. وقيل:
صفيراء، وقال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه: ليست بسلفع من النساء، خرّاجة، ولّاجة، ولكن جاءت مستترة، قد وضعت كمّ درعها على وجهها استحياء.
والاستحياء، والحياء-بالمد-: الحشمة، والانقباض، والانزواء. يقال: استحيت-بياء واحدة، وبياءين-، ويتعدى بنفسه، وبالحرف، يقال: استحييته، واستحيت منه. والحياء: ملكة تمنع الإنسان من ارتكاب الرذائل. والحياء خير ما يتحلى به إنسان، فإذا ذهب الحياء من الإنسان؛ فقد ذهب منه كلّ خير، كما قال القائل:[الوافر]
إذا لم تخش عاقبة اللّيالي
…
ولم تستح فاصنع ما تشاء
فلا وأبيك ما في العيش خير
…
ولا الدّنيا إذا ذهب الحياء
وقد رغّب النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الشريفة الكثيرة بالحياء، وبيّن أنه من خير الخصال، وأكتفي بما يلي: فعن عمران بن الحصين-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحياء لا يأتي إلاّ بخير» . رواه البخاري، ومسلم، وفي رواية لمسلم:«الحياء خير كلّه» . وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنّة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النّار» . رواه أحمد.
هذا؛ والحياء في حق الله تعالى المراد منه: الترك اللازم للانقباض، كما ورد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: عن سلمان الفارسي-رضي الله عنه: «إنّ الله حييّ كريم، يستحيي من العبد إذا رفع إليه يديه أن يردّهما صفرا خائبتين» . رواه أبو داود، والترمذي، وغيرهما، فالمراد منه: أن الله سبحانه يعطي، ولا يمنع.
{قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا:} قيل: لما سمع موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-ذلك كره أن يذهب معها، ولكن كان جائعا، فلم يجد بدّا من الذهاب معها، فمشت المرأة، ومشى خلفها، فكانت الريح تضرب ثوبها، فتصف ردفها، فكره أن يرى ذلك منها، فقال لها: امشي خلفي، ودليني على الطريق؛ إذا أخطأت، ففعلت ذلك، فلما دخل موسى على شعيب إذا هو بالعشاء مهيأ، فقال: اجلس يا فتى فتعش! فقال: أعوذ بالله، قال شعيب: ولم ذاك؟ ألست جائعا؟ قال: بلى، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لابنتيك، وإنا أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضا من الدنيا. فقال له شعيب: لا والله يا فتى! ولكنها عادتي، وعادة آبائي نقري الضيف، ونطعم الطعام. فجلس، وأكل. انتهى. خازن. وقال القرطبي: كان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال. فلما جاءه، وقصّ عليه القصص؛ أي: أخبره بأمره أجمع: من خبر ولادته، وتربيته في بلاط فرعون، وقتله القبطي، وقصد فرعون قتله. {قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} أي: من فرعون، وقومه، وإنما قال ذلك؛ لأنه لم يكن لفرعون سلطان على مدين.
يقول بعض المفسرين: إن موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-أسمع المرأتين قوله:{رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} تعريضا حتى يكون له منهما ما يقوته، وهو ليس معه درهم ولا متاع ولا دينار، ولا ما يؤكل، فكانت دعوته كدعوة المظلوم سريعة الإجابة، ومن جهة أخرى: فإن غرس الجميل قد أثمر، وآتى أكله في أقل من ساعة، والله يضاعف الحسنات لعباده المخلصين.
موسى رجل ربّي على العزة في بيت فرعون، مدللا في نعيم دائم، ورفاهة، وقد نزل به من الجوع ما اضطره إلى أن يرضى أن يأخذ أجر عمل من أعمال المروءة، والجوع يرضي الأسود بالجيف، وأحسبه لو كان في بلهنية من العيش؛ لم يرض أن يأخذ أجرا على زكاة قوته. انتهى.
عبد الوهاب النجار، وهذا كلام لا وجه له.
الإعراب: {فَجاءَتْهُ:} الفاء: حرف استئناف. (جاءته): فعل ماض، والهاء مفعول به.
{إِحْداهُما:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، وجملة:{فَجاءَتْهُ..} . إلخ معطوفة على الكلام المقدر الذي رأيته في الشرح، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. {تَمْشِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل تقديره:«هي» ، يعود إلى إحداهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {إِحْداهُما}. والرابط: الضمير فقط. {عَلَى اسْتِحْياءٍ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل: {تَمْشِي} فهي حال متداخلة. {قالَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى:{إِحْداهُما} . {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {أَبِي:}
اسمها منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {يَدْعُوكَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى:{أَبِي،} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول.
{لِيَجْزِيَكَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى {أَبِي،} والكاف مفعول به أول، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أَجْرَ:} مفعول به ثان، و {أَجْرَ} مضاف، و {إِحْداهُما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {سَقَيْتَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: أجر الذي سقيته
…
إلخ، وإن اعتبرت {إِحْداهُما} مصدرية تؤول مع الفعل بمصدر في محل جر بالإضافة، فالتقدير: أجر سقيك لنا
إلخ. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{قالَتْ..} . إلخ معطوفة على جملة:
(جاءته
…
) إلخ بواو محذوفة، أو هي في محل نصب حال ثانية، فتكون «قد» قبلها مقدرة. تأمل.
{فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): انظر الآية رقم [14]. {جاءَهُ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (موسى)، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {وَقَصَّ:}
الواو: حرف عطف. (قصّ): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (موسى). {عَلَيْهِ:} متعلقان بما قبلهما. {الْقَصَصَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى أبي البنتين. {لا:} ناهية. {تَخَفْ:} فعل مضارع مجزوم ب: «لا» الناهية، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {نَجَوْتَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل {تَخَفْ} المستتر، والرابط: الضمير فقط، وهي على تقدير «قد» قبلها. {مِنَ الْقَوْمِ:} متعلقان بما قبلهما. {الظّالِمِينَ:} صفة (القوم) مجرور مثله، وعلامة جره الياء
…
إلخ، وجملة:{لا تَخَفْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.
الشرح: {قالَتْ إِحْداهُما:} وهي التي استدعته. {يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ:} اتخذه أجيرا؛ ليرعى غنمنا. {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} أي: إن خير من تستعمله الذي قوي على العمل، وأدى الأمانة، فقال لها أبوها: وما علمك بقوته، وأمانته؟ قالت: أما قوته؛ فإنه رفع الحجر من على رأس البئر، ولا يرفعه إلا عشرة. وقيل: أربعون رجلا. وأما أمانته؛ فإنه قال لي: امشي
خلفي، ودليني على الطريق؛ حتى لا تصف الريح بدنك. هذا؛ وورود الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أن أمانته، وقوته أمران متحققان. وقولها:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} كلام جامع؛ لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان: الكفاية والأمانة في القائم بأمرك؛ فقد فرغ بالك، وتم مرادك. وعن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب، وصاحب يوسف في قوله:{عَسى أَنْ يَنْفَعَنا} وأبو بكر في عمر، رضي الله عن الاثنين. هذا؛ وقد جعل الله {خَيْرَ} اسما ل:{إِنَّ} و {الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} خبران لها، وهما أعرف منه، والسبب في ذلك: هو شدة الاهتمام والعناية بما جعل اسما، ومنه قول أبي الشغب العبسي في خالد بن عبد الله القسري الذي أسره يوسف بن عمر، وسجنه:[الطويل]
ألا إنّ خير النّاس حيّا وميّتا
…
أسير ثقيف عندهم في السّلاسل
{يا أَبَتِ:} من المعروف: أن في الاسم المضاف لياء المتكلم إذا كان صحيح الآخر ومنادى ستّ لغات: أحدها: حذف الياء، والاستغناء عنها بالكسرة مثل: يا عبد، وهذا هو الأكثر. الثاني: إثبات الياء ساكنة، نحو: يا عبدي، وهو دون الأول في الكثرة. الثالث: قلب الياء ألفا، وحذفها، والاستغناء عنها بالفتحة، نحو يا عبد. الرابع: قلبها ألفا وبقاؤها، وقلب الكسرة فتحة، نحو: يا عبدا. الخامس: إثبات الياء محركة بالفتحة، نحو: يا عبدي. قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته: [الرجز]
واجعل منادى صحّ إن يضف ليا
…
كعبد عبدي عبد عبدا عبديا
السادس: ضم الاسم بعد حذفها كالمفرد، اكتفاء بنية الإضافة، وإنما يكون ذلك فيما يكثر نداؤه مضافا للياء كالرب، والأبوين، والقوم، قرئ قوله تعالى:{قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ..} .
إلخ بضم الباء، وحكي: يا ربّ اغفر لي. هذا؛ ويضاف إلى ذلك: إذا كان المنادى المضاف إلى الياء أبا، أو أمّا أربع لغات: إحداها: إبدال الياء تاء مكسورة، وبها قرأ السبعة ما عدا ابن عامر في قوله تعالى:{يا أَبَتِ} من سورة (يوسف) وسورة (مريم). الثانية: إبدالها تاء مفتوحة، وبها قرأ عامر ما تقدم. الثالثة:(يا أبتا) بالتاء والألف، وبها قرئ ما تقدم شاذا. وقال رؤبة بن العجاج:[الرجز]
تقول بنتي قد أنى أناكا
…
يا أبتا علّك أو عساكا
الرابعة: يا أبتي. وعليه قول الشاعر: [الطويل]
أيا أبتي لا زلت فينا فإنّما
…
لنا أمل في العيش ما دمت عائشا
قال ابن هشام في قطر الندى: وهاتان اللغتان قبيحتان، والأخيرة أقبح من التي قبلها، وينبغي ألاّ تجوز إلا في ضرورة الشعر، وقال الخضري في حاشيته على ابن عقيل: ضرورة لكن الأولى
أهون لذهاب صورة الياء المعوض عنها. بل قيل: لا ضرورة فيه؛ لأن هذه الألف لم تنقلب عن الياء، بل هي التي تلحق المنادى البعيد، والمندوب، والمستغاث، فتكون لغة عاشرة، والله أعلم.
الإعراب: {قالَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {إِحْداهُما:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو.
(أبت): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة، والمعوض عنها التاء، كما رأيت في الشرح. {اِسْتَأْجِرْهُ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:
«أنت» والهاء مفعول به. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {خَيْرَ:} اسم {إِنَّ} وهو مضاف، و {مَنِ} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وجملة:
{اِسْتَأْجِرْهُ} صلة {مَنِ،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو:
شخص استأجرته. {الْقَوِيُّ:} خبر (إن). {الْأَمِينُ:} خبر ثان، والجملة الاسمية:{إِنَّ خَيْرَ..} . إلخ تعليل للأمر لا محل لها، والكلام:{يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَتْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} أي: أزوجك. {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ:} قيل: زوّجه الكبرى. وقال الأكثرون: إنه زوجه الصغرى، واسمها: صفوراء، أو: ليا، حسبما رأيت فيما تقدم، وهي التي ذهبت في طلبه، واستدعائه، وهذا؛ وعد منه، ولم يكن عقد نكاح إذ لو كان عقدا؛ لقال: قد أنكحتك، ولعين المعقود عليها له. {عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ:} على أن تكون لي أجيرا ثمان سنين، والحجة: السنة، وجمعها: حجج، قال زهير بن أبي سلمى، وينسب لحماد الراوية:[الكامل]
لمن الدّيار بقنّة الحجر
…
أقوين مذ حجج ومذ دهر
{فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً} أي: عمل عشر سنين. {فَمِنْ عِنْدِكَ} أي: فالإتمام من عندك؛ أي:
تفضل منك، وتكرم، وليس مشروطا عليك. {وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} أي: ألزمك إتمام العشر. هذا؛ والمشقة: الصعوبة، واشتقاقها من: الشق، فإن ما يصعب عليك يشق عليك اعتقادك في إطاقته، ورأيك في مزاولته.
{سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصّالِحِينَ} أي: في حسن المعاملة، ولين الجانب، والوفاء بالمعاهدة، والمراد باشتراطه مشيئة الله فيما وعد من الصلاح: الاتكال على توفيقه تعالى،
ومعونته، لا المراد التعليق بالمشيئة؛ لأنها غير معلومة في جنب الله تعالى. وإن قلت: المراد:
التبرك، لا الاستثناء؛ فهو جيد.
هذا؛ والمساهلة في المعاملات من شيم الأنبياء بلا ريب، والصالحون يقتدون بهم، ومنه الحديث:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكي، فكان خير شريك، لا يداري، ولا يشاري، ولا يماري» .
تنبيه: في الآية الكريمة عرض ولي الأنثى ابنته على الرجل، وهذه سنة قائمة بين الناس، عرض صالح مدين ابنته على صالح بني إسرائيل، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر، وعثمان-رضي الله عنهم أجمعين-وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن الحسن عرض الرجل وليته، والمرأة نفسها على الرجل الصالح، اقتداء بالسلف الصالح.
الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى والد البنتين. {إِنِّي:}
حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها. {أُرِيدُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {أَنْ:} حرف ناصب. {أُنْكِحَكَ:} فعل مضارع منصوب ب:
{أَنْ} والفاعل تقديره: «أنا» ، والكاف مفعول به أول، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به. {إِحْدَى:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، و {إِحْدَى:} مضاف، و {اِبْنَتَيَّ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، وياء المتكلم ضمير متصل في محل جر بالإضافة.
{هاتَيْنِ:} الهاء: تنبيه. (تين): اسم إشارة صفة {اِبْنَتَيَّ} منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه مثنى، وبعضهم يعتبره مبنيا على الياء؛ لأن أسماء الإشارة من المبنيات، وجملة:{أُرِيدُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية {إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {عَلى:} حرف جر. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب.
{تَأْجُرَنِي:} فعل مضارع منصوب، ب:{أَنْ} والفاعل مستتر تقديره: «أنت» ، والنون للوقاية، ويا المتكلم مفعول به، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: تأجرني نفسك. {ثَمانِيَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، واعتبره الزمخشري مفعولا ثانيا على تضمين {تَأْجُرَنِي} تثيبني، وتقدير مضاف محذوف، التقدير: تثيبني رعي ثماني حجج، و {ثَمانِيَ} مضاف، و {حِجَجٍ} مضاف إليه، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{عَلى،} والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، أو من المفعول وهو الكاف، التقدير: مشروطا علي، أو عليك ذلك.
{فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف، وتفريع. (إن): حرف شرط جازم، {أَتْمَمْتَ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله. {عَشْراً:} مفعول به، وهو على حذف مضاف، التقدير: أتممت رعي عشر سنين، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَمِنْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (من عندك):
جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مبتدأ محذوف أيضا: التقدير: فالتمام من عندك تفضلا،
لا من عندي إلزاما عليك، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما):
نافية. {أُرِيدُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والمصدر المؤول من:{أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} في محل نصب مفعول به، وجملة:{وَما أُرِيدُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{سَتَجِدُنِي:} السين: حرف استقبال. (تجدني): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به أول. {أَنْ:} حرف شرط جازم. {شاءَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. {اللهُ:} فاعله، والمفعول محذوف للتعميم، والجملة الفعلية لا محل لها
…
إلخ، وجواب الشرط محذوف، التقدير: إن شاء الله ذلك؛ فإنك تجدني مثلك. {مِنَ الصّالِحِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {سَتَجِدُنِي،} وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الشرطية معترضة بينهما لا محل لها، وجملة:{سَتَجِدُنِي..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قالَ} أي: موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} أي: الذي قلته، وعاهدتني عليه قائم، وثابت بيننا، لا يخرج عنه واحد منا، لا أنا عما شرطت علي، ولا أنت عما شرطته على نفسك. {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} أي: أتممت أقصرهما، أو أطولهما. {فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ} أي: لا يتعدى علي بطلب الزيادة على الثمان، كما لا أطالب بالزيادة على العشر، أما الثمان فأنا ملزم بإتمامها. وقرئ بضم العين وكسرها، والأول أفصح. {وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ:} شاهد، وحفيظ. هذا؛ وقرئ:«(أيما)» بتخفيف الياء، ومثله قول الفرزدق في مدح نصر بن سيار أمير خراسان لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وهو الشاهد رقم [124] من كتابنا فتح القريب المجيب إعراب شواهد مغني اللبيب:[الطويل]
تنظّرت نصرا والسّماكين أيهما
…
عليّ من الغيث استهلّت مواطره
تنبيه: قيل: تم عقد النكاح والإجارة بما صدر من شعيب، وهو قوله {إِنِّي أُرِيدُ..} . إلخ ومن موسى، وهو قوله {ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ..} . إلخ ولعل هذا كان في شرعهما، وإلا فهذه الصيغة لا تكفي عندنا في عقد النكاح؛ لأن الواقع من شعيب وعد بالإنكاح، والواقع من موسى ليس فيه مادة التزويج، ولا الإنكاح، وأيضا الصداق ليس راجعا للمنكوحة، بل لأبيها، وأيضا لم يعين المنكوحة. وقيل: إنهما عقدا عقدا بغير الصورة المذكورة هنا منهما. انتهى. جمل.
والله أعلم، وأجل، وأكرم.
الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (موسى). {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بَيْنِي:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، التقدير: قائم، وثابت بيني وبينك، منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {وَبَيْنَكَ:} الواو: حرف عطف. (بينك): معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {أَيَّمَا:} اسم شرط مفعول به مقدم، و (ما): صلة، و (أيّ) مضاف، و {الْأَجَلَيْنِ} مضاف إليه مجرور
…
إلخ. هذا؛ وقيل: (ما) نكرة تامة بمعنى شيء، وهي المضاف إليه، و {الْأَجَلَيْنِ} بدل منها. وبه قيل في قوله تعالى:{فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ} الآية رقم [159] من سورة (آل عمران). {قَضَيْتُ:} فعل، وفاعل. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية للجنس تعمل عمل: «إن» .
{عُدْوانَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {عَلَيَّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر (لا)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط. {وَاللهُ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {عَلَيَّ:} حرف جر. {أَيَّمَا:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:{عَلَيَّ،} والجار والمجرور متعلقان ب: {وَكِيلٌ،} والجملة الفعلية صلة {أَيَّمَا،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: على الذي، أو على شيء نقوله، وعلى اعتبار:{أَيَّمَا} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب {عَلَيَّ،} التقدير: على قولنا. {وَكِيلٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا، إن كانت من كلام موسى، ومستأنفة إن كانت من قول شعيب، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ:} وهو عشر سنين. عن سعيد بن جبير-رضي الله عنهما قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري؛ حتى أقدم على حبر العرب، فأسأله. فقدمت، فسألت ابن عباس-رضي الله عنهما-فقال: قضى أكثرهما، وأوفاهما؛ لأن النبي إذا قال؛ فعل.
وعن أبي ذر الغفاري-رضي الله عنهما-مرفوعا إذا سئلت: أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقل: خيرهما، وأبرّهما. وإذا سئلت أي المرأتين تزوج فقل: الصغرى منهما، وهي التي جاءت
فقالت: {يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} فتزوج صغراهما، وقضى أوفاهما، وعن عيينة بن حصن-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أجّر موسى نفسه بشبع بطنه، وعفّة فرجه» .
وروى شداد بن أوس مرفوعا: بكى شعيب النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى عمي، فرد الله عليه بصره، ثم بكى؛ حتى عمي، فرد الله عليه بصره، ثم بكى؛ حتى عمي، فرد الله عليه بصره، فقال الله له:
ما هذا البكاء؟ أشوقا إلى الجنة، أم خوفا من النار؟ فقال: لا يا رب، ولكن شوقا إلى لقائك، فأوحى الله إليه: إن يكن ذلك، فهنيئا لك لقائي يا شعيب! لذلك أخدمتك كليمي موسى.
ولما تعاقدا العقد السابق بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه، قيل: كانت من آس الجنة، حملها آدم معه، فتوارثها الأنبياء، وكان لا يأخذها غير نبي إلا أكلته، فصارت من آدم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم؛ حتى وصلت إلى شعيب، فأعطاها موسى.
وقيل: أمره شعيب أولا أن يلقيها في البيت، ويأخذ غيرها، فدخل، وأخرج تلك العصا بعينها، وهكذا سبع مرات، كل مرة لا تقع بيده غير تلك، فعلم شعيب: أن له شأنا.
فلما أصبح قال له: سق الأغنام إلى مفرق الطريق، فخذ عن يمينك، وليس بها عشب كثير، ولا تأخذ عن يسارك فإن بها عشبا كثيرا، وتنينا كبيرا، فساق المواشي إلى مفرق الطريق، فأخذت نحو اليسار ولم يقدر على ضبطها، فنام موسى وخرج التنين، فقامت العصا، وصارت شعبتاها حديدا، وحاربت التنين حتى قتلته، وعادت إلى موسى، فلما انتبه رأى العصا مخضوبة بالدم، والتنين مقتولا، فعاد إلى شعيب عشاء، وكان شعيب ضريرا فمس الأغنام، فإذا أثر الخضب باد عليها، فسأله عن القصة، فأخبره بها، ففرح شعيب.
{وَسارَ بِأَهْلِهِ:} بامرأته؛ لصلة رحمه، وزيارة أمه، وأبيه، وأخيه، وأقاربه مصطحبا الغنم التي أعطاه إياها شعيب كما رأيت في الآية رقم [23] وكان قد استأذن شعيبا في العودة إلى مصر، فأذن له، فخرج من عنده قاصدا مصر، وفيه دليل على: أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء، لما له عليها من فضل القوامة وزيادة الدرجة، إلا أن يلتزم لها أمرا؛ فالمؤمنون عند شروطهم. {آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً:} انظر الآية رقم [7] من سورة (النمل)، وانظر التعبير هناك بقوله تعالى:{سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ} .
{أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ:} وفي (النمل): {بِشِهابٍ قَبَسٍ} و (الجذوة) بتثليث الجيم، وقرئ بهن: الجمرة الملتهبة، والجمع: جذا بتثليث الجيم أيضا، والجذوة: العود الغليظ كانت في رأسه نار، أو لم تكن، قاله الزمخشري، والأول قاله القرطبي، وهو الموافق لكتاب اللغة، قال ابن مقبل:[البسيط]
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها
…
جزل الجذى غير خوّار ولا دعر
الخوار: الضعيف، وعود دعر: كثير الدخان، وقال آخر:[الطويل]
وألقى على قيس من النّار جذوة
…
شديدا عليها حرّها والتهابها
فهي في هذا البيت مستعارة لشدة النّكاية التي أذاقها قبيلة قيس. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ:} انظر الآية رقم [7] من سورة (النمل). هذا؛ والنار: جوهر لطيف مضيء محرق، وهي من المؤنث المجازي وقد تذكّر، وأصلها: نور، تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وتصغيرها:
نويرة، والجمع: أنور، ونيران، ونيرة، قلبت الواو فيهما ياء لانكسار ما قبلها. ويكنى بها عن جهنم التي سيعذب الله بها الكافرين، والفاسقين والمجرمين. والفعل: نار ينور، يستعمل لازما، ومتعديا؛ إذا بدئ بهمزة التعدية، كما في قولك: أنارت الشمس الكون.
الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [14]. {قَضى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف. {مُوسَى:} فاعله مرفوع
…
إلخ. {الْأَجَلَ:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا. وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. (سار): فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{مُوسَى،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {بِأَهْلِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {آنَسَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{مُوسَى} . {مِنْ جانِبِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{ناراً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة: «نعت النكرة
…
» إلخ و {جانِبِ} مضاف، و {الطُّورِ} مضاف إليه. {ناراً:}
مفعول به، وجملة:{آنَسَ} جواب (لما)، لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، وقبله كلام محذوف يدل عليه سياق الكلام.
{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مُوسَى} أيضا. {لِأَهْلِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {اُمْكُثُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، والمعنى: فلما آنس من جانب الطور نارا؛ قال
…
إلخ. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {آنَسْتُ:} فعل، وفاعل. {ناراً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها. {لَعَلِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها. {آتِيكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {مِنْها:} متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من (خبر).
{بِخَبَرٍ:} متعلقان به أيضا، وهما في محل نصب مفعول به ثان، وجملة:{آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ} في محل رفع خبر: (لعلّ)، وجملة:{لَعَلِّي..} . إلخ مفيدة للتعليل أيضا. وقيل: في محل نصب حال، ولا وجه له؛ لأن الترجي إنشاء. {أَوْ:} حرف عطف. {جَذْوَةٍ:} معطوف على
ما قبله. {مِنَ النّارِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {جَذْوَةٍ،} وجملة: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} بمنزلة البدل من سابقتها، وإعرابها غير خاف؛ إن شاء الله تعالى.
الشرح: {فَلَمّا أَتاها:} يعني: الشجرة، قدّم ضميرها عليها. {نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ} أي: من جانب الوادي الذي عن يمين موسى، وهو صريح قوله تعالى في سورة (مريم):{وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} وإن الجبل، والوادي لا يمين لهما، ولا شمال كما هو معروف، والشجرة المذكورة كانت نابتة على الشاطئ، وشاطئ الوادي، وشطه: جانبه، والجمع شطّان، وشواطئ ذكره القشيري، وقال الجوهري: ويقال: شاطئ الأودية، ولا يجمع. {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ:}
جعلها الله مباركة؛ لأن الله كلم موسى هناك، وبعثه نبيا، وقيل: يريد: البقعة المقدسة.
{مِنَ الشَّجَرَةِ} أي: من ناحية الشجرة. قال ابن مسعود-رضي الله عنه: كانت سمرة خضراء تبرق، وقيل: كانت عوسجة. وقيل: كانت من العليق. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: إنها العناب. وقيل: إن موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-لما رأى النار في الشجرة الخضراء علم: أنه لا يقدر على الجمع بين النار، وخضرة الشجرة إلا الله تعالى، فعلم بذلك أن المتكلم هو الله تعالى. وقيل: إن الله تعالى: خلق في نفس موسى علما ضروريا بأن المتكلم هو الله تعالى، وأن ذلك الكلام كلام الله تعالى. وقيل: إنه قيل لموسى:
كيف عرفت أنه نداء الله تعالى؟ قال: إني سمعته بجميع أجزائي، فلما وجد حس السمع من جميع الأجزاء؛ علم بذلك: أنه لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى. انتهى. خازن.
قال المهدوي: كلم الله تعالى موسى من فوق عرشه، وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء، ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالانتقال، والزوال، وشبه ذلك من صفات المخلوقين.
وقال أبو المعالي: وأهل المعاني، وأهل الحق، يقولون: من كلمه الله تعالى، وخصه بالرتبة العليا، والغاية القصوى، فيدرك كلامه القديم المتقدس عن مشابهة الحروف، والأصوات، والعبارات، والنغمات، وضروب اللغات، كما أن من خصه الله بمنازل الكرامات، وأكمل عليه نعمته، ورزقه رؤيته يرى الله منزها عن مماثلة الأجسام وأحكام الحوادث، ولا مثل له سبحانه في ذاته، وصفاته. انتهى. قرطبي.
{يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ:} وفي سورة (طه) قوله تعالى: {يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ..} . إلخ، وفي سورة (النمل){يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} والمعنى واحد، واختلاف
الألفاظ لشحذ الأذهان، وله وقع جيد على الأسماع، وهو دليل واضح على بلاغة القرآن، الذي أخرس الفصحاء، وأسكت البلغاء، واعتبروا يا أولي الأبصار.
الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [14]. {أَتاها:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى:{مُوسى} تقديره: «هو» و (ها):
مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {نُودِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى:{مُوسى} .
{مِنْ شاطِئِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من نائب الفاعل؛ أي: قريبا منه، أو كائنا فيه. و {شاطِئِ} مضاف، و {الْوادِ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء للثقل. {الْأَيْمَنِ:} صفة: {الْوادِ} . {فِي الْبُقْعَةِ:} متعلقان بالفعل: {نُودِيَ،} أو هما متعلقان بمحذوف حال من: {شاطِئِ} . {الْمُبارَكَةِ:} صفة {الْبُقْعَةِ} . {مِنَ الشَّجَرَةِ:} بدل من {شاطِئِ الْوادِ} بدل اشتمال، وجملة:{نُودِيَ..} . إلخ جواب (لما)، لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، وقبله كلام مقدر يقتضيه المقام.
{أَنْ:} مفسرة، وقيل: مصدرية، وقيل: مخففة من الثقيلة. وليسا بشيء؛ لعدم إفادتها المعنى المقصود. (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. (موسى): منادى مفرد علم مبني على ضم مقدر على الألف المقصورة في محل نصب ب: (يا). {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها. {أَنَا:} ضمير منفصل في محل رفع توكيد لاسم (إنّ) على المحل، أو هو ضمير فصل لا محل له. {اللهُ:} خبر (إن). {رَبُّ:} خبر ثان ل: (إنّ)، أو هو بدل من لفظ الجلالة، أو هو صفة له. و {رَبُّ} مضاف، و {الْعالَمِينَ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وهو مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم. هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ، ولفظ الجلالة خبره؛ فالجملة الاسمية تكون في محلّ رفع خبر (إنّ). هذا؛ والكلام:{أَنْ يا مُوسى..} . إلخ لا محل له؛ لأنه مفسر ل: {نُودِيَ،} وقيل: هو على إضمار القول؛ أي: قل يا موسى: إني
…
إلخ، والمعتمد الأول. هذا؛ وقرئ بفتح همزة:(أني)، وعليه تؤول أن واسمها وخبرها بمصدر في محل نصب سد مسد مفعول لفعل محذوف، التقدير: اعلم: أني
…
إلخ، وهذه الجملة في محلها ما ذكرته سابقا.
الشرح: {وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ:} في الآية حذف؛ إذ التقدير: وألق عصاك، فألقاها من يده، فصارت حية تهتز، كأنها جان، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم، وقيل: إنها قلبت له حية
صغيرة، فلمّا أنس منها، قلبت حية كبيرة. وقيل: انقلبت مرة حية صغيرة، ومرة حية تسعى، وهي الأنثى، وهو ما عبر عنها في سورة (طه) بقوله:{فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى} ومرة ثعبانا، وهو الذكر الكبير من الحيات، وهو ما عبر عنها بقوله تعالى في سورة (الشعراء)، وفي سورة (الأعراف):{فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ} .
قال أحمد محشّي الكشاف: كما وصف الله الريح بأنها تكون أحيانا عاصفة، وأحيانا رخاء، وذلك لسليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-وصف عصا موسى تارة بأنها جان، وتارة بأنها ثعبان. والجان: الرقيق من الحيات، والثعبان: العظيم الجافي منها، ووجه ذلك: أنها جمعت بين الوصفين، فكانت في خفتها، وفي سرعة حركتها كالجان، وكانت في عظم خلقها كالثعبان، ففي كل واحد من الريح، والعصا على هذا التقرير معجزتان، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى.
{وَلّى مُدْبِراً:} خائفا على عادة البشر، هاربا من هول ما رأى. {وَلَمْ يُعَقِّبْ:} لم يرجع، ولم يلتفت لشدة خوفه، ورعبه؛ لأنه ظن: أن هذا الأمر أريد به. {يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ:} ناداه ربه:
يا موسى! لا تخف من الحية، وضررها. {إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ:} من المخاوف جميعها، فإنه لا يخاف لدي المرسلون. قال وهب-رحمه الله تعالى-: إنها لم تدع شجرة، ولا صخرة إلا بلعتها؛ حتى إن موسى سمع صرير أسنانها، وقعقعة الشجر، والصخر في جوفها، فحينئذ ولّى مدبرا ولم يعقب، فنودي عند ذلك:{يا مُوسى أَقْبِلْ..} . إلخ. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَأَنْ:} الواو: حرف عطف. (أن): مفسرة مثل سابقتها. {أَلْقِ:} فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل تقديره:«أنت» .
{عَصاكَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على قوله تعالى:{أَنْ يا مُوسى..} . إلخ {فَلَمّا:} الفاء: حرف عطف. (لما): انظر الآية رقم [14]. {رَآها:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (موسى)، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا؛ لأنها ابتدائية، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {تَهْتَزُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى العصا، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، وجملة:
{كَأَنَّها جَانٌّ} في محل نصب حال من فاعل: {تَهْتَزُّ} المستتر، والرابط: الضمير فقط، وهي حال متداخلة، أو هي حال ثانية من الضمير المنصوب. {وَلّى:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:(موسى) أيضا. {مُدْبِراً:} حال منه، وهي حال مؤكدة لمعنى الفعل؛ لأنها من معناه، وإن اختلف اللفظ، وجملة:{وَلّى مُدْبِراً} جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام معطوف على الكلام الذي رأيته في الشرح، أو هو مستأنف، لا محل له على الاعتبارين. {وَلَمْ:}
الواو: حرف عطف. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يُعَقِّبْ:} فعل مضارع مجزوم ب:
(لم) والفاعل يعود إلى (موسى) أيضا، والجملة الفعلية في محل نصب حال ثانية من فاعل:
{وَلّى،} والرابط: الواو، والضمير.
{يا مُوسى:} منادى مثل سابقه. {أَقْبِلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {وَلا:}
الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَخَفْ:} فعل مضارع مجزوم ب (لا)، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {مِنَ الْآمِنِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} تعليل للنهي، لا محل لها، والكلام:{يا مُوسى..} . إلخ مستأنف، لا محل له.
هذا؛ والآية مذكورة في سورة (النمل) برقم [10] مع فارق بسيط.
الشرح: {اُسْلُكْ يَدَكَ..} . إلخ: وفي سورة (النمل): {وَأَدْخِلْ يَدَكَ..} . إلخ، وهما بمعنى واحد. وقيل: كانت عليه مدرعة صوف، لا كم لها، ولا أزرار، فأدخل يده في جيبها، وأخرجها، فإذا هي تبرق مثل شعاع الشمس، أو البرق. والجيب طوق القميص، سمي جيبا؛ لأنه يجاب؛ أي: يقطع؛ ليدخل فيه الرأس. هذا؛ وفي سورة (طه) قوله تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ..} . إلخ فيكون المراد بما هنا، وهناك أدخل يدك في جيبك، وأوصلها تحت العضد، وضمّ عليها العضد وهو المعبر عنه بالجناح. وقوله تعالى:{مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} من غير عاهة، وقبح، كنى به عن البرص، كما كنى بالسوءة عن العورة؛ لأن الطباع تعافه، وتنفر منه. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان ليده نور ساطع، يضيء بالليل، والنهار كضوء الشمس، والقمر، فكان يعشي البصر من شدته. ولا تنس: أن قوله تعالى: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} احتراس من أن يتوهم متوهم البرص، وغيره من الأمراض المشينة.
{وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ:} المعنى: اضمم يدك إلى صدرك يذهب ما بك من خوف لأجل الحية، عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: كل خائف إذا وضع يده على صدره؛ زال خوفه. وقيل: معنى ضم الجناح: أن الله تعالى لما قلب العصا حية؛ فزع موسى، واتّقاها بيده، كما يفعل الخائف من الشيء، فقيل له: إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء، فإذا ألقيتها، فكما تنقلب العصا حية؛ فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء؛ ليحصل
الأمران: اجتناب ما هو غضاضة عليك، وإظهار معجزة أخرى. والمراد بالجناح: اليد؛ لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد يده اليسرى، فقد ضم جناحه إليه.
أو أريد بضم جناحه إليه: تجلده وضبط نفسه عند انقلاب العصا حية؛ حتى لا يضطرب، ولا يرهب استعارة من فعل الطائر؛ لأنه إذا خاف؛ نشر جناحيه، وأرخاهما، وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران. انتهى. نسفي. هذا؛ وضم الجناح كناية عن السكون، والرفق، ومنه قوله تعالى:{وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} وكذلك قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: ارفق بهم.
طرفة: يحكى عن عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنه: أن كاتبا كان يكتب بين يديه، فانفلتت منه فلتة ريح فخجل، وانكسر، فقام، وضرب بقلمه الأرض، فقال له عمر-رحمه الله تعالى-: خذ قلمك واضمم إليك جناحك، وليفرخ روعك، فإني ما سمعتها من أحد أكثر ممّا سمعتها من نفسي. هذا؛ ومعنى: وليفرخ روعك: وليذهب روعك، وأفرخ الروع: انكشف وذهب.
هذا ويقرأ {الرَّهْبِ} بفتحتين، وبضمتين وبضم فسكون، والمعنى واحد. {فَذانِكَ بُرْهانانِ:}
حجتان واضحتان، والمراد بهما: العصا، واليد. هذا؛ وقال الزمخشري: فإن قلت: لم سميت الحجة برهانا؟ قلت: لبياضها، وإنارتها، من قولهم للمرأة البيضاء: برهرهة بتكرير العين واللام معا. انتهى. ومثله تسميتهم الحجة سلطانا من السليط، وهو الزيت؛ لإنارتها، وقرئ بتشديد نون (ذانك) والتخفيف أفصح، وانظر شرح بقية الآية في سورة (النمل) رقم [12] وإنما ذكّر اسم الإشارة مع أن المشار إليه اليد، والعصا، وهما مؤنثان؛ لأن المبتدأ عين الخبر في المعنى، والبرهان مذكر.
الإعراب: {أَسْئَلَكَ:} فعل أمر معطوف بواو محذوفة على قوله: {أَلْقِ} بدليل قوله {وَأَدْخِلْ} في الآية رقم [12] من سورة (النمل)، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» . {يَدَكَ:} مفعول به، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {فِي جَيْبِكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {تَخْرُجْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه في جواب الأمر، والفاعل يعود إلى:
{يَدَكَ} . {بَيْضاءَ:} حال من الفاعل المستتر. {مِنْ غَيْرِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أخرى من الفاعل المستتر، أو من الضمير المستتر في:{بَيْضاءَ،} أو بمحذوف صفة:
{بَيْضاءَ،} و {غَيْرِ} مضاف، و {سُوءٍ} مضاف إليه، وجملة:{تَخْرُجْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط مقدر قبل {أَسْئَلَكَ،} ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية. {وَاضْمُمْ:} الواو:
حرف عطف. (اضمم): معطوف على ما قبله، وفاعله مستتر فيه تقديره:«أنت» . {إِلَيْكَ:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
هذا؛ وقال ابن هشام في مغنيه: في تعليق الجار والمجرور في هذه الآية، وفي قوله تعالى:
{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} الآية رقم [260] من سورة (البقرة)، وفي قوله تعالى:{وَهُزِّي إِلَيْكِ..} . إلخ الآية رقم [25] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام. وهذا كله يتخرج إما على
التعلق بمحذوف، كما قيل في اللام في: سقيا لك. وإما على حذف مضاف، التقدير: واضمم إلى نفسك جناحك، وذلك لأنه لا يتعدى فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل إلا في باب:«ظنّ» وانظر ما ذكرته في الشاهد رقم [257] من كتابنا فتح القريب المجيب؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
{جَناحَكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنَ الرَّهْبِ:} متعلقان بالفعل:
(اضمم) وقال مكي وأبو البقاء: متعلقان ب: {وَلّى،} وقيل: ب: {مُدْبِراً،} وقيل: بمحذوف، أي: يسكن من الرهب، وقيل: ب: (اضمم). انتهى. ولعلك تدرك معي: أن التعليق بأقرب مذكور أولى. {فَذانِكَ:} الفاء: حرف عطف، وتفريع. (ذانك): اسم إشارة مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بالمثنى، وبعضهم يعتبره مبنيا على الألف؛ لأن أسماء الإشارة مبنية، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بُرْهانانِ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الألف
…
إلخ، والجملة الاسمية معطوفة على مضمون الكلام قبلها لا محل لها، وإن اعتبرتها مستأنفة، لا محل لها أيضا. {مِنْ رَبِّكَ:} متعلقان بمحذوف صفة (برهان)، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِلى فِرْعَوْنَ:} متعلقان بمحذوف حال من الكاف، التقدير: مرسلا إلى فرعون. {وَمَلائِهِ:}
معطوف على: {فِرْعَوْنَ} مجرور مثله، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ} انظر إعراب هذه الجملة ومحلها في الآية رقم [12] من سورة (النمل).
{قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)}
الشرح: {قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً:} يعني القبطي الذي تقدم ذكره في الآية رقم [15].
{فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} أي: به. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [21].
الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مُوسى}. {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف. {إِنِّي:}
حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {قَتَلْتُ:} فعل، وفاعل. {مِنْهُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {نَفْساً} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا، وجملة:{قَتَلْتُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ). {فَأَخافُ:} الفاء: حرف عطف. (أخاف):
فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَقْتُلُونِ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، وجملة {فَأَخافُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها فهي في محل رفع مثلها، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ رَبِّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً} أي: كلاما، أو بيانا، وإنما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه من وضع الجمرة في فيه، وذلك: أن موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-قد ربّي في حجر فرعون، كما رأيت فيما سبق، فكان يلاعبه ذات يوم، فلطم موسى فرعون لطمة على وجهه، وأخذ بلحيته، فقال فرعون لامرأته آسية: إن هذا عدوي، وأراد قتله، فقالت له آسية-عليها السلام: إنه صبي، لا يعقل، جربه إن شئت، فجاءت بطستين، في أحدهما جمر، وفي الآخر جوهر. وقيل: تمر، فوضعتهما بين يدي موسى، وفرعون ينظر، فأراد موسى أن يأخذ الجوهر، فأخذ جبريل عليه السلام يده، فوضعها على الجمر، فأخذ جمرة، فوضعها في فيه، فاحترق لسانه، وصارت فيه لكنة، ولذا قال في سورة (طه):{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي} وقال فرعون عنه في سورة (الزخرف): {وَلا يَكادُ يُبِينُ} . وهو حكاية قول الله عنهما.
{فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً:} معينا، مشتق من: أردأته، أي: أعنته، وأردأته: أفسدته، فهو من الأضداد. قال النحاس: وقد حكي: ردأته ردءا. هذا؛ والردء: اسم لما يعان به، كما أنّ الدفء اسم لما يدفأ به. قال سلامة بن جندل:[الوافر]
وردئي كلّ أبيض مشرفيّ
…
شحيذ الحدّ، عضب ذي فلول
وقرئ «(ردا)» على التخفيف، كما قرئ قوله تعالى {الْخَبْءَ:} (الخب). قال المهدوي:
ويجوز أن يكون ترك الهمز من قولهم: أردى على المئة، أي: زاد عليها. وكأن المعنى: أرسله معي زيادة في تصديقي، قاله مسلم بن جندب، وأنشد قول الشاعر:[الطويل]
وأسمر خطّيّا كأنّ كعوبه
…
نوى القسب قد أردى ذراعا على العشر
فهو يصف رمحا. والقسب: الصلب، والقسب: تمر يابس يتفتت في الفم، صلب النواة.
{يُصَدِّقُنِي:} يقرأ بالرفع، والجزم، والمراد بتصديق هارون له أن يخلص بلسانه الحق، ويبسط القول فيه، ويجادل به الكفار، كما يفعل الرجل الفصيح البليغ، لا المراد أن يقول له: صدقت، فإن هذا يستوي فيه البليغ، والبليد، والمنطيق، والعي، كما هو معروف. {إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ:} إذا لم يكن لي وزير، ولا معين يدعمني، ويقوي حجتي.
الإعراب: {وَأَخِي:} الواو: حرف استئناف. (أخي): مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير في محل جر بالإضافة. {هارُونُ:} بدل، منه، أو عطف بيان عليه. {هُوَ:} ضمير فصل، لا محل له. {أَفْصَحُ:} خبر المبتدأ. وإن اعتبرت الضمير مبتدأ، و {أَفْصَحُ} خبره؛ فالجملة
الاسمية تكون في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من تاء الفاعل؛ فالرابط: الواو، والضمير، ولكن الأول أقوى.
{مِنِّي:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَفْصَحُ} . {لِساناً:} تمييز. {فَأَرْسِلْهُ:} الفاء هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [16]. (أرسله): فعل دعاء، والفاعل تقديره:«أنت» والهاء مفعول به.
{مَعِي:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ، والياء في محل جر بالإضافة. {رِدْءاً:} مفعول به ثان، وقيل: حال من الضمير المنصوب، والجملة الفعلية:{فَأَرْسِلْهُ..} . إلخ لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة بالفاء. {يُصَدِّقُنِي:} فعل مضارع مرفوع، والفاعل يعود إلى {هارُونُ،} والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب صفة:{رِدْءاً،} وقيل: في محل نصب حال من الضمير المنصوب، وعلى قراءته بالجزم يكون مجزوما بجواب الدعاء، والجملة الفعلية لا محل لها. {إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} إعرابها مثل إعراب ما قبلها بلا فارق، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول؛ لأنها من قول موسى على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الشرح: {قالَ} أي: الله. {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أي: سنقويك به، فإن قوة الشخص بقوة اليد على مزاولة الأمور؛ ولذلك يعبر عنه باليد، وشدتها بشدة العضد. هذا؛ وأصل العضد: العضو الذي هو المرفق إلى الكتف، ففي الكلام استعارة، وفيه قراءات ثمانية. هذا؛ والعضد تذكر، وتؤنث، وقال اللحياني: العضد مؤنثة لا غير، وهي العضو ما بين المرفق، والكتف، وجمعها:
أعضاد، وأعضد، وتكون بمعنى الناصر، والمعين، كما في قوله تعالى:{وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} . وذلك على سبيل الاستعارة، قال أبو الشعر الهلالي من قصيدة له مستجادة:[البسيط]
كلا أخي وخليلي واجدي عضدا
…
في النّائبات وإلمام الملمّات
وتكون بمعنى القوة، كما في الآية الكريمة، وقال طرفة بن العبد:[السريع]
أبني لبينى لستم بيد
…
إلاّ يدا ليست لها عضد
ويقال في دعاء الخير: شدّ الله عضدك، وفي ضده: فتّ الله في عضدك. {وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً:} غلبة، وتسلطا، أو حجة واضحة. {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما:} بالأذى من قتل، أو غيره، وقد استدل بهذه الآية على أن فرعون لم يقتل السحرة الذين آمنوا، ولم يسلط عليهم. {بِآياتِنا:}
المعنى: نمدكما بالمعجزات، ما تمتنعان به من أذاهم. {أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ} أي: لكما،
ولأتباعكما الغلبة على فرعون، وقومه. هذا؛ وقد كان هارون في مصر، ولم يكن حاضرا في مجلس المناجاة، وإنما جمعهما في هذا الخطاب من باب تغليب الحاضر على الغائب. هذا؛ وذكر: أن الله في ذلك الوقت أرسل جبريل بالرسالة إلى هارون، وهو بمصر، فيكون الخطاب إليهما في وقت واحد، وهما في مكانين متباعدين. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل تقديره:«هو» يعود إلى الله تعالى. {سَنَشُدُّ:}
السين: حرف استقبال. (نشد): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {عَضُدَكَ:}
مفعول به. {بِأَخِيكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَنَجْعَلُ:} الواو: حرف عطف. (نجعل): فعل مضارع، والفاعل تقديره:
«نحن» . {لَكُما:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني تقدم على الأول، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {سُلْطاناً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {فَلا:} الفاء: حرف عطف. (لا): نافية.
{يَصِلُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {إِلَيْكُما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {بِآياتِنا:} يجوز فيهما أوجه: أن يتعلقا ب: (نجعل)، أو ب:{يَصِلُونَ،} أو بمحذوف، تقديره: اذهبا بآياتنا. أو على البيان فيتعلقان بمحذوف أيضا، أو ب:{الْغالِبُونَ} على أن (ال) ليست موصولة، أو موصولة، واتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، أو هما قسم وجوابه متقدم عليه، وهو قوله:{فَلا يَصِلُونَ} أو من لغو القسم. انتهى. سمين نقلا عن الزمخشري. و (نا):
في محل جر بالإضافة. {أَنْتُما:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {وَمَنِ:}
الواو: حرف عطف. (من): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع معطوف على ما قبله.
{اِتَّبَعَكُمَا:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من) وهو العائد، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {الْغالِبُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {فَلَمّا جاءَهُمْ} أي: فرعون، وقومه. {مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ} أي: واضحات، والمراد بها هنا: العصا، واليد؛ إذ هما اللتان أظهرهما الله على يد موسى إذ ذاك، والتعبير عنهما بصيغة الجمع؛ لأن في كل واحدة منهما آيات عديدة. {قالُوا ما هذا} أي: قلب العصا حية،
وجعل اليد بيضاء كشعاع الشمس. {إِلاّ سِحْرٌ مُفْتَرىً} أي: سحر تعمله أنت، ثم تفتريه على الله.
أو: هو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر، وليس بمعجزة من عند الله تعالى.
{وَما سَمِعْنا بِهذا} أي: بالذي تدعونا إليه. {فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ:} وكلامهم هذا لا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك، وقد سمعوا، وعلموا بنحوه، أو يريدوا: أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته، أو ما كان الكهان يخبرون بظهور موسى، ومجيئه بما جاء به. وهذا دليل على أنهم حجوا، وبهتوا وما وجدوا ما يدفعون به ما جاءهم من الآيات إلا قولهم: هذا سحر، وبدعة لم يسمعوا بمثلها. وانظر ما حدث عند إلقاء العصا بين يدي فرعون، وانقلابها حية في الآية رقم [45] من سورة (الشعراء).
الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف عطف. (لما): انظر الآية رقم [14]. {جاءَهُمْ:} فعل ماض، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {مُوسى:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {بِآياتِنا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {بَيِّناتٍ:} حال من (آياتنا) منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجملة:{جاءَهُمْ..} . إلخ لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لما) إليها على اعتبارها ظرفا. {قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فَلَمّا:} نافية. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {إِلاّ:} حرف حصر. {سِحْرٌ:} خبر المبتدأ. {مُفْتَرىً:} صفة {سِحْرٌ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، والجملة الاسمية:{ما هذا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:
{قالُوا..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَما:}
الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {سَمِعْنا:} فعل، وفاعل. {بِهذا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء حرف تنبيه مقحم بينهما، لا محل له. {فِي آبائِنَا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من اسم الإشارة، والعامل حرف التنبيه. {الْأَوَّلِينَ:} صفة: {آبائِنَا} مجرور، وعلامة جره الياء
…
إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، واعتبارها حالا من واو الجماعة ليس بعيدا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
الشرح: أي: قال موسى: ربي أعلم منكم بحال من أهّله الله للفلاح الأعظم؛ حيث جعله نبيا، وبعثه بالهدى، ووعده حسن العقبى، يعني: نفسه، ولو كان ساحرا مفتريا كما تزعمون؛
لما أهّله الله لذلك؛ لأنه غني حكيم لا يرسل الكذابين، ولا ينبئ الساحرين، ولا يفلح عنده الظالمون، وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة لقوله تعالى:{أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدّارِ (22) جَنّاتُ عَدْنٍ} والمراد بالدار: الدنيا، وعاقبتها: أن يختم للعبد بالرحمة، والرضوان، وتلقى الملائكة بالبشرى، والغفران. هذا؛ وقرئ الفعل:{تَكُونُ} بالتاء، والياء؛ لأن {عاقِبَةُ} مؤنث مجازي، وما كان منه يستوي فيه التذكير، والتأنيث، كما قرئ (قال) بواو وبدونه وكلاهما حسن، وجيد.
فقراءته بالواو وجهها: أنهم قالوا ذلك، وقال موسى هذا ليوازن الناظر بين قولهم، وقوله، ويتبصر فساد أحدهما، وصحة الآخر، وبضدها تتبين الأشياء، وقراءته بدون الواو وجهها: أن الموضع موضع سؤال وبحث عما أجابهم به موسى عند تسميتهم مثل تلك الآيات الباهرة سحرا مفترى. هذا؛ وإعلال {يُفْلِحُ} مثل إعلال {يُقِيمُونَ} في الآية رقم [3] من سورة (النمل)، وانظر التعبير عن الكافرين بالظالمين ونحوه في الآية رقم [200] من سورة (الشعراء). والفلاح: نيل المرغوب، والفوز بالمطلوب.
هذا؛ والدار تطلق على الحياة الدنيا، كما تطلق على الآخرة، والدار هي منزل الإنسان ومسكنه الخاص به في الدنيا، وهي مؤنثة، وقد تذكر، أصلها: دور بفتحتين، قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وجمعها: ديار، ودور، وأدؤر، وأدور، وأدورة، وأدوار، وديارات، ودورات، ودوران، وديران. وأصل ديار: دوار، قلبت الواو ياء؛ لأنها وقعت عينا في جمع على وزن فعال، لمفرد اعتلت عينه بالقلب. هذا؛ والدار أيضا: البلد، والقبيلة، ودار القرار:
الآخرة، والداران: الدنيا والآخرة، ودار الحرب: بلاد العدو. هذا؛ وقد قال أبو حاتم: إن الديار: العساكر، والخيام، لا البنيان، والعمران، وإن الدار: البنيان، والعمران، وعليه قوله تعالى:{فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ} أي: في عساكرهم، وخيامهم ميتين. وقال جل شأنه:
{فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ} أي: في مدينتهم المعمورة، ولو أراد غير ذلك؛ لجمع الدار، فعلم من كلامه: أن الديار مخصوصة بالخيام. انتهى. قال صاحب الخزانة: وهذه غفلة عن قول الشاعر، وهو مجنون ليلى (أقبّل ذا الجدار) وهو حائط البيت، وذلك في قوله:[الوافر]
أمرّ على الدّيار، ديار ليلى
…
أقبّل ذا الجدار، وذا الجدارا
وما حبّ الدّيار شغفن قلبي
…
ولكن حبّ من سكن الدّيارا
الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف عطف. (قال): فعل ماض. {مُوسى:} فاعله، {رَبِّي:}
مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَعْلَمُ:} خبر المبتدأ. {بِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَعْلَمُ،} و (من)
تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء. {جاءَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من) وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة (من) أو صفتها.
{بِالْهُدى:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {مِنْ عِنْدِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من (الهدى)، والهاء في محل جر بالإضافة.
{وَمَنْ:} الواو: حرف عطف. (من): معطوفة على (من) السابقة من غير إعادة الجار.
{تَكُونُ:} فعل مضارع ناقص. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {تَكُونُ} مقدم، و {عاقِبَةُ:} اسمها مؤخر، وأجيز اعتبار اسمها ضمير القصة، و:{لَهُ عاقِبَةُ} جملة اسمية في محل نصب خبرها، وهذا على القراءتين. هذا؛ وأجيز اعتبار {تَكُونُ} تاما وفاعله يعود إلى (من)، وجملة:{لَهُ عاقِبَةُ} في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الضمير المجرور باللام، و {عاقِبَةُ} مضاف، و {الدّارِ} مضاف إليه. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، الهاء اسمها. {لا:} نافية. {يُفْلِحُ:} فعل مضارع، {الظّالِمُونَ:} فاعله مرفوع
…
إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية فيها معنى التعليل، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ لا محل لها على القراءتين؛ لأنها بالواو معطوفة على جواب (لمّا)، وبدون الواو مستأنفة.
الشرح: {وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ..} . إلخ: قال عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما:
كان بين قوله هذا؛ وبين قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} أربعون سنة، وكذب عدو الله، بل علم: أن له ربا هو خالقه، وخالق قومه، ولذا نفى علمه بإله غيره دون وجوده؛ إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بعدمه، ولذلك أمر ببناء الصرح؛ ليصعد عليه، ويطلع على الحال.
{فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ} أي: اطبخ لي الآجر، وهو القرميد. قيل: إنه أول من اتخذ آجرا، وبنى به. {فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً} أي: قصرا عاليا. وقيل: منارة. وهذا بخلاف صرح سليمان الذي بنته له الجن في الآية رقم [44] من سورة (النمل) فليتأمل.
هذا؛ و (غير) اسم شديد الإبهام، لا يتعرف بالإضافة لمعرفة، وغيرها، فلذا وصفت به النكرة في هذه الآية، وهو ملازم للإضافة، ويجوز أن يقطع عنها، إن فهم المعنى، وتقدمت كلمة ليس عليها، تقول: قبضت عشرة ليس غير. وهو مبني على الضم، أو على الفتح، خلاف.
قال أهل التفسير: لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح؛ جمع هامان العمال، والفعلة، حتى اجتمع عنده خمسون ألف بناء، سوى الأتباع، والأجراء، وطبخ الآجر، والجص، ونجر الخشب، وضرب المسامير، وأمر بالبناء، فبنوه، ورفعوه، وشيدوه، حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، وأراد الله أن يفتنهم فيه، فلما فرغوا منه؛ ارتقى فرعون فوقه، وأخذ نشابة، ورمى بها نحو السماء، فردت إليه، وهي ملطخة بالدم، فقال: قد قتلت إله موسى، فعند مقالته هذه بعث الله جبريل فضرب الصرح بجناحه، فقطعه ثلاث قطع، فوقعت منه قطعة على عسكر فرعون، فقتلت منهم ألف ألف رجل، ووقعت قطعة منه في البحر، وقطعة في المغرب، فلم يبق أحد عمل شيئا فيه إلا هلك.
{لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى} أي: أصعد. ظن الخبيث: أن الله تعالى في مكان؛ أي في السموات، كما هو في مكان؛ أي: في الأرض. {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ} أي: موسى.. {مِنَ الْكاذِبِينَ:} في دعواه: أن له إلها، وأنه أرسله إلينا رسولا. وقد ناقض نفسه اللّعين، فإنه قال:
ما علمت لكم من إله غيري، ثم أظهر حاجته إلى هامان اللّعين أيضا، وأثبت: أن لموسى إلها، وأخبر: أنه غير متيقن بكذبه، وكأنه خاف من عصا موسى، فلبّس، وقال: لعلي أطلع إلى إله موسى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (قال): فعل ماض.
{فِرْعَوْنُ:} فاعله، (يا): أداة نداء، تقوم مقام: أدعو، أو: أنادي. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب: (يا)، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {الْمَلَأُ:} بعضهم يعرب هذا؛ وأمثاله نعتا، وبعضهم يعربه بدلا، والقول الفصل: أن الاسم الواقع بعد «أي» أو بعد اسم الإشارة، إن كان مشتقا فهو نعت، وإن كان جامدا كما هنا، فهو بدل أو عطف بيان، والمتبوع؛ أعني:(أي) منصوب محلا، فكذا التابع، أعني:{الْمَلَأُ} وأمثاله، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الإتباع اللفظية. {ما:} نافية. {عَلِمْتُ:} فعل، وفاعل. {لَكُمْ:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {إِلهٍ،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. {مِنْ:} حرف جر صلة. {إِلهٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، واكتفى بمفعول واحد؛ لأنه من المعرفة، لا من العلم. {غَيْرِي:} صفة: {إِلهٍ} على اللفظ، فهو مجرور، أو على المحل، فهو منصوب، والكسرة أو الفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {فَأَوْقِدْ:} الفاء:
هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر. (أوقد): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .
{لِي:} جار ومجرور متعلقان به. {يا هامانُ:} منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب (يا). {عَلَى الطِّينِ:} متعلقان بالفعل (أوقد)، والجملة الندائية معترضة بين الفعل ومتعلقه، وجملة: (أوقد
…
) إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط محذوف يقدر ب: «إذا» ، وجملة:
{فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {لَعَلِّي:} حرف مشبه بالفعل مفيد للترجي، وياء المتكلم ضمير متصل في محل نصب اسمها. {أَطَّلِعُ:} فعل مضارع، وفاعله مستتر، تقديره:«أنا» . {إِلى إِلهِ:} متعلقان به، و {إِلهٍ} مضاف، و {مُوسى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، وجملة:{أَطَّلِعُ..} . إلخ في محل رفع خبر (لعلّ)، والجملة الاسمية:{لَعَلِّي..} . إلخ مفيدة للتعليل، لا محل لها. {وَإِنِّي:} الواو: واو الحال. (إني): حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {لَأَظُنُّهُ:} اللام: هي المزحلقة.
(أظنه): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والهاء مفعول به أول، {مِنَ الْكاذِبِينَ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، وجملة:{لَأَظُنُّهُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{وَإِنِّي..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل: {أَطَّلِعُ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول؛ لأنها من قول فرعون، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. تأمل، وتدبر وربك أعلم.
الشرح: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ:} تعظم في نفسه، وأعرض عن الإيمان. {فِي الْأَرْضِ:}
أرض مصر. {بِغَيْرِ الْحَقِّ:} إذ الاستكبار بالحق إنما هو في الحقيقة لله الواحد القهار، وهو المتكبر على الحقيقة، وهو الذي يليق بجلاله، وعظمته الكبرياء، فعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله جل وعلا: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النّار» . رواه ابن ماجة، ورواه مسلم، وأبو داود بألفاظ مختلفة.
{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ} أي: للحساب، والجزاء. هذا؛ ويقرأ الفعل بضم الياء من المتعدي، وبفتح الياء من اللازم؛ لأن رجع يكون متعديا، ولازما.
الإعراب: {وَاسْتَكْبَرَ:} الواو: حرف عطف. (استكبر): فعل ماض، والفاعل يعود إلى:
{فِرْعَوْنُ} تقديره: «هو» . {هُوَ:} توكيد للفاعل المستتر. {وَجُنُودُهُ:} الواو: حرف عطف.
(جنوده): معطوف على الفاعل المستتر، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {بِغَيْرِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: فرعون، وجنوده، و (غير) مضاف، و {الْحَقِّ} مضاف إليه، وجملة:{وَاسْتَكْبَرَ..} . إلخ معطوفة على جملة (قال
…
) إلخ لا محل لها مثلها. {وَظَنُّوا:} الواو: حرف عطف. (ظنوا): فعل ماض مبني
على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه.
{إِلَيْنا:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {لا:} نافية. {يُرْجَعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، أو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي (ظنّ)، وجملة:{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
الشرح: {فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ:} وكانوا ألفي ألف وستمائة ألف. {فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ} أي:
طرحناهم في البحر. قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: هذا الكلام الفخم الذي دل على عظمة شأنه، وكبرياء سلطانه، شبههم-استحقارا لهم، واستقلالا لعددهم، وإن كانوا الكثير الكثير، والجم الغفير-بحصيات أخذهن آخذ في كفه، فطرحن في البحر، ونحو ذلك قوله تعالى:{وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ} وقوله جل شأنه: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً} وقوله جلت قدرته: {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ} . وما هي إلا تصويرات، وتمثيلات لاقتداره، وأن كل مقدور-وإن عظم وجل-فهو مستصغر إلى جنب قدرته. انتهى. وانظر الكلام على (نا) في الآية رقم [7] من سورة (الشعراء)، وانظر كيف كان هلاك فرعون في الآية رقم [90] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
{فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظّالِمِينَ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يتأتى منه النظر، نظر تبصر، واعتبار، فيعتبر العاقل، وينزجر بذلك الاعتبار عن الأفعال القبيحة، والأعمال الخبيثة. وعاقبة كل شيء: نتيجته، وآخره، ولم يؤنث الفعل:{كانَ؛} لأن {عاقِبَةُ} مؤنث مجازي، وما كان منه يستوي فيه التذكير والتأنيث، أو لأن {عاقِبَةُ} اكتسب التذكير من المضاف إليه. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {فَأَخَذْناهُ:} الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف. (أخذناه): فعل ماض، وفاعل، ومفعول به. {وَجُنُودَهُ:} معطوف على الضمير المنصوب، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَنَبَذْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لهما على الاعتبارين بالفاء. {فِي الْيَمِّ:} متعلقان بما قبلهما. {فَانْظُرْ:} الفاء: حرف استئناف. وقيل: هي الفصيحة. والأول أقوى. (انظر): فعل أمر، وفاعله مستتر فيه تقديره:
«أنت» وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، {كَيْفَ كانَ:} في {كانَ} وجهان:
أحدهما: أنها ناقصة، و {عاقِبَةُ:} اسمها، و {كَيْفَ} اسم استفهام مبني على الفتح في محل
نصب خبرها تقدم عليها، وعلى اسمها. والثاني: أنها تامة و {عاقِبَةُ} فاعلها، و {كَيْفَ} في محل نصب حال من:{عاقِبَةُ،} تقدمت على صاحبها وعاملها، و {عاقِبَةُ} مضاف، و {الظّالِمِينَ} مضاف إليه مجرور
…
إلخ، وجملة:{كَيْفَ كانَ..} . إلخ في محل نصب سدّت مسد مفعول (انظر) وجملة: {فَانْظُرْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، أو هي معترضة بين المتعاطفتين.
{وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41)}
الشرح: {وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً} أي: قادة، وزعماء يقتدى بهم في الضلال، وبالحمل على الإضلال، كما جعلنا الأنبياء، والمرسلين ودعاة الخير أئمة يدعون إلى الطاعات، وفعل الصالحات. قال تعالى:{وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا..} . إلخ رقم [73] من سورة (الأنبياء){يَدْعُونَ إِلَى النّارِ} أي: يدعون إلى الكفر، والمعاصي؛ التي تسبب دخول النار؛ لأن من أطاعهم؛ ضلّ، ودخل النار معهم.
{وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ} أي: لا يمنعون من العذاب، ولا يجدون من يدفعه عنهم، بخلاف الأئمة الداعين إلى الخير، فإنهم منصورون في الدارين. ويجوز أن يكون المعنى خذلناهم؛ حتى كانوا أئمة الكفر. ومعنى الخذلان: منع الألطاف، وإنما يمنعها الله من علم:
أنها لا تنفع فيه، وهو المصمم على الكفر؛ الذي لا تغني عنه الآيات، والنذر، ومجراه مجرى الكناية؛ لأن منع الألطاف يردف التصميم، والغرض بذكره التصميم نفسه، فكأنه قيل: صمموا على الكفر، حتى كانوا أئمة فيه، دعاة إليه، وإلى سوء عاقبته. وخذ ما يلي:
عن حذيفة بن اليمان-رضي الله عنهما-قال: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشرّ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنّا كنّا في جاهلية وشرّ فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرّ؟ قال: «نعم» . قلت: وهل بعد ذلك الشّرّ من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن» . قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر» . فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: «نعم دعاة على أبواب جهنّم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» . قلت: يا رسول الله! صفهم لنا! قال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا» قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» . قلت: فإن لم يكن لهم جماعة، ولا إمام؟ قال:«فاعتزل تلك الفرق كلّها؛ ولو أن تعضّ بأصل شجرة، حتّى يدركك الموت، وأنت على ذلك» . أخرجه البخاري.
الإعراب: {وَجَعَلْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {أَئِمَّةً:} مفعول به ثان. {يَدْعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله. {إِلَى النّارِ:} متعلقان بما قبلهما، والمفعول
محذوف للتعميم، وجملة:{يَدْعُونَ إِلَى النّارِ} في محل نصب صفة: {أَئِمَّةً} . {وَيَوْمَ:}
الواو: حرف عطف. (يوم): ظرف زمان متعلق بما بعده، و (يوم) مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {لا:} نافية. {يُنْصَرُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها.
{وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)}
الشرح: {وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً} أي: خزيا، وبعدا، وطردا من رحمة الله. أو المراد: لعن اللاعنين لهم كلما ذكروا يلعنهم الملائكة، والمؤمنون. ومثله قوله تعالى في سورة (هود) في حقهم:{وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} .
{وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} أي: من المبعدين، المطرودين، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: من المشوهين الخلقة بسواد الوجوه، وزرقة العيون. وقال أبو عمرو: قبحت وجهه بالتخفيف معناه: قبّحت، قال الشاعر:[الطويل]
ألا قبّح الله البراجم كلّها
…
وقبّح يربوعا، وقبّح دارما
الإعراب: {وَأَتْبَعْناهُمْ:} الواو: حرف عطف. (أتبعناهم): فعل، وفاعل، ومفعول به أول.
{فِي هذِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {لَعْنَةً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» .
والهاء حرف تنبيه، لا محل له. {الدُّنْيا:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {لَعْنَةً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية:
{وَأَتْبَعْناهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَيَوْمَ:} الواو: حرف عطف.
(يوم): فيه أوجه: أحدها أن يتعلق ب: {الْمَقْبُوحِينَ،} على أن (ال) ليست موصولة، أو هي موصولة، واتسع فيه على القاعدة:«يتسع في الظرف والجار والمجرور ما لا يتوسع في غيرهما» والثاني: أن يتعلق بمحذوف يفسره: {الْمَقْبُوحِينَ} . كأنه قيل: وقبحوا يوم القيامة، على مثال ما رأيت في الآية رقم [168] من سورة (الشعراء). الثالث: أن الظرف معطوف على محل: {فِي هذِهِ الدُّنْيا} فيكون التقدير: وأتبعناهم لعنة يوم القيامة. وهو ما في مغني اللبيب، وهو قول الفارسي. والرابع: أنه معطوف على {لَعْنَةً} على حذف الموصوف؛ أي: ولعنة كائنة يوم القيامة. والوجه الثاني أظهرها، وأقواها. وقد مر معنا كثير مثله، و (يوم) مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {أَتْبَعْناهُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مِنَ الْمَقْبُوحِينَ:}
جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو معطوفة على ما قبلها، أو هي في محل نصب حال من الضمير المنصوب وذلك على حسب تعليق الظرف. تأمل.
الشرح: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} أي: التوراة، وهو أول كتاب نزلت فيه الفرائض، والحدود، والأحكام. {مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى} أي: قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب. وقيل: أي: من بعد إهلاك فرعون، وقومه. قال أبو سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أهلك الله قوما، ولا قرنا، ولا أمّة، ولا أهل قرية بعذاب من السّماء، ولا من الأرض منذ أنزل التّوراة على موسى غير القرية الّتي مسخت قردة، ألم تر إلى قوله:
{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ..} . إلخ».
قال الجمل نقلا من أبي السعود: -رحمهما الله تعالى-: التعرض لكون إيتاء التوراة بعد إهلاك الأمم الماضية، للإشعار بمسيس الحاجة الداعية إليها؛ تمهيدا إلى إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن إهلاك القرون الأولى من موجبات اندراس معالم الشرائع، وانطماس آثارها، وأحكامها المؤدّيين إلى اختلال نظام العالم، المستدعيين للتشريع الجديد، بتقرير الأصول الباقية على مر الدهور، وترتيب الفروع المتبدلة بتبدل العصور، وتذكير أحوال الأمم الخالية الموجبة، كأنه قيل: ولقد آتينا موسى التوراة على حين حاجة إليها. وقوله: {بَصائِرَ لِلنّاسِ} أي: أنوارا لقلوبهم، تبصر بها الحقائق، وتميز بين الحق والباطل، بعد أن كانت عميا عن الفهم والإدراك بالكلّية، فالبصيرة نور القلب الذي يستبصر به، كما أنّ البصر نور العين الذي به تبصر. انتهى. هذا؛ وبصائر جمع: بصيرة، وهي: العقل، والفطنة، والعبرة، والشاهد، والحجة. يقال: جوارحه بصيرة عليه، أي: شهود، وفراسة ذات بصيرة، أي: صادقة.
هذا؛ وقد قال الله تعالى في حق القرآن الكريم: {هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الآية رقم [203] من سورة (الأعراف)، وقال أيضا جل ذكره:{قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ..} . إلخ الآية رقم [104] من سورة (الأنعام). {وَهُدىً وَرَحْمَةً} أي: رشد، وبيان، وهداية من الضلال، ونعمة شاملة لمن قرأ التوراة، وانتفع بها. هذا؛ والترجي في هذه الآية، وأمثالها إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله تعالى، لا يحصل منه ترج ورجاء لعباده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.
{آتَيْنا:} فعل، وفاعل. {مُوسَى:} مفعول به أول. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان. {مِنْ بَعْدِ:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{الْكِتابَ} . {ما:}
مصدرية. {أَهْلَكْنَا:} فعل، وفاعل. {الْقُرُونَ:} مفعول به. {الْأُولى:} صفة له منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، و {ما} والفعل:{أَهْلَكْنَا} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة (بعد) إليه، والتقدير: من بعد إهلاكنا القرون الأولى. {بَصائِرَ:} حال من {الْكِتابَ} . وقال أبو البقاء: مفعول لأجله. {لِلنّاسِ:} متعلقان ب {بَصائِرَ} . (هدى):
معطوف عليه منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، (رحمة): معطوف على ما قبله، وحذف متعلقهما لدلالة ما قبله عليه؛ إذ التقدير: هدى للناس، ورحمة للناس. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه، وجملة:{يَتَذَكَّرُونَ} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية مفيدة للتعليل لا محل لها، وجملة {(لَقَدْ آتَيْنا
…
)} إلخ جواب القسم المقدر لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. وانظر الآية رقم [23] من سورة (السجدة)، ففيها فضل بيان.
الشرح: {وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ:} يريد الوادي، أو الطور، الذي خاطب موسى بجانبه، فإنه كان في الجهة الغربية من مقام موسى، أو: الجانب الغربي منه، ولكن حول عن ذلك، وجعل صفة لمحذوف، التقدير: بجانب المكان الغربي، والخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم، أي: ما كنت حاضرا. {إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ} أي: وقت كلفناه أمرنا، ونهينا، وألزمناه عهدنا. {وَما كُنْتَ مِنَ الشّاهِدِينَ} أي: الحاضرين ذلك المقام؛ الذي أوحينا إلى موسى فيه، فتعرفه من ذات نفسك.
وهذا شروع في بيان: أن إنزال القرآن واقع في زمان شدة الحاجة إليه ببيان: أن الوقوف على هذه الأحوال لم يحصل لك بالمشاهدة، أو بالتعلم ممن شاهدها، فوجب أن يكون بوحي من الله تعالى. انتهى. جمل. نقلا من أبي السعود. والمراد من الآية: الدلالة على أن إخباره عن ذلك إنما هو من قبيل الإخبار عن المغيبات التي لا تعرف إلا بالوحي.
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {كُنْتَ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {بِجانِبِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب خبر (كان) و (جانب) مضاف، و {الْغَرْبِيِّ} مضاف إليه، وهو على حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه، كما رأيت في الشرح. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بما تعلق به {بِجانِبِ} . {قَضَيْنا:} فعل ماض، وفاعله. {إِلى مُوسَى:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {الْأَمْرَ:} مفعول به، وجملة:{قَضَيْنا..} .
إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، وجملة:{وَما كُنْتَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وجملة:
{وَما كُنْتَ مِنَ الشّاهِدِينَ} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها، وإعرابها مثلها بلا فارق.
الشرح: {وَلكِنّا أَنْشَأْنا:} خلقنا. {قُرُوناً:} أجيالا من البشر من بعد موسى، عليه السلام. {فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} والمعنى: ولكنا أوحينا إليك هذا القرآن؛ لأنا خلقنا أجيالا مختلفة بعد موسى، فتطاولت عليهم الأعوام، والسنون، فحرفوا الأخبار، وغيروا الشرائع، وبدلوا الأحكام، ونسوا عهد الله، وتركوا أوامره، فهو كقوله تعالى عنهم في سورة (الحديد):
{فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} . {وَما كُنْتَ ثاوِياً:} مقيما. {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ:} قوم شعيب الذين أقام فيهم موسى مدة عشر سنين.
{تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا} أي: تذكر أهل مكة بالوعد، والوعيد. والمعنى: ما كنت مقيما في أهل مدين وقت تلاوتك على أهل مكة خبرهم، وقصتهم مع موسى، ومع شعيب حتى تنقلها إليهم بطريق العيان والمشافهة، وإنما أتتك بطريق الوحي الإلهي، وهذا أحد احتمالين في الضمير، والمعنى عليه واضح كما عرفت، وأكثر المفسّرين على أن الضمير لأهل مدين، والمراد بتلاوته عليهم القراءة عليهم بطريق التعلم منهم. انتهى. جمل. {وَلكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ} إياك رسولا، وأنزلنا عليك كتابا فيه هذه الأخبار، تتلوها عليهم، ولولا ذلك؛ ما علمتها، ولم تخبرهم بها.
هذا؛ وأصل «كنت» : «كونت» فقل في إعلاله: تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار:«كانت» فالتقى ساكنان: الألف وسكون النون، فحذفت الألف، فصار:«كنت» بفتح الكاف، ثم أبدلت الفتحة ضمة لتدل على الواو المحذوفة، فصار «كنت». وهناك إعلال آخر: وهو أن تقول: أصل الفعل: كون، فلما اتصل به ضمير رفع متحرك؛ نقل إلى باب فعل، فصار:(كونت) ثم نقلت حركة الواو إلى الكاف قبلها، فصار (كونت) فالتقى ساكنان: العين المعتلة ولام الفعل، فحذفت العين، وهي الواو لالتقائها ساكنة مع النون، فصار:(كنت) وهكذا قل في إعلال كل فعل أجوف واوي أسند إلى ضمير رفع متحرك، مثل: قام، وقال، ونحوهما.
الإعراب: {وَلكِنّا:} الواو: حرف عطف. (لكنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): ضمير متصل في محل نصب اسمها؛ إذا الأصل لكننا، فحذفت النون، وبقيت الألف دليلا عليها، على مثال إنّا وأنّا. {أَنْشَأْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لكنّ)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. {قُرُوناً:} مفعول به. {فَتَطاوَلَ:} الفاء: حرف عطف. (تطاول): فعل ماض. {عَلَيْهِمُ:} جار ومجرور متعلقان به. {الْعُمُرُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{أَنْشَأْنا قُرُوناً} فهي في محل رفع مثلها. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {كُنْتَ:} فعل ماض ناقص مبني على
السكون، والتاء اسمها. {ثاوِياً:} خبرها، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على مثلها في الآية السابقة لا محل لها مثلها، وعليه فالجملة الاسمية:{وَلكِنّا..} . إلخ معترضة بين المتعاطفتين. {فِي أَهْلِ:} متعلقان ب {ثاوِياً،} و {أَهْلِ} مضاف، و {مَدْيَنَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {تَتْلُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {عَلَيْهِمُ:} متعلقان به. {آياتِنا:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{تَتْلُوا..} . إلخ في محل نصب خبر ثان ل: {كُنْتَ،} أو في محل نصب حال من الضمير المستتر ب: {ثاوِياً} . {وَلكِنّا:} الواو: حرف عطف. (لكنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {لكِنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {مُرْسِلِينَ:}
خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وجملة:{كُنّا مُرْسِلِينَ:} في محل رفع خبر (لكنّ)، والجملة الاسمية:{وَلكِنّا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. وقيل:
في محل نصب حال، ولا وجه له.
الشرح: {وَما كُنْتَ بِجانِبِ..} . إلخ: أي: كما لم تحضر جانب المكان الغربي؛ إذ أرسل الله موسى إلى فرعون، فكذلك لم تحضر جانب الطور إذ نادينا موسى لما أتى الميقات مع السبعين. انتهى. قرطبي. هذا؛ وعكس الزمخشري الأمر، وتبعه البيضاوي حيث جعلا الأول، وهو ما تضمنته الآية رقم [44] المناجاة مع السبعين؛ لأخذ التوراة؛ التي وعد الله بها موسى بني إسرائيل، وجعلا ما في هذه الآية المناجاة في طريق عودة موسى من مدين إلى مصر، وكانت هذه المناجاة هي أول منحه الرسالة إلى فرعون، وقومه. وعاد البيضاوي، فاستدرك بقوله: لعل المراد به وقت إعطائه التوراة، وبالأول حيثما استنبأه؛ لأنهما المذكوران في القصة. انتهى.
وينبغي أن تعلم: أن بين الإرسال، وإيتاء التوراة نحوا من ثلاثين سنة.
قال سليمان الجمل نقلا من أبي السعود: من المعلوم: أن واقعة مدين كانت قبل واقعتي الطور، فمقتضى الترتيب الوقوعي أن تقدم عليهما، وإنما توسطت بينهما للتنبيه على أن كلاّ منهما برهان مستقل على أن إخباره صلى الله عليه وسلم عن هذه القصص بطريق الوحي الإلهي، ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم: أن الكل دليل واحد على ما ذكر انتهى. هذا؛ وانظر المناجاة لأخذ التوراة في الآية رقم [154] من سورة (الأعراف).
هذا؛ وقال الخازن: اعلم: أن الله تعالى لما بين قصة موسى عليه الصلاة والسلام لرسوله صلى الله عليه وسلم فجمع بين هذه الأحوال الثلاثة العظيمة التي اتفقت لموسى، فأراد بقوله:{إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ} هو إنزال التوراة عليه؛ حتى تكامل دينه، واستقر شرعه، والمراد بقوله:{وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} أول أمر موسى، والمراد بقوله:{إِذْ نادَيْنا} ليلة المناجاة، فهذه أعظم أحوال موسى على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام. ولما بينها لرسوله، ولم يكن في هذه الأحوال حاضرا؛ بين الله: أنه بعثه، وعرفه هذه الأحوال الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم ومعجزته، وكأنه قال: في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور، ولا مشاهدة دلالة ظاهرة على نبوتك.
هذا؛ وروى عمرو بن دينار يرفعه، قال:«نودي يا محمد! أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني» . فذلك قوله تعالى: {وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا} . وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله تعالى قال: «يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، ورحمتكم قبل أن تسترحموني» .
{وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي: رحمناك رحمة بإرسالك، والوحي إليك، واطلاعك على الأخبار الغائبة عنك. {لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ:} المراد ب {قَوْماً} أهل مكة، فلم يأتهم رسول في الفترة الواقعة بين محمد، وعيسى عليهما الصلاة، والسّلام، وهي خمسمائة وخمسون سنة، أو بين محمد، وإسماعيل، عليهما الصلاة، والسّلام، على أن دعوة موسى، وعيسى -على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام-كانت مختصة ببني إسرائيل، وما حواليهم.
تنبيه: لعلك تدرك معي أيها القارئ الكريم: أن ما ذكر في هذه الآيات إنما هو من تذكير الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بما أنعم عليه، وإنك لتجد الكثير من هذا في آيات القرآن مثل سورة (الضحى) وغيرها، وهذا يسمى بالمنّ على المنعم عليه. هذا؛ وقد بين الله في آية البقرة رقم [262] أن المنّ على من أنعمت عليه مذموم، وهو يحبط الثواب، بل ويوجب المقت، والسخط. والجواب عن ذلك: أن الفرق بعيد بين منّ الله على عباده، وبين منّ العبد على العبد، فمنّ الله على العبد يزيده شكرا له تعالى، كما يزيده طاعة له، ورغبة في عبادته. وأيضا: فالله هو المالك حقيقة بما ينعم به على العبد، ويمنّ به عليه، وأما العبد فإنه غير مالك بما ينعم على الحقيقة، وإنما هو وكيل على هذه النعم، والمالك على الحقيقة إنما هو الله تعالى. وأيضا: منّ العبد على العبد يورثه ذلة وانكسارا.
الإعراب: {وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ} انظر الآية رقم [44] فالإعراب واحد. {نادَيْنا:}
فعل، وفاعل، والمفعول محذوف، التقدير: نادينا موسى، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل، لا عمل له.
{رَحْمَةً:} قال الأخفش: مفعول مطلق عامله محذوف، التقدير: ولكن رحمناك رحمة. وقال الزجاج: مفعول لأجله، التقدير: ولكن كان ذلك رحمة. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، التقدير: ولكن هي رحمة. والجملة على جميع الأوجه معطوفة على ما قبلها. {مِنْ}
رَبِّكَ: متعلقان ب: {رَحْمَةً،} أو بمحذوف صفة لها، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لِتُنْذِرَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» ، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل الذي رأيت تقديره على جميع الأوجه التي رأيتها، ومتعلقان ب:{رَحْمَةً} على التقدير الأخير.
{قَوْماً:} مفعول به. {ما:} نافية. {أَتاهُمْ:} فعل ماض، والهاء مفعول به. {مِنْ:} حرف جر صلة. {نَذِيرٍ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية في محل نصب صفة: {قَوْماً
…
}. {مِنْ قَبْلِكَ:} متعلقان ب: {نَذِيرٍ،} والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ:} انظر مثلها في الآية رقم [43] إعرابا، ومحلا.
الشرح: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ:} عقوبة، ونقمة. {بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ:} من الكفر، والظلم، والمعاصي. ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي؛ نسبت الأعمال كلها إلى الأيدي، وإن كانت من أعمال القلوب، والأرجل، والعيون، والآذان تغليبا للأكثر على الأقل. {فَيَقُولُوا:}
عند معاينة العذاب. {رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ..} . إلخ: أي هلا أرسلت إلينا يا ربنا رسولا يدعونا إلى الإيمان، ويبين لنا ما يجب علينا من عبادتك، وتقديسك، وتعظيمك. {فَنَتَّبِعَ آياتِكَ} أي: التي جاء بها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: من المصادقين له، وبما جاء به.
قال النسفي: والمعنى: لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدموا من الشرك، والمعاصي:
هلا أرسلت إلينا رسولا محتجين علينا بذلك؛ لما أرسلنا إليهم، يعني أن إرسال الرسول إليهم، إنما هو ليلزموا الحجة، ولا يلزموها، كقوله تعالى:{لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} .
فإن قلت: كيف استقام هذا المعنى؟ وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال، لا القول؛ لدخول {لَوْلا} الامتناعية عليها دونه!.
قلت: القول هو المقصود بأن يكون سببا للإرسال، ولكن العقوبة لما كانت سببا للقول وكان وجوده بوجودها؛ جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال، فأدخلت عليها {لَوْلا،} وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية، ويؤول معناه إلى قولك: ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة؛ لما أرسلنا إليهم رسولا. انتهى. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [134] من سورة (طه)، تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {وَلَوْلا:} الواو: حرف استئناف. (لولا): حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تُصِيبَهُمْ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {مُصِيبَةٌ:} فاعل، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: ولولا إصابتهم مصيبة موجودة. وقال الجلال: لولا الإصابة المسبب عنها قولهم، أو: لولا قولهم المسبب عنها؛ لعاجلناهم بالعقوبة، ولما أرسلناك إليهم رسولا.
{بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء. {قَدَّمَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {أَيْدِيهِمْ:}
فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:
بالذي، أو بشيء قدمته أيديهم. {فَيَقُولُوا:} الفاء: حرف عطف. (يقولوا): فعل مضارع معطوف على (تصيبهم) منصوب مثله، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَوْلا:} حرف تحضيض. {أَرْسَلْتَ:} فعل، وفاعل. {إِلَيْنا:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {رَسُولاً:} مفعول به. {فَنَتَّبِعَ:} الفاء: للسببية. (نتبع):
فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {آياتِكَ:}
مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والكاف في محل جر بالإضافة، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: هلا حصل إرسال رسول منك إلينا فاتّباع منا لآياتك.
{وَنَكُونَ:} الواو: حرف عطف. (نكون): فعل مضارع ناقص معطوف على نتبع، فهو منصوب مثله، واسمه مستتر تقديره:«نحن» . {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر (نكون) والكلام:
{رَبَّنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجواب {لَوْلا} محذوف، قدره النسفي كما رأيت في الشرح: لما أرسلنا إليهم، وقدره القرطبي: لعاجلناهم بالعقوبة، وهو تقدير الجلال أيضا، وعطف عليه قوله: ولما أرسلناك إليهم رسولا، وهو ما رأيته آنفا.
الشرح: {فَلَمّا جاءَهُمُ} أي: أهل مكة. {الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا:} المراد به: محمد صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزات، وأطلق عليه اسم:{الْحَقُّ؛} لأنه مرسل بالحق، والصدق، أو المراد به: القرآن
الكريم، الناطق بالحق، والصدق. {قالُوا} أي: كفار قريش. {لَوْلا:} هلا. {أُوتِيَ:} أعطي من المعجزات. {مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى} أي: من المعجزات، مثل: العصا، واليد، وإنزال القرآن دفعة واحدة، كما أنزلت التوراة على موسى، فجاءوا بالاقتراحات المبنية على التعنت، والعناد، كما قالوا:{لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} وما أشبه ذلك.
{أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ} أي: أبناء جنسهم، ومن مذهبهم مذهبهم، وعنادهم عنادهم، وهم الكفرة في زمن موسى من قبل محمد ونزول القرآن عليه. قيل: إن يهود المدينة أرسلوا إلى قريش أن يسألوا محمدا صلى الله عليه وسلم مثل ما أوتي موسى من المعجزات، فقال الله تعالى: أو لم يكفر اليهود بما أوتي موسى، وأول كفرهم قولهم: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، وثاني كفرهم اتخاذهم العجل إلها، وثالث، ورابع
…
إلخ، ومن كفرهم قتلهم زكريا، ويحيى، وغيرهما من الأنبياء.
{قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا} أي: تعاونا وقوّى بعضهما بعضا. قال الكلبي: بعثت قريش إلى اليهود يسألونهم عن بعث محمد، وشأنه، فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته، وصفته كذا، وكذا، فلما رجع الجواب إليهم، وتحققوا الصفات التي اقترحها اليهود موجودة في النبي صلى الله عليه وسلم؛ {قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا}. هذا؛ وقرئ:«(ساحران تظاهرا)» فيكون المراد: محمدا، وموسى عليهما الصلاة والسّلام. وقيل: هو من قول اليهود، فيكون المراد: موسى، وهارون. وقيل: بل المراد عيسى، ومحمد عليهما الصلاة والسّلام. وهذا قول اليهود إلى اليوم وإلى يوم القيامة، وبه قال قتادة. {وَقالُوا إِنّا بِكُلٍّ كافِرُونَ} أي: بالتوراة، والقرآن، أو بمحمد، وموسى، فيكون من قول كفار قريش، أو بموسى وهارون، أو بعيسى، ومحمد، عليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام، فيكون من قول اليهود اللؤماء على نحو ما قبله. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [14]. {جاءَهُمُ:} فعل ماض، والهاء مفعول به. {الْحَقُّ:} فاعل، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لما) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {مِنْ عِنْدِنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {الْحَقُّ} . {قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَوْلا:} حرف تحضيض. {أُوتِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل مستتر، تقديره:«هو» ، يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو المفعول الأول. {مِثْلَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {فَلَمّا:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر بالإضافة.
{أُوتِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول، والمفعول الثاني محذوف. {مُوسى:} نائب فاعل، وهو المفعول الأول، والجملة الفعلية صلة {فَلَمّا} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:
لولا أوتي محمد مثل الذي، أو: شيء أوتيه موسى، وهذا الكلام في محل نصب مقول القول.
وجملة: {قالُوا..} . إلخ جواب (لمّا)، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
{أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (لم):
حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَكْفُرُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وإعراب:(ما أوتي موسى) مثل ما قبله بلا فارق. {مِنْ قَبْلُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل:
{أُوتِيَ} وعلقهما الزمخشري بالفعل: {(لَمْ يَكْفُرُوا)} ، أقول: وهذا الاختلاف تابع للمعنى. تأمل.
وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، وجملة:{أَوَلَمْ يَكْفُرُوا..} . إلخ معطوفة على محذوف، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. (قالوا): فعل، وفاعل، والألف للتفريق. {سِحْرانِ:} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هما سحران، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:{سِحْرانِ} . وجملة: {قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قالُوا:} فعل، وفاعل. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمه وحذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها.
{بِكُلٍّ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {كافِرُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة {وَقالُوا..} .
إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
الشرح: {قُلْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {فَأْتُوا:} أمر لكفار قريش. {بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ:}
فيه تبيين الحلال، والحرام، وغيرهما من الأحكام. {هُوَ أَهْدى مِنْهُما} أي: من التوراة، والقرآن.
{أَتَّبِعْهُ} أي: أتبع الكتاب الذي تأتون به. وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله، وكيف يأتون بكتاب مثل القرآن، فضلا عن الإتيان بأهدى منه، وقد تحداهم أن يأتوا بسورة مثله، وذلك في قوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ..} . إلخ الآية رقم [38] من سورة (يونس)، ومثلها الآية رقم [23] من سورة (البقرة). {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أي: في قولكم: إنهما سحران تظاهرا؛ فأتوا، وانظر شرح {اِئْتِ} في الآية رقم [100] من سورة (الشعراء).
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {فَأْتُوا:} الفاء: حرف صلة، أو هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: إذا كان ما ادعيتموه صحيحا وواقعا؛ {فَأْتُوا} . (ائتوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِكِتابٍ:}
متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ عِنْدِ:} متعلقان بمحذوف صفة (كتاب). و {عِنْدِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، وجملة:{فَأْتُوا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، والكلام في محل نصب مقول القول. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {أَهْدى:}
خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية في محل جر صفة
ثانية ل: (كتاب)، أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {مِنْهُما:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَهْدى} والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {أَتَّبِعْهُ:} مجزوم بجواب الأمر.
وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف، تقديره: إن تأتوا بكتاب؛ أتبعه، وقال الفراء: برفعه على أن الجملة صفة لكتاب أيضا، ولم يذكر: أن أحدا قرأ برفعه، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {صادِقِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. وجواب الشرط محذوف، انظر تقديره في الشرح. والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا} أي: إن لم يفعلوا ما كلفتهم به من الإتيان بكتاب هو أهدى منهما. وهذا كقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا..} . إلخ الآية رقم [24] من سورة (البقرة). هذا؛ وقد تعدى الفعل باللام، وقد عدي بنفسه في قول كعب بن سعد الغنوي في رثاء أخيه:[الطويل]
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى
…
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
والفرق بين الآية والبيت أن هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه، وإلى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عدي إلى الداعي في الغالب فيقال: استجاب الله دعاءه أو: استجاب له، ولا يكاد يقال: استجاب له دعاءه. وأما البيت؛ فمعناه: لم يستجب دعاءه؛ على حذف المضاف.
هذا؛ والسين والتاء زائدتان؛ لأن استجاب بمعنى: أجاب.
{فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ:} يعني: أن ما ركبوه من الكفر لا حجة لهم فيه، وإنما آثروا اتباع ما هم عليه من الهوى، وما يستحسنونه، ويحببه لهم الشيطان. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ} أي: لا أحد أضل عن طريق الحق والصواب. {بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ} أي: بغير توفيق من الله إلى طريق الرشاد، والفلاح. {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ:} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر وارتكاب المعاصي. بمعنى لا يرشدهم إلى الإيمان، ولا يوفقهم للعمل به. وهذا يرجع إلى علمه الأزلي بأنهم لو تركوا وشأنهم؛ لما اختاروا غير ما هم عليه من الكفر، والضلال.
فائدة: قال مكي-رحمه الله تعالى-في مثل هذا التركيب: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا:} دخلت (إن) على: {لَمْ} ليرتد الفعل إلى أصله في لفظه، وهو الاستقبال؛ لأن «لم» ترد لفظ المستقبل إلى
معنى المضي، و:«إن» تردّ الماضي إلى معنى الاستقبال، فلما صارت «لم» ولفظ المستقبل بعدها بمعنى الماضي ردتها (إن) إلى الاستقبال؛ لأن «إن» ترد الماضي إلى معنى الاستقبال. انتهى.
الإعراب: {فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَسْتَجِيبُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، وهو في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.
{فَاعْلَمْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (اعلم): فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» .
{أَنَّما:} كافة، ومكفوفة. {يَتَّبِعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {أَهْواءَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{أَنَّما يَتَّبِعُونَ..} . إلخ في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي: (اعلم) وجملة: (اعلم
…
) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له من الإعراب.
{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم استفهام بمعنى النفي مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَضَلُّ:} خبره، وفاعله مستتر فيه. {مِمَّنِ:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَضَلُّ،} و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من). {اِتَّبَعَ:}
فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من) وهو العائد، أو الرابط. {هَواهُ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة (من) أو صفتها، والجملة الاسمية:{وَمَنْ أَضَلُّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {بِغَيْرِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل {اِتَّبَعَ} المستتر، أي: مخذولا مخلى بينه وبين هواه، و (غير) مضاف، و {هُدىً} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة، والثابتة دليل عليها، وليست عينها، {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب: {هُدىً،} أو بمحذوف صفة له. {فَإِنْ:}
حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {لا:} نافية. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {اللهِ}. {الْقَوْمَ:} مفعول به. {الظّالِمِينَ:} صفة:
{الْقَوْمَ} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وجملة:{لا يَهْدِي..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)}
الشرح: {وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ} أي: أتبعنا بعضه بعضا، وبعثنا رسولا بعد رسول. وقال أبو عبيدة، والأخفش: معناه: أتممنا، كصلتك الشيء. وقال ابن عيينة، والسدي: معناه: بينا.
وقال أهل المعاني: والينا، وتابعنا، وأنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضا وعدا، ووعيدا، وقصصا، وعبرا، ونصائح، ومواعظ إرادة أن يتذكروا، فيفلحوا. وهذا القول أعم، وأتم، وأصلها من:
وصل الحبال بعضها ببعض، فاستعير لإنزال القرآن متتابعا يتلو بعضه بعضا، قال الشاعر:[الطويل] فقل لبني مروان ما بال ذمّتي
…
بحبل ضعيف ما يزال يوصّل؟!
والضمير في: {لَهُمُ} لقريش، وهو المعتمد، فتكون الآية ردا على من قال: هلا أوتي محمد القرآن جملة واحدة. وقيل: الضمير لليهود، فيكون المراد بتوصيل القول لهم: إرسال الرسل إليهم من بني إسرائيل؛ حتى تم بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ:} لعلهم يتعظون بالقرآن الكريم عن عبادة الأصنام، ويخافون أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم. وعلى رد الضمير لليهود يكون المعنى: لعلهم يتذكرون: أن محمدا هو المبشر به في التوراة، والإنجيل فيؤمنوا به، ويتبعوه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَلَقَدْ:} انظر الآية رقم [43]. {وَصَّلْنا:} فعل، وفاعل. {لَهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْقَوْلَ:} مفعول به، وجملة: {(لَقَدْ وَصَّلْنا
…
)} إلخ جواب القسم المقدر لا محل لها، والقسم، وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {يَتَذَكَّرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل)، والجملة الاسمية مفيدة للتعليل، لا محل لها.
{الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)}
الشرح: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ} أي: من قبل القرآن، أو من قبل محمد صلى الله عليه وسلم. نزلت هذه الآية والتي بعدها في مؤمني أهل الكتاب من اليهود، كعبد الله بن سلام، وأصحابه. ويدخل فيه من أسلم من النصارى، وهم أربعون رجلا قدموا مع جعفر بن أبي طالب المدينة، اثنان وثلاثون رجلا من الحبشة، وثمانية أقبلوا من الشام، وكانوا أئمة النصارى، فلما رأوا ما بالمسلمين من الفقر، والحاجة، قالوا: يا رسول الله: إن لنا أموالا، فإن أذنت لنا انصرفنا، فجئنا بأموالنا، فواسينا بها المسلمين؟ فأذن لهم، فانصرفوا، فأتوا بأموالهم، فواسوا بها المسلمين، فنزلت الآيات الأربع. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [85] من سورة (المائدة)، فهو وثيق الصلة والمعنى بما في هذه الآيات.
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت الآيات في ثمانين من أهل الكتاب: أربعون من نجران، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام. وعن رفاعة القرظي: نزلت في عشرة، أنا أحدهم. وقال القرطبي: وقال عروة بن الزبير-رضي الله عنهما: نزلت في
النجاشي، وأصحابه، وكان وجه باثني عشر رجلا، فجلسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو جهل، وأصحابه قريبا منهم، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما قاموا من عنده؛ تبعهم أبو جهل، ومن معه، فقال لهم: خيبكم الله من ركب! وقبحكم من وفد! لم تلبثوا أن صدقتموه، وما رأينا ركبا أحمق منكم، ولا أجهل! فقالوا: سلام عليكم
…
إلخ، وإذا عرفت: أن هذه الآيات مدنية، لا يبقى لما ذكره القرطبي اعتبار، والله أعلم بحقيقة الحال.
الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {آتَيْناهُمُ:} فعل ماض، وفاعله، ومفعوله الأول، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {الْكِتابَ:}
مفعول به ثان. {مِنْ قَبْلِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {الْكِتابَ:} والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {آتَيْناهُمُ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{آتَيْناهُمُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ} أي: يقرأ القرآن على المذكورين في الآية السابقة. {قالُوا آمَنّا بِهِ} أي: صدقنا بالقرآن، واعترفنا بأنه منزل من عند الله تعالى بالحق والصدق، وذلك: أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كان مكتوبا عندهم في التوراة، والإنجيل، قال تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ..} . إلخ الآية رقم [157] من سورة (الأعراف)؛ بل وجاء ذكر أصحابه، وأمته مكتوبا في التوراة، والإنجيل، اقرأ الآية الأخيرة من سورة (الفتح) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك؛ إن كنت من أهل القرآن.
{إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ} أي: من قبل نزول القرآن، أو من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. {مُسْلِمِينَ:}
موحدين، أو مؤمنين بأنه سيبعث محمد صلى الله عليه وسلم وينزل عليه القرآن.
الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {يُتْلى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى القرآن. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {قالُوا:} فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {آمَنّا:} فعل، وفاعل. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان به، والجملة الفعلية مع ما بعدها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
{إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {الْحَقُّ:} خبر (إن). {مِنْ رَبِّنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {الْحَقُّ،} و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ وقد قال البيضاوي: الجملة الاسمية مستأنفة لبيان ما أوجب إيمانهم به، وقال في الجملة التالية: استئناف آخر للدلالة على أن إيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذ، وإنما هو أمر تقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتاب المتقدمة، وكونهم على دين الإسلام، قبل نزول القرآن، أو تلاوته عليهم باعتقادهم صحته في الجملة، وهذا حل معنى، ولا يغير المحل الإعرابي الذي ذكرته للجملتين. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها.
{كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {مِنْ قَبْلِهِ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مُسْلِمِينَ:} خبر كان منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وجملة:{كُنّا..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة:{إِنَّهُ..} . إلخ فيها معنى التعليل لإيمانهم، وإن كانت في محل نصب مقول القول.
الشرح: {أُولئِكَ:} الإشارة إلى الذين آمنوا من أهل الكتاب. {يُؤْتَوْنَ:} يعطون، ويوفون.
{أَجْرَهُمْ:} ثوابهم على إيمانهم، وعملهم. {مَرَّتَيْنِ:} مرة على إيمانهم بكتابهم الأول، ومرة على إيمانهم بالقرآن الكريم، فهو كقوله تعالى لهم في سورة (الحديد):{يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} . وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب، آمن بنبيّه، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، والعبد المملوك؛ إذا أدّى حقّ الله وحقّ مواليه، ورجل كانت عنده أمة يطؤها، فأدّبها، فأحسن تأديبها، وعلّمها، فأحسن تعليمها، ثمّ أعتقها، ثمّ تزوّجها، فله أجران» . متفق عليه.
{بِما صَبَرُوا:} بصبرهم على الإيمان بالتوراة، أو الإنجيل، وصبرهم على الإيمان بالقرآن.
أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله، وبعد نزوله، أو بصبرهم على أذى المشركين، وأذى أهل الكتاب.
{وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يدفعون بالعمل الصالح العمل السيئ، فيكون كقوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} الآية رقم [114] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وقال الحسن-رحمه الله تعالى-:(إذا حرموا؛ أعطوا، وإذا ظلموا؛ عفوا، وإذا قطعوا؛ وصلوا) فيكون كقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} الآية رقم [199] من سورة (الأعراف). {وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} أي: قسما من أموالهم في وجوه الخير، وفي الطاعات.
الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {يُؤْتَوْنَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {أَجْرَهُمْ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، والهاء في محل جر بالإضافة. {مَرَّتَيْنِ:} نائب مفعول مطلق منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {بِما:} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية.
{صَبَرُوا:} فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{يُؤْتَوْنَ،} أو ب: {أَجْرَهُمْ} .
{وَيَدْرَؤُنَ:} الواو: حرف عطف. (يدرءون): فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {بِالْحَسَنَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، {السَّيِّئَةَ:} مفعول به. {وَمِمّا:} الواو: حرف عطف. (مما): جار ومجرور متعلقان بالفعل:
{يُنْفِقُونَ،} و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من). {رَزَقْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو: من شيء رزقناهموه، وجملة:
{يُنْفِقُونَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {يُؤْتَوْنَ..} . إلخ، فهي في محل رفع مثلها.
الشرح: {وَإِذا سَمِعُوا:} هذا وصف لمن آمن من أهل الكتاب، وفي ضمنه مدح لهم، وثناء عليهم. {اللَّغْوَ:} الشتم، والأذى من الكفار، وكان المشركون يسبون مؤمني أهل الكتاب، ويقولون لهم: تبا لكم تركتم دينكم! فيعرضون عنهم، ولا يردون عليهم. هذا؛ واللغو: ما ينبغي أن يلغى، ويطرح، وفي آية الفرقان رقم [72]:{وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} والمعنى: إذا مروا بأهل اللغو، المشتغلين به؛ مروا معرضين عنهم، مكرمين أنفسهم عن التوقف معهم، والخوض معهم.
{وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ} أي: لنا ديننا، وعبادتنا، ولكم دينكم، وعبادتكم. {سَلامٌ عَلَيْكُمْ:} هذا سلام توديع، ومتاركة، مثل قوله تعالى في سورة (الفرقان) رقم [63]:{وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً} فأقيم السّلام مقام التسلم، والتوديع، والمتاركة؛ إذ المعنى: وإن سفه عليهم جاهل؛ حلموا، ولم يجهلوا. وليس المراد السّلام المعروف، فالإغضاء عن السفهاء مستحسن شرعا، ومروءة. {لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ} أي: لا نطلبهم للجدال، والمراجعة، والمشاتمة. وانظر ما ذكرته في آية الفرقان رقم [63] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [53].
{سَمِعُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللَّغْوَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {أَعْرَضُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {عَنْهُ:} جار ومجرور متعلقان به، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها معطوف على الجمل الفعلية السابقة، فهو في محل رفع مثلها، أو هو مستأنف، لا محل له. {وَقالُوا:} الواو: حرف عطف. (قالوا): فعل، وفاعل. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {أَعْمالُنا:} مبتدأ مؤخر، و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ} معطوفة عليها، وهي مثلها في المحل والإعراب. {سَلامٌ:} مبتدأ، وساغ الابتداء به، وهو نكرة؛ لأنه بمعنى الدعاء. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول أيضا. {لا:} نافية. {نَبْتَغِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، وفاعله ضمير مستتر تقديره:«نحن» . {الْجاهِلِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، والجملة الفعلية في محل نصب حال من نا، والرابط: الضمير فقط، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: (أعرضوا
…
) إلخ لا محل لها مثلها.
الشرح: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ:} هذا الخطاب لسيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك، وغيرهم؛ لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره {وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي:} يدخل في الإسلام {مَنْ يَشاءُ} وهو الذي علم أنه غير مطبوع على قلبه، وأن الألطاف تنفع فيه، فيقرن به ألطافه حين تدعوه إلى القبول.
قال النسفي-رحمه الله تعالى-: والآية حجة على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: الهدى هو البيان، وقد هدى الله الناس أجمع، ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم، فدل على أن وراء البيان ما يسمى هداية، وهو خلق الاهتداء، وإعطاء التوفيق، والقدرة. انتهى. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [17] من سورة (الفرقان).
{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي: بالقابلين من الذين لا يقبلون. قال الزجاج: أجمع المسلمون:
أنها نزلت في أبي طالب، وذلك: أن أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني هاشم، أطيعوا محمدا، وصدقوه؛ تفلحوا، وترشدوا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«يا عم! تأمرهم بالنصيحة؛ لأنفسهم، وتدعها لنفسك!» . قال: فما تريد يا بن أخي؟ قال: «أريد منك كلمة واحدة، فإنك في آخر يوم
من أيام الدنيا: أن تقول: لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله». قال: يا بن أخي قد علمت:
أنك لصادق، ولكني أكره أن يقال: جزع عند الموت، ولولا أن يكون عليك، وعلى بني عمك غضاضة، ومسبة بعدي؛ لقلتها، ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ: عبد المطلب، وهاشم، وعبد المناف.
وروي أنه قال للنبي: جئت بشيء قبله الجنان، وأباه اللسان، مخافة الشنآن.
تنبيه: من المعروف: أن أبا طالب كفل النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة جده عبد المطلب، وعطف عليه عطف الوالد على ولده حتى شبّ وترعرع، وكان يحبه حبا شديدا، ولما منّ الله عليه بالرسالة؛ قامت قريش بكليتها تعارضه، وتصد الناس عن دعوته، فأعلن أبو طالب حمايته له، والذود عنه، ومشوا إليه مرارا يطلبون منه أن يكف الرسول صلى الله عليه وسلم عن تسفيه عقولهم، وشتم آبائهم، وعيب آلهتهم، وقدموا له من مغريات الدنيا المال، والملك، والسيادة، كل ذلك لم يثن الرسول صلى الله عليه وسلم عن دعوته.
وروي في كتاب السيرة، وغيرها: أن قريشا جاءوا إلى أبي طالب، فكلموه في شأن النبي صلى الله عليه وسلم فهددوه، وتوعدوه، وكان فيما قالوا له: إما أن تكفه، أو ننازله، وإياك! فشق على أبي طالب فراق قومه، ومعاداتهم، فبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجاء، وقال له: يا بن أخي! إن قومك جاءوني، وقالوا لي: كذا، وكذا. يا بن أخي! أبق عليّ، وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق! فظن النبي صلى الله عليه وسلم أن قد بدا لعمه فيه، وأنه خاذله، فقال:«يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله تعالى، أو أهلك في طلبه» . ثم استعبر فبكى، فلمّا ولى، قال له: يا بن أخي! امض على أمرك، وافعل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا! وأنشد:[الكامل] والله لن يصلوا إليك بجمعهم
…
حتّى أوسّد في التّراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
…
أبشر وقرّ بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنّك ناصح
…
ولقد صدقت وكنت قبل أمينا
ولقد علمت بأنّ دين محمّد
…
من خير أديان البريّة دينا
لولا الملامة أو حذاري سبّة
…
لوجدتني سمحا بذاك مبينا
انتهى. بتصرف كبير، سيوطي، وبغدادي، كلاهما شرح شواهد المغني. ومن الغريب: أن الخازن-رحمه الله تعالى-ذكر: أن أبا طالب أنشد البيتين الأخيرين عند موته، ونقله عنه سليمان الجمل، رحمه الله تعالى، ولم يصحح له هذا الخطأ، بل أبقاه على حاله، وانظر الآية رقم [113] من سورة (التوبة).
الإعراب: {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف ضمير متصل في محل نصب اسمها. {لا:}
نافية. {تَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {أَحْبَبْتَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة:{مَنْ،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: لا تهدي الذي، أو: شخصا أحببته، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّكَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، أو مستأنفة.
{وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لكنّ)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {مَنْ:} مثل سابقتها، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يهدي الذي، أو شخصا يشاء هدايته. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو أعلم): مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل:{يَهْدِي} المستتر، والرابط: الواو، والضمير. {بِالْمُهْتَدِينَ:} متعلقان ب {أَعْلَمُ} .
الشرح: {وَقالُوا} أي: كفار قريش. وقال عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما: قائل ذلك من قريش الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القريشي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لنعلم: أن قولك حق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك، ونؤمن بك مخافة أن يخرجنا العرب من بلدنا، وإنما نحن أكلة رأس (أي: قليلون). هذا؛ والتخطف الانتزاع، والأخذ بسرعة.
{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} أي: ذا أمن، وذلك: أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون مطمئنون في حرمهم، لا يخافون أن يغير عليهم أحد، فأخبر الله: أنه قد أمنهم بحرمة البيت، وحماهم من الاعتداء عليهم، فلا يخافون أن تستحل العرب حرمة في قتالهم. ومن المعروف: أنه كان تأمن فيه الظباء من الذئاب، والحمام من الحدأة، فكيف يسلبهم هذا الأمن، ويخيفهم، ويعرضهم للتخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام، وتوحيد الملك العلام، ونبذوا الشرك، والأوثان.
{يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: يجمع، ويجلب إلى الحرم من الشام، ومصر، والعراق، واليمن وغيرها الثمرات، والفواكه، وغيرها. والمراد بالكلية: الكثرة مثل قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} لا الكلية الحقيقية، كما هو معروف. هذا؛ ويقرأ {يُجْبى} بالياء، والتاء، كما يقرأ:«(يجنى)» بالنون.
{رِزْقاً مِنْ لَدُنّا} أي: من عندنا كرما، وجودا، وتفضلا، {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ:}
أي أكثر أهل مكة، بل أكثر الناس لا يفهمون هذا؛ ولا يعرفونه، وذكر الأكثر إما؛ لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله، أو لتقصيره في النظر، أو لم تقم عليه الحجة؛ لأنه لم يبلغ حد التكليف، أو لأنه يقام مقام الكل. وانظر الآية رقم [6] من سورة (الروم)، وانظر شرح (لدن) في الآية رقم [6] من سورة (النمل)، وشرح شيء في الآية رقم [183] من سورة (الشعراء).
الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف استئناف. (قالوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {نَتَّبِعِ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {الْهُدى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {مَعَكَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله. وقيل في محل نصب حال، ولا وجه له، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{نَتَّبِعِ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {نُتَخَطَّفْ:} فعل مضارع مبني للمجهول جواب الشرط، ونائب الفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية. {مِنْ أَرْضِنا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، و {إِنْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة: (قالوا
…
) إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي إنكاري. الواو: حرف استئناف. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {نُمَكِّنْ:} فعل مضارع مجزوم ب (لم)، والفاعل تقديره:«نحن» .
{لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان به. {حَرَماً:} مفعول به. {آمِناً:} صفة له. {يُجْبى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {إِلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ثَمَراتُ:} نائب فاعل، و (هو) مضاف، و {كُلِّ} مضاف إليه، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه، وجملة:{يُجْبى..} . إلخ في محل نصب صفة ثانية ل: {حَرَماً،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، والجملة:{أَوَلَمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
(رزقا) فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو مفعول مطلق مؤكد؛ لأن معنى {يُجْبى إِلَيْهِ} بمعنى:
نرزقهم. وثانيها: على أنه مفعول لأجله، عامله محذوف، التقدير: نسوقه إليه رزقا. ثالثها: على أنه حال من {ثَمَراتُ} لتخصصها بالإضافة. {مِنْ لَدُنّا:} جار ومجرور متعلقان ب: {رِزْقاً،} أو بمحذوف صفة له، و (لدن): مبني على السكون في محل جر، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَهُمْ:} اسمها، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{لا يَعْلَمُونَ} مع المفعول المحذوف في محل رفع خبر: (لكنّ)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.
الشرح: {وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها:} هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم بإنعام الله عليهم، فلم يشكروا النعمة، وقابلوها بالبطر، فأهلكوا، فدمرهم الله، وخرب ديارهم. هذا؛ والبطر: سوء احتمال الغنى، وهو أن لا يحفظ حق الله فيه، والبطر: الأشر والكبر وتجاوز حدود الله تعالى. وقيل: عاشوا في البطر، فأكلوا رزق الله، وعبدوا غيره، و {مِنْ قَرْيَةٍ:} على حذف المضاف؛ أي: من أهل القرية.
{فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ} أي: منازلهم باقية الآثار، يشاهدونها في الأسفار، كبلاد ثمود، وقوم لوط، وشعيب، وغيرهم. {لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاّ قَلِيلاً:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما:
لم يسكنها إلا المسافرون سكونا قليلا. وقيل: لم يعمر إلا أقلها، وأكثرها خراب. {وَكُنّا نَحْنُ الْوارِثِينَ} أي: لم يخلفهم فيها أحد بعد هلاكهم، وصار أمرها إلى الله تعالى؛ لأنه الباقي بعد فناء الخلق.
وفحوى الآية الكريمة: أن كفار قريش لما خافوا أن يتخطفهم الناس؛ إن آمنوا، ونبذوا عبادة الأصنام؛ بين الله لهم في هذه الآية: أن الأمر بالعكس، وأنهم جديرون بأن يخافوا بأس الله تعالى، ولا يغتروا بالأمن الحاصل لهم؛ إن بقوا على كفرهم بالله، وأنهم جديرون بالأمن والطمأنينة إن هم آمنوا بالله، ووحدوه. هذا؛ و (كم) خبرية كناية عن عدد مبهم، وهي هنا بمعنى: كثير، والمعنى: أهلكنا كثيرا من القرى.
الإعراب: {وَكَمْ:} الواو: حرف استئناف. (كم): خبرية بمعنى كثير مبنية على السكون في محل نصب مفعول به مقدم. {أَهْلَكْنا:} فعل، وفاعل. {مِنْ قَرْيَةٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و {مِنْ} بيان ل:(كم) وتمييز له. والتمييز في المعنى هو المجرور ب: {مِنْ،} وبما أنه معرفة؛ لأنه على حذف المضاف كما رأيت في الشرح، والتمييز لا يكون معرفة، فلذا جر ب:{مِنْ،} والجملة الفعلية: {وَكَمْ أَهْلَكْنا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {بَطِرَتْ:}
فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى:{قَرْيَةٍ،} تقديره: «هي» . {مَعِيشَتَها،} فيه أوجه: مفعول به على تضمين {بَطِرَتْ:} خسرت، أو على الظرف؛ أي: أيام معيشتها. فيكون على حذف المضاف، أو على حذف «في» أي: في معيشتها، أو على التمييز، أو على التثنية بالمفعول به، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{بَطِرَتْ..} . إلخ في محل جر صفة: {قَرْيَةٍ} . {فَتِلْكَ:} الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف. (تلك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له.
{مَسْكَنِهِمْ:} خبر المبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية لا محل لها على الوجهين المعتبرين في الفاء. {لَمْ:} حرف جزم. {تُسْكَنْ:} فعل مضارع مبني للمجهول مجزوم ب: {لَمْ،} ونائب الفاعل يعود إلى {مَسْكَنِهِمْ،} والجملة الفعلية في محل نصب حال من {مَسْكَنِهِمْ،} والرابط: الضمير فقط، والعامل في الحال اسم الإشارة، وأجيز اعتبارها في محل رفع خبر ثان، كما أجيز اعتبار {مَسْكَنِهِمْ} بدلا من تلك، فتكون الجملة الفعلية خبرا للمبتدإ. {مِنْ بَعْدِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة.
{إِلاّ:} أداة استثناء. {قَلِيلاً:} صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: إلا سكنا قليلا، أو صفة زمان محذوف، أي: إلا زمنا قليلا، أو صفة مكان محذوف، أي: إلا مكانا قليلا. والأقوى الثاني من الثلاثة. {وَكُنّا:} الواو: واو الحال. (كنا): فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {نَحْنُ:} ضمير فصل لا محل له، أو هو توكيد ل:(نا). {الْوارِثِينَ:} خبر كان منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وجملة {وَكُنّا..} . إلخ في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الواو، والضمير، أو هي مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر.
الشرح: {وَما كانَ رَبُّكَ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويعم كل واحد من العقلاء. {مُهْلِكَ الْقُرى} أي: القرى الكافرة. {حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً} أي: في أكبرها وأعظمها رسولا ينذرهم، وخص الأم ببعثة الرسول؛ لأنه يبعث إلى الأشراف، وهم سكان المدن، بخلاف أهل البوادي، فإن الله لا يبعث فيهم، انظر ما ذكرته الآية رقم [109] من سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وقيل: المراد بأم القرى: مكة المكرمة، والمراد بالرسول: محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خاتم الأنبياء، ويؤيده قوله تعالى في سورة (الأنعام) [92]:{وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها} .
{يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا:} يقرأ عليهم ما ننزله عليه من آيات، وهذا يفيد: أن أهل الفترة غير معذبين في الدنيا، وفيه دلالة على أنهم لا يعذبون في الآخرة، كما هو صريح قوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [15]:{وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً} . {وَما كُنّا مُهْلِكِي الْقُرى..} .
إلخ: أي: لم أهلكهم إلا وقد استحقوا الإهلاك؛ لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم، وفي هذا بيان لعدله، وتقدسه عن الظلم.
أخبر الله تعالى في هذه الآية: أنّه لا يهلك قوما هلاك استئصال إلا إذا استحقوا الإهلاك بظلمهم. ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة، والإلزام ببعثة الرسل. ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم، ونزه ذاته أن يهلكهم؛ وهم غير ظالمين، وهو صريح قوله تعالى في
سورة (هود): {وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ} ولا تنس: أن في الآية التفاتا من الخطاب إلى التكلم.
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص.
{رَبُّكَ:} اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {مُهْلِكَ:} خبر: {كانَ،} وهو مضاف، و {الْقُرى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {حَتّى:}
حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {يَبْعَثَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة، والفاعل يعود إلى {رَبُّكَ،} و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب: {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان ب: {مُهْلِكَ} . {فِي أُمِّها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {رَسُولاً:} مفعول به. {يَتْلُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى:{رَسُولاً} . {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {آياتِنا:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَتْلُوا..} .
إلخ في محل نصب صفة: {رَسُولاً} . {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {مُهْلِكِي:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، و {مُهْلِكِي} مضاف، و {الْقُرى} مضاف إليه
…
إلخ على مثال سابقه. {إِلاّ:} حرف حصر. {وَأَهْلُها:} الواو: واو الحال. (أهلها):
مبتدأ، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {ظالِمُونَ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال، التقدير: وما نهلكهم في حال من الأحوال إلا في حال كونهم ظالمين. وجملة: {وَما كُنّا..} . إلخ معطوفة على جملة: {(ما كانَ
…
)} إلخ لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع.
الشرح: {وَما أُوتِيتُمْ:} الخطاب لأهل مكة، ويعم كل عاقل. {مِنْ شَيْءٍ} أي: من أسباب الدنيا، وزينتها. {فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها:} تتمتعون بها أيام حياتكم، ثم هي إلى فناء، وانقضاء؛ لأنها زينة أيام قلائل سرعان ما تنقضي، فإما أن تزول عن الإنسان، أو يزول الإنسان عنها. روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنه قال: إن الله خلق الدنيا، وجعل أهلها ثلاثة أصناف: المؤمن، والمنافق، والكافر، فالمؤمن يتزود، والمنافق يتزيّن، والكافر يتمتّع. انتهى.
{وَما عِنْدَ اللهِ:} ثوابه، وما أعده الله من النعيم المقيم للمؤمنين العاملين. {خَيْرٌ:} في نفسه من الأول؛ لأنه لذة خالصة من المكدرات، وبهجة كاملة لا يشوبها منغصات. {وَأَبْقى:}
أدوم بخلاف الأول فإنه منقطع، وزائل. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي: أفلا تفهمون، وتتدبرون: أن الباقي خير من الفاني. وقيل: من لم يرجح الآخرة على الدنيا فليس بعاقل. ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس؛ صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى؛ لأن أعقل الناس من أعطى القليل، وأخذ الكثير، وما هم إلا المشتغلون بطاعة الله تعالى. والمعنى: أعطى القليل من حطام الدنيا، وأخذ الكثير من الحسنات.
هذا؛ وقد وصف الله تعالى الحياة الدنيا التي يحياها ابن آدم في هذه الآية وغيرها بالدنيا؛ لدناءتها، وحقارتها، وأنها لا تساوي عنده جناح بعوضة. ورحم الله الجريري إذ يقول:[الكامل] يا خاطب الدّنيا الدّنيّة إنّها
…
شرك الرّدى وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت في يومها
…
أبكت غدا تبّا لها من دار
أو: هي من الدنو، وهو القرب؛ لأنها في متناول يد الإنسان ما دام حيا.
الإعراب: (ما): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به ثان تقدم على عامله، أو هو في محل رفع مبتدأ. {أُوتِيتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط، والتاء نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف على اعتبار (ما) مبتدأ. {مِنْ شَيْءٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من (ما)، أو من المفعول الثاني المحذوف، و (من) بيان لما أبهم في (ما). {فَمَتاعُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.
(متاع): خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فالمؤتى متاع، و (متاع) مضاف، و {الْحَياةِ} مضاف إليه.
{الدُّنْيا:} صفة: {الْحَياةِ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وخبر (ما) على اعتبارها مبتدأ مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط، وقيل: هو جملة الجواب، وقيل: هو الجملتان وهو المرجح لدى المعاصرين.
هذا؛ وإن اعتبرت (ما) موصولة؛ فالجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير:
والذي أوتيتموه. والجملة الاسمية خبرها، وزيدت الفاء في خبر المبتدأ؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، ويؤيد هذا الاعتبار الجملة التالية؛ لأن (ما) لا تكون إلا موصولة فيها.
{وَما:} الواو: حرف عطف، وقيل: واو الحال، ولا وجه له لعدم الرابط. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {عِنْدَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع. (أبقى): معطوف
على ما قبله مرفوع مثله
…
إلخ. {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. والفاء:
حرف استئناف. (لا): نافية. {تَعْقِلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً:} والمراد به: المؤمن الذي وعده ربه بالجنة على عمله الصالح. والوعد الحسن: الثواب في الآخرة ودخول الجنة؛ لأنه دائم غير منقطع تكرما، وتفضلا منه تعالى:{فَهُوَ لاقِيهِ:} مدركه لا محالة لامتناع الخلف في وعده سبحانه، وتعالى، قال تعالى:{وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} .
{كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا:} الذي هو مشوب بالآلام، مكدر بالمتاعب، مستعقب للتحسر على الانقطاع. والمعنى لا يستوي من يدخل الجنة تحقيقا لوعده سبحانه الصادق، ومن يتمتع في هذه الدنيا متاعا قليلا، ثم هو يزول ويفنى، ثم يوم القيامة يحشر، ويحضر للحساب، والجزاء، ثم يساق إلى النار، وبئس القرار، ونحوه قوله تعالى حكاية عن قول المؤمن:{وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ،} وقوله جل شأنه: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} .
تنبيه: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت الآية في حمزة بن عبد المطلب، وفي أبي جهل بن هشام. وقال مجاهد: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل. وقال محمد بن كعب: نزلت في حمزة، وعلي-رضي الله عنهما، وقيل غير ذلك. قال القشيري: والصحيح: أنها نزلت في المؤمن، والكافر على التعميم. وقال الثعلبي: وبالجملة فإنها نزلت في كل كافر متع في الدنيا بالعافية، والغنى، وله في الآخرة النار. وفي كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا، ثقة بوعد الله، وله في الآخرة الجنة. هذا؛ ومعنى الآية شبيه بالآية رقم [22] من سورة (الرعد).
هذا؛ والوعد يستعمل في الخير وفي الشر، فإذا قلت: وعدت فلانا من غير أن تتعرض لذكر الموعود به، كان ذلك خيرا، وإذا قلت: أوعدت فلانا من غير ذكر الموعود به، كان ذلك شرا، وهو ما في بيت طرفة بن العبد البيت الأخير من معلقته:[الطويل] وإنّي وإن أوعدته، أو وعدته
…
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وهو قول الجوهري، وقول كثير من أئمة اللغة، وأما عند ذكر الموعود به، أو الموعد به، فيجوز أن تستعمل «وعد» في الخير وفي الشر، فمن الأول قوله تعالى:{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} ومن الثاني قوله جل شأنه: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . وأنشدوا: [الطويل]
إذا وعدت شرّا أتى قبل وقته
…
وإن وعدت خيرا فراث وعتّما
كما يستعمل «أوعد» فيهما أيضا، كقولك:(أوعدت الرجل خيرا، وأوعدته شرّا) هذا؛ والمركز في الطبائع: أن من مكارم الأخلاق، وجميل العادات: أنك إذا وعدت غيرك أن تنزل به شرا؛ كان الخلف محمدة، وإذا وعدته خيرا؛ كان الخلف منقصة. وهذا ما أراده طرفة في بيته المتقدم. هذا؛ والثابت عند الأشاعرة: أنه يجوز إخلاف الوعيد في حقه تعالى كرما. وعند الماتريدية لا يجوز. وأما الوعد؛ فلا يجوز الخلف في حقه تعالى اتفاقا، دليل الأشاعرة قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من وعده الله على عمل ثوابا؛ فهو منجز له، ومن أوعده على عمل عقابا؛ فهو بالخيار، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه» . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [54] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {أَفَمَنْ:} الهمزة: حرف استفهام، وإنكار، واستبعاد. الفاء: حرف استئناف، أو هي حرف عطف. (من): اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ.
{وَعَدْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية صلة:(من) أو صفتها. {وَعْداً:} مفعول مطلق. {حَسَناً:} صفة له. {فَهُوَ:} الفاء: حرف عطف وسبب. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {لاقِيهِ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية هذه معطوفة على فحوى ما قبلها. {كَمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة مثل سابقتها، وجملة:{مَتَّعْناهُ} صلة (من)، أو صفتها. {مَتاعَ:} مفعول مطلق، وهو مضاف، و {الْحَياةِ} مضاف إليه. {الدُّنْيا:} صفة:
{الْحَياةِ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف. {ثُمَّ:} حرف عطف. {فَهُوَ:}
مبتدأ. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بما بعده، على أن (ال) ليست موصولة، أو هي موصولة، واتسع فيه على القاعدة:«يتوسع في الظرف والجار والمجرور ما لا يتوسع في غيرهما» ، أو هو متعلق بمحذوف يفسره {الْمُحْضَرِينَ} وانظر الآية رقم [42] و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {مِنَ الْمُحْضَرِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{هُوَ يَوْمَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، والجملة الاسمية {أَفَمَنْ وَعَدْناهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، أو هي معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: أيستوي المؤمن الموعود بالخير العميم، والكافر الموعود بالعذاب الأليم؟! وهذا الكلام كله مستأنف لا محل له.
تنبيه: قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: فسر لي الفاءين، و {ثُمَّ،} وأخبرني عن مواقعها، قلت: قد ذكر في الآية التي قبلها متاع الحياة الدنيا، وما عند الله، وتفاوتهما ثم عقبه بقوله:{أَفَمَنْ وَعَدْناهُ} على معنى: أبعد هذا التفاوت الظاهر، يسوّى بين أبناء الآخرة، وأبناء الدنيا، فهذا بيان معنى الفاء الأولى وبيان موقعها. وأما الثانية فللتسبب؛ لأن لقاء الموعود
مسبب عن الوعد، الذي هو الضمان في الخير، وأما {ثُمَّ} فلتراخي حال الإحضار عن حال التمتيع، لا لتراخي وقته عن وقته. انتهى.
{وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)}
الشرح: {وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ} أي: ينادي الله يوم القيامة هؤلاء المشركين الذين اتخذوا الحجارة آلهة من دون الله، فيقول:{أَيْنَ شُرَكائِيَ} أي: يقول الله لهم يوم القيامة على سبيل التقريع، والتأنيب: أين شركائي في الألوهية {الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ:} أنهم آلهة، وأنهم ينصرونكم ويشفعون لكم. هذا؛ وأطلق الله على الأصنام اسم الشركاء لأمرين: أحدهما: أن المشركين يشركونها مع الله في العبادة، والتعظيم، والتقديس، وثانيهما: أنهم يشركونها معه في الأموال، والأنعام، والزروع، وانظر الآية رقم [138] من سورة (الانعام) وما بعدها.
هذا؛ وماضي: {تَزْعُمُونَ:} زعم. قال الشيخ مصطفى الغلاييني-رحمه الله تعالى-:
الغالب في «زعم» أن تكون للظن الفاسد، وهو حكاية قول، يكون مظنة للكذب، فيقال فيما يشك فيه، أو فيما يعتقد كذبه، ولذلك يقولون:«زعم» مطية الكذب، أي: هذه الكلمة مركب للكذب، ومن عادة العرب: أن من قال كلاما، وكان عندهم كاذبا؛ قالوا: زعم فلان، ولهذا جاء في القرآن الكريم في كل موضع ذمّ القائلون به، وقد يراد الزعم بمعنى القول مجردا عن معنى الظن الراجح أو الفاسد، أو المشكوك فيه، فإن كانت زعم بمعنى: تأمّر، وترأّس، أو بمعنى: كفل به؛ تعدت إلى واحد بحرف الجر، تقول: زعم على القوم، فهو زعيم، أي: تأمّر عليهم، وترأّسهم، وزعم بفلان أو بالمال، أي: كفله، وضمنه. وتقول: زعم اللبن؛ أي: أخذ يطيب. انتهى.
وقال الأشموني: وإن كانت بمعنى: سمن، أو: هزل؛ فهي لازمة. هذا؛ وأقول: إن «زعم» من الأفعال التي تنصب مفعولين أصلهما مبتدأ، وخبر إن كان من أفعال الرجحان، والأكثر أن يسد مسدهما:«أن» واسمها وخبرها مخففة من الثقيلة أو غيرها، نحو قوله تعالى:
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا،} وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ..} . إلخ، وانظر شواهد ذلك في كتابنا فتح رب البرية، والقليل أن تنصب مفعولين صريحين، وهو ناقص التصرف لا يأتي منه غير الماضي، والمضارع.
الإعراب: {وَيَوْمَ:} الواو: حرف عطف. (يوم): معطوف على {يَوْمَ الْقِيامَةِ،} أو هو مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر يوم. {يُنادِيهِمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (الله) تعالى، والهاء مفعول به. والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (يوم) إليها. {فَيَقُولُ:} الفاء: حرف عطف، وتفسير. (يقول): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله) أيضا. {أَيْنَ:} اسم استفهام توبيخي إنكاري، مبني على الفتح في في محلّ نصب
على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف خبر مقدّم. {شُرَكائِيَ:} مبتدأ مؤخر، مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع صفة: {شُرَكائِيَ} . {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تَزْعُمُونَ:}
فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، ومفعولاه محذوفان، والتقدير: تزعمونهم شركائي، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف كما رأيت تقديره، والجملة الاسمية:{أَيْنَ شُرَكائِيَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة {فَيَقُولُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها من عطف التفسير على المفسّر.
الشرح: {قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ:} وهم أئمة الكفر، ورؤساء الضلالة، ومعنى {حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ:} وجب عليهم مقتضاه، وثبت مؤداه تحقيقا لقوله تعالى:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} . {رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ:} دعوناهم إلى الشرك، وارتكاب المعاصي، واجتراح السيئات، فأجابونا، وانقادوا لنا من دون قهر، وقسر. {أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا} أي:
أضللناهم كما ضللنا، فهم يريدون ضللنا باختيارنا، وضلوا باختيارهم؛ لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة، وتسويلا، فلا فرق بين غينا وغيهم، وإن كان تسويلنا داعيا لهم إلى الكفر، وارتكاب المعاصي، فهناك دعاء الله في مقابلته إلى الإيمان، بما ركز فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل، وأنزل عليهم من الكتاب الداعية إلى الهدى والرشاد.
{تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ:} معناه: تبرأ بعضهم من بعض، وصاروا أعداء، وقول الله تعالى في سورة (إبراهيم) -على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ..} . إلخ الآية رقم [22] برهان قاطع على وقوع العداوة بين الأتباع والمتبوعين، تحقيقا لقوله تعالى:{الْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} . ومثل ذلك الآية رقم [25] من سورة (العنكبوت). {ما كانُوا إِيّانا يَعْبُدُونَ} أي: بل كانوا يعبدون أهواءهم، ويطيعون شهواتهم، ولا سلطان لنا عليهم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قالَ:} فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل.
{حَقَّ:} فعل ماض. {عَلَيْهِمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْقَوْلُ:} فاعل، وجملة:
{حَقَّ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها. {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {هؤُلاءِ:}
الهاء: حرف تنبيه. (أولاء): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ. {الَّذِينَ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه، وقيل: صفة له، فهو مبني على الفتح في محل رفع. {أَغْوَيْنا:}
فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير:
أغويناهم. {أَغْوَيْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ.
{كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {أَغْوَيْنا:} فعل، وفاعل، وهو لازم لا ينصب مفعولا، و (ما) المصدرية والفعل {أَغْوَيْنا} في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة مصدر محذوف يقع مفعولا مطلقا، التقدير: أغويناهم إغواء كائنا مثل إغوائنا. وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم، وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها، والكلام {رَبَّنا هؤُلاءِ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {تَبَرَّأْنا:} فعل، وفاعل. {إِلَيْكَ} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الضمير فقط، وهي على تقدير «قد» قبلها. {كَما:} نافية.
{كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {إِيّانا:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم، وجملة:{إِيّانا يَعْبُدُونَ} في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{ما كانُوا..} . إلخ في محل نصب حال ثانية من (نا) أيضا، فهي حال متكررة، أو متداخلة، والرابط: الضمير فقط على الاعتبارين. قال الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي: وإخلاء الجملتين من العاطف لكونهما مقررتين لمعنى الجملة الأولى. أقول:
واعتبارهما حالا يؤدي هذا المعنى بلا ريب. هذا؛ وقيل: (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر مجرور بحرف جر محذوف، التقدير: من عبادتهم إيانا، وهو ضعيف.
الشرح: {وَقِيلَ} أي: للكفار، والقائل هو الله تعالى أو الملائكة، وهذا يكون يوم القيامة، والتعبير بالماضي لتحقق وقوعه. {اُدْعُوا شُرَكاءَكُمْ} أي: أصنامكم التي كنتم تعبدونها في الدنيا لتخلصكم من العذاب. {فَدَعَوْهُمْ} أي: استغاثوا بهم. {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ:} لم يجيبوهم ولم يغيثوهم. {وَرَأَوُا الْعَذابَ:} عاينوه بأعينهم واقعا بهم.
{لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ} أي: لو أنّهم كانوا يهتدون؛ لأنجاهم الهدى، ولما صاروا إلى العذاب. وقيل: المعنى لو أنهم كانوا يهتدون؛ ما استغاثوا بهم؛ لأن استغاثتهم بهم لا تغني فتيلا. وقيل: المعنى ودوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا إلى التوحيد، والإيمان بالله، وتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الإعراب: {وَقِيلَ:} الواو: حرف استئناف. (قيل): فعل ماض مبني للمجهول. {اُدْعُوا:}
فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {شُرَكاءَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{اُدْعُوا شُرَكاءَكُمْ} في محل رفع نائب فاعل: (قيل)، وهذا على قول من يجيز وقوع الجملة فاعلا، ويكون جاريا على القاعدة في بناء الفعل للمجهول:«يحذف الفاعل، ويقام المفعول به مقامه» وهذا لا غبار عليه. هذا؛ وقيل: نائب الفاعل ضمير مستتر تقديره: «هو» يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل، أو هو محذوف يدل عليه المقام، التقدير:
وقيل قول. وقيل: الجار والمجرور المقدر ب: «لهم» في محل رفع نائب فاعل. والمعتمد الأول.
وأيده ابن هشام في المغني؛ حيث قال: إن الجملة التي يراد بها لفظها يحكم لها بحكم المفردات، ولهذا تقع مبتدأ، نحو «لا حول ولا قوة إلاّ بالله كنز من كنوز الجنّة» ونحو «زعموا مطيّة الكذب» وجملة:{وَقِيلَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَدَعَوْهُمْ:} الفاء: حرف عطف. (دعوهم): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{فَلَمْ:} الفاء: حرف عطف. (لم): حرف نفي، وجزم، وقلب. {يَسْتَجِيبُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَرَأَوُا:} الواو: حرف عطف. (رأوا): ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق، وحركت الواو بالضم للتفريق بينها وبين الواو الأصلية في نحو قولك:(لو اجتهدت؛ لنجحت). والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.
{الْعَذابَ:} مفعول به. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كانُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَهْتَدُونَ} في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كانُوا يَهْتَدُونَ} في محل رفع خبر (أنّ)، و (أن) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف، هو شرط (لو) عند المبرد، التقدير: لو حصل، أو وقع اهتداؤهم. وقال سيبويه: هو في محلّ رفع بالابتداء، والخبر محذوف، التقدير: ولو اهتداؤهم حاصل أو واقع، وقول المبرد هو المرجح؛ لأن {لَوْ} لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدر، والفعل المقدر على قول المبرد وفاعله جملة فعلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب {لَوْ} محذوف تقديره: لأنجاهم الهدى ولما صاروا إلى العذاب. هذا؛ وإن اعتبرت {لَوْ} للتمني فلا جواب لها، وانظر تقدير الكلام في الشرح. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
{وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)}
الشرح: قال النسفي-رحمه الله تعالى-: حكى أولا ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء، ثم ما يقوله الشياطين، أو أئمة الكفر عند توبيخهم؛ لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة، اعتذروا بأن
الشياطين، هم الذين استغووهم، ثم ما يشبه الشماتة بهم، لاستغاثتهم آلهتهم، وعجزهم عن نصرتهم، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل، وإزاحة العلل.
الإعراب: {وَيَوْمَ:} الواو: حرف عطف. (يوم): معطوف على مثله في الآية رقم [62]، أو هو مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر (يوم)، وجملة:{يُنادِيهِمْ} في محل جر بإضافة (يوم) إليها. {ماذا:} اسم استفهام توبيخي، مبني على السكون في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بماذا، والجار والمجرور متعلقان بالفعل بعدهما، أو هو اسم استفهام مركب مبني على السكون في محل نصب مفعول مطلق قدم على عامله. هذا؛ وإن اعتبرت {ماذا} اسما مركبا مبنيا على السكون في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية بعده خبره، والرابط محذوف، التقدير:
ماذا أجبتم به المرسلين؛ فالمعنى لا يأباه، وأقوى منه اعتبار (ما) اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، و (ذا) اسما موصولا مبنيا على السكون في محل رفع خبره، والجملة الفعلية صلته، والعائد محذوف، والتقدير: ما الذي أجبتم به المرسلين، فهو كلام في غاية الوضوح.
{أَجَبْتُمُ:} فعل، وفاعل. {الْمُرْسَلِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، والجملة سواء أكانت اسمية أم فعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَيَقُولُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. تأمل، وتدبر.
{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66)}
الشرح: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ} أي: فصارت الأنباء كالعمي عليهم، لا تهتدي إليهم، وأصله: فعموا عن الأنباء، لكنه عكس مبالغة، ودلالة على أن ما يحضر الذهن، إنما يفيض، ويرد عليه من خارج، فإذا أخطأه؛ لم يكن له حيلة إلى استحضاره، والمراد ب:{الْأَنْباءُ} ما أجابوا به الرسل، أو ما يعمها، وإذا كانت الرسل يتعتعون في الجواب عن مثل ذلك من الهول الشديد، ويفوضون علم ذلك إلى الله تعالى، فما ظنكم بالضلال من أممهم؟! {فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ:} لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب؛ لفرط الدهشة، أو العلم بأنه مثله في العجز. انتهى. بيضاوي بحروفه. هذا؛ واعتبر ابن هشام في المغني قوله تعالى:{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ} من باب القلب، وهذا باب واسع من أبواب النحو، ومن شواهده الشعرية الشاهد رقم [1187] إلى [1193] من كتابنا فتح القريب المجيب انظرها فيه تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
وقال القرطبي: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ:} خفيت عليهم الحجج. قاله مجاهد؛ لأن الله قد أعذر إليهم في الدنيا، فلا يكون لهم عذر، ولا حجة يوم القيامة. {فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ} أي:
بالأنساب والقرابات. قاله مجاهد. وقيل: لا يتساءلون سؤال تواصل، كما كانوا يتساءلون في
الدنيا: من أنت؟ ومن أي قبيلة أنت؟ وقوله تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [102]: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ} يوضح هذا؛ ويبينه.
هذا؛ وقد قال الله تعالى في سورة (الطور) رقم [25]: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} وقال في سورة (الصافات) رقم [27]: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ،} أقول: فآية (الطور) تنص على أن التساؤل إنما يكون في الجنة بلا ريب، بدليل الآيات التي قبلها، والتي بعدها، وأما آية (الصافات) فهي تنص على أن التساؤل إنما يكون يوم القيامة، بدليل قوله تعالى قبلها بآيتين:
{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} وهي تعارض الآية التي نحن بصدد شرحها، وآية المؤمنون المذكورة آنفا، وقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما-في حل هذا التعارض: إن للقيامة أحوالا ومواطن، ففي موطن يشتد عليهم الخوف، فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل، فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون إفاقة، فيتساءلون. انتهى. خازن في سورة (المؤمنون).
الإعراب: {فَعَمِيَتْ:} الفاء: حرف استئناف. (عميت): فعل ماض، والتاء للتأنيث.
{عَلَيْهِمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْأَنْباءُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {يَوْمَئِذٍ:} (يوم): ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و (إذ) ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين، والتنوين ينوب عن جملة محذوفة، مضافة (إذ) إليها، التقدير: يوم إذ يناديهم. {فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف وسبب. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية.
{يَتَساءَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
{فَأَمّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)}
الشرح: {فَأَمّا مَنْ تابَ:} من الشرك، {وَآمَنَ} أي: بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وشفيعا، ورسولا. {وَعَمِلَ صالِحاً:} أدى الفرائض، وأكثر من النوافل، مع اجتناب المحرمات، والمنهيات. انظر الآية رقم [70] من سورة (الفرقان) تجد ما يسرك.
{فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} أي: من الفائزين بالسعادة الأبدية، والهناءة السرمدية.
وعسى من الله واجبة التحقيق على عادة الكرام، أو هي ترج من التائب الذي آمن وعمل صالحا، وينبغي أن تعلم: أنه لما ذكر الله حال الكافرين في الآيات السابقة، وما يجري عليهم يوم القيامة من عظائم الأمور؛ ذكر حال المؤمنين السعداء، وما يجري عليهم من النعيم المقيم والخير العميم؛ لأنه جرت سنة الله في كتابه: أنه لا يذكر أحد الفريقين؛ إلا ويذكر الآخر، ولا يذكر الجنة؛ إلا ويذكر النار
…
إلخ، وذلك ليكون المؤمن راغبا في طاعة الله خائفا من معصيته.
الإعراب: {فَأَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (أما) أداة شرط، وتفصيل، وتوكيد، أما كونها أداة شرط؛ لأنها قائمة مقام أداة الشرط وفعله، بدليل لزوم الفاء بعدها؛ إذ الأصل: مهما يك من شيء فالذي تاب
…
إلخ، فأنيبت (أما) مناب: مهما يك من شيء، فصار: أما من
فعسى. وأما كونها أداة تفصيل؛ لأنها في الغالب تكون مسبوقة بكلام مجمل، وهي تفصله، ويعلم ذلك من تتبع مواقعها. وأما كونها أداة توكيد؛ لأنها تحقق الجواب، وتفيد: أنه واقع لا محالة؛ لكونها علقته على أمر متيقن.
{مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ. {تابَ:}
فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{مَنْ،} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة:{مَنْ،} أو صفتها، وجملة:{وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً} معطوفتان عليها. {فَعَسى:} الفاء: واقعة في جواب (أما). (عسى): فعل ماض جامد مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، واسمها ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {مَنْ} . {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {يَكُونَ:} فعل مضارع ناقص، واسمه يعود إلى {مَنْ} أيضا. {مِنَ الْمُفْلِحِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر:
{يَكُونَ،} {أَنْ يَكُونَ} في تأويل مصدر في محل نصب خبر (عسى). هذا؛ وإن اعتبرت عسى تامة فالمصدر المؤول يكون في محل رفع فاعلها، ولا ضمير مستتر فيها، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز] وجرّدن عسى أو ارفع مضمرا
…
بها إذا اسم قبلها قد ذكرا
وجملة: (عسى
…
) إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{فَأَمّا مَنْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: نزلت الآية الكريمة جوابا للمشركين حين قالوا: ما حكى الله عنهم {لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يريدون الوليد بن المغيرة، أو عروة بن مسعود الثقفي. وقيل:
هي جواب لليهود؛ إذ قالوا: لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل، لآمنا به، والمعنى: وربك يخلق ما يشاء من خلقه، ويختار منهم من يشاء لنبوته. قال يحيى بن سلام، وحكى النقاش: أن المعنى: وربك يخلق ما يشاء من خلقه. يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم، ويختار الأنصار لدينه.
قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وفي كتاب البزار مرفوعا صحيحا عن جابر-رضي الله عنه: «إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين، والمرسلين، واختار لي من أصحابي أربعة، يعني: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليا-رضي الله عنهم أجمعين-، فجعلهم أصحابي، وفي أصحابي كلهم خير، واختار أمتي على الأمم، واختار لي من أمتي أربعة قرون» . انتهى.
و {الْخِيَرَةُ} من التخير، كالطيرة من التطير. يستعمل بمعنى المصدر، وهو التخير، وبمعنى المتخير، كقولهم: محمد خيرة الله من خلقه، والمعنى على الأول: إن الخيرة لله تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، أي: ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه، كقوله تعالى في سورة (الأحزاب):{وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وقال محمود الوراق رحمه الله تعالى: [الطويل] توكّل على الرحمن في كلّ حاجة
…
أردت فإنّ الله يقضي ويقدر
إذا ما يرد ذو العرش أمرا بعبده
…
يصبه وما للعبد ما يتخيّر
وقد يهلك الإنسان من وجه حذره
…
وينجو بحمد الله من حيث يحذر
وقال آخر: [البسيط] العبد ذو شجر والرّبّ ذو قدر
…
والدّهر ذو دول والرّزق مقسوم
والخير أجمع فيما اختار خالقنا
…
وفي اختيار سواه اللّوم والشّؤم
قال بعض العلماء: لا ينبغي لأحد أن يقدم على أمر من أمور الدنيا حتى يسأل الله الخيرة في ذلك؛ بأن يصلي ركعتين صلاة الاستخارة، يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة:{قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ..} . إلخ وفي الركعة الثانية: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ..} . إلخ. واختار بعض المشايخ أن يقرأ في الركعة الأولى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ..} . إلخ، وفي الركعة الثانية: قوله تعالى: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ..} . إلخ وكلّ حسن، ثم يدعو بهذا الدعاء بعد السّلام، وهو ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما. قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن يقول:«إذا همّ أحدكم بالأمر؛ فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثمّ ليقل: اللهمّ إنّي أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علاّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلم: أنّ هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي ومعاشي، وعاقبة أمري-أو قال: في عاجل أمري وآجله- فاقدره لي، ويسّره لي، ثمّ بارك لي فيه، وإن كنت تعلم: أنّ هذا الأمر شرّ لي في ديني، ودنياي، ومعاشي، وعاقبة أمري-أو قال: في عاجل أمري وآجله-. فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثمّ رضّني به. قال: ويسمي حاجته» .
وروى أنس-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا أنس! إذا هممت بأمر، فاستخر ربّك فيه سبع مرّات، ثمّ انظر إلى ما يسبق إليه قلبك؛ فإنّ الخير فيه» . قال العلماء: وينبغي له أن يفرّغ قلبه من جميع الخواطر، حتى لا يكون مائلا إلى أمر من الأمور، فعند ذلك ما يسبق إليه قلبه؛
يعمل عليه، فإن الخير فيه إن شاء الله، وإن عزم على سفر، فيتوخّى بسفره يوم الخميس، أو يوم الإثنين، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. قرطبي بتصرف.
أقول: وما تقدم كله صريح على أن الاستخارة تكون في اليقظة. هذا؛ وقد استحدثت الاستخارة المنامية: يتوضأ، ويصلي ركعتين بنية الاستخارة، ثم يدعو بالدعاء المذكور، ثم يستغفر الله ما أمكنه، ثم يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمكنه، ثم ينام موجها صدره إلى جهة القبلة، ثم إن رأى في منامه ما يسره مضى لما يريده، وإن رأى في منامه ما يزعجه ويسوءه أعرض عن الأمر الذي يريده. والله ولي التوفيق.
{سُبْحانَ اللهِ:} تنزيها، وتقديسا لله. {(تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ)} أي: تقدس الله، وتنزه عن الذي يشركونه معه من الحجارة، والأوثان، و (تعالى) بهذا المعنى ناقص التصرف، لا يأتي منه أمر.
الإعراب: {وَرَبُّكَ:} الواو: حرف استئناف. (ربك): مبتدأ، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {يَخْلُقُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (ربك)، والجملة الفعلية في محل رفع خبره. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يخلق الذي أو شيئا يشاؤه، وجملة:
{وَيَخْتارُ} معطوفة عليها، والمفعول محذوف أيضا، والجملة الاسمية:{وَرَبُّكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {ما:} نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {لَهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (كان) مقدم. {الْخِيَرَةُ:} اسمها مؤخر، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، والوقف على (يختار) تام، وجيد. هذا؛ وقيل: إن {ما} مصدرية، تؤول بما بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: يختار اختيارهم، كما قيل: إنّ {ما} موصولة في محلّ نصب مفعول به وفي (كان) ضمير مستتر هو اسمها، والجملة الاسمية:{لَهُمُ الْخِيَرَةُ:} في محلّ خبرها، وجملة:{كانَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير:
ما كان لهم الخيرة فيه، وهذان القولان ضعيفان، والأصح اعتبار {ما} نافية، والجملة مستأنفة.
قال مكي-رحمه الله تعالى-: وقال بعض العلماء كالطبري، وغيره: هي في موضع نصب ب: (يختار)، وليس ما قاله بحسن في الإعراب؛ لأنه لا عائد يعود على {ما} في الكلام، وهو بعيد أيضا في المعنى، والاعتقاد؛ لأن كونها للنفي يوجب عموم جميع الأشياء في الخير، والشر: أنها حدثت بقدر الله، واختياره، وليس لمخلوق فيها اختيار غير اكتسابه بقدر من الله له.
وإذا كانت {ما} في موضع نصب ب: (يختار)؛ لم تعم جميع الأشياء: أنها مختارة لله، إنما أوجبت أنه يختار ما كان لهم فيه الخيرة لا غير، وبقي ما ليس لهم فيه الخيرة، وهو الخير موقوفا، وهذا هو مذهب القدرية والمعتزلة، فكون {ما} للنفي أولى في المعنى، وأصح في التفسير، وأحسن في الاعتقاد، وأقوى في العربية. انتهى. {سُبْحانَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، وهو مضاف،
و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والفعل المقدر، والمصدر كلام مستأنف لا محل له.
{وَتَعالى:} الواو: حرف عطف. (تعالى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى:{اللهِ} تقديره: «هو» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
{عَمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: عن الذي، أو عن شيء يشركونه مع الله، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(عن) التقدير: تعالى الله عن شركهم.
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69)}
الشرح: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} أي: تخفي صدورهم من الحقد عليك يا محمد! والعداوة لك. {وَما يُعْلِنُونَ:} يظهرون من عداوتك بالطعن، والشتم، فليس تأخير العذاب لخفاء حالهم، ولكن له وقت مقدر أوانه، فهو سبحانه وتعالى يعلم ما يخفون، وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم، وهو معاقبهم على ذلك بما يستحقون، وقد حقق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده؛ حيث قال تعالى:{وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ} .
الإعراب: {وَرَبُّكَ:} الواو: حرف استئناف. (ربك): مبتدأ، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {يَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (ربك) وهو من المعرفة فلذا اكتفى بمفعول واحد. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة، مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {تُكِنُّ:} فعل مضارع.
{صُدُورُهُمْ:} فاعله، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يعلم الذي، أو: شيئا تكنه صدورهم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَما:} الواو: حرف عطف. {ما:} معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف على نحو ما تقدم. هذا؛ وقد ذكرت الآية بحروفها في سورة (النمل) برقم [74]. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الشرح: {وَهُوَ اللهُ:} المستحق للعبادة. {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ:} لا أحد يستحق العبادة، والتقديس، والتعظيم إلا هو، {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى} أي: في الدنيا. {وَالْآخِرَةِ:} المراد بها: الحياة
الثانية التي تكون بعد الموت، ثم الحشر، والنشر، والحساب، والجزاء، ودخول الجنة، والخلود فيها بالفضل الإلهي، ودخول النار، والخلود فيها بالعدل الرباني. {وَلَهُ الْحُكْمُ:} القضاء النافذ في كل شيء، لا يوجد معارض، ولا مدافع، ولا محام، يحكم لأهل طاعته بالمغفرة، والسعادة في الجنة، ولأهل المعصية بالشقاوة، ودخول النار. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: بالبعث، والنشور يوم القيامة.
هذا؛ ويقرأ الفعل بالبناء للمجهول من المتعدي، ويقرأ بالبناء للمعلوم من اللازم.
تنبيه: الحمد في الدنيا حمد تكليف، وشكر لله على إنعامه، وهو في الآخرة على وجه اللذاذة، لا الكلفة، يقولون:{(الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)} ، {(الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ)} ويقولون:{(الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)} انظر (الحمد) في الآية رقم [15] من سورة (النمل) فهو جيد.
الإعراب: {وَهُوَ:} الواو: حرف عطف. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {اللهُ:} خبر أول، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل: «إن» . {إِلهَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف، تقديره: موجود. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل له. {هُوَ:} فيه ثلاثة أوجه: الأول:
اعتباره بدلا من اسم {لا} على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء. الثاني: اعتباره بدلا من {لا} وما عملت فيه؛ لأنها وما بعدها في محل رفع على الابتداء. والثالث: اعتباره بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، وهو أقوى الثلاثة، وهو مبني على الفتح في محل رفع، والجملة الاسمية:{لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} في محل رفع خبر ثان للمبتدإ. {اللهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْحَمْدُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثالث للمبتدإ.
{فِي الْأُولى:} جار ومجرور متعلقان ب: {الْحَمْدُ؛} لأنه مصدر، وتعليقهما بمحذوف حال منه لا يجيزه كثير من النحاة. (الآخرة): معطوف على الأولى، وجملة:{وَلَهُ الْحُكْمُ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {وَإِلَيْهِ:} الواو: حرف عطف. (إليه): جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {تُرْجَعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعل، أو نائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها فهي في محل رفع مثلها.
الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {أَرَأَيْتُمْ:} أخبروني، والخطاب لأهل مكة. {إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً:} دائما مستمرا. من السرد، وهو المتابعة، ومنه قولهم في الأشهر الحرم: ثلاثة سرد، وواحد فرد. ومنه قول طرفة في معلقته رقم [106]:[الطويل] لعمرك ما أمري عليّ بغمّة
…
نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد
{إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ:} بإسكان الشمس تحت الأرض، أو تحريكها حول الأفق الغائر، فقد بيّن سبحانه: أنه مهّد أسباب المعيشة؛ ليقوموا بشكر نعمه. {مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ:} المعنى:
أي إله يأتيكم بنهار تطلبون فيه المعيشة، وتستعينون فيه على قضاء حوائجكم. {أَفَلا تَسْمَعُونَ} أي:
سماع فهم وقبول وتدبر واستبصار. هذا؛ والقيامة أصلها: القوامة؛ لأنها من قام، يقوم، قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها، ويوم القيامة هو اليوم الذي يقوم فيه الناس من قبورهم للحساب، والجزاء.
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه تقديره:«أنت» . {أَرَأَيْتُمْ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي. (رأيتم): فعل، وفاعل، والميم علامة جمع الذكور، وقد اختلف في مفعولي هذا الفعل، فقال قوم: هما محذوفان دل عليهما الكلام، التقدير: أرأيتم عبادتكم الأصنام، هل تنفعكم شيئا إن جعل الله
…
إلخ، ودل عليه قوله:{مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ} . وقال آخرون: لا يحتاج الفعل إلى مفعول؛ لأن بالشرط، وجوابه قد حصل معنى المفعول. وملخص كلام السمين: أن المفعول الأول محذوف، التقدير: أرأيتموه، والمسألة من باب التنازع، فقد تنازع (أرأيتم) وفعل الشرط في:(الليل) فكلاهما يطلبه مفعولا، فأعمل الثاني، وحذف المفعول الأول، وأما المفعول الثاني ل:(رأيتم) فهو الجملة الاستفهامية. انتهى. جمل بتصرف كبير من سورة (الأنعام). وأرى:
أن الفعل: {أَرَأَيْتُمْ} معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، وأن الجملة الاسمية:{مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ} سدت مسد المفعولين، وما بينهما كلام معترض لا محل له، أعطى الكلام تقوية، وتسديدا، وحذف جواب الشرط لدلالة الكلام عليه، والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.
{إِنْ:} حرف شرط جازم. {جَعَلَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط.
{اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.
{عَلَيْكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {اللَّيْلَ:} مفعول به. {سَرْمَداً:} مفعول به ثاني، أو هو حال من {اللَّيْلَ}. {إِلى يَوْمِ:} متعلقان بالفعل: {جَعَلَ،} أو ب: {سَرْمَداً،} أو بمحذوف صفة له، و {يَوْمِ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه، وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه، التقدير:
فمن يأتيكم بضياء تطلبون فيه معايشكم، وتستعينون فيه على قضاء حوائجكم؟!.
{مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {إِلهٌ:} خبره. {غَيْرُ:}
صفة: {إِلهٌ،} و {غَيْرُ} مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه. {يَأْتِيكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {إِلهٌ،} والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:(إله)، أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {بِضِياءٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الاسمية:{مَنْ إِلهٌ..} . إلخ في محل نصب سدت مسد المفعول، أو المفعولين حسب ما رأيت في الشرح. {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. الفاء: حرف استئناف، أو حرف عطف. (لا): نافية. {تَسْمَعُونَ:}
فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة
الفعلية: مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ والكلام {أَرَأَيْتُمْ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وإعراب الآية التالية مثلها بلا فارق.
الشرح: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ:} وذلك بإسكان الشمس في وسط السماء، أو تحريكها على مدار فوق الأفق. {مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ:} للاستراحة من متاعب الأشغال. ولعله لم يصف الضياء بقوله: بنهار تتصرفون فيه، كما وصف الليل بما ذكر؛ لأن الضوء نعمة في ذاته، مقصود بنفسه، ولا كذلك الليل حيث قال:{تَسْكُنُونَ فِيهِ؛} لأن منافع الضوء التي تتعلق به متكاثرة لا يحصيها عد، ليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء قوله:{أَفَلا تَسْمَعُونَ؛} لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه، ووصف فوائده، وقرن الليل بقوله:{أَفَلا تُبْصِرُونَ} لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون، ونحوه.
تنبيه: الهمزة في الكلام {أَفَلا} ومثلها {أَوَلَمْ} للإنكار، وهي في نية التأخير عن الفاء والواو؛ لأنهما حرفا عطف، وكذا تقدم على «ثم» تنبيها على أصالتها في التصدير، نحو قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ..} . إلخ، وقوله جل شأنه:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ..} .
إلخ، وقوله جل شأنه:{أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ..} . إلخ، وأخواتها تتأخر عن حروف العطف، كما هو قياس أجزاء الجملة المعطوفة، نحو قوله تعالى:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ} وقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} . هذا مذهب سيبويه، والجمهور، وخالف جماعة، أولهم الزمخشري، فزعموا: أن الهمزة في الآيات المتقدمة في محلها الأصلي، وأن العطف على جملة مقدرة بينها وبين العاطف، فيقولون: التقدير في: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا..} . إلخ {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} {أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ..} . إلخ أمكثوا فلم يسيروا في الأرض، أنهملكم فنضرب عنكم
…
إلخ؟ أتؤمنون في حياته، فإن مات، أو قتل
…
إلخ؟ ويضعفه ما فيه من التكلف وأنه غير مطرد في جميع المواضع. انتهى. مغني اللبيب بتصرف.
الشرح: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ:} من فضله، وكرمه. {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ:} يتعاقبان بالظلمة، والضياء. {لِتَسْكُنُوا فِيهِ:} لتستريحوا فيه من متاعبكم؛ التي تنالكم في النهار. {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ}
فَضْلِهِ أي: في النهار بطلب المعاش، وأنواع المكاسب، فهو من باب اللف، والنشر.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ:} ولكي تعرفوا نعمة الله في ذلك، فتشكروه عليها. هذا؛ وقد قال الله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [12]:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ} انظر شرحها هناك، وانظر الترجي في الآية رقم [43].
هذا؛ وقد قال الخازن: إن من نعمة الله تعالى على الخلق أن جعل الليل، والنهار يتعاقبان؛ لأن المرء في حال الدنيا، وفي حال التكليف مدفوع إلى التعب، ليحصل ما يحتاج إليه، ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار، ولأجله يحصل الاجتماع، فتمكن المعاملات. ومعلوم: أن ذلك لا يتم إلا بالراحة، والسكون بالليل، فلا بد منهما، فأما في الجنة؛ فلا تعب، ولا نصب، فلا حاجة بهم إلى الليل، ولذلك يدوم لهم الضياء أبدا، فيبين الله تعالى: أنه القادر على ذلك؛ ليس غيره، فقال:{وَمِنْ رَحْمَتِهِ..} . إلخ.
وقال الزمخشري: زاوج بين الليل، والنهار لأغراض ثلاثة: لتسكنوا في أحدهما، وهو الليل، ولتبتغوا من فضل الله في الآخرة، وهو النهار، ولإرادة شكركم. وقد سلكت بهذه الآية طريقة اللف، والنشر في تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء إيذانا بأن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به! كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده! اللهم فكما أدخلتنا في أهل توحيدك؛ فأدخلنا في الناجين من وعيدك. انتهى. آمين يا رب.
الإعراب: {وَمِنْ:} الواو: حرف استئناف. {(مِنْ رَحْمَتِهِ)} : جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما. وقيل: متعلقان بمحذوف خبر مقدم، و {جَعَلَ} مؤول بمصدر بتقدير:«أن» مبتدأ مؤخر، ولا وجه له قطعا؛ لأن تأويل الفعل بمصدر إنما هو في المضارع، لا الماضي، وبحثه معلوم. انظر الآية رقم [24] من سورة (الروم) والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.
{جَعَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله) تقديره:«هو» . {لَكُمُ:} جار ومجرور متعلقان به أيضا. {اللَّيْلَ:} مفعول به. (النهار): معطوف على {اللَّيْلَ} . {لِتَسْكُنُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {جَعَلَ} أيضا. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
{وَلِتَبْتَغُوا:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله بلا فارق. {وَلَعَلَّكُمْ:} الواو: حرف عطف.
(لعلكم): حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها، وجملة:{تَشْكُرُونَ} مع المفعول المحذوف في محل رفع خبرها، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها من تعليل. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)}
الشرح: ذكرت هذه الآية بحروفها برقم [62] وأعيدت هنا لزيادة التوبيخ والتقريع للمشركين للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به! أو الآية الأولى لتقرير فساد آرائهم، وهذه الآية لبيان: أن إشراكهم لم يكن عن سند، وإنما هو محض تشهّ، ومجرد هوى.
الشرح: {وَنَزَعْنا} أي: وأخرجنا يوم القيامة. {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً:} يشهد عليهم، والمراد به رسولهم يشهد عليهم بأن بلغهم رسالة ربهم، ونصح لهم، اقرأ معي قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [41]:{فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} انظر شرحها هناك؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
{فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ:} حجتكم على صحة ما كنتم تدينون به من الشرك، ومخالفة الرسل.
{فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلّهِ} أي: أيقنوا يوم القيامة: أن الدين القويم هو الذي ارتضاه الله للناس أجمعين، وهو دين التوحيد. {وَضَلَّ عَنْهُمْ} أي: غاب عنهم. {ما كانُوا يَفْتَرُونَ} أي:
يختلقون في الدنيا من الكذب على الله من ألوهية غيره، والشفاعة لهم.
هذا؛ و (ضل): غاب كما رأيت، وأكثر استعماله في القرآن الكريم بمعنى: كفر، وخرج عن جادة الحق والصواب، وهو ضد: اهتدى، واستقام. وضل الشيء: ضاع وهلك، وضل: أخطأ في رأيه. ولولا هذا المعنى؛ لكفر أولاد يعقوب بقولهم لأبيهم في حضرته: {تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ،} وقولهم في غيبته: {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . وضل: تحير، وهو أقرب ما يفسر به قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى} . هذا؛ والتعبير بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه، وهو فن من فنون البلاغة، كما هو معروف ببابه.
الإعراب: {وَنَزَعْنا:} الواو: حرف استئناف. (نزعنا): فعل، وفاعل. {مِنْ كُلِّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و {كُلِّ} مضاف، و {أُمَّةٍ} مضاف إليه. {شَهِيداً:} مفعول به، وجملة:{وَنَزَعْنا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَقُلْنا:} الفاء: حرف عطف. (قلنا):
فعل، وفاعل. {هاتُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{بُرْهانَكُمْ:} مفعول به، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{هاتُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقُلْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{فَعَلِمُوا:} الفاء: حرف عطف. (علموا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف
للتفريق. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْحَقَّ:} اسمها. {لِلّهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها، و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي (علموا)، والجملة الفعلية هذه معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {وَضَلَّ:} الواو: حرف عطف. (ضل): فعل ماض. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: ضل عنهم الذي، أو شيء كانوا يفترونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: ضل عنهم افتراؤهم. {كانُوا:} فعل ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَفْتَرُونَ} في محل نصب خبر (كان).
الشرح: {إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى:} قال القرطبي رحمه الله تعالى: لما قال تعالى:
{وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها} بيّن أن قارون أوتيها، فاغتربها، ولم تعصمه من عذاب الله، كما لم تعصم فرعون، ولستم أيها المشركون بأكثر عددا، ومالا من فرعون، وقارون، فلم ينفع فرعون جنوده، وأمواله، ولم ينفع قارون قرابته من موسى، ولا كنوزه. قال النخعي، وقتادة، وغيرهما: كان ابن عمّ موسى لحّا، وهو قارون، بن يصهر، بن قاهث، بن لاوي، بن يعقوب، وموسى بن عمران، بن قاهث. انتهى.
{فَبَغى عَلَيْهِمْ:} تكبر عليهم، وأراد أن يكون بنو إسرائيل تحت أمره. وقيل: أمّره فرعون على بني إسرائيل، فجعل يظلمهم، ويستبد بهم. {وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ:} من الأموال المدخرة.
وقيل: أظفره الله بكنز من كنوز يوسف، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وقيل:
سميت أمواله كنوزا؛ لأنه كان ممتنعا من أداء الزكاة، وبسبب ذلك عادى موسى، عليه السلام.
{ما إِنَّ مَفاتِحَهُ} أي: مفاتح كنوزه، جمع مفتح-بكسر الميم، وفتح التاء-فيكون المراد به الآلة المعروفة، ويؤيده قراءة:(مفاتيح) في سورة (الأنعام) ويكون قد حذف منه عند الجمع الألف التي تقلب ياء في صيغة منتهى الجموع، كما قيل في جمع: مصباح: مصابح، وفي جمع: محراب: محارب، أو هو جمع مفتح-بفتح الميم، وكسر التاء-كمخزن وزنا، ومعنى، وهو الخزانة. وقال النسفي: والأصوب: أنها المقاليد، والمعتمد الأول بدليل قوله تعالى:
{لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} أي: لتثقلهم، وتميل بهم؛ إذا حملوها. قال النمر بن تولب الصحابي-رضي الله عنه، قيل: إنه عمر مائتي سنة: [الطويل]
يودّ الفتى طول السّلامة والبقا
…
فكيف يرى طول السلامة يفعل؟
يودّ الفتى بعد اعتدال وصحّة
…
ينوء إذا رام القيام ويحمل
هذا؛ وفي قوله تعالى: {لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ} قلب؛ إذ المعنى: لتنوأ العصبة بها، أي: تنهض بها متثاقلة. هذا؛ والقلب باب واسع من أبواب النحو، ويوجد في القرآن كثير، كما رأيته في مواضعه. ومن شواهده الشعرية الشواهد رقم [1187] إلى [1194] من كتابنا فتح القريب المجيب، وخذ واحدا منها، وهو للقطامي:[الوافر] فلمّا أن جرى سمن عليها
…
كما طيّنت بالفدن السّياعا
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كان يحمل مفاتيح خزائنه أربعون رجلا أقوى ما يكون من الرجال. وقيل: كان قارون يحمل معه مفاتيح كنوزه معه أينما ذهب، وكانت من حديد، فلما كثرت، وثقلت؛ جعلها من خشب، فثقلت فجعلها من جلود البقر، كل مفتاح على قدر الإصبع، وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا.
هذا؛ والعصبة، ومثلها العصابة: من الرجال ما بين العشرة إلى الأربعين، وهو قول السدي، وقتادة، وقال تعالى في قصة أولاد يعقوب، وكانوا عشرة:{إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} ثم قالوا: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} . هذا؛ والعصبة، والعصابة: الجماعة من الناس، والخيل، والطير، واعصوصبوا: اجتمعوا، والعصبة لا واحد لها من لفظها، مثل:
نفر، ورهط، ومعشر، وانظر شرح (أولو) في الآية رقم [33] من سورة (النمل).
{إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} أي: المؤمنون من بني إسرائيل. قاله السدي. وقال يحيى بن سلام: القوم هنا: موسى، وقاله الفراء أيضا، وعليه فهو جمع، أريد به واحد، كقوله تعالى:
{الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ} وإنما هو نعيم بن مسعود، كما رأيت في الآية رقم [173] من سورة (آل عمران) والمراد بالفرح: البطر، وهو مذموم؛ لأنه نتيجة حب الدنيا، والرضا بها، والذهول عن ذهابها، فإن الواقع بأن ما فيها من اللذة زائل لا محالة، يوجب الهم، والغم، والحزن الطويل، كما قال أبو الطيب المتنبي:[الوافر] أشدّ الغمّ عندي في سرور
…
تيقّن عنه صاحبه انتقالا
{إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي: بزخارف الدنيا، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم، ويبطرون به على خلقه، قال الشاعر:[الطويل] ولست بمفراح إذا الدّهر سرّني
…
ولا ضارع من صرفه المتقلّب
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {قارُونَ:} اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى {قارُونَ}. {مِنْ قَوْمِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (كان). و {قَوْمِ}
مضاف، و {مُوسى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، وجملة:
{كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ قارُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَبَغى:} الفاء: حرف عطف. (بغى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل يعود إلى {قارُونَ،} تقديره: «هو» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.
{عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَآتَيْناهُ:} الواو: حرف عطف. (آتيناه): فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا. هذا؛ وإن اعتبرتها في محل نصب حال من فاعل (بغى) المستتر، فالمعنى لا يأباه، ويكون الرابط: الواو، والضمير، وتكون:«قد» قبلها مقدرة. {مِنَ الْكُنُوزِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {مَفاتِحَهُ:} اسم {إِنَّ،} والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لَتَنُوأُ:} اللام: هي المزحلقة. (تنوء): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {مَفاتِحَهُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ} . {بِالْعُصْبَةِ:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به. {أُولِي:} صفة (العصبة) مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، و {أُولِي} مضاف، و {الْقُوَّةِ} مضاف إليه، وجملة:{إِنَّ مَفاتِحَهُ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها. {إِذْ:}
ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل (تنوء)، وقال أبو البقاء:
متعلق ب: (آتينا)، ويجوز أن يكون ظرفا لفعل محذوف، دل عليه الكلام، أي: بغى؛ إذ قال له قومه.
{قالَ:} فعل ماض. {لَهُ:} متعلقان به. {قَوْمُهُ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة. {لا تَفْرَحْ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {إِنَّ:}
حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {لا:} نافية. {يُحِبُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:
{اللهَ} . {الْفَرِحِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل للنهي، لا محل لها.
الشرح: {وَابْتَغِ:} اطلب، واقصد. {فِيما آتاكَ اللهُ:} من المال، والغنى. {الدّارَ الْآخِرَةَ} أي: الجنة، وهو أن تقوم بشكر الله فيما أنعم، وتنفق المال في مرضاة الله عز وجل؛ لأن من حق المؤمن العاقل أن يصرف المال فيما يقربه من رحمة الله تعالى، لا فيما يسبب له غضبه، وسخطه من تجبر وتكبر، وبغي، وفساد في الأرض.
{وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا:} اختلف فيه، فقال ابن عباس، والجمهور: لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك؛ إذ الآخرة إنما يعمل لها، فنصيب الإنسان عمره، وعمله الصالح فيها. فالكلام على هذا التأويل شدة في الموعظة. وقال الحسن، وقتادة: معناه:
لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال، وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك. فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به، وإصلاح الأمر الذي يشتهيه، وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النّبوة من الشدّة. قاله ابن عطية. وهذان التأويلان قد جمعهما ابن عمر-رضي الله عنهما-في قوله: احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا، وقيل:
لا تنس صحتك، وقوتك، وشبابك، وغناك أن تطلب بها الآخرة. وعن عمرو بن ميمون الأزدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل، وهو يعظه:«اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» .
{وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ} أي: أطع الله، واعبده، كما أنعم عليك. وقيل: أحسن إلى الناس، كما أحسن الله إليك. وقال ابن العربي: فيه أقوال كثيرة، جماعها: استعمال نعم الله في طاعة الله. {وَلا تَبْغِ} أي: لا تقصد. {الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ:} كل من عصى الله وآذى عباد الله فقد طلب الفساد في الأرض، وتعرّض لسخط الله، وشديد نقمته، ودليله عدم حبّه له، وهو كناية عن البغض، والسخط، والغضب. ومحبته جلت قدرته للعبد: رضاه عنه، وغفر ذنوبه، وستر عيوبه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَابْتَغِ:} الواو: حرف عطف. (ابتغ): فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {فِيما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وأجاز أبو البقاء تعليقهما بمحذوف حال من الفاعل المستتر، والمعنى لا يؤيده، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(في). {آتاكَ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والكاف مفعول به أول، والمفعول الثاني-وهو العائد، أو الرابط-محذوف؛ إذ التقدير: في الذي، أو: في شيء آتاك الله إياه. وأجاز أبو البقاء فيها المصدرية، والمعنى لا يؤيده. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة ما، أو صفتها. {الدّارَ:} مفعول به للفعل: (ابتغ){الْآخِرَةَ:} صفة: {الدّارَ،} وجملة:
{وَابْتَغِ..} . إلخ معطوفة على جملة: {لا تَفْرَحْ} فهي مثلها في محل نصب مقول القول. {وَلا:}
الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَنْسَ:} فعل مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» .
{نَصِيبَكَ:} مفعول به، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مِنَ الدُّنْيا:} متعلقان بالفعل قبلهما. أو هما متعلقان بمحذوف حال من {نَصِيبَكَ} . وهو أقوى معنى، وجملة:{وَلا تَنْسَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا. {وَأَحْسِنْ:} الواو:
حرف عطف. (أحسن): فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» {كَما} الكاف حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {أَحْسِنْ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، يقع مفعولا مطلقا، التقدير: أحسن إحسانا كائنا مثل إحسان الله إليك، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [19] عن سيبويه، رحمه الله تعالى.
واعتبار (ما) موصولة ضعيف. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا تبغ): فعل مضارع مجزوم ب:
(لا) إلخ، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {الْفَسادَ:} مفعول به. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} إعراب هذه الجملة ومحلها مثلها إعراب:{إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} في الآية السابقة بلا فارق.
الشرح: {قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي} أي: على فضل، وخير علمه الله عندي، فرآني أهلا لذلك، ففضلني بهذا المال عليكم، كما فضلني بغيره. وقيل: هو علم الكيمياء، وكان موسى عليه السلام يعلمه، فعلم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم، وعلم كالب بن يوقنا ثلثه، وعلم قارون ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه، فكان يصنع من الرصاص فضة، ومن النحاس ذهبا، وكان ذلك سبب كثرة أمواله. وقيل: كان علمه حسن التصرف في التجارات، والزراعات، وأنواع المكاسب. انتهى. خازن. وقال القرطبي: يعني: علم التوراة، وكان فيما روي من أقرأ الناس لها، ومن أعلمهم بها، وكان أحد السبعين الذين اختارهم موسى للميقات. انتهى. فهو كقول الله تعالى على لسان الآخر:{ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ} الآية رقم [49] من سورة (الزمر).
فائدة: قال سهل: ما نظر أحد إلى نفسه، فأفلح! والسعيد من صرف بصره عن أفعاله، وأقواله، وفتح له سبيل رؤية منّة الله تعالى عليه في جميع الأفعال، والأقوال، والشقي من زين في عينه أفعاله، وأقواله، وأحواله، ولا فتح له سبيل رؤية منة الله تعالى عليه، فافتخر بها، وادعاها لنفسه، فشؤمه يهلكه يوما، كما خسف بقارون لما ادعى لنفسه فضلا. انتهى. نسفي.
{أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ..} . إلخ: أي: ألم يعلم علم اليقين: أن الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه، وأغنى؛ لأنه قد قرأ في التوراة، وفيها ذكر من أهلك الله، كعاد، وثمود، وما فرعون منه ببعيد، كأنه قيل: أولم يعلم في جملة ما عنده من العلم هذا، حتى لا يغتر بكثرة ماله، وقوته، أو هو نفي لعلمه بذلك؛ لأنه لما قال:{أُوتِيتُهُ عَلى}
{عِلْمٍ عِنْدِي،} قيل: أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه، ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين. انتهى. نسفي.
{وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ:} لعلمه تعالى بهم، بل يدخلون النار بغير حساب، أو يعترفون بها بغير سؤال، أو يعرفون بسيماهم، فلا يسألون، أولا يسألون من جهتهم؛ لتعلم ذنوبهم، بل يسألون سؤال تقريع، وتوبيخ. أولا يسأل عن ذنوب الماضين المجرمون من هذه الأمة. انتهى. نسفي. وانظر العنكبوت [13] قال الزمخشري-رحمه الله تعالى -: وجه اتصال هذه الجملة بما قبلها: لما ذكر الله قارون ومن أهلك من قبله من القرون الذين كانوا أقوى منه، وأغنى مالا منه؛ قال على سبيل التهديد، والوعيد له: والله مطلع على ذنوب المجرمين، لا يحتاج إلى سؤالهم عنها، وهو قادر على أن يعاقبهم عليها، كقوله تعالى:{وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ،} وقوله: {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وما أشبه ذلك. انتهى. بتصرف.
الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:(قارون). {إِنَّما:} كافة، ومكفوفة.
{أُوتِيتُهُ:} فعل ماض مبني للمجهول، مبني على السكون، والتاء نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والهاء مفعوله الثاني. {عَلى عِلْمٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من تاء الفاعل.
{عِنْدِي:} ظرف مكان متعلق ب: {عِلْمٍ،} أو بمحذوف صفة له، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{إِنَّما أُوتِيتُهُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي إنكاري. الواو: حرف استئناف. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَعْلَمْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، والفاعل يعود إلى:{قارُونَ} . {أَنَّ:}
حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَهْلَكَ:}
فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} . {مِنْ قَبْلِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْقُرُونِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {مِنْ} بعدهما، و {مِنْ} الجارة تبيين لما أبهم فيها. {مِنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {أَشَدُّ:} خبره. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَشَدُّ} . {قُوَّةً:} تمييز، والجملة الاسمية:{هُوَ أَشَدُّ..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها. {وَأَكْثَرُ:} معطوف على {أَشَدُّ،} ومتعلقه محذوف. {جَمْعاً:} تمييز، وجملة:{قَدْ أَهْلَكَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول:{يَعْلَمْ،} وجملة:
{أَوَلَمْ يَعْلَمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف استئناف، أو حرف عطف.
(لا): نافية. {يُسْئَلُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {عَنْ ذُنُوبِهِمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والمفعول الأول نائب الفاعل، وهو قوله {الْمُجْرِمُونَ،} والجملة الفعلية لا محل لها على الوجهين المعتبرين في الواو.
الشرح: {فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ:} قيل: خرج هو، وحاشيته، وهم سبعون ألفا، عليهم الثياب الحمر، والصفر، والمعصفرات، وكان ذلك أول يوم رؤي فيه المعصفر. وقيل: خرج يوم السبت على بغلة شهباء عليها الأرجوان، وعليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف من حاشيته على زيه. وقيل: عليهم، وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض، عليهن الحلي، والديباج، والجميع على البغال الشهب.
{قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا:} قيل: كانوا مسلمين، وإنما تمنوا ذلك على سبيل الرغبة في اليسار على عادة البشر. وقيل: هو من قول أقوام لم يؤمنوا بالآخرة، ولا رغبوا فيها، وهم الكفار. ولا وجه له؛ لأن بني إسرائيل كانوا جميعا مؤمنين موحدين في عهد موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
{يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ:} قالوا ذلك غبطة، والغابط: هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه، كما في هذه الآية. وهذا لا بأس به، ولا يضر بالدين. أما الحاسد فهو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له دونه، وقد نهى الله عنه بقوله:{وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ} وهذا مذموم، ضار بالدين، يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب. قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل يضر الغبط؟ فقال: «لا إلا كما يضر العضاه الخبط» . هذا؛ والتمني: طلب ما لا طمع فيه كقول أبي العتاهية: [الوافر] ألا ليت الشباب يعود يوما
…
فأخبره بما فعل المشيب
أو ما فيه عسر، كقول المعدم الآيس: ليت لي قنطارا من الذهب. هذا؛ والترجي طلب المحبوب المتوقع حصوله، كقولك: لعل زيدا هالك.
{إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي: صاحب حظ، والحظ: الجد، وهو البخت، والدولة، وصفوه بأنه رجل مجدود مبخوت، يقال: فلان ذو حظ، وحظيظ، ومحظوظ، وما الدنيا إلا أحاظ، وجدود. هذا؛ والحظ ضد النحس، وعليه قول أبي العلاء المعري:[الكامل] لا تطلبن بغير حظ رتبة
…
قلم الأديب بغير حظ مغزل
سكن السما كان السماء كلاهما
…
هذا له رمح وهذا أعزل
الإعراب: {فَخَرَجَ:} الفاء: حرف عطف. (خرج): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {قارُونُ}. {عَلى قَوْمِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فِي زِينَتِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل (خرج) المستتر، وجملة:{فَخَرَجَ..} . إلخ معطوفة على جملة:
{قالَ إِنَّما..} . إلخ وما بينهما كلام معترض. {قالَ:} فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا} صلة الموصول لا محل لها. (يا): حرف تنبيه. وقيل: أداة نداء، والمنادى محذوف، والمعتمد الأول. (ليت): حرف مشبه بالفعل. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (ليت) تقدم على اسمها. {مِثْلَ:}
اسمها مؤخر، و (مثل) مضاف، و {ما} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة.
{أُوتِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول، والمفعول الثاني محذوف، والمفعول الأول هو نائب الفاعل، الذي هو {قارُونُ،} والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: مثل الذي أوتيه قارون، والجملة الاسمية:{يا لَيْتَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.
{لَذُو:} اللام: هي المزحلقة. (ذو): خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخامسة، و (ذو) مضاف، و {حَظٍّ} مضاف إليه. {عَظِيمٍ:} صفة {حَظٍّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّهُ..} . إلخ تعليل للتمني، لا محل لها.
الشرح: {وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي: بالثواب، والعقاب، وفناء الدنيا، وبقاء الآخرة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني الأحبار للذين تمنوا مثل ما أوتي قارون.
{وَيْلَكُمْ:} دعاء بالهلاك، استعمل للزجر عما لا يرتضى. {ثَوابُ اللهِ} أي: جزاؤه للمؤمنين المطيعين، وهو الجنة. {خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ:} صدق بوعد الله. {وَعَمِلَ صالِحاً:} هذا احتراس، وقد ذكرته لك مرارا، وهو يفيد: أنه لا بد من العمل الصالح مقرونا بالإيمان. {وَلا يُلَقّاها:}
الضمير فيه للكلمة التي تكلم بها العلماء، أو للثواب، فإنه بمعنى المثوبة، أو للجنة المفهومة من الكلام، أو للإيمان، والعمل الصالح، فإنهما بمعنى السيرة، والطريقة، ومثلها قوله تعالى في سورة (فصلت) رقم [34]:{وَما يُلَقّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} .
هذا؛ وأصل {أُوتُوا:} (أوتيوا) فاستثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان: الياء، والواو، فحذفت الياء، وبقيت الواو. فصار:(أوتوا) ثم قلبت الكسرة ضمة لمناسبة الواو.
هذا؛ و (ويل) كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة، وأصلها في اللغة: العذاب والهلاك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الويل: شدة العذاب. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الويل واد في جهنم، يهوي به الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» . أخرجه الترمذي. هذا؛ والويل مصدر لم يستعمل منه فعل؛ لأن فاءه وعينه معتلتان، ومثله: ويح، وويس، وويب، وهو لا يثنى، ولا يجمع. وقيل: يجمع على: ويلات بدليل قول امرئ القيس: [الطويل] ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
…
فقالت: لك الويلات إنك مرجلي
وإذا أضيفت هذه الأسماء، فالأحسن النصب على المفعولية المطلقة، وإذا لم تضف فالأحسن فيها الرفع على الابتداء، وهي نكرات، وسائغ ذلك؛ لتضمنها معنى خاصا. هذا؛ وويل: نقيض: الوأل، وهو النجاة. وقد ينادى الويل إذا أضيف إلى ياء المتكلم، أو (نا) وسبقته أداة النداء، وانظر:{يا وَيْلَتى} في الآية رقم [72] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وانظر {يا وَيْلَتَنا} في الآية رقم [49] من سورة (الكهف)، ولا تنس: أنه قد أنث الويل في الآيتين المذكورتين. هذا؛ وانظر شرح (الصبر) في الآية رقم [85] من سورة (الأنبياء) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف عطف. (قال): فعل ماض، {الَّذِينَ:} فاعله، {أُوتُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق. {الْعِلْمَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها.
{وَيْلَكُمْ:} مفعول مطلق لفعل محذوف. وقال أبو البقاء: مفعول به لفعل محذوف، أي ألزمكم الله ويلكم. والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {ثَوابُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله؛ لأنه بمعنى: إثابة الله لكم. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ. {لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {خَيْرٌ،} و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام. {آمَنَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من)، وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية مع المتعلق المحذوف صلة (من) أو صفتها، وجملة:
{وَعَمِلَ صالِحاً:} معطوفة عليها، والكلام {وَيْلَكُمْ..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف استئناف. (لا): نافية.
{يُلَقّاها:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، و (ها): ضمير متصل في محل نصب مفعول به ثان. {إِلاَّ:} حرف حصر. {الصّابِرُونَ:} نائب فاعل وهو المفعول الأول مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من مرجع الضمير المنصوب، وهو أولى، والرابط: الواو والضمير.
الشرح: (خسفنا به) أي: بقارون، والخسف: انهيار الأرض، وخسف المكان: ذهب في الأرض، وبابه: جلس، وخسف الله به الأرض من باب: ضرب، أي: غاب به فيها، وخسوف القمر: ذهاب ضوئه. هذا؛ والخسف: النقصان، والخسف: الذلة، والمهانة، والحقارة، قال الشاعر:[البسيط] ولا يقيم على ضيم يراد به
…
إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته
…
وذا يشج فلا يرثي له أحد
{فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ:} جماعة من الناس، وهي اسم جمع لا واحد له من لفظه مثل:
قوم، وفريق، ومعشر
…
إلخ؛ ولذا أعاد عليه الضمير بلفظ الجمع، والمراد: فما كان له أعوان يدفعون عنه عذاب الله. {وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} أي: الممتنعين من عذابه.
تنبيه: كان قارون ابن عم موسى كما ذكرت لك فيما سبق، وكان قد آمن به، وكان من السبعين الذين اختارهم موسى للمناجاة، فسمع كلام الله تعالى، وكان أعلم بني إسرائيل بعد موسى، وهارون على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام، وأقرأ هم للتوراة، وأكملهم، فابتلاه الله بالغنى، وجمع المال، فبغى، وطغى، وكان موسى يداريه للقرابة التي بينهما، وهو يؤذيه كل وقت، ولا يزيد إلا عتوا، وتجبرا، ومعاداة لموسى عليه السلام -حتى بنى دارا، وجعل لها بابا من ذهب، وضرب على جدرانها صفائح الذهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون، فيطعمهم الطعام، ويحدثونه، ويضاحكونه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت فريضة الزكاة على موسى؛ أتاه قارون، فصالحه على كل ألف دينار عنها دينار، وعلى كل ألف درهم عنها درهم، وعلى كل ألف شاة عنها شاة، وكذلك سائر الأشياء، انتهى. أقول: والمشهور: أن الزكاة كانت مفروضة على بني إسرائيل بمقدار الربع من جميع أصناف المال، ويظهر أن موسى عليه السلام صالحه على ما ذكر لما رأى من شحه، وبخله.
ثم رجع قارون إلى بيته، وماله بعد المصالحة المذكورة، فحسب ماله، فوجد المال المطلوب إخراجه زكاة كثيرا، فلم تسمح نفسه بذلك، فجمع بني إسرائيل، وقال لهم: إن موسى أمركم بكل شيء، فأطعتموه، وهو يريد أن يأخذ أموالكم. فقالوا له: أنت كبيرنا فمرنا بما شئت، قال: آمركم أن تأتوا فلانة البغي، وتجعلوا عليكم لها جعلا على أن تقذف موسى بنفسها،
فإذا فعلت ذلك؛ خرج عليه بنو إسرائيل، فرفضوه. فدعوها، فجعل لها قارون ألف دينار، وألف درهم. وقيل: طستا من ذهب، وقيل: قال لها قارون: أنزلك بيتي، وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل. قالت: نعم، فلما كان الغد، وهو يوم عيد لهم، قام موسى -على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام -خطيبا، فقال: من سرق قطعنا يده، ومن زنى غير محصن جلدناه، ومن زنى، وهو محصن؛ رجمناه إلى أن يموت. فقال قارون: وإن كنت أنت، قال: وإن كنت أنا. قال: فإن بني إسرائيل يزعمون: أنك فجرت بفلانة البغي، قال موسى: ادعوها فلما جاءت، قال لها موسى: أسألك بالله الذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة إلا صدقت، فتداركها الله بالتوفيق.
فقالت في نفسها: أحدث توبة أفضل من أن أوذي رسول الله. فقالت: لا والله، ولكن قارون جعل لي جعلا على أن أقذفك بنفسي! فخر موسى ساجدا يبكي، ويقول: اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي! فأوحى الله إليه: إني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت. فقال موسى: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون، كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليثبت مكانه، ومن كان معي فليعتزل، فاعتزلوا قارون، فلم يبق معه إلا رجلان، وقيل: كان على سريره، وفرشه فأخذته الأرض حتى غيبت سريره، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق.
وأصحاب قارون يتضرعون إلى موسى، وقارون يناشده الله، والرحم؛ حتى قيل: إنه ناشده أربعين مرة. وقيل: سبعين مرة، وموسى في ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأطبقت عليهم الأرض، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام: ما أغلظ قلبك! يستغيث بك قارون سبعين مرة، فلم تغثه، أما وعزتي، وجلالي لو استغاث بي مرة لأغثته! وفي بعض الآثار، لا أجعل بعدك الأرض طوعا لأحد.
قال قتادة: خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قائمة رجل، لا يبلغ قرارها إلى يوم القيامة. وأصبح بنو إسرائيل يقولون فيما بينهم: إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره، وكنوزه، وأمواله، فدعا الله موسى حتى خسف بداره، وكنوزه، وأمواله. وقد ذكر في فتح الباري شرح البخاري نكتة لطيفة، وهي أن مقتضى هذا الحديث: أن الأرض لم تأكل جسده، فيمكن أن يلغز، ويقال لنا: كافر لا يبلى جسده بعد الموت، وهو قارون. والله أعلم، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [69] من سورة (الأحزاب).
الإعراب: {فَخَسَفْنا:} الفاء: حرف استئناف. (خسفنا): فعل، وفاعل. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. (بداره): جار ومجرور، معطوفان عليهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {الْأَرْضَ:} مفعول به، والجملة الفعلية:{فَخَسَفْنا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَما:} الفاء: حرف عطف. (ما): نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {لَهُ:} جار
ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} مقدم. {مِنْ:} حرف جر صلة. {فِئَةٍ:} اسم {كانَ} مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. هذا؛ وإن اعتبرت {كانَ} تامة ف {فِئَةٍ} فاعلها، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من {فِئَةٍ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. {يَنْصُرُونَهُ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر على اللفظ، أو في محل رفع على المحل صفة:
{فِئَةٍ} . {مِنْ دُونِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة العائدة على {فِئَةٍ} . و {دُونِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {وَما:} الواو: واو الحال، (ما): نافية، {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى قارون. {مِنَ المُنْتَصِرِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ،} وجملة: {وَما كانَ..} . إلخ، في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {وَأَصْبَحَ} أي: صار؛ فليس المراد التوقيت في الصباح. {الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ:}
منزلته، وهو ما كان فيه من النعيم، والزينة، والتفاخر بالأموال، والتعاظم بالذهب، والفضة، والعمارات الشامخة، والفرش الوثيرة. {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ..}. إلخ: يبسط، ويقدر بمقتضى مشيئته، لا لكرامة تقتضي البسط، ولا لهوان يوجب القبض، فإن القوم الذين شاهدوا قارون في زينته لما شاهدوا ما نزل به من الخسف؛ تنبهوا لخطئهم في تمنيهم، مثل ما أوتي قارون حيث علموا: أن بسط الرزق لا يكون لكرامة الإنسان على الله، ولا تضييقه لهوانه عليه، فتعجبوا من أنفسهم: كيف وقعوا في مثل هذا الخطأ، ثم ابتدءوا يقولون: كأن الله يبسط الرزق
…
إلخ، والمعنى: ليس الأمر كما زعمنا من أن البسط في الرزق ينبئ عن الكرامة، والقبض ينبئ عن الهوان، بل كان بمقتضى مشيئته، وحكمته. هذا؛ و {تَمَنَّوْا} أرادوا، وأحبوا، ويأتي (تمنى) بمعنى: قرأ، وتلا قال الشاعر في عثمان-رضي الله عنه:[الطويل] تمنّى كتاب الله أوّل ليلة
…
تمنّي داود الزّبور على رسل
أي: قرأ كتاب الله، ومثله قول حسان بن ثابت-رضي الله عنه:[الطويل] تمنّى كتاب الله أول ليلة
…
وآخرها لاقى حمام المقادر
{لَوْلا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا} أي: بالإيمان، والرحمة، وعصمنا من مثل ما كان عليه قارون من البغي والبطر. هذا؛ وقرئ:«(لولا منّ الله لخسف بنا)» أي: لما يحصل فينا من الغطرسة، والبغي
المتولد عن الغنى، كقوله تعالى:{كَلاّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى} . {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ} أي: الجاحدون لنعمة الله، أو المكذبون برسله، وبما وعد لهم من ثواب الآخرة.
هذا؛ {وَيَقْدِرُ} بمعنى: يضيق، ويفقر من المال. قال تعالى:{اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ} وقال جل ذكره: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} . أما (وي) فقد قال ابن جني-رحمه الله-في المحتسب: في: {وَيْكَأَنَّهُ} ثلاثة أقوال: منهم من جعلها كلمة واحدة، فلم يقف على (وي)، ومنهم من يقف على:(وي)، ويعقوب يقف على:(ويك) وهو مذهب أبي الحسن، والوجه فيه عندنا قول الخليل، وسيبويه، وهو أن:(وي) على قياس مذهبهما اسم سمي به الفعل، فكأنه اسم فعل بمعنى: أعجب، ثم ابتدأ، فقال:{وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ} ف: (كأنّه) هنا إخبار عار من معنى التشبيه، ومعناه: إن الله يبسط الرزق، و:(وي) منفصلة من (كأن)، وعليه بيت الكتاب، وأنشد قول سعيد بن زيد الصحابي أحد العشرة المبشرين بالجنة، رضي الله عنه:[الخفيف] وي كأن من يكن له نشب يح
…
بب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ
هذا كلامه، وهو خلاف ما صرح به سيبويه، قال: سألت الخليل عن قوله تعالى: {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ} وعن قوله تعالى: {وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ..} . إلخ، فزعم أنها مفصولة من كأنّ، والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا، فتكلموا على قدر علمهم، أو نبهوا فقيل لهم: أما يشبه أن يكون هذا عندكم كذا، والله أعلم.
قال النحاس: يريد: أن معنى (وي) تنبيه يقولها الإنسان حين يستنكر أمرا، أو يستعظمه، فيقول:«وي!» فتكون (ويكأنّ) مركبة من (وي) للتنبيه، ومن (كأنّ) للتشبيه، وكذلك قال الأعلم. انتهى. بغدادي بتصرف. وقال الفراء: هي كلمة تقرير، كقولك: أما ترى إلى صنع الله، وإحسانه! وذكر أن أعرابية قالت لزوجها: أين ابنك ويلك؟! فقال: وي كأنه وراء البيت، أي:
أما ترينه وراء البيت! هذا؛ وعلى قول يعقوب: إن الوقف على: (ويك) جاء قول عنترة العبسي في معلقته رقم [99]: [الكامل] ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
…
قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
وعليه فالكاف حرف خطاب مضمومة إلى (وي) وأنه بمعنى: لأنه. وبقي قول آخر للكوفيين، وهو: أن (ويك) بمعنى: ويلك، بل وهو أصلها، فحذفت اللام، واتصلت الكاف ب:(وي) وفيه بعد في المعنى، والإعراب؛ لأن القوم لم يخاطبوا في الآية أحدا بخلاف بيت عنترة، ولأن حذف اللام من هذا لا يعرف، ولأنه كان يجب أن تكون «إن» مكسورة؛ إذ لا شيء يوجب فتحها. انتهى. من هنا وهناك. وقد ذكر الجمل الأقوال كلها باختصار، وإيجاز، والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.
الإعراب: {وَأَصْبَحَ:} الواو: حرف عطف، (أصبح): فعل ماض ناقص. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع اسمها. {تَمَنَّوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مَكانَهُ:} مفعول به، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {بِالْأَمْسِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وأجيز تعليقهما بمحذوف حال من:{مَكانَهُ،} {يَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية مع مقولها في محل نصب خبر (أصبح). هذا؛ وأجيز اعتبار (أصبح) تامة. وليس بشيء. وجملة:{وَأَصْبَحَ..} . إلخ، معطوفة على جملة:
(خسفنا
…
) إلخ لا محل لها مثلها.
{وَيْكَأَنَّهُ:} فيها أوجه، ومذاهب: أحدهما: أن (وي) اسم فعل مضارع بمعنى: أعجب مبني على السكون، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا، تقديره:«أنا» ، والكاف حرف تشبيه وجر، و (أن) حرف مشبه بالفعل. و {اللهَ} اسمها، والجملة الفعلية بعدها في محل رفع خبرها، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار، والمجرور متعلقان باسم الفعل (وي) والمعنى: أعجب؛ لأن الله يبسط
…
إلخ.
الثاني: أن (وي) اسم فعل مضارع مثل الأول، و (كأن) حرف مشبه بالفعل، و {اللهَ} اسمها، والجملة الفعلية خبرها، إلا أن معنى التشبيه ذهب منها، وصارت للخبر، واليقين.
والثالث: أن (ويك) كلمة برأسها؛ أي: هي اسم فعل مضارع مثل الأول، والثاني، والكاف حرف خطاب، لا محل له، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي فعل محذوف، التقدير: اعلم: أن الله يبسط
…
إلخ. قال هذا الأخفش.
الرابع: أن (ويك) مفعول مطلق عامله محذوف، وهذا على أن أصلها:«ويلك» وفيه بعد في المعنى، والإعراب، كما رأيت في الشرح.
والخامس: اعتبار: {وَيْكَأَنَّ} كلمة مستقلة بسيطة عاملة عمل «أنّ» ، و {اللهَ} اسمها، وجملة:{يَبْسُطُ الرِّزْقَ،} في محل رفع خبرها على جميع أوجه الإعراب المتقدمة، والرابط رجوع فاعل {يَبْسُطُ،} {لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: للذي، أو لشخص يشاؤه، {مِنْ عِبادِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف، و (من) بيان لما أبهم في:
(من)، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَيَقْدِرُ:} الواو: حرف عطف. (يقدر):
فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله) والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{يَبْسُطُ..} . إلخ، فهي في محل رفع مثلها.
{لَوْلا:} حرف امتناع لوجود. {وَيْكَأَنَّ:} حرف مصدري، ونصب. {لِمَنْ:} فعل ماض، و {اللهَ:} فاعله، {عَلَيْنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و:{وَيْكَأَنَّ} والفعل {لِمَنْ} في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ. هذا؛ وقرأ الأعمش: «(لولا منّ الله)» بحذف {وَيْكَأَنَّ،} ورفع (منّ) على الابتداء، وإضافته إلى لفظ الجلالة. وعلى الوجهين فخبر المبتدأ محذوف، تقديره:
لولا من الله علينا موجود. {لَخَسَفَ:} اللام: واقعة في جواب: {لَوْلا} . (خسف): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} وقرئ بالبناء للمجهول. {بِنا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل (خسف) على بنائه للمعلوم، وهما في محل نائب فاعل على بنائه للمجهول، والجملة الفعلية جواب {لَوْلا،} لا محل لها، و {لَوْلا} ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ:} إعراب هذه الجملة مثل سابقتها، وهي توكيد لها.
الشرح: {تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ} أي: الجنة، والإشارة تعظيم لها، وتفخيم لشأنها، والمعنى:
تلك التي سمعت بذكرها، وبلغك وصفها. {نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} أي: رفعة وتكبرا على الإيمان، والمؤمنين، كتكبر فرعون. {وَلا فَساداً:} عملا بالمعاصي، كالذي حصل من قارون؛ حيث افترى على موسى الافتراءات. {وَالْعاقِبَةُ} أي: المحمودة. وقد روي عن عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنه-أنه كان يردد هذه الآية حتى قبض. وعن الفضيل: أنه قرأ هذه الآية، ثم قال: ذهبت الأماني هاهنا.
هذا؛ والطماع في رحمة الله من دون عمل صالح، من يجعل العلو لفرعون، متعلقا بقوله تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} والفساد لقارون متعلقا بقوله تعالى: {وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ،} ويقول: من لم يكن مثل فرعون، وقارون؛ فله الدار الآخرة؛ أي: الجنة، ولا يتدبر قوله تعالى:{وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} كما تدبره الفضيل، وعمر رحمهما الله تعالى.
الإعراب: {تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الدّارُ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. {الْآخِرَةُ:}
صفة: {الدّارُ} . {نَجْعَلُها:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، و (ها): مفعول به أول. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني.
{لا:} نافية، {يُرِيدُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {عُلُوًّا:} مفعول به. {فِي الْأَرْضِ:} جار ومجرور متعلقان ب: {عُلُوًّا،} أو بمحذوف صفة له. {وَلا:} الواو: حرف عطف. {لا:} زائدة لتأكيد النفي. {فَساداً:}
معطوف على: {عُلُوًّا،} والجملة الاسمية: {تِلْكَ..} . إلخ، مستأنفة، لا محل لها. {وَالْعاقِبَةُ:}
الواو: حرف استئناف. (العاقبة): مبتدأ. {لِلْمُتَّقِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وهو أقوى من العطف على الجملة السابقة، وأقوى من اعتبارها حالا، وجملة:{نَجْعَلُها..} . إلخ في محل رفع خبر: {تِلْكَ} .
الشرح: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها:} ذاتا، وصفة، وقدرا، وانظر الآية رقم [89] من سورة (النّمل)، ففيها الدواء الشافي لقلبك. {وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ،} انظر الآية رقم [90] من سورة (النمل) أيضا. {فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ:} وضع فيه الظاهر موضع الضمير تهجينا لحالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم، وفيه زيادة تبغيض السيئة إلى قلوب السامعين. {إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي: إلا مثل ما كانوا يعملون، وهذا من فضله العظيم، وكرمه العميم أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها، ويجزي الحسنة بعشر أمثالها، وبسبعمائة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم.
ووجه المناسبة بين هذه الآية، والتي قبلها: أن الله تعالى لما حكم بأن العاقبة للمتقين؛ أكد ذلك بوعد المحسنين، ووعيد المسيئين، ثم وعده بالعاقبة الحسنى في الدارين. هذا؛ والحسنة:
ما يحمد فاعله شرعا، وسميت حسنة؛ لحسن وجه صاحبها عند رؤيتها يوم القيامة، والمراد بالحسنة: المقبولة الأصلية المعمولة للعبد، أو ما في حكمها، كما لو تصدق عنه غيره.
وأما السيئة، فهي: ما يذم فاعلها شرعا، صغيرة كانت، أو كبيرة، وسميت سيئة؛ لأن فاعلها يساء بها عند المجازاة عليها في الدنيا، أو في الآخرة، وأصلها: سيوئة، فقل في إعلالها:
اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء.
الإعراب: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها:} انظر الآية رقم [89] من سورة (النمل)، والجملة التالية فإنها مثلها بلا فارق، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَمَنْ:} الواو: حرف عطف. {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {جاءَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {بِالسَّيِّئَةِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية، {يُجْزَى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع نائب فاعل، وهو المفعول الأول، {عَمِلُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {السَّيِّئاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة
نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجملة:{عَمِلُوا السَّيِّئاتِ} صلة الموصول، لا محل لها. {إِلاّ:} حرف حصر. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان، وهي في الأصل مضاف إليه، والمضاف محذوف.
التقدير: إلا مثل الذي، أو: مثل شيء، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْمَلُونَ} مع المفعول المحذوف في محل نصب خبر (كان).
هذا؛ وإن اعتبرت {ما} مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به ثان.
وهو في الأصل مضاف إليه. والمضاف محذوف، التقدير: إلا مثل عملهم، والجملة الفعلية:
{فَلا يُجْزَى..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط، وقيل: جملة الجواب، وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين.
هذا؛ وإن اعتبرت {مَنْ} اسما موصولا فتكون جملة: {جاءَ بِالسَّيِّئَةِ} صلتها، وجملة:
(لا يجزى
…
) إلخ في محل رفع خبرها، ودخلت الفاء على خبرها؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية على الاعتبارين معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
الشرح: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ:} أوجب عليك تلاوته، وتبليغه والعمل به، والمعنى: إن الذي حملك صعوبة هذا التكليف لمثيبك عليها ثوابا، لا يحيط به الوصف. {لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ:} أيّ معاد! وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه. وعن أبي سعيد الخدري، وابن عباس-رضي الله عنهما: لرادك إلى الجنة؛ لأنه دخلها ليلة الإسراء، والمعراج. وقيل:
لأن أباه آدم خرج منها.
هذا؛ وقول آخر: {لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ} إلى مكة، وهو قول جابر بن عبد الله، وابن عباس، ومجاهد، وغيرهم. قال مقاتل: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الغار ليلا مهاجرا إلى المدينة في غير الطريق مخافة الطلب، فلما رجع إلى الطريق، ونزل بالجحفة، عرف الطريق إلى مكة، فاشتاق إليها، فنزل جبريل الأمين-عليه السلام-فقال له: أتشتاق إلى مكة؟ قال: نعم، فأوحاها إليه. قال القتبي: معاد الرجل بلده؛ لأنه ينصرف منه، ثم يعود، وعليه فالآية الكريمة ليست مكية، ولا مدنية؛ لأنها نزلت بالجحفة. وفيها يتجلى مقدار الحب، والحنين للأوطان، ومما يؤكد هذا قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [66]، {وَلَوْ أَنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} حيث سوى الله بين قتل أنفسهم، وبين الخروج من ديارهم. وقال
تعالى حكاية عن قول قوم طالوت: {وَما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا} . الآية رقم [246]، من سورة (البقرة)، وقال بعضهم: من أمارات العاقل بره لإخوانه، وحنينه لأوطانه، ومداراته لأهل زمانه. والشعر العربي طافح بالحنين إلى الأوطان، أكتفي بقول أبي تمام:[الكامل] نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
…
ما الحبّ إلا للحبيب الأوّل
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
…
وحنينه أبدا لأوّل منزل
{قُلْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: قل يا محمد للمشركين: {رَبِّي أَعْلَمُ..} . إلخ: فإن الله لما وعد النبي صلى الله عليه وسلم الردّ إلى معاد، قال له: قل للمشركين: {رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى:} وما يستحقه من الثواب، والتأييد، والنصر على الأعداء، {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ:} وما يستحقه من الإذلال والإهانة في الدنيا، والعذاب الشديد في العقبى. هذا؛ وفي ختم السورة بهذه الآية بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم، برده إلى مكة فاتحا منتصرا مظفرا في وقت كان فيه خائفا من لحاق قريش؛ وهو في طريق هجرته إلى المدينة المنورة.
تنبيه: هذه الآية اتخذها عبد الله بن سبأ اليهودي الخبيث ذريعة في تفرقة المسلمين وجعلهم شيعا، فإنه انتحل الإسلام، وجعل يطوف في البلاد الإسلامية في عهد عثمان بن عفان-رضي الله عنه-ويقول: إن محمدا يعود إلى الدنيا قبل يوم القيامة كما يرجع عيسى إلى الدنيا، ومحمد أحق بالرجعة منه، شأنه في ذلك شأن بولص اليهودي الذي انتحل النصرانية، وجعلهم شيعا، وقد سار أبناء الخبيث سيرته بعد موته حتى ألّهوا علي بن أبي طالب-رضي الله عنه وكرم الله وجهه-وتم لهم ما أرادوا من جعل المسلمين شيعا، وفرقا، وهناك من يقدّسه ويعظمه.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل، {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسم {إِنَّ} . {فَرَضَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} وهو العائد.
{عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْقُرْآنَ:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {لَرادُّكَ:} اللام: هي المزحلقة. (رادك): خبر {إِنَّ،} والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، {إِلى مَعادٍ:} جار ومجرور متعلقان ب (رادك)، والجملة الاسمية:{إِنَّ الَّذِي..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها. {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، {رَبِّي:} مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَعْلَمُ:} خبر المبتدأ. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون
في محل نصب مفعول به ل {أَعْلَمُ} على تأويله ب: «عالم» ، أو هو مفعول به لفعل محذوف، تقديره: يعلم، وإنما احتيج إلى ذلك؛ لأن {أَعْلَمُ} لا ينصب المفعول به. {جاءَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} وهو العائد أو الرابط. {بِالْهُدى:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة {مَنْ} أو صفتها. {وَمَنْ:} الواو: حرف عطف. {مَنْ:} معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {فِي ضَلالٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {مُبِينٍ:} صفة: {ضَلالٍ،} والجملة الاسمية: {هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} صلة {مَنْ،} أو صفتها، والجملة الاسمية:{رَبِّي..} .
إلخ في محل نصب مقول القول. وجملة: {قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَما كُنْتَ تَرْجُوا:} تأمل، وتتوقع. وانظر الآية رقم [21] من سورة (الفرقان) {أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ} أي: ما كنت قبل النبوة، ونزول الوحي تؤمّل أن ينزل عليك القرآن من السماء. {إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي: ولكن أنزله الله عليك رحمة، وفضلا، وكرما، {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ} أي: معاونا، ومساعدا للكافرين على ظلمهم، وفسوقهم، وفسادهم. وانظر الآية رقم [17] تجد ما يسرك. هذا؛ وقيل: نزلت الآية الكريمة حين دعا كفار قريش النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائه، فذكره نعمه عليه، ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: الخطاب في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أهل دينه. انتهى. وهذا المعنى يتكرر في آيات الله، كما في الآية التالية.
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. {كُنْتَ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تَرْجُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يُلْقى:} فعل مضارع مبني للمجهول منصوب ب {أَنْ،} وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْكِتابُ:} نائب فاعل، و {أَنْ} المصدرية والفعل {يُلْقى} في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، وجملة:{تَرْجُوا..} . إلخ في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنْتَ تَرْجُوا..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. وإن اعتبرتها في محلّ نصب حال من ضمير المخاطب في الآية السابقة؛ فلست مفندا، والرابط: الواو، والضمير. {إِلاّ:} حرف حصر بمعنى: «لكن» .
{رَحْمَةً:} مفعول لأجله، والعامل محذوف، والتقدير: لكن ألقاه رحمة منه. ويجوز أن يكون الاستثناء محمولا على المعنى، كأنه قال: وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة، أي: لأجل الترحم.
{فَلا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، وانظر الآية رقم [16].
(لا): ناهية جازمة. {تَكُونَنَّ:} فعل مضارع ناقص مبني على الفتح في محل جزم ب:
(لا) الناهية، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» ، والنون للتوكيد حرف لا محل له.
{ظَهِيراً:} خبر {تَكُونَنَّ،} {لِلْكافِرِينَ:} جار ومجرور متعلقان ب: {ظَهِيراً،} وجملة: {فَلا تَكُونَنَّ..} . إلخ، لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط مقدر ب:«إذا» التقدير: وإذا أنعمنا عليك بما أنعمنا فلا تكونن
…
إلخ، وهذا الكلام مستأنف لا محل له.
الشرح: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ} أي: ولا يصرفنك عن قراءة آيات الله، والعمل بها كفار قريش، ومن على شاكلتهم من المجرمين. هذا؛ وانظر صدّ يصدّ في الآية رقم [24] من سورة (النمل)، وقد قرئ «(يصدّنّك)» من: أصده، يصده، وهي لغة في بني كلب، قال ذو الرمة:[الطويل] أناس أصدّوا النّاس بالسّيف عنهم
…
صدود السّواقي عن أنوف الحوائم
{وَادْعُ إِلى رَبِّكَ} أي: ادع الناس إلى دين الله وتوحيده. {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:} انظر ما ذكرته في الآية السابقة عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما.
الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف، (لا): ناهية جازمة. {يَصُدُّنَّكَ:} فعل مضارع مجزوم ب «لا» الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين، والمدلول عليها بالضمة فاعله، والنون حرف لا محل له. {عَنْ آياتِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و {آياتِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.
{بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {بَعْدَ} مضاف، و {إِذْ} ظرف مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {أُنْزِلَتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى:{آياتِ اللهِ،} والتاء للتأنيث حرف لا محل له، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.
{إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية:{وَلا يَصُدُّنَّكَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة لا محل لها مثلها، وهي جملة:{فَلا تَكُونَنَّ..} . إلخ. {وَادْعُ:}
الواو: حرف عطف. (ادع): فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» ، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {إِلى رَبِّكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله
مستتر فيه. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَكُونَنَّ:} فعل مضارع ناقص مبني على الفتح في محل جزم ب: (لا) الناهية، والنون حرف لا محل له، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» ، {مِنَ الْمُشْرِكِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {تَكُونَنَّ} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الشرح: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ:} هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره، كقوله تعالى له:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ،} وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يشرك باتخاذ إله مع الله تعالى، وانظر الآية رقم [213] من سورة (الشعراء) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ:} لا إله موجود في هذا الكون إلا الله تعالى. {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} أي: إلا ذاته، فإن كل ما عداه ممكن هالك في حد ذاته معدوم، والتعبير بالوجه عن الكل مستعمل في العربية، وقال أبو العالية، وسفيان: معناه: إلا ما أريد به وجهه؛ أي: ما يقصد إليه بالقربة، قال الشاعر:[البسيط] أستغفر الله ذنبا لست محصيه
…
ربّ العباد إليه الوجه والعمل
{لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ:} انظر الآية رقم [70] ففيها الكفاية، وفي الآية التفات من خطاب الواحد إلى الجمع.
الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تَدْعُ:} فعل مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، أو هو متعلق بمحذوف مفعول به ثان تقدم على الأول على اعتبار الفعل متعديا إلى مفعولين. و {مَعَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {إِلهاً:} مفعول به، {آخَرَ:} صفة له، والجملة الفعلية:{وَلا تَدْعُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ:} انظر إعرابها في الآية رقم [70]، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وقيل: في محل نصب حال، وهو ضعيف، {كُلُّ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {هالِكٌ:} خبر المبتدأ. {إِلاّ:} أداة استثناء، {وَجْهَهُ:} مستثنى ب: {إِلاّ،} والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها أيضا. {اللهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
{الْحُكْمُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَإِلَيْهِ:} الواو: حرف
عطف. (إليه): جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {تُرْجَعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعل، أو نائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
انتهت سورة (القصص)، شرحا وإعرابا.
والله الموفق والمعين، والحمد لله رب العالمين.