الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأحزاب
سورة الأحزاب، وهي مدنية بالاتفاق، وهي ثلاث وسبعون آية، وألف ومائتان وثمانون كلمة، وخمسة آلاف، وسبعمائة، وتسعون حرفا. انتهى. خازن، وسميت سورة الأحزاب؛ لأن المشركين تحزبوا على المؤمنين من جميع الجهات، كما ستعرفه مفصلا بعونه تعالى.
نزلت السورة الكريمة بشأن غزوة الأحزاب الشهيرة بغزوة الخندق، وبيان خبث بني قريظة، الذين نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان عقاب الله، وانتقامه منهم، وكشفت النقاب عن خبث المنافقين، وإيذائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنهم فيه وفي مناكحته.
وكانت هذه السورة تعدل سورة (البقرة)، وكانت فيها آية الرجم، ولفظها:«الشّيخ والشّيخة إذا زنيا، فارجموهما البتّة نكالا من الله، والله عزيز حكيم» . ذكره أبو بكر الأنباري عن أبي بن كعب-رضي الله عنه-وهذا يحمله أهل العلم على أن الله تعالى رفع من هذه السورة ما يزيد على ما في أيدينا منها، وأن آية الرجم المذكورة رفع لفظها، وحكمها باق إلى يوم القيامة.
فعن عروة بن الزبير عن عائشة-رضي الله عنهما-قالت: كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتي آية، فلما كتاب المصحف لم يقدر منها إلا على ما هي الآن. وقال أبو بكر بن الأنباري: فمعنى هذا من قول أم المؤمنين عائشة: أن الله رفع إليه من سورة الأحزاب ما يزيد على ما عندنا، انتهى. وهذا؛ وجه من وجوه النسخ التي ذكرتها في الآية رقم [106] من سورة (البقرة)، وهذا الوجه مما نسخ لفظه، وبقي حكمه.
وروي عن زرّ بن حبيش قال: قال لي أبيّ بن كعب-رضي الله عنه: كم تعدون سورة الأحزاب؟ قلت: ثلاثا وسبعين آية، قال: فو الذي يحلف به أبيّ بن كعب أن كانت لتعدل سورة (البقرة)، أو أطول، ولقد قرأنا منها آية الرجم: «الشيخ والشيخة
…
» إلخ أراد أبيّ: أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن، وأما ما يحكى من أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة، فأكلتها الداجن، فمن تأليفات الملاحدة، والروافض.
هذا؛ والمراد بالشيخ: الرجل المتزوج، وبالشيخة: المرأة المتزوجة، وإن كانا في سن قبل العشرين سنة، ولقد روي: أن الفاروق-رضي الله عنه-خطب على المنبر، فقال: أيها الناس إن الله بعث محمدا بالحق، وأنزل عليه كتابا هاديا للناس، بشيرا، ونذيرا، وكان فيما أنزل عليه:
«الشيخ والشيخة
…
إلخ» فقرأناها، ووعيناها، ثم قال: إني خشيت أن يطول بالناس زمان، فيقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق لمن زنى، وقد أحصن.
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ:} يقرأ بالهمز: «يا أيها النبيء» ومعناه: يا أيها المخبر عنا، المأمون على أسرارنا، المبلغ خطابنا إلى أحبابنا، وإنما لم يقل: يا محمد، كما قال: يا آدم، يا نوح، يا موسى
…
إلخ تشريفا له، وتنويها بفضله. وتصريحه باسمه في قوله جل ذكره:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ} ونحوه لتعليم الناس بأنه رسول الله. انتهى. نسفي. وينبغي أن تعلم: أن الله لم يناد نبيه صلى الله عليه وسلم بلفظ الرسول إلا في سورة (المائدة) رقم [41 و 67]. {اِتَّقِ اللهَ:} اثبت على تقوى الله، ودم عليه، وازدد منه، فهو باب لا يدرك مداه. {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ:} فيما يطلبون منك، ففيه توهين للدين، وضعف لشوكة المسلمين، فإياك أن تساعدهم، أو تستجيب لهم بشيء أبدا، واحترس منهم، فإنهم أعداء الله، وأعداؤك، وأعداء المؤمنين.
فقد روي: أن الآية نزلت في أبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي الأعور السلمي، وذلك: أنهم قدموا المدينة، فنزلوا على عبد الله بن أبيّ ابن سلول، رأس المنافقين بعد قتال أحد، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن أبيرق، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده الفاروق-رضي الله عنه: ارفض ذكر آلهتنا:
اللات، والعزى، ومناة-أي: لا تذمها-وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربك. فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الفاروق-رضي الله عنه: يا رسول الله! ائذن لي في قتلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني أعطيتهم الأمان، فقال الفاروق: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من المدينة، فنزلت الآية. وفي هذا دليل قاطع على أنه يجوز لعن كافر معين. هذا؛ وإن هذا النص لا يدل على وقوع الذنب من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو خطاب للأمة توجه إلى القائد، والزعيم في صورة الخطاب له صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمته، والدليل أن المقصود بالخطاب هو الأمة، لا شخص الرسول: أن الله ختم الآيات الكريمة بصيغة الجمع حيث قال: {إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً} .
{إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً} أي: بخلقه قبل أن يخلقهم، فهو يعلم مكر الماكرين، وخبث الخبيثين من الكافرين، والمنافقين. {حَكِيماً:} فيما دبر لهم، والحكيم: هو الذي يضع الأمور في مواضعها، فأوامر الله كلها حكم، ونواهيه وزواجره كلها حكم، وما يتذكر إلا أولو الألباب.
هذا؛ و {كانَ} في القرآن الكريم تأتي على أوجه: تأتي بمعنى الأزل، والأبد، وبمعنى المضي المنقطع، وهو الأصل في معناها، وبمعنى الحال، وبمعنى الاستقبال، وبمعنى «صار»
وبمعنى: «حضر» أو «وجد» وترد للتأكيد، وهي الزائدة، وهي هنا بمعنى الاستمرار، فليست على بابها من المضي، وإن المعنى: كان، ولم يزل كائنا إلى يوم القيامة، وإلى أبد الآبدين في الدنيا والآخرة.
هذا؛ والنبي يقرأ بالهمز وبدونه كما رأيت، وهو مأخوذ من النبأ، وهو الخبر. وقيل: بل هو مأخوذ من النّبوة، وهي الارتفاع لأن رتبة النبي ارتفعت عن رتب الخلق. هذا؛ والنبي غير الرسول بدليل عطفه عليه في قوله تعالى في سورة (الحج) رقم [52]:{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ..} . إلخ. وقيل: هو أعم منه؛ لأن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، أما تعريفهما فالرسول: ذكر حر من بني آدم، سليم عن منفر طبعا، أوحي إليه بشرع يعمل به، ويؤمر بتبليغه، فإن لم يؤمر بالتبليغ؛ فهو نبي، وليس رسولا، فنبينا صلى الله عليه وسلم صار نبيا بنزول سورة اقرأ عليه، وبعد ستة أشهر من نزولها صار رسولا بنزول سورة (المدثر) عليه.
هذا؛ ويروى: أن أبا ذر-رضي الله عنه-سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عدد الأنبياء، فقال:«مائة ألف، وأربعة وعشرون ألفا» . قال: كم عدد الرسل منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولهم آدم، وآخرهم نبيكم محمد عليه السلام» . أخرجه الإمام أحمد، وفي بعض ألفاظه اختلاف بسيط. هذا؛ وأربعة منهم من العرب: هم: هود، وصالح، وشعيب، ومحمد صلى الله عليه وسلم. وإسماعيل مستعرب لسكناه مكة مع قبيلة جرهم، وتزوجه منهم بامرأتين. والمذكور من الرسل في القرآن بأسمائهم خمسة وعشرون، ومعرفتهم بأسمائهم واجبة على كل مسلم ومسلمة من المكلفين، وأعني بمعرفتهم: أنه لو عرض اسم رسول على مسلم، فيجب عليه أن يعرف: أهو من المرسلين أم لا؟ هذا؛ وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورة (النساء) رقم [164]: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ،} وقال تعالى في سورة (غافر) رقم [78]: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} .
هذا؛ وقد ذكر في آيات (الأنعام) رقم [83] وما بعدها ثمانية عشر رسولا بأسمائهم من غير ترتيب لا بحسب الزمان، ولا بحسب الفضل؛ لأن الواو العاطفة لا تقتضي الترتيب، وبقي سبعة لم يذكروا في سورة (الأنعام) وقد ذكروا في غيرها، وهم: إدريس، وشعيب، وصالح، وهود، وذو الكفل، وهو ابن أيوب؛ الذي ذكر في سورة (الأنبياء)، ومحمد صلّى الله عليهم جميعا وسلم، فهؤلاء الخمسة والعشرون رسولا هم الذين يجب الإيمان بهم، ومعرفتهم تفصيلا، وقد نظموا في قول بعضهم:[البسيط] حتم على كلّ ذي التّكليف معرفة
…
بأنبياء على التّفصيل قد علموا
في تلك حجّتنا منهم ثمانية
…
من بعد عشر، ويبقى سبعة، وهمو
إدريس هود شعيب صالح وكذا
…
ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
ويعني بقوله في: (تلك حجتنا) آيات الأنعام المذكورة. وينبغي أن تعلم: أن هؤلاء الرسل ليسوا بدرجة واحدة من الفضل؛ بل أرفعهم درجة، وأعلاهم منزلة، أولو العزم منهم، وهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد. وسيد الجميع، وأفضل الخلق قاطبة محمد صلّى الله عليهم جميعا، وسلم تسليما. والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين تجوز عليهم الأعراض البشرية؛ لأنهم من البشر، فهم يأكلون، ويشربون، ويصحون، ويمرضون، وينكحون النساء، ويمشون في الأسواق، وتعتريهم الأعراض البشرية، من ضعف، وشيخوخة، وموت، إلا أنهم يمتازون بخصائص، ويتصفون بصفات عظيمة جليلة، هي بالنسبة لهم من ألزم اللوازم، وهي ما يلي: الصدق، والأمانة، والتبليغ، والفطانة، والعصمة من المعاصي قبل النبوة، وبعدها، والسلامة من العيوب المنفرة.
الإعراب: (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو، أو: أنادي. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب: (يا)، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {النَّبِيُّ:} بعضهم يعرب هذا وأمثاله نعتا، وبعضهم يعربه بدلا، والقول الفصل:
أن الاسم الواقع بعد أي، وبعد اسم الإشارة إن كان مشتقا؛ فهو نعت، وإن كان جامدا؛ فهو بدل، أو عطف بيان، والمتبوع أعني «أي» منصوبا محلا، فكذا التابع، أعني {النَّبِيُّ،} وأمثاله، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الاتباع اللفظية، وإنما أتبعت ضمة البناء مع أنها لا تتبع؛ لأنها وإن كانت ضمة بناء؛ لكنها عارضة، فأشبهت ضمة الإعراب، فلذا جاز إتباعها. أفاده الصبان؛ لأنه قال: والمتجه وفاقا لبعضهم أن ضمة التابع إتباع، لا إعراب، ولا بناء. وقيل: إن رفع التابع المذكور إعراب، واستشكل بعدم المقتضي للرفع، وأجيب بأن العامل يقدر من لفظ عامل المتبوع مبنيا للمجهول، نحو: يدعى، وهو مع ما فيه من التكليف، يؤدي إلى قطع المتبوع. وقيل: إن رفع التابع المذكور بناء؛ لأن المنادى في الحقيقة هو المحلى بال، ولكن لما لم يمكن إدخال حرف النداء عليه توصلوا إلى ندائه بأي، أي مع قرنها بحرف التنبيه، ورده بعضهم بأن المراعى في الإعراب اللفظ، وأن الأول منادى؛ والثاني تابع له، والإعراب السائد الآن أن تقول: مرفوع تبعا للفظ. انتهى. جرجاوي.
هذا؛ والأخفش يعتبر «أيا» في مثل هذه الآية موصولة، و {النَّبِيُّ} خبرا لمحذوف، والجملة الاسمية صلة، وعائد، التقدير: يا من هو النبي، على أنه قد حذف العائد حذفا لازما كما في قول امرئ القيس:[الطويل] ألا ربّ يوم صالح لك منهما
…
ولا سيّما يوم بدارة جلجل
وهذا هو الشاهد، رقم [242] من كتابنا فتح القريب المجيب، وما قاله الأخفش لا يعتد به عند جمهرة النحاة. {اِتَّقِ:} فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها
دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة.
{تُطِعِ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، والفاعل تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {الْكافِرِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {وَالْمُنافِقِينَ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسم {إِنَّ} . {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (الله). {عَلِيماً حَكِيماً:} خبران ل: {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن) والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل للأمر والنهي مؤكدة لمضمون وجوب الامتثال، أو هي مستأنفة، ولا محل لها على الاعتبارين.
{وَاِتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2)}
الشرح: {وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أي: القرآن، وما فيه من الأحكام، والحث على التقوى، والثبات على الطاعة، وترك طاعة الكافرين، والمنافقين فيما يطلبون منك يا محمد!.
{إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً:} وإنما جمع الضمير؛ لأن المراد النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه. هذا؛ ويقرأ الفعل المضارع بالياء، فيكون المراد: الكافرين، والمنافقين الذين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم ما ذكرته في الآية السابقة. هذا؛ وفي الآية الكريمة التفات، فعلى القراءة الأولى بالخطاب يكون الالتفات من المفرد إلى الجمع، وعلى القراءة الثانية يكون الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، التي هي بالجمع أيضا، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَاتَّبِعْ:} الواو: حرف عطف. (اتبع): فعل أمر، وفاعله مستتر فيه تقديره:
«أنت» . {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {يُوحى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل يعود إلى {ما،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ رَبِّكَ:} متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل العائد إلى: {ما،} و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{وَاتَّبِعْ ما يُوحى..} . إلخ معطوفة على جملة: {اِتَّقِ اللهَ..} .
إلخ لا محل لها مثلها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى الله. {بِما:} متعلقان ب: {خَبِيراً} بعدهما، و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو: بشيء تعملونه، وعلى
اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بعملكم. {خَبِيراً:}
خبر {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها تعليل للأمر، وتأكيد لموجبه.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (3)}
الشرح: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ:} أسند أمرك إلى الله، وكله إلى تدبيره، فهو الذي يمنعك من الناس، ويحفظك من إيذائهم. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته تبع له في كل ما تقدم، والتوكل:
تفويض الرجل الأمر إلى من يملك أمره، ويقدر على نفعه، وضره. وقالوا: المتوكل من أن إذا دهمه أمر، لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله، فعلى هذا إذا وقع الإنسان في محنة، ثم سأل غيره خلاصه منها؛ لم يخرج عن حد التوكل؛ لأنه لم يحاول دفع ما نزل به عن نفسه بمعصية الله، وإنما هو من تعاطي الأسباب في دفع المحنة.
{وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً} أي: حافظا، وراعيا، ومعتمدا عليه في المهمات، وملجأ في النوائب، والأزمات. هذا؛ والفعل:(كفى) في هذه الآية ونحوها فهو بمعنى: اكتف، فالباء زائدة في الفاعل عند الجمهور، وهو لازم لا ينصب المفعول به، ومضارعه مثله، كما في قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} الآية رقم [53] من سورة (فصلت)، وأما إذا كان بمعنى: جزى، وأغنى؛ فيكون متعديا لمفعول واحد، وإذا كان بمعنى: وقى؛ فإنه يكون متعديا لمفعولين، كما في قوله تعالى:{وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ} رقم [25] الآتية.
الإعراب: {وَتَوَكَّلْ:} الواو: حرف عطف. (توكل): فعل أمر، وفاعله تقديره:«أنت» .
{عَلَى اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{اِتَّقِ اللهَ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {وَكَفى:} الواو: واو الحال. (كفى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {بِاللهِ:} الباء: حرف جر صلة. (الله): فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {وَكِيلاً:} تمييز.
وقيل: حال، والأول أقوى، والجملة الفعلية:{وَكَفى..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، وإعادة الاسم الكريم بلفظه، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.
الشرح: فقد نفى الله في هذه الآية ثلاثة أمور؛ فخذها بما يلي:
{ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ:} نزلت هذه الجملة في أبي معمر جميل بن معمر الفهري، وكان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع، فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان. وكان يقول: إن لي قلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلما هزم الله المشركين يوم بدر؛ انهزم أبو معمر فيهم، فلقيه أبو سفيان، وإحدى نعليه في يده، والأخرى في رجله، فقال: يا أبا معمر ما حال الناس؟ فقال: انهزموا، فقال: فما بال إحدى نعليك في يدك، والأخرى في رجلك؟ فقال: ما شعرت إلا أنهما في رجلي. فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان؛ لما نسي نعله في يده.
وعن أبي ظبيان، قال: قلنا لابن عباس-رضي الله عنهما: أرأيت قول الله تعالى: {ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ:} ما عنى بذلك؟ فقال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يصلي، فخطر خطرة، فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترون أن له قلبين، قلبا معكم، وقلبا معهم! فأنزل الله {ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ..} . إلخ أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن. هذا؛ والخطر: الوسوسة التي تحصل للإنسان في صلاته. انتهى. خازن. هذا؛ ولا يمكن أن يكون لواحد قلبان: يحب بواحد ويبغض بآخر. بمعنى: أنه يجمع بين الضدين، ومن هذا الباب قول الشاعر:[الكامل] لو كان لي قلبان عشت بواحد
…
وتركت قلبا في هواك يعذّب
{وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ:} وصورة الظهار: أن يقول الرجل لامرأته:
أنت علي كظهر أمي. وقد كان هذا طلاقا في الجاهلية، وفي صدر الإسلام، وسيأتي حكمه، وكفارته وما يترتب عليه في سورة (المجادلة) إن شاء الله تعالى.
{وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ} أي: الذين تتبنونهم أبناءكم حقيقة، وذلك: أن الرجل كان في الجاهلية يتبنى الرجل كالابن المولود، يدعوه إليه الناس، ويرث منه بعد وفاته، وقد نزلت هذه الجملة في نفي تبني النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وكان زيد-رضي الله عنه-فيما روي عن أنس بن مالك وغيره مسبيا من الشام سبته خيل من تهامة، وهو طفل صغير ابن ست سنوات، أو أكثر، وكان مع أمه في زيارة لأخواله، وأبوه وعمه سيدا قومهما، فالذي سباه باعه في مكة على أنه عبد، فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد لعمته خديجة-رضي الله عنها-فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة، وهبته له، ثم إن أباه وعمه قد علما: أنه في مكة عند محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فأتيا بمال كثير ليفدياه به، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم:«خيراه، فإن اختاركما؛ فهو لكما دون فداء» ، وذلك قبل المبعث، فاختار الرق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حريته وقومه، فغضب أبوه وعمه، وقالا: يا زيد تختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك، وعمك؟! قال لهم: نعم. فأراد النبي الكريم أن يطيب خاطرهما، وأن يجبر قلبهما، فقال لهما: هو حرّ.
ولم يكتف بذلك؛ بل أعلن تبنيه لزيد، وقال: يا معشر قريش! أشهدكم: أنه ابني، يرثني،
وأرثه، ويعقل عني، وأعقل عنه، وكان هذا على عادة الجاهلية، فرضي بذلك أبوه، وعمه، وقرّا عينا، وانصرفا. وكان أبوه لما سبي يدور الشام، ويقول:[الطويل] بكيت على زيد ولم أدر ما فعل
…
أحيّ فيرجى أم أتى دونه الأجل؟
فو الله لا أدري وإني لسائل
…
أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل؟
فيا ليت شعري هل لك الدّهر، أوبة؟
…
فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
تذكّرنيه الشمس عند طلوعها
…
وتعرض ذكراه إذا غربها أفل
وإن هبّت الأرياح هيّجن ذكره
…
فيا طول ما حزني عليه وما وجل
سأعمل نصّ العيس في الأرض جاهدا
…
ولا أسأم التطواف، أو تسأم الإبل
حياتي، أو تأتي عليّ منيتي
…
فكلّ امرئ فان وإن غرّه الأمل
وسيأتي من ذكره، وفضله، وشرفه في الآية [36] ما يسرك، ويثلج صدرك. هذا؛ و {أَدْعِياءَكُمْ} جمع: دعي، وهو الولد المتبنّى من أبناء الغير، قال في اللسان: والداعي:
المنسوب إلى غير أبيه، قال الشاعر المسلم يفتخر بإسلامه:[الوافر] دعيّ القوم ينصر مدّعيه
…
ليلحقه بذي النّسب الصّميم
أبي الإسلام لا أب لي سواه
…
إذا افتخروا بقيس، أو تميم
هذا؛ وقد ادعى معاوية بن أبي سفيان زياد بن سمية أخا له، وألحقه بأبيه، قال بعض الشعراء يهجوه:[الوافر] ألا أبلغ معاوية بن حرب
…
مغلغلة عن الرّجل اليمان
أتغضب أن يقال: أبوك عفّ
…
وترضى أن يقال: أبوك زان
هذا؛ والخليع في الجاهلية كان بالعكس، وهو الذي خلعه أهله، وطردوه، وتبرءوا منه لخبثه، فكان الرجل يأتي بابنه في الموسم، ويقول: ألا إني قد خلعت ابني هذا، فإن جر جريرة، أي جنى جناية لم أضمن، وإن جرّ عليه، أي جني عليه لم أطلب، فلا يؤخذ بجرائره.
قال امرؤ القيس في معلقته: [الطويل] وواد كجوف العير قفر قطعته
…
به الذّئب يعوي كالخليع المعيّل
{ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ} أي: إن قولكم للزوجة: هي أم، وللدعي: هو ابن قول تقولونه بأفواهكم، لا حقيقة له؛ إذ الابن لا يكون إلا بالولادة، وكذا الأم لا تكون إلا بالولادة أيضا،
وأيضا لا يكون للإنسان إلا قلب واحد. {وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ} أي: ما هو حق ظاهره، وباطنه.
{وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} أي: يرشد، ويوفق إلى سبيل الهدى، والرشاد.
ومعنى الآية الكريمة: أنه تعالى كما لم يجعل للإنسان قلبين؛ لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما فعلا من أفعال القلوب، فأحدهما فضلة غير محتاج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، فذلك يؤدي إلى اتصاف الإنسان بكونه مريدا كارها، عالما ظانا، موقنا شاكا في حالة واحدة، لم يحكم الله، ولم يرض أيضا أن تكون المرأة الواحدة أمّا لرجل زوجا له؛ لأن الأم مخدومة، والمرأة خادمة وبينهما منافاة، كذلك لم يحكم الله أن يكون الرجل الواحد دعيّا لرجل، وابنا له؛ لأن البنوة أصالة في النسب، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا، وغير أصيل. انتهى. نسفي بتصرف.
هذا؛ والقلب قطعة صغيرة على هيئة الصّنوبرة، خلقها الله في الآدمي، وجعلها محلا للعلم، فيحصي به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار، يكتبه الله بالخط الإلهي، ويضبطه فيه بالحفظ الرباني، حتى يحصيه، ولا ينسى منه شيئا، وهو بين لمّتين: لمّة من الملك، ولمّة من الشيطان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. خرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، وقد مضى في الآية رقم [267] من سورة (البقرة) وهو محل الخطرات، والوساوس، ومكان الكفر، والإيمان، وموضع الإصرار، والإنابة، وموضع الانزعاج، والطمأنينة. والمعنى في الآية: أنه لا يجتمع في القلب الكفر والإيمان، والهدى والضلال، والإنابة والإصرار، وهذا نفي لكل ما توهمه أحد في ذلك من حقيقة، أو مجاز. والله أعلم، وأجل، وأكرم.
هذا؛ و {أُمَّهاتِكُمْ} جمع: أم، والقياس أن يكون جمعها:«أمّات» قال الزمخشري: والهاء مزيدة في: أمّات، كما زيدت في: أراق، فقيل: أهراق، وشذت زيادتها في الواحدة في قول قصي الجد الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم:[الرجز] أمّهتي خندف والياس أبي
…
عند تناديهم بهال وهب
وقال ابن عصفور في الممتع: أما أمّهة، فمنهم من يجعل الهاء زائدة فيه، ومنهم من يجعلها أصلية، فالذي يجعلها زائدة، يستدل على ذلك بأنها في معنى الأم، وأورد بيت قصي، إلا أن الفرق بين أمّهة، وأم: أن أمّهة تقع في الغالب على من يعقل، وقد تستعمل فيما لا يعقل، وذلك قليل جدا، نحو قول السفاح بن بكير:[السريع] قوّال معروف وفعّاله
…
عقّار مثنى أمّهات الرّباع
وأم يقع في الغالب على ما لا يعقل، وقد يقع على العاقل، نحو قول جرير:[الوافر] لقد ولد الأخيطل أمّ سوء
…
على باب استها صلب وشام
ومما يدل أيضا على زيادة الهاء في أمّهة قولهم: أم بينة الأمومة بغير هاء، ولو كانت أصلية لثبتت في المصدر، والذي يجعلها أصلية يستدل على ذلك بما حكاه صاحب العين من قولهم:
تأمّهت أما، فتأمّهت تفعّلت بمنزلة: تنبهت، مع أن زيادة الهاء قليلة جدا، فمهما أمكن جعلها أصلية؛ كان ذلك أولى فيها. والصحيح: أنها زائدة؛ لأن الأمومة حكاها أئمة اللغة، وأما تأمّهت فانفرد بها صاحب العين، وكثيرا ما يأتي في كتاب العين ما لا ينبغي أن يؤخذ به لكثرة اضطرابه، وخلله. انتهى. بعد هذا فالأم تعم من ولدتك، أو ولدت من ولدك؛ وإن علت. ويقرأ:«(أمّهات)» بضم الهمزة وفتح الميم، وهي قراءة العامة، ويقرأ بكسر الهمزة وفتح الميم، وبكسرهما معا.
الإعراب: {ما:} نافية. {جَعَلَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعل. {لِرَجُلٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ:} حرف جر صلة. {قَلْبَيْنِ:} مفعول به مجرور لفظا، منصوب محلا. {فِي جَوْفِهِ:} متعلقان بالفعل: {جَعَلَ،} أو هما متعلقان بمحذوف صفة: {قَلْبَيْنِ،} والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وقد اكتفى الفعل بمفعول واحد؛ لأنه بمعنى خلق، بخلاف ما بعده فإنه بمعنى: صير. وقيل: {لِرَجُلٍ} في محل المفعول الثاني، ولا وجه له. (ما): نافية. {جَعَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهُ} .
{أَزْواجَكُمُ:} مفعول به أول، والكاف في محل جر بالإضافة. {اللاّئِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة: {أَزْواجَكُمُ} . {تُظْهِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {مِنْهُنَّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {أُمَّهاتِكُمْ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والكاف في محل جر بالإضافة؛ وجملة:{وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وجملة:{وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ} معطوفة أيضا، وإعرابها لا خفاء فيه.
{ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له، والميم علامة جمع الذكور. {قَوْلُكُمْ:} خبر المبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {بِأَفْواهِكُمْ:}
متعلقان بالمصدر قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال. {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف.
(الله): مبتدأ. {يَقُولُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله). {الْحَقَّ:} مفعول به، أو هو صفة لمفعول مطلق محذوف، أي: يقول القول الحق، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. والفاعل يعود إلى (الله). {السَّبِيلَ:} منصوب بنزع الخافض، أو هو مفعول به
ثان، والمفعول الأول محذوف اختصارا؛ إذ التقدير: يهدي من يشاء السبيل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} في محل نصب حال من فاعل {يَقُولُ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ} أي: انسبوهم لآبائهم الحقيقيين. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما-قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى نزل:{اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ} فرفع الله حكم التبني، ومنع من إطلاق لفظه، وأرشد بقوله إلى أن الأولى، والأعدل أن ينسب الرجل إلى أبيه نسبا. وقال النحاس: هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التبني، وهو من نسخ السنة بالقرآن، فأمر أن يدعوا من دعوا إلى أبيه المعروف، فإن لم يكن له أب معروف؛ نسبوه إلى ولائه، فإن لم يكن له ولاء معروف؛ قال له: يا أخي. يعني:
في الدين، قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} . هذا؛ والضمير يعود إلى مصدر الفعل المتقدم، مثل قوله تعالى:{اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} .
{فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ} أي: فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم. {فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ} أي: فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم في الدين، فقولوا: هذا أخي، وهذا مولاي، ويا أخي ويا مولاي، يريد الأخوة في الدين، والولاية فيه.
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ} أي: لو نسي أحدكم فنسب إنسانا إلى أبيه من التبني، أو أخطأ في ذلك، وهو أن يسبق لسانه إلى ذلك من غير قصد؛ فلا إثم، ولا مؤاخذة.
وكذلك لو دعوت رجلا إلى غير أبيه، وأنت ترى: أنه أبوه؛ فليس عليك بأس. قاله قتادة.
ولا يجري هذا المجرى من غلب عليه اسم التبني كالحال في المقداد بن عمرو، فإنه كان غلب عليه نسب التبني، فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود، فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية، وعرف به، فلما نزلت الآية قال المقداد-رضي الله عنه: أنا ابن عمرو، ومع ذلك بقي الإطلاق عليه، ومثله كثير، وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة، فإنه لا يجوز أن يقال فيه زيد بن محمد، فإن قاله أحد متعمدا؛ عصى، وإن قاله نسيانا، أو خطأ؛ فلا إثم عليه بدليل نص الآية التي نحن بصدد شرحها، ومن هذا القبيل ما يقوله الأستاذ لتلميذه، وصاحب العمل لعامله: يا بنيّ، فإن كان على سبيل التكريم، أو الرحمة والشفقة؛ فلا إثم عليه، وإن كان يقصد غير ذلك فحرام عليه أن يستعمل هذا اللفظ لمعنى من المعاني المعوجة.
{وَكانَ اللهُ غَفُوراً:} لما سلف منكم، وحصل قبل النهي. {رَحِيماً:} لا يؤاخذكم بالخطإ، ولا يقبل التوبة من المتعمد، فعن سعد بن أبي وقاص، وأبي بكرة-رضي الله عنهما كلاهما يقول: سمعته أذناي، ووعاه قلبي محمدا صلى الله عليه وسلم يقول: «من ادّعى إلى غير أبيه، وهو يعلم:
أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام». رواه مسلم، وغيره. فمحمدا بدل من الضمير المنصوب. وفي حديث أبي ذر-رضي الله عنه-أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«ليس من رجل ادّعى لغير أبيه، وهو يعلمه؛ إلاّ كفر» .
الإعراب: {اُدْعُوهُمْ:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {لِآبائِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {هُوَ أَقْسَطُ:} مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب: {أَقْسَطُ،} و {عِنْدَ} مضاف، و {اللهِ:}
مضاف إليه. {فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (إن): حرف شرط جازم. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَعْلَمُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} وهو فعل الشرط، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {آباءَهُمْ:}
مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:
لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَإِخْوانُكُمْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إخوانكم): خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فهم إخوانكم، والكاف في محل جر بالإضافة. {فِي الدِّينِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من (إخوانكم)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {هُوَ مَوْلاكُمْ:} معطوف على ما قبله مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والكاف في محل جر بالإضافة.
{وَلَيْسَ:} الواو: حرف استئناف. (ليس): فعل ماض ناقص. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب خبر (ليس) تقدم على اسمها. {جُناحٌ:} اسم (ليس) مؤخر.
{فِيما:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {جُناحٌ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(في)، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط الضمير المجرور محلا ب:(في)، وجملة:{وَلَيْسَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {فِيما:} معطوفة على ما قبلها، أو هي مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: الذي تعمدته قلوبكم تؤاخذون به. {تَعَمَّدَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {قُلُوبُكُمْ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة:{فِيما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط
محذوف، انظر تقديره، والجملة الاسمية على اعتبار {فِيما} مبتدأ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والجملة الفعلية:{وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} مستأنفة، لا محل لها. وقيل: في محل نصب حال، وهو ضعيف معنى.
الشرح: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ:} في الأمور كلها، فإنه لا يأمرهم، ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم، ونجاحهم؛ بخلافها؛ فإنها في كثير من الأحيان تأمر بالشر، وبما فيه مضرة لصاحبها {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّي} فلذلك أطلق، فيجب عليهم أن يكون أحبّ إليهم من أنفسهم، وأمره أنفذ فيهم من أمرها، وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها.
روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد غزوة تبوك، فأمر الناس بالخروج، فقال ناس: نستأذن آباءنا وأمهاتنا، فنزلت الآية الكريمة، وفي معنى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته جاء ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا، فجعلت الدّوابّ، والفراش يقعن فيه، وأنا آخذ بحجزكم، وأنتم تقحّمون فيه» .
وعن جابر مثله، وقال:«وأنتم تفلّتون فيه» . أخرج الحديث مسلم، وهذا مثل لاجتهاد نبينا، وحبيبنا صلى الله عليه وسلم في نجاتنا، وحرصه على تخلصنا من الهلكات التي بين أيدينا، فهو أولى بنا من أنفسنا، ولجهلنا بقدر ذلك، وغلبة شهواتنا علينا، وظفر عدونا اللعين بنا؛ صرنا أحقر من الفراش، وأذل من الفراش، ولا حول، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!.
وقيل: معنى: {أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: برعايتهم، والذود عنهم، ومساعدة ضعيفهم، ومعاونة فقيرهم. ويفسر هذا؛ ويؤيده ما رواه أبو هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
{وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ:} شرف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين؛ أي: في وجوب التعظيم، والمبرة، والإجلال، وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن-رضي الله تعالى عنهن-بخلاف الأمهات، وهذه الأمومة لا توجب الميراث كأمومة التبني، وجاز تزويج بناتهن، ولا يجعلن أخوات الناس. وأمّا النظر إليهن، والخلوة بهن؛ فإنه حرام في حقهن، كما في حق
الأجانب، ولا يقال لبناتهن: هن أخوات المؤمنين، ولا لأخواتهن، وإخوانهن هن خالات المؤمنين، وهم أخوالهم. وهن أمهات المؤمنين بما ذكرت من وجوب التعظيم، ويجب على نساء المؤمنين إجلالهن وتعظيمهن أيضا، ولكن لا يقال: أمهات المؤمنات بدليل ما روي عن مسروق: أن امرأة قالت لعائشة: يا أمّه، فقالت: لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم، فبان بذلك أن معنى الأمومة إنما هو تحريم نكاحهن تعظيما لمقام النبوة، وتشريفا لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم.
وانظر الآية رقم [28] الآتية، وما بعدها. هذا؛ وهو تشبيه بليغ، ووجه الشبه متعدد، وهو ما ذكرته مفصلا.
{وَأُولُوا الْأَرْحامِ} أي: ذوو القرابات. {بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ} أي: في الميراث، وكانوا يتوارثون بالهجرة، والتآخي فيما بينهم، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد آخى بين المهاجرين والأنصار، فقد جعل مع كل أنصاري مهاجر، فكان الأنصاري يعطف على أخيه المهاجري عطف الأب على ابنه، والأخ على أخيه، وإذا مات أحدهما؛ ورثه الآخر دون عصبته، حتى نزلت الآية:{وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ} . وهذه الجملة مذكورة بحروفها في الآية الأخيرة من سورة (الأنفال). وقيل في معنى الآية: لا توارث بين المسلم، والكافر، ولا بين المهاجر، وغير المهاجر، وقد ذكرت ذلك في الآية رقم [72] من سورة (الأنفال) وجملة القول: إن هذه الآية ناسخة للتوارث بالأخوة الإسلامية، والهجرة، وصار التوارث بآيات النساء المبينة ذلك، وقد استدل بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام، وهو مذهب أبي حنيفة-رحمه الله تعالى-.
والمراد ب: {كِتابِ اللهِ:} اللوح المحفوظ. وقيل: المراد: القرآن الكريم. وقيل:
المراد: حكم الله، وقضاؤه. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ} أي: الذين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينهم، فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة، والهجرة، وصارت الموارثة بينهم بالقرابة. {إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ:} يريد الإحسان في الحياة، والوصية عند الموت، وذلك: أن الله تعالى لما نسخ التوارث بالحلف، والإخاء، والهجرة؛ أباح أن يوصي لمن يتولاه بما أحب من ثلث ماله. وقيل: معناه: إلا أن توصوا إلى قرابتكم بشيء، وإن كانوا من غير أهل الإيمان، والهجرة.
{كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ} أي: في اللوح المحفوظ، أو في القرآن. وقيل: في التوراة.
والمراد بالإشارة ما ذكر في الآيتين. {مَسْطُوراً:} مكتوبا مثبتا. هذا؛ ومعنى: (أولو) أصحاب، ولا واحد له من لفظه، وإنما واحده:«ذو» المضاف إن كان مرفوعا، و «ذا» المضاف إن كان منصوبا، و «ذي» المضاف إن كان مجرورا.
الإعراب: {النَّبِيُّ:} مبتدأ. {أَوْلى:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، وهو أفعل تفضيل، ففاعله مستتر، تقديره:«هو» . {بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ:}
كلاهما متعلقان ب: {أَوْلى،} والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية مستأنفة، أو
ابتدائية، لا محل لها على الاعتبارين، والجملة الاسمية:{وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها، والهاء فيهما ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَأُولُوا:} الواو: حرف عطف. (أولو): مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و (أولو) مضاف، و {الْأَرْحامِ} مضاف إليه. {بَعْضُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَوْلى:} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ:
(أولو) وإن اعتبرت بعضهم بدلا من: (أولو) ف {أَوْلى} يكون خبره. {بِبَعْضٍ فِي كِتابِ:}
متعلقان ب: {أَوْلى،} و {كِتابِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، وأجيز تعليق {فِي كِتابِ} بمحذوف حال من الضمير في {أَوْلى}. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان ب (أولو الأرحام)، فينتصب على التبيين، أي أعني، أو هما متعلقان ب:{أَوْلى} . فمعنى الأول: وأولو الأرحام من المؤمنين، أولى بالميراث من الأجانب. وعلى الثاني:{وَأُولُوا الْأَرْحامِ،} أولى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ} الأجانب. انتهى. أبو البقاء، ومثله عن السمين. {إِلاّ:} أداة استثناء. {أَنْ تَفْعَلُوا:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَفْعَلُوا} في محل نصب على الاستثناء المنقطع؛ لأنه من غير الجنس، وهو مستثنى من معنى الكلام السابق. {إِلى أَوْلِيائِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان ب:{مَعْرُوفاً،} والكاف في محل جر بالإضافة. {مَعْرُوفاً:} مفعول به، والجملة الاسمية:{وَأُولُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.
{كانَ:} فعل ماض ناقص. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع اسم: {كانَ،} واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {فِي الْكِتابِ:} متعلقان بما بعدهما. {مَسْطُوراً:} خبر: {كانَ،} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها؛ لأنها كالخاتمة لما ذكر من الأحكام، وفيها معنى التوكيد له.
الشرح: {وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ} أي: عهدهم على الوفاء بما حمّلوا من أداء الرسالة، وأن يبشر بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضا، وأن يسدوا النصيحة لمن أرسلوا إليهم.
{وَمِنْكَ:} فهو من عطف الخاص على العام، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقدم على نوح وعلى من بعده؛ لأن هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء؛ لأنهم أولو العزم، وأصحاب الشرائع، فلما كان صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء؛ قدم عليهم، ولولا ذلك؛ لقدم من قدم زمانه. وهذا يشير إلى الحديث الشريف:
«كنت أوّلهم في الخلق، وآخرهم في البعث» . هذا؛ ومعنى «في الخلق» : في الذكر.
{وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً} أي: عهدا وثيقا عظيما على الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالة، وأن يصدق بعضهم بعضا. والميثاق: هو اليمين بالله تعالى، فالميثاق الثاني تأكيد للميثاق الأول باليمين. وقيل: الأول هو الإقرار بالله تعالى، والثاني في أمر النبوة، ونظير هذا قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي} الآية رقم [81] من سورة (آل عمران). هذا؛ وفي الآية استعارة مكنية؛ حيث شبه الميثاق بجرم محسوس، واستعار له شيئا من صفات الأجرام، وهو الغلظ؛ للتنويه بعظم الميثاق، وشدته، ومثل الآية قول أبي ذؤيب الهذلي:[الكامل] وإذا المنية أنشبت أظفارها
…
ألفيت كلّ تميمة لا تنفع
هذا؛ والميثاق: العهد. وقيل: عهد الله إلى خلقه ثلاثة: الأول: العهد الذي أخذه على جميع ذرية آدم في قديم الأزل بأن يقروا بربوبيته، ويعترفوا بألوهيته، وهو قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ..} . إلخ الآية رقم [172] من سورة (الأعراف). والعهد الثاني خص به النبيين، والمرسلين بأن يبلغوا الرسالة، ويقيموا الدين، وهو المذكور في هذه الآية. والعهد الثالث:
خص به العلماء من كل أمة، وهو قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} الآية رقم [187] من سورة (آل عمران)، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [13] من سورة (الشورى) تجد ما يسرك. هذا؛ و {مِيثاقَ} أصله: موثاق، قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة، ومثله قل في: ميعاد، وميزان.
الإعراب: (إذ): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو ظرف لهذا المقدر، وأجاز السمين عطفه على محل {فِي الْكِتابِ} فيكون متعلقا ب:{مَسْطُوراً} معنى، التقدير: كان هذا الحكم مسطورا في الكتاب، وقت أخذنا
…
{أَخَذْنا:} فعل، وفاعل. {مِنَ النَّبِيِّينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
{مِيثاقَهُمْ:} مفعول به، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{أَخَذْنا..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذ) إليها. (منك): جار ومجرور معطوفان على ما قبلهما؛ إذ التقدير: وأخذنا منك. {وَمِنْ نُوحٍ:} معطوفان على ما قبلهما. {وَإِبْراهِيمَ:} معطوف على {نُوحٍ} مجرور مثله، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {وَمُوسى وَعِيسَى:} معطوفان أيضا، وعلامة الجر فيهما الكسرة المقدرة على الألف للتعذر. {اِبْنِ:} صفة عيسى، أو بدل منه، و {اِبْنِ} مضاف، و {مَرْيَمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والتأنيث المعنوي، وجملة:{وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً:} معطوفة على سابقتها، فهي في محل جر مثلها، ومؤكدة لها.
{لِيَسْئَلَ الصّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)}
الشرح: {لِيَسْئَلَ الصّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ:} فيه أربعة، أوجه:
أحدها: ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم؛ حكاه النقاش. وفي هذا تنبيه على أنه إذا كان الأنبياء يسألون، فكيف من سواهم؟!
الثاني: ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم، حكاه علي بن عيسى.
الثالث: ليسأل الأنبياء عليهم السلام عن الوفاء بالميثاق، الذي أخذه عليهم. حكاه ابن شجرة.
الرابع: ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة، كما في قوله تعالى في الآية رقم [6] من سورة (الأعراف):{فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} . وقيل: فائدة سؤالهم:
توبيخ الكفار، كما يقول الله لعيسى عليه السلام:{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ} . انتهى. قرطبي بتصرف.
الإعراب: {لِيَسْئَلَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى الله، و «أن» المضمرة، والمضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: فعلنا ذلك؛ ليسأل الله الأنبياء يوم القيامة عما قالوه لقومهم.
وقيل: متعلقان ب: {أَخَذْنا،} والأول أقوى. {الصّادِقِينَ:} مفعول به. {عَنْ صِدْقِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَأَعَدَّ:} الواو: حرف عطف. (أعد): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله) أيضا. {لِلْكافِرِينَ:} متعلقان بما قبلهما. {عَذاباً:} مفعول به.
{أَلِيماً:} صفة، وجملة:{وَأَعَدَّ..} . إلخ معطوفة على جملة: {أَخَذْنا..} . إلخ من جهة أن بعثة الرسل، وأخذ الميثاق منهم لإثابة المؤمنين، أو هي معطوفة على ما دل عليه {لِيَسْئَلَ} كأن قال:
فأثاب المؤمنين، وأعد للكافرين.
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ:} وهي ما امتن الله به عليهم من خيبة المشركين من كفار قريش، وحلفائهم من قبائل غطفان، وفزارة، وقبائل اليهود الذين تحالفوا، وتعاقدوا على استئصال المسلمين في المدينة المنورة. {إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ:} يعني: القبائل المذكورة الذين تحزبوا على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحربه. {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً:} يعني: الصّبا،
وهي الآتية من الجهة الشرقية، وقد قيل فيها: الصبا ريح، فيها روح، ما هبت على محزون؛ إلا ذهب حزنه. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» . متفق عليه، والدّبور: الريح الآتية من جهة المغرب.
فبعث الله على قريش في تلك الليلة ريحا باردة عاتية، فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الخيم؛ التي أقاموها، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض. {وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها:} هم الملائكة الذين ألقوا الرعب في قلوب المشركين، وكبروا في جوانب عسكرهم، حتى كان سيد كل خباء، يقول: يا بني فلان هلمّ إليّ! فإذا اجتمعوا إليه، قال لهم: النجاء النجاء؛ لما بعث الله عليهم من الرعب، فقال طليحة بن خويلد الأسدي: أما محمد فقد بدأكم بالسحر، فالنجاء فالنجاء! فانهزموا من غير قتال، ويقرأ:{لَمْ تَرَوْها} بالخطاب للمسلمين المجاهدين، ويقرأ بالياء، أي لم يرها المشركون، فيكون التفاتا من الخطاب إلى الغيبة.
{وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً:} رائيا ما تعملون من حفر الخندق، ومصابرتكم الكفار في الجهاد. ويقرأ بالياء، أي: الله بصير بما يعمل المشركون من التحزب، والكيد، والمحاربة، ويكون من جملة الالتفات، وخذ ما يلي:
غزوة الخندق سميت بذلك لحفر الخندق، وتحصن المسلمين داخله، وتسمى: غزوة الأحزاب، سميت بذلك لتحزب قبائل العرب، واليهود من قريش، وتحالفهم معها على استئصال المسلمين في المدينة، ومحو الإسلام. قال موسى بن عقبة: كانت سنة أربع للهجرة، وقال ابن إسحاق: كانت سنة خمس، وبذلك جزم أهل المغازي، ومال البخاري إلى قول موسى بن عقبة، وصادفت شهر آذار سنة 627 م.
وسببها: أنه لما وقع إجلاء بني النضير من المدينة المنورة، واستولى المسلمون على دورهم، وأملاكهم-انظر مطلع سورة الحشر-ذهب جمع منهم، وعلى رأسهم حيي بن أخطب من خيبر؛ حتى قدموا مكة المكرمة، ونزلوا على قريش، وحرضوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنا نكون معكم عليه حتى نستأصله! فقال أبو سفيان: مرحبا، وأهلا، وأحب الناس إلينا من أعاننا على حرب محمد، وعداوته! ثم قال لهم أبو سفيان: يا معشر اليهود! إنكم أهل الكتاب الأول، فأخبرونا: أنحن على الحق، أم محمد؟ فقالوا: بل أنتم على الحق، فأنزل الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ..} . إلخ الآية رقم [50] من سورة (النساء) وما بعدها.
هذا؛ وفي موقف اليهود من قريش، وتفضيلهم وثنيتهم على محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه:«تاريخ اليهود في بلاد العرب» : كان من واجب هؤلاء اليهود أن لا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، وأن لا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي، ولو أدى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطلبهم؛ لأن بني إسرائيل الذين
كانوا منذ عدة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين، والذين نكبوا نكبات لا تحصى: من تقتيل، واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتى من أدوار التاريخ كان من واجبهم أن يضحوا بحياتهم، وكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين؛ هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم إلى عبدة الأصنام، إنما كانوا يحاربون أنفسهم بأنفسهم، ويناقضون تعاليم التوراة؛ التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام، والوقوف منهم موقف الخصومة. انتهى. الدرويش.
فلما قالوا ذلك لقريش؛ سرهم، ونشطوا لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم خرج أولئك اليهود حتى جاءوا غطفان، وقيس بن عيلان، وندبوهم لحرب النبي صلى الله عليه وسلم، فأجابوهم، وخرجت قريش، وقائدهم أبو سفيان، وخرجت غطفان، وقائدهم عيينة بن حصن الفزاري، ولما تهيأ الجميع للخروج؛ ذهب ركب قبيلة خزاعة في أربع ليال حتى أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بما أجمعوا عليه، ولا يبعد أن يكون العباس-رضي الله عنه-قد بعث من قبله رسولا إلى المدينة يخبر النبي بذلك.
فشرع في حفر الخندق بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فإنه قال: يا رسول الله! إنا كنا بفارس إذ حوصرنا؛ خندقنا علينا، فعمل فيه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون؛ حتى أحكموه، وكان النبي يقطع لكل عشرة رجال أربعين ذراعا، ومكثوا في حفره خمسة عشر يوما. وقيل: أربعة وعشرين.
وقيل: شهرا، فلما فرغوا من حفره؛ أقبلت قريش بجموعها، وحلفائها، وجملتهم اثنا عشر ألف مقاتل، فنزلوا حول المدينة، والخندق بينهم وبين المسلمين، فلما رآه المشركون؛ قالوا: هذه مكيدة لم تكن العرب تعرفها. وأخذوا يترامون ويتراشقون مع المسلمين بالنبل، ومكثوا في ذلك الحصار خمسة عشر يوما، وقيل أربعة وعشرين يوما، واشتد الخوف على المسلمين.
ثم إن نعيم بن مسعود-رضي الله عنه-من غطفان جاء ليلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: إني أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:«إنما أنت رجل واحد، ابق مع قومك، وخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» . فخرج-رضي الله عنه-حتى أتى بني قريظة؛ الذين نقضوا العهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وانضموا إلى قريش وحلفائها، وكان نديما لهم في الجاهلية، فقال لهم: يا بني قريظة! قد عرفتم ودّي إياكم، ونصحي لكم! قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم. فقال: إن قريشا، وغطفان جاءوا لحرب محمد، وقد ظاهرتموهم عليه، وإن قريشا وغطفان ليسوا كهيئتكم، البلد بلدكم، به أموالكم، وأولادكم، ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا، وغطفان أموالهم، وأبناؤهم، ونساؤهم بغيره، إن رأوا نهزة، وغنيمة؛ أصابوها، وإن كان غير ذلك؛ لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين هذا الرجل، والرجل ببلدكم، لا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم؛ حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا؛ حتى تناجزوه! قالوا: لقد أشرت برأي، ونصح.
ثم خرج حتى أتى قريشا، فقال لأبي سفيان، ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي إياكم، وفراقي محمدا، فقد بلغني أمر رأيت حقا عليّ أن أبلغكم نصحا لكم، فاكتموا عليّ! قالوا: نفعل. قال: تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم، وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك عنا أن نأخذ من قريش، وغطفان رجالا من أشرافهم، فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم؟ فأرسل إليهم أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم؛ فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.
ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان! أنتم أهلي وعشيرتي، وأحب الناس إليّ، ولا أراكم تتهمونني، قالوا: صدقت! قال: فاكتموا عليّ! قالوا: نفعل، فقال لهم: مثل ما قال لقريش، وحذرهم مثل ما حذرهم. ثم إن أبا سفيان، ومن على شاكلته أرسلوا إلى بني قريظة يقولون لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف، والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، ونفرغ مما بيننا، وبينه، فأرسلوا إليهم: لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا؛ حتى نناجز محمدا، فإننا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتد عليكم القتال أن تسيروا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل، ولا طاقة لنا بذلك من محمد. فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش، وغطفان: تعلمنّ والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحقّ! فأرسلوا إلى بني قريظة، والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا! فإن كنتم تريدون القتال؛ فاخرجوا، فقاتلوا. فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن وجدوا فرصة؛ انتهزوها، وإن كان غير ذلك؛ شمروا إلى بلادهم، وخلوا بينكم، وبين الرجل في بلدكم. فأرسلوا إلى قريش، وغطفان إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا! فأبوا عليهم، وخذل الله عز وجل بينهم. رضي الله عنك، وأرضاك يا نعيم بن مسعود!
ثم بعث الله الرياح في ليلة شاتية، شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح آنيتهم. فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح، وجنود الله بهم، فقال: يا معشر قريش! إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع، والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا، فإني مرتحل. ورجعوا خائبين، كما قال تعالى:{وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً..} . إلخ. وانظر شرح الآيات آية آية؛ يتضح لك ذلك أكثر، فأكثر.
والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.
الإعراب: (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب: (يا)، و (ها): حرف تنبيه، لا محل له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدل من: (أيها)، أو عطف بيان
عليه، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {اُذْكُرُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {نِعْمَةَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {نِعْمَةَ،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب: {نِعْمَةَ،} أو هو متعلق بالفعل {اُذْكُرُوا} على أنه بدل اشتمال من {نِعْمَةَ،} ومثله قوله تعالى: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً} في الآية رقم [103] من سورة (آل عمران). {جاءَتْكُمْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، والكاف مفعول به.
{جُنُودٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذْ} إليها. (أرسلنا): فعل، وفاعل.
{عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {رِيحاً:} مفعول به. {وَجُنُوداً:} معطوف على ما قبله. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَرَوْها:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، و (ها): مفعول به، والفعل بصري، فاكتفى بمفعول واحد، والجملة الفعلية في محل نصب صفة:(جنودا)، وجملة:{فَأَرْسَلْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. (كان):
فعل ماض ناقص. {اللهِ:} اسمها. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {بَصِيراً} بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها، صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:
بالذي، أو بشيء تعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بصيرا بعملكم. {بَصِيراً:} خبر (كان)، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، أو هي معطوفة على ما قبلها، فتكون في محل جر أيضا. هذا؛ ويقرأ الفعل:
{تَعْمَلُونَ} بالياء، فيكون في الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة، وهو مما يرجح الاستئناف.
الشرح: {إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ:} الخطاب للمسلمين الصادقين، وضمير الغيبة للمشركين:
قريش، وحلفائها. والمراد بالجاءين من فوق-أي: من أعلى الوادي من جهة المشرق-: بنو غطفان، وبنو أسد، وبنو فزارة. والمراد بالجاءين من أسفل-أي: من أسفل الوادي من جهة المغرب-: قريش وجاء أبو الأعور السلمي، ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة؛ الذين نقضوا العهد، والميثاق مع النبي صلى الله عليه وسلم. هذا؛ والفعل:«جاء» يستعمل متعديا إذا كان بمعنى: وصل، وبلغ، كما هنا، ولازما: إذا كان بمعنى: حضر، وأقبل، كما في قوله تعالى:{إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} .
{وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ:} مالت عن مستوى نظرها حيرة، وشخوصا، فلم تلتفت إلا إلى عدوها دهشا من شدة الهول. {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ} أي: زالت عن أماكنها من الصدور حتى بلغت الحناجر، وهي الحلاقيم، واحدها: حنجرة، وذلك من شدة الخوف، فإن الرئة تنتفخ من شدة الروع، فترتفع إلى رأس الحنجرة، وهي منتهى الحلقوم، مدخل الطعام، والشراب.
وقيل: إنه مثل يضرب من شدة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر، وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة. {وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا} أي: الأنواع المختلفة من الظن، فظن المؤمنون الصادقون، الثبت القلوب: أن الله منجز وعده في إعلاء دينه، وظن الضعاف الإيمان، والمنافقون: أن المسلمين يستأصلون. والآيات التالية تقص علينا ما تفوهوا به من كلام، وما ظهر منهم من نفاق.
الإعراب: {إِذْ:} بدل من {إِذْ جاءَتْكُمْ..} . إلخ. {جاؤُكُمْ:} ماض، وفاعله، ومفعوله.
والجملة الفعلية في محل جر بإضافة: {إِذْ} إليها. {مِنْ فَوْقِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، والكاف في محل جر بالإضافة. (من أسفل):
معطوفان على ما قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للصفة ووزن أفعل. {مِنْكُمْ:} متعلقان ب: {أَسْفَلَ} . {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف. (إذ): معطوف على ما قبله. {زاغَتِ:} ماض، والتاء للتأنيث. {الْأَبْصارُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذ) إليها، وجملة:{وَبَلَغَتِ..} . إلخ معطوفة عليها، فهي في محل جر مثلها.
{وَتَظُنُّونَ:} الواو: حرف عطف. (تظنون): مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {الظُّنُونَا:} مفعول به، أو هو مفعول مطلق على اعتباره جمع الظن، والألف للإطلاق، وجملة:{وَتَظُنُّونَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها، والمضارع بمعنى الماضي، كما هو ظاهر؛ ليتناسب المتعاطفان.
{هُنالِكَ اُبْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11)}
الشرح: {هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ:} امتحنوا، واختبروا؛ ليتبين المخلص من المنافق، وكان هذا الابتلاء بالخوف، والقتال، والجوع، والبرد، والمحاصرة، والنزال. {وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً} أي: حركوا تحريكا عظيما. قال الزجاج: كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر، والفتح، نحو قلقلته قلقالا وقلقالا، وزلزلوا زلزالا وزلزالا، والكسر أجود؛ لأن غير المضاعف على الكسر، نحو: دحرجته دحراجا.
الإعراب: {هُنالِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب على الظرفية الزمانية، أو على المكانية-وهو أقوى-متعلق بالفعل بعده، وأجيز تعليقه ب:{الظُّنُونَا،} وعليه فالوقف على آخره، وعلى الأول فالوقف على {الظُّنُونَا،} وهو الأقوى. واللام للبعد، والكاف حرف
خطاب، لا محل له. {اُبْتُلِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {الْمُؤْمِنُونَ:} نائب فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَزُلْزِلُوا:} ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {زِلْزالاً:}
مفعول مطلق. {شَدِيداً:} صفة له.
الشرح: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ:} شك، وضعف اعتقاد، فهو يمرض قلوبهم، أي: يضعفها، وذلك بضعف الإيمان فيها، والمرض حقيقة فيما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويوجب الخلل في أفعاله، وقد يؤدي إلى الموت، واستعير هنا لما في قلوبهم من الجهل، وفساد العقيدة. {ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً:} إلا وعدا باطلا، وذلك:
أن طعمة بن أبيرق، ومعتّب بن قشير، وجماعة من المنافقين، قالوا: يعدنا محمد كنوز كسرى، وقيصر، ولا يجرؤ أحدنا أن يخرج للغائط، وإنما قالوا ذلك حينما سمعوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعدهم ذلك عند ضربه الصخرة، وتفتتها، وظهور النار منها، وكانت قد ظهرت في الخندق في الجزء الذي كان يعمل فيه سلمان الفارسي مع جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين-.
هذا؛ والغرور الذي يغر ويخدع الإنسان مما لا يدوم؛ بل يضمحل بسرعة. و {مَتاعُ الْغُرُورِ} كل شيء يتمتع به الإنسان في دنياه، ويتلذذ به من طعام، وشراب، ولباس، ومسكن، وولد، وزوجة
…
إلخ، وانظر {الْغُرُورِ} بفتح الغين في الآية رقم [33] من سورة (لقمان).
وأما {الْمُنافِقُونَ} فهو جمع: منافق، وسمي المنافق منافقا أخذا من نافقاء اليربوع، وهو جحره؛ الذي يقيم فيه، فإنه يجعل له بابين، يدخل من أحدهما، ويخرج من الآخر، فكذلك المنافق يدخل مع المؤمنين بقوله: أنا مؤمن، ويدخل مع الكفار بقوله: أنا كافر. هذا؛ وقد يتصف مؤمن بصفات المنافقين، فيكذب، ويخلف الوعد، ويخون في الأمانة، ويفجر في الخصومة، وما أكثرهم في هذا الزمن، فهذا يقال له: نفاق العمل، وأمّا الأول؛ فيقال له: نفاق العقيدة، لأنه يظهر الإسلام، ويبطن الكفر، وهو أخبث من الكفر، وعقابه أشدّ منه، قال الله تعالى:{إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ} وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من نفاق العمل والاتصاف به؛ لأنه يجر إلى نفاق العقيدة، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإن صام، وصلّى، وحجّ، واعتمر، وقال: إني مسلم» . أخرج بعضه البخاري، وبعضه مسلم، وأخرجه أبو يعلى من حديث أنس رضي الله عنه.
الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف. (إذ): معطوف على سابقه. {يَقُولُ:} فعل مضارع. {الْمُنافِقُونَ:} فاعله مرفوع
…
إلخ. والجملة الفعلية في محل جر بإضافة: (إذ) إليها.
(الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع معطوف على ما قبله. {فِي قُلُوبِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {مَرَضٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها. {ما:} نافية. {وَعَدَنَا:} فعل ماض، و (نا):
مفعول به أول. {اللهُ:} فاعله. {وَرَسُولُهُ:} معطوف عليه، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {إِلاّ:} حرف حصر. {غُرُوراً:} مفعول به ثان، وقيل: صفة مفعول مطلق محذوف وهو ضعيف معنى. وجملة: {ما وَعَدَنَا..} . إلخ في محل نصب مقول القول.
الشرح: {وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ:} من المنافقين، والمراد ب:{طائِفَةٌ} عبد الله بن أبي وأصحابه. وقال القرطبي: هو أوس بن قيظي، والد عرابة بن أوس؛ الذي انتهى إليه الكرم في المدينة في زمن التابعين، وهو الذي يقول في الشماخ:[الوافر] إذا ما راية رفعت لمجد
…
تلقّاها عرابة باليمين
هذا؛ والطائفة: الجماعة من الناس، لا واحد لها من لفظها، مثل: فريق، ورهط، ونفر
…
إلخ، وجمعها: طوائف، وقد يطلق لفظ: طائفة على الواحد، وعلى الاثنين، مثل قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [66]:{إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ} .
{يا أَهْلَ يَثْرِبَ:} هي المدينة المنورة، وسماها رسول الله طيبة، وطابة. وقال أبو عبيدة: يثرب: اسم أرض، والمدينة ناحية منها. وقال السهيلي: وسميت يثرب لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عميل بن مهلائيل، بن عوض بن عملاق بن لاوذ بن إرم. وبنو عميل هم الذين سكنوا الجحفة، فأجحفت بهم السيول فيها، وبها سميت الجحفة، قال امرؤ القيس:[الطويل] تنوّرتها من أذرعات، وأهلها
…
بيثرب أدنى دارها نظر عالي
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تسمى بهذا الاسم لما فيه من التثريب، وهو التقريع، والتوبيخ، كما في قوله تعالى حكاية عن قول يوسف لإخوته:{لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ،} وقد قال المنافقون: يا أهل يثرب مخالفة لما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. {لا مُقامَ لَكُمْ:} يقرأ بضم الميم وفتحها على أنه مصدر ميمي، أو اسم مكان بمعنى الإقامة، وأصله:«مقوم» فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى القاف قبلها، ثم قل: تحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا.
{فَارْجِعُوا} أي: إلى منازلكم هاربين. وقيل المعنى: لا مقام لكم على دين محمد صلى الله عليه وسلم فارجعوا إلى الشرك، وسلموا؛ لتسلموا، ويروى: أن يهود بني قريظة قالوا لعبد الله بن أبي ابن سلول، وأصحابه من المنافقين: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه، فارجعوا إلى المدينة، فإنا مع القوم، فأنتم آمنون. {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} أي: في الرجوع إلى منازلهم بالمدينة، وهم بنو حارثة بن الحارث. وقيل: هو أوس بن قيظي، وجماعة من قومه.
{يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ} أي: غير حصينة، وهي ما يلي العدو، ويخشى عليها من السراق.
وقرئ: «(عورة)» بكسر الواو، يعني: قصيرة الجدران فيها خلل، تقول العرب: دار فلان عورة إذا لم تكن حصينة. وقد أعور الفارس: إذا بدا فيه خلل للضرب، والطعن. قال الشاعر:[الطويل] متى تلقهم لم تلق في البيت معورا
…
ولا الضيف مفجوعا ولا الجار مرملا
{وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ:} تكذيب لهم، وردّ عليهم فيما ذكروه، وادّعوه. {إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّ فِراراً} أي:
ما يريدون إلا الهرب من الحرب، أو من الدين. هذا؛ وحكى النقاش: أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار: بني حارثة، وبني سلمة، وهموا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق، وفيهم أنزل الله تعالى:{إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} . ويرده: أن هذا حصل في غزوة أحد، انظر الآية رقم [122] من سورة (آل عمران). وقال السدي: الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار: أوس بن قيظي، وأبو عرابة بن أوس. قال الضحاك: ورجع ثمانون رجلا بغير إذن.
الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف. (إذ): معطوف على ما قبله، وقال مكي: العامل فيه، وفي سابقه فعل مضمر، تقديره: واذكر يا محمد إذ يقول، وإذ قالت، وعليه فالظرف مفعول به، أو هو مفعول فيه لهذا المقدر، وقد مر معنا كثير مثله. {قالَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث.
{طائِفَةٌ:} فاعله. {مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة {طائِفَةٌ،} وجملة: {قالَتْ..} . إلخ في محل جر بإضافة: (إذ) إليها. (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. (أهل): منادى، وهو مضاف، و {يَثْرِبَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إن» . {مُقامَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لا} والجملة الاسمية، والجملة الندائية كلتاهما في محل نصب مقول القول. {فَارْجِعُوا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا، وواقعا؛ فارجعوا. و (ارجعوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، ومتعلقه محذوف، كما رأيت في الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر، والجملة الشرطية في محل نصب مقول القول.
{وَيَسْتَأْذِنُ:} الواو: حرف عطف. (يستأذن): فعل مضارع. {فَرِيقٌ:} فاعل. {مِنْهُمْ:}
جار ومجرور متعلقان ب: {فَرِيقٌ،} أو بمحذوف صفة له. {النَّبِيَّ:} مفعول به، وجملة:
{وَيَسْتَأْذِنُ..} . إلخ معطوفة على جملة: {قالَتْ..} . إلخ فهي في محل جر مثلها، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة. {يَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون.
{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {بُيُوتَنا:} اسم: {إِنَّ،} و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {عَوْرَةٌ:} خبر {إِنَّ} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:
{يَقُولُونَ..} . إلخ مفسرة للفعل: (يستأذن)، أو هي في محل نصب حال من {فَرِيقٌ} جوز مجيء الحال منه، وهو نكرة وصفه بالجار والمجرور، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من {النَّبِيَّ} فالمعنى لا يأباه، ويكون الرابط محذوفا، التقدير: قائلين له: إن بيوتنا عورة. {وَما:} الواو:
واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل ليس. {هِيَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع اسم (ما). {بِعَوْرَةٍ:} الباء: حرف جر صلة. (عورة): خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية:{وَما هِيَ..} . إلخ في محل نصب حال من بيوتنا، والرابط: الواو، والضمير. {إِنَّ:}
حرف نفي بمعنى «ما» . {يُرِيدُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {إِلاّ:} حرف حصر. {فِراراً:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة؛ فالمعنى لا يأباه، ويكون الرابط الضمير فقط، وتكون حالا متداخلة من وجه واحد من الأوجه التي رأيتها في محل جملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ.
الشرح: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} أي: لو دخلت جيوش المشركين الذين هاجموا المدينة بيوت هؤلاء المنافقين، أو دخلوا شوارع المدينة. {مِنْ أَقْطارِها:} من نواحيها، وجوانبها. {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} أي: طلب من المنافقين الفتنة، أي الردة عن الإسلام، والرجعة إلى الكفر، ومقاتلة المسلمين. {لَآتَوْها:} لجاءوها، وفعلوها بسرعة. {وَما تَلَبَّثُوا بِها} أي: وما توقفوا عن إجابة من طلب منهم الفتنة. {إِلاّ يَسِيراً} أي: وقتا قليلا ريثما يكون السؤال، والجواب من غير توقف. أو المعنى: ما لبثوا في المدينة بعد ارتدادهم إلا يسيرا فإن الله يهلكهم. هذا؛ وقرئ الفعل: «(لآتوها)» بالمدّ؛ أي: لأعطوها بسرعة لمن يطلبها منهم. والمعنى: أنهم يتعللون باعورار بيوتهم؛ ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين، وعن مصافة الأحزاب؛ الذين ملئوا قلوبهم رعبا، وخوفا. وهؤلاء الأحزاب كما هم لو دخلوا أرضهم، وديارهم، وعرضوا عليهم الكفر، وقالوا لهم: انقلبوا على المسلمين؛ لسارعوا إليه، وما ذلك إلا لبغضهم الإسلام، وحبهم للكفر، وذلك لما جبلوا عليهم من النفاق، والمداهنة.
الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.
{دُخِلَتْ:} ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره:«هي» يعود إلى المدينة، أو إلى بيوتهم حسبما رأيت في الشرح. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ أَقْطارِها:} متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{دُخِلَتْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {ثُمَّ:} حرف عطف. {سُئِلُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق. {الْفِتْنَةَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{لَآتَوْها:} اللام: واقعة في جواب (لو). (آتوها): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، و (ها): مفعوله، والجملة الفعلية جواب (لو) لا محل لها. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {تَلَبَّثُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والحالية ممكنة، ويؤيدها المعنى من واو الجماعة، فيكون الرابط: الواو، والضمير. {إِلاّ:} حرف حصر. {يَسِيراً:} صفة مفعول مطلق، التقدير: إلا لبثا يسيرا، أو صفة زمان محذوف، التقدير: إلا زمنا يسيرا.
الشرح: {وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل غزوة الخندق، وبعد غزوة بدر.
قال قتادة: وذلك: أنهم غابوا عن بدر، ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة، والنصر، فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن. وقال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة، همّوا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها، فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم. انتهى. قرطبي، ومعنى {لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ:} لا يعطون ظهورهم للأعداء منهزمين، والأدبار جمع: دبر، بضم الدال مع ضم الباء وسكونها، وهو الظهر، قال تعالى في سورة (القمر):{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} وهو أيضا ضد القبل، والأدبار بمعنى، أواخر الأشياء، قال تعالى في سورة (ق):{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ} بمعنى أعقاب الصلاة، وأواخرها. هذا؛ والإدبار بكسر الهمزة: ضد الإقبال. {وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً} أي: إن العبد سيسأل يوم القيامة عن العهد الذي يعطيه على نفسه لله وللناس، قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [34]:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً} وانظر ما ذكرته في الآية رقم [7].
الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار، والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. هذا؛ وبعضهم يعتبر الواو عاطفة، وبعضهم
يعتبرها حرف استئناف، ويعتبر الجملة الآتية جوابا لقسم محذوف. ولا أسلمه أبدا؛ لأنه على هذا يكون قد حذف واو القسم، والمقسم به، ويصير التقدير: والله أقسم، أو: وأقسم والله.
اللام: واقعة في جواب القسم المحذوف، وبعضهم يقول: موطئة، والموطئة معناها المؤذنة، وهذه اللام، إنما تدخل على:«إن» الشرطية لتدل على القسم المتقدم على الشرط، وتكون الجملة الآتية جوابا للقسم المدلول عليه باللام، والمتقدم على الشرط حكما، كما في قوله تعالى:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ..} . إلخ الآية رقم [12] من سورة (الحشر) افهم هذا؛ واحفظه، فإنه جيد. فإن قيل: ما ذكرته من إعراب يؤدي إلى حذف المقسم به، وبقاء حرف القسم، فالجواب: أنه قد حذف المقسم به حذفا مطردا في أوائل السور، مثل قوله تعالى:
{وَالضُّحى،} {وَالسَّماءِ وَالطّارِقِ..} . إلخ فإن التقدير: ورب الضحى، ورب السماء
…
إلخ، ويدل على هذا المقدر قوله تعالى في الآية رقم [27] من سورة (الذاريات):{فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ..} .
إلخ. وأوضح من ذلك قوله تعالى في الآية رقم [71] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} فإن التقدير: فوعزتي وجلالي ما أحد منكم إلا واردها. والله أعلم، وأجل، وأكرم.
(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {عاهَدُوا:} فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {مِنْ قَبْلُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، وجملة:{عاهَدُوا..} . إلخ في محل نصب خبر (كان). {لا:} نافية. {يُوَلُّونَ:}
فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {الْأَدْبارَ:} مفعول به ثان، والأول محذوف، التقدير: لا يولون العدو الأدبار، والجملة الفعلية جواب {عاهَدُوا؛} لأنه بمعنى القسم، وجملة: (لقد
…
) إلخ جواب القسم المقدر، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له.
{وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. (كان): فعل ماض ناقص. {عَهْدُ:} اسم (كان) وهو مضاف، و {اللهَ} مضاف إليه. {مَسْؤُلاً:} خبر كان، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قُلْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} أي:
من حضر أجله مات، أو قتل فلا ينفع الفرار؛ لأنه لا بد لكل إنسان من الموت، إما حتف أنفه، أو يقتل بالسيف في وقت معين سبق به القضاء، وجرى به القلم، وأيضا لا بد من الموت ولو تحصن الإنسان في القصور الشامخة، أو صعد الجبال العالية، قال تعالى:{أَيْنَما تَكُونُوا}
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. {وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ} أي: في الدنيا بعد فراركم. {إِلاّ قَلِيلاً:} المعنى: وإن نفعكم الفرار من الحرب، والقتال مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فتأخر موتكم لم يكن ذلك التأخير، والتمتيع في الدنيا إلا قليلا، وهو مدة انقضاء آجالكم.
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه، تقديره:«أنت» . {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {يَنْفَعَكُمُ:} مضارع منصوب ب: {لَنْ،} والكاف مفعول به. {الْفِرارُ:}
فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {فَرَرْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {مِنَ الْمَوْتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{أَوِ:} حرف عطف. {الْقَتْلِ:} معطوف على ما قبله، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه وهو ظاهر، والكلام في محل نصب مقول القول. {وَإِذاً:} الواو: حرف عطف. (إذا):
حرف جواب وجزاء. {لا تُمَتَّعُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله، و {لا:} نافية. {إِلاّ:} حرف حصر.
{قَلِيلاً:} صفة مفعول مطلق، أي تمتيعا قليلا، أو صفة زمان محذوف، أي: زمانا قليلا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا.
هذا؛ وقدر الجلال في الآية رقم [73] من سورة (الإسراء)«لو» محذوفة، فيكون التقدير هنا: لو فعلتم الفرار؛ لا تمتعون إلا قليلا. قال الجمل معلقا على قول الجلال هناك: (إذا) حرف جواب، وجزاء يقدر: ب: «لو» الشرطية كما فعل الشارح، وعبارة السمين:(إذا) حرف جواب، وجزاء، ولهذا تقع أداة الشرط موقعها، وقوله:{لاتَّخَذُوكَ} أي: في سورة (الإسراء):
جواب قسم محذوف، تقديره: والله لاتخذوك
…
إلخ.
هذا؛ وقال ابن هشام في مغنيه: والأكثر أن تكون جوابا ل: «إن» ، أو «لو» مقدرتين، أو ظاهرتين، فالأول كقول كثير عزة:[الطويل] لئن جاد لي عبد العزيز بمثلها
…
وأمكنني منها، إذا لا أقيلها
وهذا هو الشاهد رقم [19] من كتابنا فتح القريب المجيب. وقول قريط بن أنيف: [البسيط] لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
…
بنو اللّقيطة من ذهل بن شيبانا
إذا لقام بنصري معشر خشن
…
عند الحفيظة، إن ذو لوثة لانا
وهذا هو الشاهد رقم [20] من الكتاب المذكور. هذا؛ وقال الفراء: حيث جاءت بعدها اللام، فقبلها «لو» مقدرة؛ إن لم تكن ظاهرة، وهذا هو القول الفصل انتهى. أقول: وهو يريد لام التوكيد، ولا النافية مثلها. هذا؛ ويبقى الكلام المقدر، والمذكور في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قُلْ:} أمر للنبي صلى الله عليه وسلم. {مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ:} يمنعكم من الله. {إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً:} في أنفسكم من قتل، أو غيره. {أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً} أي: إطالة عمر في عافية وسلامة. {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا:} ينفعهم. {وَلا نَصِيراً:} يدفع الضر عنهم. ولا تنس الالتفات من الخطاب إلى الغيبة.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة، ولا عصمة إلا من السوء؟! قلت: معناه: أو يصيبكم بسوء، إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام، وقال الشاعر:[مجزوء الكامل] ورأيت زوجك في الوغى
…
متقلّدا سيفا ورمحا
أو: حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع، وانظر ما أذكره في الآية رقم [9] من سورة (الحشر) إن شاء الله تعالى. هذا؛ والولي: هو الذي يتولى شئون غيره، والنصير: المعين، والمساعد، والفرق بينهما: أن الولي قد يضعف عن النصرة، والمعاونة، والنصير قد يكون أجنبيا عن المنصور، فبينهما عموم، وخصوص من وجه. هذا؛ والولي لله:
العارف بالله تعالى على حسب ما يمكن، المواظب على الطاعات، المعرض عن الانهماك في اللذات، والشهوات. ووجهان: أحدهما: أنه فعيل بمعنى مفعول، كقتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح، فعلى هذا: هو من يتولى الله رعايته، وحفظه، فلا يكله إلى غيره، ونفسه لحظة، كما قال تعالى:{وَهُوَ يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ} . والوجه الثاني: أنه فعيل مبالغة من فاعل، كرحيم، وعليم، بمعنى راحم، وعالم، فعلى هذا: هو من يتولى عبادة الله تعالى، من غير أن يتخللها عصيان، أو فتور. وكلا المعنيين شرط في الولاية، فمن شرط الولي أن يكون محفوظا، كما أن من شرط النبي أن يكون معصوما، فكل من كان للشرع عليه اعتراض؛ فليس بولي؛ بل هو مغرور مخادع. ذكره الإمام أبو القاسم القشيري، وغيره من أئمة الطريقة-رحمهم الله تعالى-. انتهى. من شرح ألفاظ الزبد للشيخ أحمد بن حجازي الفشني-رحمه الله تعالى-.
هذا؛ وربنا يقول في الحديث القدسي: «من عادى لي وليا؛ فقد آذنته بالحرب» .
أما الإرادة: فهي نزوع النفس، وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه. ويقال للقوة؛ التي هي مبدأ النزوع، والأول مع الفعل، والثاني قبله، وكلا المعنيين غير متصور اتصاف الباري تعالى به، ولذا اختلف في معنى إرادته سبحانه وتعالى، فقيل: إرادته لأفعاله: أنه غير ساه، ولا مكره، ولأفعال غيره أمره بها، فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته. وقيل: علمه باشتمال
الأمر على النظام الأكمل، والوجه الأصلح، وهذا الأخير هو المقبول؛ لأن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر. هذا؛ ولم يرد لفعل الإرادة، ولا لفعل المشيئة أمر فيما أعلم، فهما ناقصا التصرف، وقد كثر حذف مفعول هذين الفعلين حتى لا يكاد ينطق به إلا في الشيء المستغرب، مثل هذه الآية. وقوله تعالى:{لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا} وقال الشاعر الخزيمي: [الطويل] فلو شئت أن أبكي دما لبكيته
…
عليه، ولكن ساحة الصّبر أوسع
وقيد بعضهم حذف مفعول هذين الفعلين بعد «لو» وليس كذلك.
الإعراب: {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» . {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {ذَا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع خبر. {الَّذِي:}
اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة: {ذَا} أو بدل منها، وجوز أن يكون:{مَنْ ذَا} اسما مركبا مبنيا على السكون في محل رفع مبتدأ، و {الَّذِي} خبره. {يَعْصِمُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} وهو العائد، والكاف مفعول به. {مِنَ اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {أَرادَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {اللهِ}. {بِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {سُوءاً:} مفعول به، وجملة:{أَرادَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه.
{أَوْ:} حرف عطف، وجملة:{أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً} معطوفة على ما قبلها، وإعرابها مثلها، والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَلا:} الواو: حرف استئناف. (لا): نافية. {يَجِدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {لَهُمْ:} متعلقان ب: {وَلِيًّا} أو {نَصِيراً} على التنازع، أو بمحذوف حال من أحدهما، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {مِنْ دُونِ:} متعلقان بما تعلق به: {لَهُمْ} . وأجيز اعتبار {لَهُمْ} مفعولا ثانيا، وهو وجه ضعيف. {وَلِيًّا:} مفعول به. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {نَصِيراً:} معطوف على ما قبله، وجملة:{وَلا يَجِدُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} أي: المثبطين الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه المنافقون. هذا؛ والتعويق: المنع، والصرف، وهو للمبالغة. {وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ} من ساكني المدينة. {هَلُمَّ إِلَيْنا} أي: ارجعوا إلينا، ودعوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فلا تشهدوا
معه الحرب، فإنا نخاف عليكم الهلاك، وما محمد، وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحما؛ لالتهمهم أبو سفيان، وأصحابه! دعوا الرجل؛ فإنه هالك!.
والآية نزلت في المنافقين بلا ريب، وذلك: أن اليهود أرسلوا إليهم حين أقبلت قريش بحلفائها، وحاصروا المدينة المنورة، وقالوا لهم: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان، ومن معه، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة؛ لم يستبقوا منكم أحدا، وإنا نشفق عليكم، فأنتم جيراننا، وإخواننا هلموا إلينا! فأقبل عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم، ويخوفونهم بأبي سفيان، ومن معه، وقالوا لهم ما تقدم، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيمانا، واحتسابا. {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ:} ولا يحضرون القتال. {إِلاّ قَلِيلاً} أي: إلا زمانا، أو إتيانا قليلا. وقيل: إلا رياء، ومداراة للمؤمنين. والبأس: الحرب.
{هَلُمَّ:} اسم فعل أمر، بمعنى: احضروا. وفيه لغتان: لغة أهل الحجاز، ولغة بني تميم، فأما لغة الحجاز، وبها جاء التنزيل، فإنها بصيغة واحدة للمفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، نحو: هلمّ يا زيد، هلمّ يا زيدان، هلمّ يا زيدون، هلمّ يا هندان، هلمّ يا هندات، وهي على هذه اللغة: اسم فعل أمر لعدم تغيرها، والتزمت العرب فيها فتح الميم على هذه اللغة، وهي حركة بناء، بنيت على الفتح تخفيفا. وأما لغة بني تميم، وقد نسبها الليث إلى بني سعد، فتلحقها الضمائر، كما تلحق سائر الأفعال، فيقال: هلمّا يا زيدان، هلمّوا يا زيدون، هلمّي يا هند، هلمّنّ يا هندات. وقال الفراء: يقال هلمّين يا نسوة، وهي على هذه اللغة فعل صريح لا يتصرف. هذا قول الجمهور، وقد خالف بعضهم في فعليتها على هذه اللغة، وليس بشيء، فالتزمت العرب فيها أيضا على لغة بني تميم فتح الميم؛ إذا كانت مسندة لضمير الواحد المذكر، ولم يجيزوا فيها ما أجازوه في:
ردّ، وشدّ، من الضم، والكسر. انتهى. جمل نقلا عن السمين، ومثله في قطر الندى، ولكنه أخصر.
هذا؛ وأصله عند البصريين: هالمّ من: لمّ إذا قصد، حذفت الألف لتقدير السكون في اللام، فإنه الأصل، وعند الكوفيين أصله: هل أمّ، فحذفت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام، وهو بعيد؛ لأن هل لا تدخل على الأمر، ويكون متعديا كما في آية الأنعام رقم [150]:{قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ..} . إلخ ولازما، كما في الآية التي بين أيدينا:{هَلُمَّ إِلَيْنا} والأولى بمعنى:
أحضروهم من الرباعي، وهنا بمعنى: احضروا من الثلاثي، أو بمعنى: تعالوا. وكلام الزمخشري هنا مؤذن بأنه متعد أيضا، وحذف مفعوله، فإنه قال: هلمّوا إلينا، أي: قربوا أنفسكم إلينا. وأخيرا أقول: وهو جامد على الاعتبارين، لا يأتي منه مضارع، أو اسم مضارع، ولا ماض، ولا اسمه. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق هنا. ومفيد للتكثير. {يَعْلَمُ:} فعل مضارع. {اللهُ:}
فاعله. {الْمُعَوِّقِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر
سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {الْمُعَوِّقِينَ،} أو بمحذوف حال من فاعله المستتر، وجملة:{قَدْ يَعْلَمُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. (القائلين): معطوف على {الْمُعَوِّقِينَ،} وفاعله مستتر فيه أيضا.
{لِإِخْوانِهِمْ:} متعلقان ب: (القائلين)، والهاء في محل جر بالإضافة. {هَلُمَّ:} اسم فعل أمر مبني على الفتح، والفاعل مستتر فيه، وانظر الشرح. {إِلَيْنا:} جار ومجرور متعلقان ب: {هَلُمَّ،} وجملة: {هَلُمَّ إِلَيْنا} في محل نصب مقول القول. {وَلا:} الواو: واو الحال. (لا): نافية.
{يَأْتُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {الْبَأْسَ:} مفعول به. {إِلاّ:} حرف حصر. {قَلِيلاً:} صفة مفعول مطلق محذوف، أو صفة زمان محذوف، انظر الشرح، وجملة:{وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المستتر في: {الْمُعَوِّقِينَ} وما بعده، والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها، والأول أقوى.
الشرح: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ:} بخلاء عليكم بالمعاونة، والمساعدة، أو: بالنفقة في سبيل الله، أو: بالغنيمة، أي: فإنهم يطالبون بها بإلحاح، ولا يعفون عن شيء منها، و {أَشِحَّةً:} جمع صحيح، وهو شديد البخل، مثل رغيف، وأرغفة، ولكن نقلت حركة الحاء الأولى إلى الشين، وأدغمت في الحاء الثانية، وأصله: أشححة، وهو جمع لا ينقاس؛ إذ قياس فعيل الوصف الذي عينه، ولامه من واد واحد أن يجمع على: أفعلاء، نحو خليل، وأخلاء، وظنين، وأظناء، وضنين، وأضناء، وقد سمع أشحاء، وهو القياس. {فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ} أي: من قتال العدو؛ إذا أقبل، أو من النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذا غلب أعداءه، فإنهم يخافون أن يبطش بهم بعد فراغه من أعدائه.
{رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} أي: في تلك الحالة حالة الخوف. {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} أي: في أحداقهم من شدة الخوف، وشدة الجبن، والهلع. {كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أي: تدور أعينهم كدوران عين الذي قرب من الموت، وغشيته أسبابه فإنه يذهب عقله، ويشخص بصره، فلا يطرف، وذلك من شدة سكرات الموت. {فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ} أي: زال الخوف عنهم، وأمنوا، وحيزت الغنائم، وقسمت. {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ:} رموكم، وتناولوكم بألسنة ذربة حادة تفعل كفعل الحديد. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: عضوكم، وتناولوكم بالطعن، والغيبة.
وقيل: بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة، يقولون: أعطونا! أعطونا! فإنا شهدنا معكم
القتال، فلستم بأحق بالغنيمة منا، فهم عند الغنيمة أشجع قوم! وعند الحرب أجبن قوم! وفي قوله تعالى:{سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ} استعارة مكنية حيث شبه اللسان بالسيف، ثم حذف المشبه به، واستعار شيئا من خصائصه، وهو الضرب المعبر عنه ب:{سَلَقُوكُمْ} .
{أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} أي: يشاحون المؤمنين، ويخاصمونهم عند الغنيمة، قاله يحيى بن سلام. وقيل: أشحة على المال أن ينفقوه في سبيل الله؛ قاله السدي. {أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} أي:
لم يؤمنوا حقيقة الإيمان، وإن نطقوه بألسنتهم، ولكنه لم يدخل سويداء قلوبهم. والإشارة إلى المنافقين الذين تتحدث الآيات السابقة عنهم. {فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ:} أبطل ثواب أعمالهم؛ التي كانوا يأتون بها مع المسلمين، من إنفاق بعض المال رياء، وحضور القتال خوفا من توبيخ المسلمين لهم، وتقريعهم إياهم. {وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً:} وكان إحباط أعمالهم على الله هينا.
وقيل: كان نفاقهم على الله هينا، وسهلا.
قال الزمخشري: كل شيء على الله يسير، فما معنى:{وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً؟} قلت:
معناه: أن أعمالهم حقيقة بالإحباط، تدعو إليه الدواعي، ولا يصرف عنه صارف. هذا؛ وقد بين الله في سورة (النور) وفي سورة (الفرقان) أن أعمال الكفار الصالحة في نظرهم، إنما هي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وهي هباء منثور لا قيمة لها عند الله، ولا تنفع أصحابهم شيئا، والنفاق أشد كفرا، كما صرحت به الآيات الكثيرة. هذا؛ وقال أبو السعود:(أحبط أعمالهم):
أظهر بطلانها؛ إذ ليس لهم أعمال صحيحة حتى تحبط، أو المراد: أبطل تصنعهم، ونفاقهم فلم يبق مستتبعا لمنفعة دنيوية أصلا. انتهى.
هذا؛ وفي المصباح المنير: حبط العمل، يحبط من باب: تعب حبطا بالسكون، وحبوطا:
فسد، وهدر، وحبط، يحبط من باب ضرب لغة، وقرئ بها في الشواذ، وحبط دم فلان حبطا من باب: تعب: هدر، وأحبطت العمل، والدم-بالألف-: أهدرته. وفي المختار: والحبط -بفتحتين-: أن تأكل الماشية، فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطونها، ولا يخرج عنها ما فيها. وقيل:
هو أن ينتفخ بطنها عن أكل الذرق، وهو الحندقوق. وفي الحديث:«إنّ ممّا ينبت الربيع ما يقتل حبطا، أو يلمّ» . انتهى. واسم هذا الداء: حباط. والفعل: حبط لازم، ويتعدى بالهمزة، كما رأيت في الآية.
الإعراب: {أَشِحَّةً:} حال من فاعل: {يَأْتُونَ،} أو من الضمير المستتر في {الْمُعَوِّقِينَ،} أو هو منصوب على الذم بفعل محذوف، والمعتمد الأول. هذا؛ ويقرأ بالرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هم أشحة. {فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك مبني على السكون في محل نصب، وجملة:{جاءَ الْخَوْفُ} في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {رَأَيْتَهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به،
والجملة الفعلية جواب (إذا)، لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
{يَنْظُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الضمير فقط.
{إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {تَدُورُ:} فعل مضارع. {أَعْيُنُهُمْ:} فاعله، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، وهي حال متداخلة. {كَالَّذِي:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، أي: ينظرون إليك نظرا مثل نظر الذي يغشى عليه. أو التقدير:
تدور أعينهم دورانا مثل دوران عين الذي يغشى عليه. فبعد الكاف محذوفان، وهما: دوران، وعين، وعليه ابن هشام في المغني. {يُغْشى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور في محل نائب فاعل. وقيل: نائب الفاعل ضمير مصدر الفعل، التقدير: ويغشى الغشيان المعهود. وعليه: فالجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وانظر الآية رقم [54] من سورة (سبأ)، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنَ الْمَوْتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وتعليقهما بمحذوف حال من الضمير المجرور ب (على) غير مستبعد.
{فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ:} إعراب هذه الكلمات مثل إعراب ما قبلها، جملة، وإفرادا.
{سَلَقُوكُمْ:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية جواب:(إذا)، لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {بِأَلْسِنَةٍ:} متعلقان بما قبلهما. {حِدادٍ:} صفة (ألسنة). {أَشِحَّةً:} حال من واو الجماعة. {عَلَى الْخَيْرِ:} متعلقان ب: {أَشِحَّةً} . {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يُؤْمِنُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة الجزم حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:
{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَأَحْبَطَ:} الفاء: حرف عطف وسبب. (أحبط):
ماض. {اللهُ:} فاعله. {أَعْمالَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. (كان): فعل ماض ناقص. {ذلِكَ:} اسم (كان)، فهو اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بما بعدهما. {يَسِيراً:} خبر (كان)، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وهو أقوى من عطفها على ما قبلها.
وقيل: في محل نصب حال، وليس بشيء.
الشرح: {يَحْسَبُونَ:} يظنون. {الْأَحْزابَ} أي: قريشا، وغطفان، واليهود. {لَمْ يَذْهَبُوا} أي: لم يرجعوا خائبين بدون ظفر بالمسلمين، ولكنهم جبنوا هم، وانهزموا، ففروا إلى داخل المدينة، والمراد: المنافقون المذكورون في الآية رقم [12] وما بعدها. هذا؛ والأحزاب جمع:
حزب، وهو في اللغة أصحاب الرجل الذين يكونون معه على مثل رأيه، وهم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبه، يعني: أهمه، ونزل به. أما الفعل «حسب» فهو من باب: تعب في لغة جميع العرب إلا بني كنانة، فإنهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضا على غير قياس. وقد قرئ المضارع بفتح السين وكسرها، والمصدر: الحسبان بكسر الحاء، وحسبت المال حسبا، من باب: قتل بمعنى: أحصيته عددا.
{وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ} أي: يرجعوا إليهم للقتال بعد أن ولوا الأدبار. {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ} أي: تمنوا أنهم خارجون إلى البادية، ومقيمون بين الأعراب، وذلك لشدة جبنهم، وخوفهم. {يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ} أي: يسألون كل قادم من جهة المدينة عن أخباركم، وما جرى لكم مع أعدائكم. {وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ} أي: موجودين في المدينة معكم. {ما قاتَلُوا إِلاّ قَلِيلاً} أي: إلا قتالا قليلا، أو: إلا زمانا قليلا.
{الْأَعْرابِ:} جمع أعرابي، وهو من يسكن البادية، وهو ما في «القاموس». وقيل:
الأعراب: اسم جنس، وأعرابي نسبة إلى الأعراب. انتهى. مختار الصحاح. هذا؛ والعرب:
أهل الأمصار، وهو أيضا اسم جنس، والنسبة إليهم عربي. فالأعرابي على الأول مفرد:
الأعراب، ونسبة إليهم، والعربي على الثاني مفرد: العرب، ونسبة إلى العرب.
الإعراب: {يَحْسَبُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله.
{الْأَحْزابَ:} مفعول به أول. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَذْهَبُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به ثان، وجملة:{يَحْسَبُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، ويجوز أن تكون في محل نصب حال من أحد الضمائر المتقدمة؛ إذا صح المعنى، ولو بعد العامل.
أفاده أبو البقاء. {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {يَأْتِ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها. {الْأَحْزابَ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:
لأنها جملة شرط غير ظرفي. {يَوَدُّوا:} جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف
النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَوْ:} حرف مصدري. {أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {بادُونَ:} خبر: (أن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه. {فِي الْأَعْرابِ:} جار ومجرور متعلقان ب: {بادُونَ،} و: (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف، التقدير: لو ثبت: أنهم بادون، و (لو) والفعل المقدر ب:«ثبت» في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به ل: {يَوَدُّوا} . وجملة: {يَوَدُّوا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء ولا ب «إذا» الفجائية، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {يَسْئَلُونَ:} مضارع وفاعله، ومفعوله الأول محذوف، تقديره: الناس ونحوه.
{عَنْ أَنْبائِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{يَسْئَلُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة في {يَوَدُّوا} وأجيز اعتبارها مستأنفة، والأول أقوى.
{وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانُوا:}
ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {فِيكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: (كان)، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {ما:} نافية. {قاتَلُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {إِلاّ:} حرف حصر.
{قَلِيلاً:} صفة مفعول مطلق محذوف، أو صفة زمان محذوف، انظر الشرح، وجملة:{ما قاتَلُوا..} . إلخ جواب: (لو)، لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. وقيل:
في محل نصب حال. ولا وجه له؛ لأن «لو» لتعليق الشرط في المستقبل، كما هو مشهور فيها.
الشرح: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: قدوة صالحة، أي: اقتدوا به اقتداء حسنا، وهو أن تنصروا دين الله، وتؤازروا رسوله، ولا تتخلوا عنه في الحرب، وتصبروا على ما يصيبكم، كما فعل هو؛ إذ قد كسرت رباعيته، وشج وجهه، وقتل عمه في غزوة أحد، وأوذي بضروب الأذى فصبر، وواساكم مع ذلك بنفسه، فافعلوا مثله، واستنوا بسنته. {لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ} أي: يرجو رحمته، ومثله:{يَخافُونَ رَبَّهُمْ} أي: عذابه، بدليل قوله تعالى:{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ} . {وَالْيَوْمَ الْآخِرَ:} هو آخر يوم من أيام الدنيا، فيه الحشر، والنشر، والميزان، والصراط، إلى دخول أهل الجنة الجنة، ودخول أهل النار النار. {وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} أي: ذكرا كثيرا بقلبه، وبلسانه في جميع المواطن على السراء، والضراء، والشدة، والرخاء. وقرن بالرجاء
كثرة الذكر المؤدية إلى ملازمة الطاعة، فإن المؤتسي بالرسول صلى الله عليه وسلم كذلك. هذا؛ و «الرجاء» في الأصل: الأمل في الشيء، والطماعية فيه، قال الشاعر:[الوافر] أترجو أمّة قتلت حسينا
…
شفاعة جدّه يوم الحساب؟
وقد يأتي الرجاء بمعنى الخوف، وبه فسر قوله تعالى في سورة (العنكبوت):{مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ}
…
إلخ وغيرها كثير، وهي لغة تهامة، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي في صفة عسال؛ أي: الذي يقطف عسل النحل: [الطويل] إذا لسعته الدّبر لم يرج لسعها
…
وخالفها في بيت نوب عواسل
وقال بعض العلماء: لا يقع الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد؛ أي النفي، كقوله تعالى:
{ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً} . وقال بعضهم: بل يقع في كل موضع دل عليه المعنى، وهو المعتمد.
الإعراب: {لَقَدْ:} اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: والله، ونحوه. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِي رَسُولِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، و {رَسُولِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {أُسْوَةٌ:}
اسم كان مؤخر. {حَسَنَةٌ:} صفة {أُسْوَةٌ،} وجملة: {لَقَدْ..} . إلخ ابتدائية، أو هي جواب القسم المقدر، لا محل لها على الاعتبارين. {لِمَنْ:} جار ومجرور بدل من {لَكُمْ،} أو هما متعلقان بمحذوف صفة {حَسَنَةٌ} وهو المعتمد عند البصريين؛ لأنهم لا يجيزون إبدال الغائب من المخاطب، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى (من)، وهو العائد، أو الرابط. {يَرْجُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى (من) أيضا، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانَ}. {اللهِ:}
منصوب على التعظيم. {وَالْيَوْمَ:} معطوف عليه. {الْآخِرَ:} صفة: (اليوم) وجملة: {كانَ..} . إلخ صلة (من)، أو صفتها، وما تقدم مذكور بحروفه في سورة (الممتحنة) رقم [6]. (ذكر): فعل ماض، والفاعل يعود إلى:(من) أيضا. {اللهِ:} منصوب على التعظيم أيضا. {كَثِيراً:} صفة مفعول مطلق محذوف، وجملة:{وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} معطوفة على جملة {كانَ..} . إلخ على الوجهين المعتبرين فيها.
الشرح: {وَلَمّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ} أي: قريشا، وحلفاءها، وقد نزلوا حول المدينة، وعسكروا. {قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ:} يريد قوله تعالى في سورة (البقرة): {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ}
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ
…
إلخ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:
«سيشتدّ الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، والعاقبة لكم عليهم» . وكان قد قال لهم أيضا: «إنهم سائرون إليكم بعد تسع، أو عشر» . قاله قتادة.
{وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ:} روى كثير بن عبد الله، بن عمرو المزني عن أبيه، عن جده، قال:
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام جاءت الأحزاب، فقال:«أخبرني جبريل-عليه السلام-أن أمتي ظاهرة عليها-يعني على قصور الحيرة، ومدائن كسرى-فأبشروا بالنصر!» . فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد لله، موعد صادق؛ إذ وعدنا بالنصر بعد الحصر. فطلعت الأحزاب، فقال المؤمنون:{هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ} . وقولهم هذا في مقابلة قول المنافقين:
{ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً} . وقولهم: {وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ} ليس إشارة إلى ما وقع، فإنهم كانوا يعرفون صدق الله ورسوله قبل الوقوع، وإنما هو إشارة إلى البشارة في جميع ما وعد، مثل فتح مكة، وفتح بلاد الروم، وبلاد فارس.
{وَما زادَهُمْ} أي: البلاء، أو شدة الخطب، أو الذي رأوه من مجيء الأحزاب، أو الوعد، أو الصدق. {إِلاّ إِيماناً:} بالله {وَتَسْلِيماً:} لحكمه، وإرادته. هذا؛ والفعل «زاد» ضد: نقص، يكون لازما، كقولك: زاد المال درهما، ويكون متعديا لمفعولين، كما في الآية الكريمة، وقولك: زاد الله خالدا خيرا، بمعنى جزاه الله خيرا، وأما قولك: زاد المال درهما، والبر مدا، فدرهما ومدا تمييز، ومثله قل في «نقص» فمن المتعدّي لمفعولين قوله تعالى:{ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً} .
تنبيه: في إعادة الاسمين وتكريرهما التعظيم، والتكريم، ولأنه لو أعادهما مضمرين، لجمع بين اسم الله تعالى، واسم رسوله في لفظة واحدة، فكان يقول: وصدقا، والنبي صلى الله عليه وسلم قد كره ذلك، ورد على من قاله، حيث قال:«من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما؛ فقد غوى» فقال له: «بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله؛ فقد غوى» . قصدا إلى تعظيم الله، وعليه استشكل بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله، أحبّ إليه مما سواهما
…
إلخ». الحديث رواه أنس بن مالك، رضي الله عنه، فقد جمع بينهما في ضمير واحد، وأجيب بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعرف بقدر الله منا، فليس لنا أن نقول كما يقول. انتهى. جمل نقلا عن السمين.
الإعراب: {وَلَمّا:} الواو حرف استئناف. (لما): حرف وجود عند سيبويه. وبعضهم يقول:
حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى حين عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {رَأَ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر.
{الْمُؤْمِنُونَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {الْأَحْزابَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لما) إليها على اعتبارها ظرفا، وابتدائية لا محل لها على اعتبار (لما) حرفا. {قالُوا:}
ماض وفاعله، والألف للتفريق. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محلّ له. {لَمّا:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {وَعَدَنَا:} ماض، و (نا): مفعوله الأول. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة:{لَمّا،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط، وهو المفعول الثاني محذوف؛ إذ التقدير:
الذي، أو: شيء وعدنا الله إياه، أو به، وجملة:{وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ} معطوفة عليها لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{هذا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} .
إلخ جواب (لما)، لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.
{وَما:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (ما): نافية. {زادَهُمْ:} فعل ماض، والهاء مفعول به أول، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى «الوعد» ، أو إلى «الصدق» ، أو إلى «البلاء» ، أو إلى «الرؤية» ، وإنما ذكّر لأن تأنيثها غير حقيقي، وكل ذلك مفهوم مما قبله، وقرأ ابن أبي عبلة:«(وما زادوهم)» بضمير الجمع، ويعود للأحزاب. {إِلاّ:}
حرف حصر. {إِيماناً:} مفعول به ثان. (تسليما): معطوف على ما قبله، وجملة:{وَما زادَهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.
الشرح: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ:} من الثبات مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والمقاتلة لإعلاء الدين، وهم رجال من الصحابة نذروا: أنهم إن أدركوا حربا مع رسول الله؛ ثبتوا، وقاتلوا حتى يستشهدوا، وكانوا تخلفوا عن غزوة بدر الكبرى، فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال:
غاب عمي أنس بن النضر-رضي الله عنه-عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ثانية ليرينّ الله ما أصنع! فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء-يعني: أصحابه-وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء-يعني المشركين-ثم تقدم فاستقبله سعد بن مالك، فقال: يا أبا عمرو أين؟ فقال:
واها لريح الجنة، أجده دون أحد! فقاتل؛ حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة، وطعنة، ورمية، فقالت عمتي الرّبيّع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه، ونزلت فيه وفي أشباهه من المؤمنين هذه الآية:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ..} . إلخ.
{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ:} وفى نذره بأن قاتل؛ حتى قتل، كحمزة، ومصعب بن عمير، وأنس بن النضر، وغيرهم، رضوان الله عليهم. والنحب: النذر، استعير للموت؛ لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان، قال لبيد رضي الله عنه:[الطويل] ألا تسألان المرء ماذا يحاول
…
أنحب فيقضى أم ضلال وباطل؟
وقال القرطبي: النحب: النذر، والعهد، والموت، والحاجة، والمدة. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} أي: من بقي من المؤمنين ينتظر أحد الأمرين: إما الشهادة، وإما النصر على الأعداء. {وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} أي: وفوا بعهودهم، ولم ينقضوها، ولم يغيروا شيئا مما عاهدوا الله، ورسوله عليه.
عن خباب بن الأرت-رضي الله عنه-قال: «هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنّا من مات، ولم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، وترك نمرة، وكنا إذا غطّينا بها رأسه؛ بدت رجلاه، وإذا غطّينا بها رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطّي رأسه ونجعل على رجليه من الإذخر. ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدبها» متفق عليه. النمرة: كساء ملون من صوف، وقوله:«منا من أينعت له ثمرته» ، أي: أدركت ونضجت له ثمرته، وهذه استعارة لما فتح الله عليهم من الدنيا، وقوله: يهدبها؛ أي: يجتنيها، ويقطعها.
تنبيه: الشهداء على ثلاثة أنواع: شهيد الدنيا، وشهيد الآخرة، وشهيد الدنيا والآخرة، فالأول: من قاتل للسمعة، والشهرة، أو للمغنم، أو كان غير كامل الإيمان، فهذا تجري عليه أحكام الشهيد في الدنيا، فلا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه؛ بل يلف بثيابه، وبدمه، ويدفن في الأرض إن عثر على جثته، أو على شيء منها. أما شهيد الآخرة فقط، فهو ما رواه الطبراني عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تعدّون الشهيد فيكم؟» . قلنا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله، قال:«إنّ شهداء أمتي إذا لقليل، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، والمتردّي شهيد، والنفساء شهيد، والغريق شهيد، والسّلّ شهيد، والحريق شهيد، والغريق شهيد» . هذا؛ وورد في أحاديث كثيرة: «المبطون شهيد، والميت بالطاعون شهيد» . وعن سعيد بن زيد-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» . رواه أبو داود، وغيره. أما شهيد الدنيا، والآخرة؛ فهو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله، تجري عليه أحكام الشهادة في الدنيا، وفي الآخرة في أعلى عليين، وفي آية البقرة رقم [154]، وفي آية آل عمران رقم [169] بيّن الله مقام الشهداء المخلصين، وما أعده لهم من الأجر العظيم، والثواب العميم.
الإعراب: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {رِجالٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {صَدَقُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق، والجملة
الفعلية في محل رفع صفة {رِجالٌ} . {ما:} مصدرية، وتؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: صدقوا عهدهم مع الله. واعتبار (ما) موصولة فلا بأس به، وتكون الجملة بعدها صلتها. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فَمِنْهُمْ:} الفاء: حرف استئناف وتفريع. (منهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنَ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {قَضى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {مِنَ،} وهو العائد، أو الرابط. {نَحْبَهُ:} مفعول به، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة:
{مِنَ،} أو صفتها هذا هو الإعراب الظاهر، والأصح: أن مضمون الجار والمجرور (منهم):
مبتدأ، و {مِنَ} هي الخبر؛ لأن (من) الجارة دالة على التبعيض، أي: فبعض المؤمنين، وجمع الضمير يؤيد ذلك، ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدأ، يرشدك إلى ذلك قوله تعالى:
{مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} من الآية رقم [110] من سورة (آل عمران)، فعطف (أكثرهم) على (منهم) يؤيد: أن معناه بعضهم. وخذ قول الحماسي: [الكامل] منهم ليوث لا ترام وبعضهم
…
ممّا قمشت وضمّ حبل الحاطب
حيث قابل لفظ (منهم) بما هو مبتدأ، أعني: لفظة: «بعضهم» وهذا مما يدل على أن مضمون «منهم» مبتدأ. هذا؛ و «ليوث» جمع: ليث، وهو الأسد. «لا ترام»: لا تقصد.
«قمشت» : جمعت من هنا، وهناك؛ والمراد: رذالة الناس، والقمش: الرديء من كل شيء، والجملة الاسمية: (منهم
…
) إلخ مستأنفة، لا محل لها. وجملة:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. وإعرابها مثلها بلا فارق. {وَما:} الواو: حرف عطف.
(ما): نافية. {بَدَّلُوا:} ماض والواو فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف، التقدير: وما بدلوا العهد. {تَبْدِيلاً:} مفعول مطلق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.
الشرح: {لِيَجْزِيَ اللهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} أي: أمر الله بالجهاد؛ ليثيب المؤمنين الصادقين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه. {وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ:} الذين أخلفوا الله ما وعدوه، وبما كانوا يكذبون. {إِنْ شاءَ} أي: إن شاء أن يعذبهم؛ أي: لم يوفقهم للتوبة، وإن لم يشأ أن يعذبهم؛ وفقهم للتوبة قبل موتهم. {إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً:} انظر الآية رقم [1].
الإعراب: {لِيَجْزِيَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وقال أبو البقاء: لام العاقبة. {اللهُ:} فاعله. {الصّادِقِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ. {بِصِدْقِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، أي: أمر الله بالجهاد ليجزي
…
إلخ. وقال أبو البقاء: متعلقان ب (صدق) أو ب: {زادَهُمْ،} أو ب (ما بدلوا)، والمعنى: على الأول أقوى.
{وَيُعَذِّبَ:} فعل مضارع معطوف على ما قبله، منصوب مثله، والفاعل يعود إلى {اللهُ} .
{الْمُنافِقِينَ:} مفعول به منصوب
…
إلخ. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {شاءَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والمفعول محذوف، وجواب الشرط محذوف أيضا، التقدير: إن شاء تعذيبهم؛ عذبهم. {أَوْ:} حرف عطف. {يَتُوبَ:}
مضارع معطوف على ما قبله منصوب مثله، والفاعل يعود إلى {اللهُ}. {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، وحذف شرط آخر، لدلالة الأول عليه انظر الشرح. {إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [1]. والجملة الشرطية معترضة بين الفعلين المتعاطفين.
الشرح: {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: قريشا، وحلفاءهم. {بِغَيْظِهِمْ} أي: لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا من القضاء على الإسلام، والمسلمين في المدينة المنورة؛ بل رجعوا خائبين. {لَمْ يَنالُوا خَيْراً:} ظفرا بالمسلمين، وسماه الله خيرا بزعمهم، وقصدهم. {وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ:} بالملائكة، والرياح؛ التي أرسلها عليهم، كما رأيت في الآية رقم [10]. {وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً} أي: صنع ما يريد، وهو غالب على أمره، ولا يحول شيء دون تنفيذ مراده.
تنبيه: قرئ قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [124]: {قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ} وقرئ:
«(الظالمون)» قال الفراء: معنى القراءتين واحد؛ لأن ما نلته فقد نالك، وما نالك فقد نلته.
خاتمة: وفي صحيحي البخاري، ومسلم: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال:«اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، هازم الأحزاب، اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم، وزلزلهم» .
وقام صلى الله عليه وسلم في الناس، فقال:«يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتم العدو؛ فاصبروا، واعلموا: أن الجنة تحت ظلال السيوف» . أي: السبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيف في سبيل الله، ودعا صلى الله عليه وسلم بقوله:«يا صريخ المكروبين، يا مجيب المضطرين، اكشف همي، وغمي، وكربي، فإنك ترى ما نزل بي، وبأصحابي» . وقال له المسلمون: هل من
شيء نقوله، فقد بلغت الروح الحناجر، قال:«نعم، قولوا: اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا» .
فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فبشره: أن الله يرسل عليهم ريحا، وجنودا، وأعلم صلى الله عليه وسلم أصحابه، وصار يرفع يديه، ويقول:«شكرا شكرا، كما رحمتني، ورحمت أصحابي» .
وجاء: أنه صلى الله عليه وسلم كان قد دعا يوم الإثنين والثلاثاء، ويوم الأربعاء، واستجيب له ذلك اليوم الذي هو يوم الأربعاء، بين الظهر والعصر، فعرف السرور في وجهه. ومن ثمّ كان جابر يدعو في مهماته في ذلك اليوم في ذلك الوقت، ويتحرى ذلك اليوم. وأما الأحاديث التي وردت بذم يوم الأربعاء، فمحمولة على آخر أربعاء في الشهر؛ فإنه روي: أن فرعون قد ولد في ذلك اليوم، وادعى الربوبية فيه، وأهلكه الله فيه، وهو اليوم الذي ابتلي فيه أيوب على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. انتهى. زيني دحلان بتصرف.
هذا؛ ويوم الأربعاء هو اليوم الأول والآخر من الأيام الثمانية التي أرسل الله فيها الرياح على قوم عاد، وسماها الله في سورة (فصلت) رقم [16] أياما نحسات، وقال في سورة (القمر) عن يوم الأربعاء:{يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} فإن قيل: يوم الأربعاء يوم نحس مستمر، فكيف يستجاب فيه الدعاء، والنبي صلى الله عليه وسلم قد دعا فيه كما رأيت، واستجيب له فيه؟! والجواب والله أعلم: أنه نحس على الفجار، والمفسدين، كما كانت الأيام النحسات المذكورة في سورة (فصلت) نحسات على الكفار من قوم عاد، لا على نبيهم، والمؤمنين منهم. وإذا كان كذلك؛ لم يبعد أن يمهل الله الظالم من أول يوم الأربعاء، إلى أن تزول الشمس، فإذا أدبر النهار، ولم يحدث توبة، ورجعة؛ استجيب دعاء المظلوم عليه، فكان اليوم نحسا على الظالم، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان على الكفار. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَرَدَّ:} الواو: حرف استئناف. (رد): فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{وَرَدَّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {بِغَيْظِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل (رد)، وهما مفعوله الثاني، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الاسم الموصول وهو أقوى، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله، أو من إضافة اسم المفعول لنائب فاعله. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَنالُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {خَيْراً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة فهي حال ثانية، أو متداخلة، والرابط: الضمير فقط. {وَكَفَى} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف.
(كفى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {اللهُ:} فاعله. {الْمُؤْمِنِينَ:} مفعول به أول. {الْقِتالَ:} مفعول به ثان، وجملة:{وَكَفَى..} . إلخ معطوفة على جملة: {(رَدَّ اللهُ
…
)}
إلخ، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. {وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. (كان):
فعل ماض ناقص. {اللهُ:} اسمها. {قَوِيًّا:} خبر أول. {عَزِيزاً:} خبر ثان، وجملة:
{وَكانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
الشرح: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ} أي: عاونوا قريشا، وحلفاءها من غطفان، وغيرها. {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ:} وهم بنو قريظة. {مِنْ صَياصِيهِمْ} أي: حصونهم، واحدها: صيصة، قال عبد بني الحسحاس:[الطويل] فأصبحت الثّيران صرعى وأصبحت
…
نساء تميم يبتدرن الصّياصيا
ومنه قيل لشوكة الحائك؛ التي يسوي بها السّداة واللّحمة: صيصة. قال دريد بن الصمة: [الطويل] فجئت إليه والرّماح تنوشه
…
كوقع الصّياصي في النسيج الممدّد
ومنه: صيصة الديك التي في رجله. وصياصي البقر: قرونها؛ لأنها تمتنع بها، وربما كانت تركب في الرماح مكان الأسنة، ويقال: جذّ الله صئصئه؛ أي: أصله. {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ:} الخوف. {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ:} يعني الرجال، يقال: كانوا ستمائة. {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً:}
يعني: النساء، والذراري. يقال: كانوا سبعمائة وخمسين.
روي أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب، ورجع المسلمون إلى المدينة، ووضعوا سلاحهم. أتى على فرسه الحيزوم، والغبار على وجه الفرس، وعلى السرج، فقال: ما هذا يا جبريل؟! قال: من متابعة قريش، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس، وعن سرجه. فقال: يا رسول الله! إن الملائكة لم تضع السلاح، إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، وأنا عامد إليهم، فإن الله داقّهم دقّ البيض على الصفا، وإنهم لكم طعمة. فأذّن في الناس: أن من كان سامعا مطيعا، فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الآخرة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة؛ حتى جهدهم الحصار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تنزلون على حكمي؟» فأبوا، فقال:«على حكم سعد بن معاذ؟» فرضوا به، فقال سعد رضي الله عنه:
حكمت فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال:«لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» . ثم استنزلهم، وخندق في سوق المدينة خندقا، وقدمهم،
فضرب أعناقهم. انتهى. من الكشاف باختصار. هذا؛ وقد ذكرت لك في الآية رقم [27] من سورة (الأنفال) قصة أبي لبابة، وهي متعلقة بقصة بني قريظة.
الإعراب: {وَأَنْزَلَ:} الواو: حرف عطف. (أنزل): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله) تعالى. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {ظاهَرُوهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ أَهْلِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و {أَهْلِ} مضاف، و {الْكِتابِ} مضاف إليه. {مِنْ صَياصِيهِمْ:} متعلقان بالفعل (أنزل)، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَأَنْزَلَ..} . إلخ معطوفة على جملة: (ردّ
…
) إلخ لا محل لها مثلها. (قذف): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهُ}. {فِي قُلُوبِهِمُ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {الرُّعْبَ:} مفعول به، وجملة:{وَقَذَفَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {فَرِيقاً:} مفعول به مقدم. {تَقْتُلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية مفسرة لقوله تعالى:{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} بل ومقررة لها، والتي بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق.
الشرح: {وَأَوْرَثَكُمْ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه. {أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ:} ضمير الغيبة يعود إلى بني قريظة. روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فقالت الأنصار في ذلك، فقال: إنكم في منازلكم. وقال عمر-رضي الله عنه: أما تخمس، كما خمست يوم بدر؟ قال:«لا إنما جعلت هذه لي طعمة دون النّاس» ، قال: رضينا بما صنع الله، ورسوله. {وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها:} عن الحسن البصري قال: هي فارس، والروم. وعن قتادة قال:
كنا نتحدث أنها مكة. وعن مقاتل: هي خيبر. وعن عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة.
وهذا ضعيف كما ترى، وما ذكر قبله فقد تحقق الثاني والثالث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحقق الأول في عهد الفاروق، رضي الله عنه.
{وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً:} فيه توجيهان: أحدهما: على ما أراده بعباده من نقمة، أو عفو قدير. والثاني: على ما أراد أن يفتحه من الحصون، والقرى قدير؛ قاله النقاش. والأول قاله محمد بن إسحاق. وقدير وقادر: لا ترد قدرته، ولا يجوز عليه العجز تعالى الله عن ذلك.
هذا؛ وانظر شرح (الدار) في الآية رقم [37] من سورة (القصص) أما الأموال؛ فإنه جمع:
مال، قال ابن الأثير: المال في الأصل يطلق على ما يملك من الذهب، والفضة، ثم أطلق على
كل ما يقتنى، ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها أكثر أموالهم. وقال الجوهري: ذكر بعضهم: أن المال يؤنث، وأنشد لحسان رضي الله عنه:[البسيط] المال تذري بأقوام ذوي حسب
…
وقد تسوّد غير السّيّد المال
وعن الفضل الضبي: المال عند العرب: الصامت، والناطق، فالصامت: الذهب، والفضة، والجواهر. والناطق: هو البعير، والبقرة، والشاة، فإذا قلت عن حضري: كثر ماله؛ فهو الصامت، وإذا قلت عن بدوي: كثر ماله؛ فالمراد الناطق، والنشب: المال الثابت، كالضياع، ونحوها، فلا يقال للمنقول من المال المذكور آنفا، قال عمرو بن معدي كرب الزبيدي، رضي الله عنه:[البسيط] أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
…
فقد تركتك ذا مال وذا نشب
هذا؛ وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من تواضع لغنيّ لغناه؛ فقد ذهب ثلثا دينه» . وإنما كان كذلك؛ لأن الإيمان متعلق لثلاثة أشياء: المعرفة بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان، فإذا تواضع بلسانه، وأعضائه، فقد ذهب الثلثان، فلو انضم إليه القلب ذهب الكل، وإن لم ينضم؛ فهو النفاق.
الإعراب: {وَأَوْرَثَكُمْ:} الواو: حرف عطف. (أورثكم): ماض، والفاعل يعود إلى (الله) تقديره:«هو» ، والكاف مفعول به أول. {أَرْضَهُمْ:} مفعول به ثان. {وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ:} معطوفان على ما قبلهما، والهاء في الثلاثة ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَأَرْضاً:} معطوفة أيضا.
{لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَطَؤُها:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب صفة:(أرضا)، وجملة:{وَأَوْرَثَكُمْ..} . إلخ معطوفة على جملة: (ردّ
…
) إلخ لا محل لها مثلها. {وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. (كان): فعل ماض ناقص. {اللهُ:} اسمها. {عَلى كُلِّ:} جار ومجرور متعلقان ب: {قَدِيراً} بعدهما، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه.
{قَدِيراً:} خبر (كان)، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ مستأنفة. لا محل لها من الإعراب.
الشرح: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا} أي: السعة، والتنعم، والترفه فيها. {وَزِينَتَها:} زخارفها، وبهجتها. {فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ:} أعطيكن المتعة، وهي قدر من المال، وهذه المتعة سنة إن كان الزوج قد أعطاها جميع حقوقها، فيسن أن يزيدها هذه المتعة تطييبا لخاطر المرأة المطلقة؛ لأنها مفجوعة بالطلاق، وهذه المتعة واجبة على الزوج إن طلقها قبل الدخول بها، وبعد العقد عليها، ولم يسم لها مهرا، وهذا القدر المالي يكثر، ويقل
نظرا لحال الزوج المطلق، قال تعالى في الآية رقم [236] من سورة (البقرة):{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} . {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً} أي: أطلقكن طلاقا حسنا، وذلك بأن يكون سنيا، وهو: أن يقع في طهر غير مجامع فيه، وأيضا مع إعطاء المرأة جميع حقوقها، لا كما يفعله فساق هذا الزمان الذين يؤذون المرأة، ويضارونها حتى يحملوها على التنازل عن كل حقوقها، أو بعضها.
(تعالين): قال ابن هشام في قطر الندى: وأما هات، وتعال، فعدهما جماعة من النحويين في أسماء الأفعال، والصواب: أنهما فعلا أمر، بدليل أنهما دالان على الطلب، وتلحقهما ياء المخاطبة، فتقول: هاتي، وتعالي. واعلم أن آخر (هات) مكسور أبدا، إلا إذا كان لجماعة المذكرين، فإنه يضم، وأن آخر (تعال) مفتوح في جميع أحواله من غير استثناء، تقول: تعال يا زيد، وتعالي يا هند، وتعاليا يا هندان، أو يا زيدان، وتعالوا يا زيدون، وتعالين يا هندات، كل ذلك بالفتح، قال الله تعالى:{قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ..} . إلخ، وقال تعالى:{فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ..} .
إلخ، ومن ثمّ لحنوا أبا فراس الحمداني بقوله:[الطويل] أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا
…
تعالي أقاسمك الهموم تعالي
وأقول: إن الفعلين «هات، وتعال» ملازمان للأمرية، فلا يأتي منهما مضارع، ولا ماض، وهما بمعنى:«أحضروا، أو احضروا» فالأول متعد، وهو من الرباعي، والثاني لازم، وهو من الثلاثي، وأما تعالى يتعالى؛ فهما بمعنى: تعاظم، يتعاظم، أو بمعنى: تنزه، يتنزه. وقل في إعلال:(تعالوا):
أصله تعالووا، ثم تعاليوا، فحذفت الضمة التي على الياء للثقل، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، وبقيت الواو؛ لأنها ضمير، وبقيت الفتحة على اللام لتدل على الألف المحذوفة.
الإعراب: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ} انظر الآية رقم [1] ففيها الكفاية. {قُلْ:} فعل أمر مبني على السكون، وفاعله مستتر فيه وجوبا، تقديره:«أنت» . {لِأَزْواجِكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُنَّ:}
فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {تُرِدْنَ:} فعل مضارع مبني على السكون، والنون فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان). {الْحَياةَ:} مفعول به. {الدُّنْيا:} صفة {الْحَياةَ} منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، وبعضهم يعتبره مضافا إليه، ولا وجه له البتة. {وَزِينَتَها:} معطوف على ما قبله، و (ها): في محل جر بالإضافة، وجملة:{كُنْتُنَّ..} .
إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَتَعالَيْنَ:} الفاء:
واقعة في جواب الشرط. (تعالين): فعل أمر مبني على السكون، ونون النسوة فاعله.
{أُمَتِّعْكُنَّ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف،
والفاعل مستتر تقديره: «أنا» ، والكاف مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث.
{وَأُسَرِّحْكُنَّ:} الواو: حرف عطف. (أسرحكن): معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله، والجملتان لا محل لهما؛ لأن الأولى لم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية. هذا؛ وقرئ الفعلان بالرفع على الاستئناف. {سَراحاً:} مفعول مطلق، وهو اسم مصدر لأن المصدر «تسريح». {جَمِيلاً:} صفة: {سَراحاً،} وجملة: (تعالين
…
) إلخ في محل جزم جواب الشرط، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. و {إِنْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها مبتدأة، مثل الجملة الندائية قبلها.
الشرح: ففي هذه الآية وعد من العزيز القدير لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن إن أعرضن عن الحياة الدنيا وزينتها، وفضلن الآخرة عليها، وأردن طاعة الله، ورضين بالرسول صلى الله عليه وسلم، وقنعن بما يقدم لهن من طعام، وكساء، ومسكن بأن الله أعد لهن في الآخرة الأجر العظيم، والخير العميم.
وتنكيره في الآية دليل على أنه لا يعرف قدره، ولا يحيط بكنهه عقل ولا سمع ولا بصر، قال تعالى في ثواب المؤمنين الصادقين:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} سورة (السجدة) رقم [17].
هذا؛ وسبب نزول الآيتين الكريمتين: أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه من عرض الدنيا شيئا، وطلبن منه زيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فهجرهن النبي صلى الله عليه وسلم، وآلى أن لا يقربهن شهرا، ولم يخرج إلى أصحابه، فقالوا: ما شأنه؟ وكانوا يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقال عمر-رضي الله عنه: لأعلمن لكم شأنه. قال: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! أطلقتهن؟ قال: «لا» . قلت: يا رسول الله! إني دخلت المسجد، والمسلمون يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، أفأنزل، فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال:«نعم، إن شئت» . فقمت على باب المسجد، وناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، ونزلت هذه الآية:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} الآية رقم [83] من سورة (النساء)، فكنت أنا استنبطت هذا الأمر، وأنزل الله آية التخيير انتهى.
خازن. ولم يذكر هذا غيره، ولم يذكر في تفسير الآية هناك.
عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: دخل أبو بكر-رضي الله عنه-يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه، لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر، فدخل، ثم أقبل عمر-رضي الله عنه-فاستأذن، فأذن له، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ساكتا، وحوله نساؤه،
فقال لأبي بكر: لأقولن شيئا أضحك به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأت عنقها، وهي زوجته، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«هن حولي، كما ترى يسألنني النفقة» . فقام أبو بكر-رضي الله عنه-إلى عائشة، فوجأ عنقها، وقام عمر-رضي الله عنه-إلى حفصة، فوجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده! قلن: والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده.
ثم اعتزلهن شهرا، أو تسعا وعشرين، حتى نزلت هاتان الآيتان:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ} إلى قوله تعالى {أَجْراً عَظِيماً} قال: فبدأ بعائشة، فقال:«يا عائشة! إني أريد أن أعرض عليك أمرا، أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك» . قالت: وما هو يا رسول الله؟! فتلا عليها الآية. قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله، ورسوله، والدار الآخرة، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت! قال:«لا تسألني امرأة منهنّ إلاّ أخبرتها، إنّ الله لم يبعثني معنّتا، ولا متعنّتا، ولكن بعثني معلّما ميسّرا» . أخرجه مسلم، ولما قالت عائشة ما تقدم رؤي الفرح في وجهه صلى الله عليه وسلم.
قال العلماء: وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تشاور أبويها؛ لأنه كان يحبها، وكان يخاف أن يحملها فرط الشباب على أن تختار فراقه، ويعلم من أبويها: أنهما لا يشيران عليها بفراقه.
هذا؛ ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه بذلك تابعن عائشة على اختيارها الله، ورسوله، والدار الآخرة.
فشكر الله اختيارهن، وكافأهن على ذلك حيث قصر نبيه عليهن، وحجر عليه التزوج بغيرهن حيث قال جل ذكره:{لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ..} . إلخ الآية رقم [52] الآتية.
تنبيه: اختلف العلماء في هذا الخيار، هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار، أم لا؟ فذهب الحسن، وقتادة، وأكثر أهل العلم إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا؛ فارقهن، لقوله تعالى:{فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} بدليل أنه لم يكن جوابهن على الفور، وأنه قال لعائشة رضي الله عنها: لا تعجلي؛ حتى تستشيري أبويك، وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور، وذهب قوم إلى أنه كان تفويض الطلاق، ولو اخترن أنفسهن؛ كان طلاقا.
التفريع على حكم الآية: اختلف أهل العلم في حكم التخيير، فقال عمر، وابن مسعود، وابن عباس-رضي الله عنهم: إذا خير الرجل امرأته، فاختارت زوجها لا يقع شيء، وإن اختارت نفسها؛ يقع طلقة واحدة، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وابن أبي ليلى، وسفيان، والشافعي، وأصحاب الرأي، إلا أن أصحاب الرأي يقع عندهم طلقة بائنة؛ إذا اختارت نفسها، وعند الآخرين رجعية، وأكثر أهل العلم على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء.
فعن مسروق-رحمه الله تعالى-، قال: ما أبالي خيرت امرأتي واحدة، أو مائة، أو ألفا بعد أن تختارني ولقد سألت عائشة، رضي الله عنها، فقالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان طلاقا.
وفي رواية: فاخترناه، فلم يعدّ ذلك شيئا.
تنبيه: كان تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حصل التخيير تسع نسوة: خمس من قريش، وهن:
عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، واسمها: رملة، وأم سلمة، واسمها: هند بنت أبي أمية المخزومية، وسودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية، وأربع غير قرشيات، وهن: زينب بنت جحش الأسدية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وقد نظم ذلك بعضهم فقال:[الطويل] توفّي رسول الله عن تسع نسوة
…
إليهنّ تعزى المكرمات وتنسب
فعائشة ميمونة وصفيّة
…
وحفصة تتلوهنّ هند وزينب
جويرية مع رملة، ثمّ سودة
…
ثلاث وستّ ذكرهنّ مهذّب
هذا، ولا يخفى عليك تزويجه بأم المؤمنين الأولى، وهي خديجة الكبرى، رضي الله عنها.
وتزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة بن الحارث من بني هلال، وكانت تسمى في الجاهلية أم المساكين لإطعامها إياهم، وقد توفيت في حياته مثل خديجة، وتزوج ريحانة بنت زيد، وكانت من سبي بني النضير، أعتقها، وتزوجها؛ وماتت في حياته، أما مارية القبطيّة رضي الله عنها فقد كانت جارية تسرّى بها، وولدت منه إبراهيم، وبقيت بعده، وقد عقد صلى الله عليه وسلم على كثير، ولم يدخل بهن.
الإعراب: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَةَ} انظر الآية السابقة، فالإعراب فيها شبيه بهذا. {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:}
اسمها. {أَعَدَّ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهَ}. {لِلْمُحْسِناتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.
{مِنْكُنَّ:} جار ومجرور متعلقان ب: (المحسنات)، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر فيه، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {أَجْراً:} مفعول به. {عَظِيماً:} صفة له، وجملة:
{أَعَدَّ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية: (إن الله
…
) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها، و (إن) ومدخولها معطوف على ما قبله فهو في محل نصب مقول القول مثله.
الشرح: {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي: بمعصية ظاهرة. قيل: هو كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} أي: على سبيل الفرض والتقدير، لا أنّ منهن من أتت. أو تأتي بفاحشة، فإن الله تعالى قد صان أزواج الأنبياء عن فاحشة، وإن لم يصنهن عن الكفر، كالذي كان من امرأة نوح، وامرأة لوط، على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام. وهذا
دليل واضح على أن فاحشة الزنى تنفر منها العقول السليمة، وتأباها الكرامة الإنسانية، لذا يجوز للمسلم أن يتزوج امرأة كافرة، ولا يجبرها على الإسلام، انظر ما ذكرته في الآية رقم [5] من سورة (المائدة) ولا يجوز له أن يقرّ امرأة زانية في بيته وقد سماه الرسول صلى الله عليه وسلم الدّيّوث، وحرّم عليه دخول الجنة.
فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة حرّم الله تبارك وتعالى عليهم الجنّة: مدمن الخمر، والعاقّ لوالديه، والدّيّوث؛ الّذي يقرّ الخبث في أهله» .
رواه الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: المراد بالفاحشة:
النشوز، وسوء الخلق، أي: والترفع، وعدم الخضوع لإرادة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي أعتمده، وأنزه نساءه صلى الله عليه وسلم عن فاحشة الزنى فحاشاهن، كيف لا؟ وقد أنزل الله قرآنا برّأ به عائشة مما رماها، وقذفها به المنافقون، انظر الآية رقم [11] من سورة (النور) وما بعدها.
{يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} أي: مثلين، وسبب تضعيف العقوبة لهن لشرفهن، كتضعيف عقوبة الحرة على الأمة، وذلك؛ لأن نسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى غيره من الرجال، كنسبة السادات إلى العبيد، لكونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فكذلك أزواجه بالنسبة إلى غيرهن كنسبة الحرة إلى الأمة، وقد اكتسبن هذا الشرف، وهذا الفضل من اقترانهن بسيد الخلق قاطبة. {وَكانَ ذلِكَ:}
أي تضعيف العذاب لهن. {عَلَى اللهِ يَسِيراً:} سهلا هينا.
هذا؛ ويقرأ: «(يضعّف)» بتشديد العين، ويقرأ:«(نضعف)» بالنون، كما يقرأ {يَأْتِ} بالياء والتاء، وكلها سبعية، والمضاعفة: المكاثرة، وضعف الشيء بكسر الضاد وسكون العين: مثله، وضعفاه: مثلاه، وأضعافه: أمثاله. هذا هو الأصل في الضعف، ثم استعمل في المثل، وما زاد، وليس للزيادة حد، فيقال: هذا ضعف هذا، أي: مثله، أو مثلاه، أو ثلاثة أمثاله، وهكذا.
ويقال: أضعفت الشيء، وضعفته، وضاعفته، فمعناه: ضممت إليه مثله فصاعدا. وقال بعضهم:
ضاعفت أبلغ من ضعّفت، ولذا قرأ أكثرهم في هذه الآية:{يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ،} وفي الآية رقم [69] من سورة (الفرقان){يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ،} وفي الآية رقم [39] من سورة (النساء): {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها} . هذا؛ وللضّعف بفتح الضاد، والضّعف بكسرها، والضّعف بضمها معان نظمها بعضهم بقوله:[الرجز] في الرأي والعقل يكون الضّعف
…
والوهن في الجسم، فذاك الضّعف
زيادة المثل كذا والضّعف
…
جمع ضعيف وهو شاكي الضّرّ
الإعراب: (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. (نساء): منادى، وهو مضاف، و {النَّبِيِّ} مضاف إليه. {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَأْتِ:} فعل
مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى:{مَنْ،} تقديره: «هو» . {مِنْكُنَّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر العائد إلى: {مَنْ،} و (من) بيان لما أبهم فيها، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {بِفاحِشَةٍ:} متعلقان بالفعل: (يأتي). {مُبَيِّنَةٍ:} صفة: (فاحشة).
{يُضاعَفْ:} مضارع مبني للمجهول جواب الشرط مجزوم. {لَهَا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْعَذابُ:} نائب فاعل. {ضِعْفَيْنِ:} مفعول مطلق منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:
{يُضاعَفْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء ولا ب «إذا» الفجائية، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط. وقيل: هو جملة الجواب. وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين. والجملة الاسمية:{مَنْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها مبتدأة مثل الجملة الندائية قبلها. {وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [19].
الشرح: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَرَسُولِهِ:} يطع، ويخضع؛ إذ القنوت: الخضوع، والطاعة، وطاعة الرسول إنما هي من طاعة الله. {وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ:} مرة على الطاعة، ومرة على طلبهن رضا النبي صلى الله عليه وسلم. {وَأَعْتَدْنا:} هيأنا. {رِزْقاً كَرِيماً:} واسعا، والمراد به الجنة، وما فيها من النعيم المقيم لا ينتهي عدده، ولا ينقطع مدده، صاف عن كدّ الاكتساب، وخوف الحساب، لا منة فيه، ولا عذاب.
وإنما خص الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بتضعيف العقوبة على الذنب، والمثوبة على الطاعة لأمرين: أما الأول: فلأنهن يشاهدن من الزواجر الرادعة عن الذنوب ما لا يشاهده غيرهن، ولأن في معصيتهن إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذنب من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من ذنب غيره، وأما الثاني: فلأنهن أشرف من سائر النساء لقربهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت الطاعة منهن أشرف كما أن المعصية منهن أقبح. انتهى. جمل نقلا من كرخي.
بعد هذا ينبغي أن تعلم: أن الأعمال يضاعف ثوابها إن كانت صالحة، ويضاعف عقابها إن كانت سيئة، بالنسبة للأشخاص العاملين، وبالنسبة للزمان، وبالنسبة للمكان، فكلما علت منزلة العبد عند ربه، وارتفعت مكانته عنده، يضاعف له ثواب عمله الصالح، ويضاعف له عقاب عمله السيئ، وما ذكر في الآيتين دليل واضح على ذلك. والعمل الصالح في شهر رمضان، وغيره من
الأوقات الفاضلة يضاعف ثوابه أضعافا مضاعفة، والعمل السيئ، يضاعف عقابه أضعافا مضاعفة، قال تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} الآية رقم [36] من سورة (التوبة) ففي قوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} لفت نظر إلى ما ذكرت، والمكان المفضل كذلك، فالصلاة في المسجد يضاعف ثوابها، والمعصية يضاعف عقابها فيه.
فعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصّلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة بمسجدي بألف صلاة، والصّلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة» .
رواه الطبراني، وإذا فعل العبد معصية في أحد المساجد الثلاثة يضاعف عقابه، كما يضاعف الثواب له. افهم هذا، واحفظه فقلّ من يتعرض له، ويلفت النظر إليه، والله ولي التوفيق، والحمد له على كل حال.
الإعراب: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَرَسُولِهِ:} انظر إعراب: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} في الآية السابقة فهو مثله بلا فارق. {وَتَعْمَلْ:} الواو: حرف عطف. (تعمل): معطوف على فعل الشرط: {يَقْنُتْ} فهو مجزوم مثله، والفاعل مستتر تقديره:«هي» ، ويقرأ بالياء على معنى (من). {صالِحاً:} مفعول به، أو هو صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: تعمل عملا صالحا. {نُؤْتِها:} مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، و (ها): مفعول به أول. {أَجْرَها:} مفعول به ثان، و (ها): في محل جر بالإضافة. {مَرَّتَيْنِ:} نائب مفعول مطلق، أو هو ظرف زمان فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وخبر المبتدأ الذي هو (من)، يقال فيه ما قيل بسابقه. (أعتدنا):
فعل، وفاعل. {لَها:} متعلقان بما قبلهما. {رِزْقاً:} مفعول به. {كَرِيماً:} صفة له، وجملة:{وَأَعْتَدْنا..} . إلخ معطوفة على جملة {نُؤْتِها..} . إلخ لا محل لها.
الشرح: {يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ} أي: في الفضل، والشرف، والمنزلة، وعلو المكانة؛ بل أنتن أرفع من غيركن بكثير، كيف لا؟ وقد اعتبركن الله أمهات للمؤمنين في الاحترام، والتكريم، والتعظيم. {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} أي: إن خفتن الله، وراقبتنّه، فإن التقوى هي المقام الأكرم، والأجل عند الله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ} . {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} أي: إذا كلمتن الرجال من وراء حجاب فلا تجئن بقولكنّ خاضعا، أي: لينا خنثا مثل كلام المريبات، ولا يمنع خصوص السبب التعميم؛ بل يعم كل امرأة مسلمة. هذا؛ وينبغي للمرأة
المسلمة الكاملة إذا عرفت من صوتها اللّين والنعومة أن تضع في فمها إصبعها، أو غيرها ليخرج صوتها خشنا جافا. {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي: ريبة، وفجور، وفسوق. {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} أي: يوجبه الدين، والإسلام عند الحاجة إليه ببيان من غير لين، وتخنث.
هذا؛ و (نساء) اسم جمع لا واحد له من لفظه لأن مفرده: امرأة، وجمعها في القلة: نسوة، وفي الكثرة: نساء، وتجمع أيضا على نسوان، ونسون، ونسنين، وهذه الجموع كلها مأخوذة من النسيان الذي رأيته في الآية رقم [14] من سورة (السجدة) فهي مطبوعة عليه، إما إهمالا، وإما كذبا، ويقال لكل واحد من هذه الجموع: اسم جمع، لا واحد له من لفظه. أما المرأة فهي مأخوذة من: المرء، وهو الرجل، فلذا سميت بذلك، والأم الأولى حواء سميت بذلك؛ لأنها مأخوذة من: حي، وهو آدم، على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام.
{لَسْتُنَّ:} حذفت عينه لالتقاء الساكنين: الياء، والسين؛ إذ أصله: ليس بكسر الياء، ثم سكنت الياء للتخفيف، ولم تقلب ألفا على القياس؛ لأن التخفيف بالتسكين في الجامد أسهل من القلب، فلما اتصل بضمير رفع متحرك؛ سكنت العين، فالتقى ساكنان: الياء، والسين، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار:{لَسْتُنَّ،} وانظر شرح (القول) في الآية رقم [85] من سورة (النمل)، وشرح {أَحَدٍ} في الآية رقم [28] من سورة (العنكبوت).
{اِتَّقَيْتُنَّ:} ماض من: «التقوى» وهي حفظ النفس من العذاب الأخروي بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه؛ لأن أصل المادة من الوقاية، وهي: الحفظ، والتحرز من المهالك في الدنيا والآخرة، وانظر ما وصف الله به المتقين في أول سورة (البقرة). وأصل: اتقى «اوتقى» قلبت الواو تاء، وأدغمت التاء في التاء، مثل: اتصل، أصله:«اوتصل»
…
إلخ.
الإعراب: (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. (نساء): منادى، وهو مضاف، و {النَّبِيِّ} مضاف إليه. {لَسْتُنَّ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء ضمير متصل في محل رفع اسمها، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {كَأَحَدٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: (ليس)، وإن اعتبرت الكاف اسما، فهي الخبر، وتكون مضافة، و (أحد) مضاف إليه. {مِنَ النِّساءِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: (أحد)، وجملة:{لَسْتُنَّ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {إِنِ:} حرف شرط جازم. {اِتَّقَيْتُنَّ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والنون حرف دال على جماعة الإناث، ومفعوله محذوف، انظر تقديره في الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:
لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): ناهية جازمة.
{تَخْضَعْنَ:} فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، التي هي فاعله، وهو في محل جزم ب (لا) الناهية. {بِالْقَوْلِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط.
هذا؛ وقيل: الجواب محذوف دل عليه ما قبله، وجملة:{فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} مستأنفة، ولا وجه له. {فَيَطْمَعَ:} الفاء: للسببية. (يطمع): فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة وجوبا بعد الفاء السببية. {الَّذِي:} اسم موصول، مبني على السكون في محل رفع فاعل. {فِي قَلْبِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مَرَضٌ:}
مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها. هذا؛ وإن اعتبرت الجار والمجرور متعلقين بمحذوف صلة الموصول؛ ف:{مَرَضٌ} يكون فاعلا بمتعلق الجار والمجرور، التقدير:
الذي استقر في قلبه مرض، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: فلا يكن منكن خضوع بالقول، فطمع واقع من الذي في قلبه مرض. هذا؛ ويقرأ الفعل بكسر العين على اعتباره معطوفا بالجزم على المجزوم ب:(لا) الناهية، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَقُلْنَ:} الواو: حرف عطف.
(قلن): فعل أمر مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة التي هي فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة جواب الشرط. {قَوْلاً:} مفعول مطلق. {مَعْرُوفاً:} صفة {قَوْلاً} .
الشرح: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ:} يقرأ بكسر القاف، وفتحها، أما الأولى فتحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من الوقار، تقول: وقر، يقر، وقارا؛ أي: سكن، والأمر: قر، وللنساء:
قرن، مثل: عدن. والثاني: وهو قول المبرد أن يكون من القرار، تقول: قررت بالمكان، أقرّ.
والأصل: أقررن بكسر الراء الأولى، فحذفت الراء الأولى تخفيفا؛ ونقلوا حركتها إلى القاف، واستغني عن ألف الوصل لتحرك القاف. وأما على قراءة الفعل بفتح القاف، يقال: قررت في المكان: إذا أقمت فيه أقرّ من باب: حمد، يحمد، والأصل اقررن بفتح الراء الأولى، فحذفت لثقل التضعيف، وألقيت حركتها على القاف، فتقول: قرن.
{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى} أي: القديمة، والأصل: ولا تتبرجن، فحذفت إحدى التاءين، والتبرج: التبختر في المشي، أو إظهار الزينة، والتقدير: ولا تبرجن تبرجا مثل تبرج النساء في الجاهلية الأولى، وهي: الزمان الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام، أو ما بين آدم، ونوح عليهما السلام، أو زمن داود، وسليمان. والجاهلية الأخرى: ما بين عيسى، ومحمد، عليهما الصلاة والسّلام. أو الجاهلية الأولى: جاهلية الكفر قبل الإسلام. والجاهلية الأخرى:
جاهلية الفسوق، والفجور في الإسلام. ويعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء-رضي الله عنه-
«إنّ فيك جاهلية!» قال: جاهلية كفر، أو إسلام؟ قال:«جاهلية كفر» . ولا تنس الجاهلية السائدة في هذه الأيام بين المسلمين.
{وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ:} خصهما الله بالذكر، والأمر، ثم عمم بجميع الطاعات تفضيلا لهما، وتنويها بعلو شأنهما، ولأن من واظب عليهما؛ جرتاه إلى كل خير، كيف لا وقد قال تعالى:{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ} . وقال جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها} . وانظر الآية رقم [4] من سورة (لقمان) تجد ما يسرك. {وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ:} قرن الله طاعته بطاعة نبيه، وهو دليل صريح على أن من لم يطع الرسول؛ لم يطع الله تعالى، قال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ،} وقال جل ذكره: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
{إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ:} الذنب المدنس لعرضكم، وشرفكم، والإثم الذي نهى الله عنه. {أَهْلَ الْبَيْتِ:} قال الزجاج: قيل: يراد به نساء النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: يراد به نساؤه، وأهله الذين هم أهل بيته، وانظر الآية التالية. {وَيُطَهِّرَكُمْ:} من المعاصي. {تَطْهِيراً:} مصدر مؤكد، وفيه بيان: أنه إنما نهاهن، وأمرهن، ووعظهن لئلا يقارف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المآثم، وليتصونوا عنها بالتقوى، واستعار للذنوب الرجس، وللتقوى الطهر؛ لأن عرض المقترف للقبائح يتلوث بها، كما يتلوث بدنه بالأرجاس، وأما المحسنات؛ فالعرض منهن نقي، كالثوب الطاهر.
وفيه تنفير لأولي الألباب عن المناهي، وترغيب لهم في الأوامر من الطاعات. انتهى. نسفي.
الإعراب: {وَقَرْنَ:} الواو: حرف عطف. (قرن): فعل أمر مبني على السكون، ونون النسوة فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فِي بُيُوتِكُنَّ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والنون حرف دال على جماعة الإناث.
{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَبَرَّجْنَ:} فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، التي هي فاعله، وهو في محل جزم ب (لا) الناهية، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {تَبَرُّجَ:} مفعول مطلق، مبين للنوع، وهو مضاف، و {الْجاهِلِيَّةِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. {الْأُولى:} صفة {الْجاهِلِيَّةِ} مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، وجملة:{وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. (آتين): فعل أمر مبني على السكون، ونون النسوة فاعله. {الزَّكاةَ:}
مفعول به، وجملة:{وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.
{إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ..} . إلخ: قال الجمل في حاشيته عند قوله تعالى في الآية [8] من سورة (الصف): {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا..} . إلخ: في هذه اللام، أوجه: أحدها أنها مزيدة في مفعول الإرادة، قال الزمخشري: أصله يريدون أن يطفئوا كما جاء في سورة (التوبة) الآية رقم [32]:
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ..} . إلخ وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة توكيدا له لما فيها من معنى الإرادة، وقال ابن عطية: واللام في {لِيُطْفِؤُا} لام مؤكدة دخلت على المفعول؛ لأن التقدير: يريدون أن يطفئوا. الثاني: أنها لام العلة، والمفعول محذوف، أي:
يريدون إبطال القرآن، أو رفع الإسلام، أو هلاك الرسول ليطفئوا. الثالث: أنها بمعنى «أن» الناصبة، وأنها ناصبة للفعل بنفسها. قال الفراء: العرب تجعل لام كي في موضع «أن» في أراد، وأمر، وإليه ذهب الكسائي أيضا. انتهى. جمل نقلا عن السمين. ومثل هذه الآية قوله تعالى في الآية رقم [26] من سورة (النساء):{يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ،} والآية رقم [71] من سورة (الأنعام){وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} ومثل ذلك قول كثيّر عزة بصيغة التصغير: [الطويل] أريد لأنسى ذكرها فكأنّما
…
تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل
وهو الشاهد رقم [294] من كتابنا: فتح القريب المجيب. {عَنْكُمُ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {الرِّجْسَ:} مفعول به، وجملة:{إِنَّما يُرِيدُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {أَهْلَ:}
منادى بأداة نداء محذوفة. وقال بعضهم: منصوب على الاختصاص بفعل محذوف، وهو ضعيف لوقوعه بعد ضمير الخطاب، وإنما الأكثر أن يقع الاختصاص بعد ضمير التكلم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:
«نحن معاشر الأنبياء لا نورث» . و {أَهْلَ} مضاف، و {الْبَيْتِ:} مضاف إليه. {وَيُطَهِّرَكُمْ:}
معطوف على: (يذهب)، والفاعل يعود إلى الله تعالى، والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {تَطْهِيراً:} مفعول مطلق مؤكد لعامله.
الشرح: {وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ:} الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تذكير لهن بما أنعم الله عليهن؛ حيث جعلهن أهل بيت النبوة، ومهبط الوحي، وما شاهدن من آثار الوحي، مما يوجب قوة الإيمان، والحرص على الطاعة، ويبعث على القيام بما كلفن به، والإعراض عما نهين عنه. {مِنْ آياتِ اللهِ:} آيات القرآن. {وَالْحِكْمَةِ:} السنة المطهرة، التي تكفلت بشرح معاني القرآن. {إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً:} لطيفا بأهل طاعته، وأوليائه، عالما بغوامض الأشياء، وخبيرا بالتدابير الظاهرة، والباطنة، وخبيرا بحاجات العباد، وأحوالهم، ومصالحهم، وخبيرا بأعمال العباد، ونياتهم.
هذا؛ وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت من هم؟ فقال عطاء، وعكرمة، وابن عباس، وسعيد بن جبير-رضوان الله عليهم-: هم زوجاته خاصة، لا رجل معهن، واستدلوا بقوله تعالى:{وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ،} وذهب أبو سعيد الخدري، وجماعة من التابعين،
منهم: مجاهد، وقتادة، وغيرهم إلى أنهم: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين-رضي الله عنهم أجمعين-. واحتجوا بقوله تعالى:{إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ..} . إلخ ولو كان للنساء خاصة لقال: «عنكنّ، ويطهركنّ» إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على لفظ الأهل، كما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ أي: امرأتك، ونساؤك. فيقول: هم بخير، قال تعالى:
{قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} . الآية رقم [73] من سورة (هود).
والذي يظهر من الآية: أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج، وغيرهم، وإنما قال:
(يطهركم) لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليا، وحسنا، وحسينا كانوا فيهم، وإذا اجتمع المذكر، والمؤنث؛ غلّب المذكر، فاقتضت الآية: أن الزوجات من أهل البيت؛ لأن الآية فيهن، والمخاطبة لهن، يدل عليه سياق الكلام. والله أعلم، وأجل، وأكرم.
وخذ ما يلي: عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة، وعليه مرط مرحّل من شعر أسود، فجلس، فأتت فاطمة، فأدخلها فيه، ثم جاء عليّ فأدخله فيه، ثم جاء الحسن، فأدخله فيه، ثم جاء الحسين، فأدخله فيه، ثم قال:{إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} . أخرجه مسلم. المرط: الكساء، والمرحل: بالحاء المنقوش عليه صور الرحال، وبالجيم: المنقوش عليه صور الرجال.
وعن أم سلمة-رضي الله عنها-قالت: إن هذه الآية نزلت في بيتي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا، وفاطمة، وحسنا، وحسينا، فدخل معهم تحت كساء خيبري، وقال:«هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا» . فقالت أم سلمة-رضي الله عنها: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: «أنت على مكانك، أنت على خير، أنت من أزواج النبيّ» . أخرجه الترمذي. هذا؛ وبعد وفاة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثبت لقب «أهل البيت» على أولاد فاطمة، رضي الله عنها.
الإعراب: {وَاذْكُرْنَ:} الواو: حرف عطف. (اذكرن): فعل أمر مبني على السكون، ونون النسوة فاعله. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {يُتْلى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل ضمير مستتر، تقديره:«هو» يعود إلى {ما،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة:{ما،} لا محل لها. {فِي بُيُوتِكُنَّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {مِنْ آياتِ:} متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر، و {مِنْ} بيان لما أبهم في {ما} و {آياتِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.
{وَالْحِكْمَةِ:} معطوف على ما قبله، وجملة:{وَاذْكُرْنَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمها يعود إلى {اللهِ}. {لَطِيفاً:} خبر أول. {خَبِيراً:} خبر ثان، وجملة:{كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: روي: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن: يا رسول الله! ذكر الله الرجال في القرآن، ولم يذكر النساء بخير، فما فينا خير نذكر به، إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة! فأنزل الله هذه الآية.
وروي أن أم عمارة الأنصارية-رضي الله عنها-قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما لي أرى كل شيء إلى الرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء؟! فنزلت الآية أخرجه الترمذي. وروي: أنه لما نزل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم الآيات السابقة قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء. فنزلت الآية، وهذا أولى بالاعتبار، فذكر الله لهن عشر مراتب مع الرجال، فمدحن بها معهم.
الأولى: الإسلام، وهو: الاستسلام الظاهر لما أمر الله به، وحث عليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وعرف من الدين بالضرورة.
الثانية: الإيمان، وهو التصديق بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف من الدين بالضرورة.
فإن قلت: لم عطف الإيمان على الإسلام؛ مع أنهما متحدان شرعا؟ فالجواب: ليسا بمتحدين مطلقا؛ بل متحدان ما صدقا لا مفهوما، أخذا من الفرق بين الإسلام، والإيمان الشرعيين؛ إذ الإسلام الشرعي هو التلفظ بالشهادتين بشرط تصديق القلب بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان الشرعي عكس ذلك، ويكفي في العطف المقتضي للاختلاف اختلافهما مفهوما، وإن اتحدا ما صدقا، وفي اتحادهما يقول الله تعالى:{فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
وبعبارة، أوضح: قد يوجد إسلام، ولا يوجد إيمان. ودليل هذا: أن الإسلام هو النطق بالشهادتين والانقياد الظاهري بالجوارح، وذلك يكون بأداء الصلاة، وغيرها من أعمال الإسلام، أما الإيمان فمحله القلب، وهو الاعتقاد الجازم بوجود أمور أجاب عنها الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سأله جبريل الأمين-عليه السلام-عن الإيمان، فقال:«الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء، والقدر: خيره، وشره من الله تعالى» . ولذا رد الله دعوى أقوام الإيمان بقوله: {قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ..} . إلخ الآية رقم [14] من سورة (الحجرات)، ثم بين حقيقة الإيمان، وحقيقة المؤمنين الصادقين في الآية التالية لها رقم [15] بقوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ} وجملة القول: إن بينهما عموما،
وخصوصا من وجه، فقد يوجد إسلام، ولا يوجد إيمان، وأما الإيمان فلا يمكن وجوده إلا بوجود الإسلام، فالإسلام قد يوجد عند المنافقين؛ الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وأما الإيمان فلا يوجد إلا عند المسلمين المؤمنين الصادقين في إيمانهم؛ الذين قال الله فيهم:{أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ} . جعلنا الله منهم، ووفقنا للسير على طريقتهم.
{وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ:} والمطيعين، والمطيعات. هذا؛ والقنوت: الطاعة، والخضوع، والدعاء، والتذلل بين يدي الله تعالى. {وَالصّادِقِينَ وَالصّادِقاتِ} أي: في الأقوال، والأعمال، والنيات، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدق، وحذر من الكذب، فقال:«عليكم بالصّدق، فإنّ الصدق يهدي إلى البرّ، والبرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرّى الصدق؛ حتى يكتب عند الله صدّيقا، وإيّاكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرّجل يكذب، ويتحرّى الكذب؛ حتّى يكتب عند الله كذّابا» . رواه البخاري، ومسلم عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه. واعتبر الكذب من علامات النفاق؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» . رواه البخاري، ومسلم، وزاد مسلم في رواية له:«وإن صلى، وصام، وحج، واعتمر. وقال: إني مسلم» .
{وَالصّابِرِينَ وَالصّابِراتِ:} على الطاعات، وعن المعاصي، وعلى أنواع البلاء، كما رأيت في الآية رقم [24] من سورة (السجدة).
{وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ} أي: في الصلاة، فهو لبها، وجوهرها. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-في تفسير قوله تعالى في سورة (المؤمنون):{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ} أي: مخبتون أذلاء متواضعون. هذا؛ والخشوع في الصلاة يكون في القلب وفي الجوارح، أما خشوع القلب: فهو الخوف من الله، وحضوره معه حينما يقول:{إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} وملاحظة: أنه بين يديه تعالى في جميع حركاته، وسكناته. وأما خشوع الجوارح؛ فعدم الالتفات في الصلاة، وعدم رفع البصر إلى السماء، وعدم العبث بشيء من جسده، وثيابه، فقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال:«لو خشع قلب هذا؛ لخشعت جوارحه» . ذكره البغوي بغير سند، وانظر ما ذكرته في صدر سورة (المؤمنون) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
{وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ} أي: المنافقين، والمنفقات المال فرضا، وتطوعا كلما دعاهم داع إلى بذل المال.
{وَالصّائِمِينَ وَالصّائِماتِ} أي: شهر رمضان، وما ندب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى صومه، كصوم الاثنين، والخميس من كل أسبوع، والعشر الأول من ذي الحجة، وغير ذلك مما ورد الترغيب في صومه.
{وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ:} عما لا يحل، من الزنى، وغيره. {وَالْحافِظاتِ:} فروجهن عما لا يحل، من الزنى وغيره.
{وَالذّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذّاكِراتِ} أي: الله كثيرا، وهذا يفيد: أن كل عبادة لها أول، ولها آخر إلا الذكر فإنه لا يقف عند حد، وخذ ما يلي:
عن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذّهب، والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟!» . قالوا: بلى. قال: «ذكر الله» .
قال معاذ بن جبل: ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله. رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم، والبيهقي.
وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من أعطيهنّ؛ فقد أعطي خيري الدنيا والآخرة: قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وبدنا على البلاء صابرا، وزوجة لا تبغيه حوبا في نفسها، وماله» . رواه الطبراني، وهذا قليل من كثير مما ورد في فضائل الذكر. وانظر الآيتين رقم [41 و 42] الآتيتين.
{أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ:} فيه تغليب الذكور على الإناث، وحذف مقابلة لدلالة الأول عليه، التقدير:
أعد الله لهم ولهن. {مَغْفِرَةً:} لما اقترفوا من الذنوب الصغائر؛ لأن ما ذكر من الصفات يكفرها، أما الكبائر؛ فلا بد لغفرانها من التوبة النصوح المقترنة بشروطها. {وَأَجْراً عَظِيماً:}
التنكير يدل على أن هذا الأجر لا يدرك كنهه أحد، ولا يحيط به علم مخلوق.
فائدة: قال عطاء بن أبي رباح-رضي الله عنه: من فوض أمره إلى الله؛ فهو داخل في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ} . ومن أقر بأن الله ربه، ومحمدا رسوله، ولم يخالف قلبه لسانه؛ فهو داخل في قوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} . ومن أطاع الله في الفرض، والرسول في السنة، فهو داخل في قوله تعالى:{وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ} . ومن صان قوله عن الكذب؛ فهو داخل في قوله تعالى: {وَالصّادِقِينَ وَالصّادِقاتِ} . ومن صبر على الطاعة، وعن المعصية، وعلى الرزية، فهو داخل في قوله تعالى:{وَالصّابِرِينَ وَالصّابِراتِ} . ومن صلّى، فلم يعرف من على يمينه، ومن على شماله، فهو داخل في قوله تعالى:{وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ} . ومن تصدّق في كل أسبوع بدرهم؛ فهو داخل في قوله تعالى: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ} . ومن صام في كل شهر أيام البيض، وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، فهو داخل في قوله تعالى:
{وَالصّائِمِينَ وَالصّائِماتِ} . ومن حفظ فرجه عما لا يحل فهو داخل في قوله تعالى: {وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ} . ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها، فهو داخل في قوله تعالى:
{وَالذّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذّاكِراتِ} . انتهى. خازن، ولا تنس: أن «ال» في هذه الأسماء بمعنى:
«الذي» فإن التقدير: والذين يديمون التصدق، والذين يديمون الصيام، والذين يتصدقون، والذين يصومون، والذين يحافظون
…
إلخ.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْمُسْلِمِينَ:} اسم: {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه. {وَالْمُسْلِماتِ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وفاعله مستتر فيه، وما بعد هذين الاسمين معطوف عليهما، والإعراب مثلهما بلا فارق، وحذف متعلق بعض هذه الأسماء لدلالة المقام عليه. {فُرُوجَهُمْ:}
مفعول به عامله ما قبله، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وحذف مفعول (الحافظات) لدلالة الأول عليه. {اللهَ:} منصوب على التعظيم عامله ما قبله. {كَثِيراً:} صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: ذكرا كثيرا، وحذف ما بعد (الذاكرات) لدلالة ما قبله عليه. {أَعَدَّ:} فعل ماض. {اللهَ:} فاعله. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مَغْفِرَةً} مفعول به.
{وَأَجْراً:} معطوف على ما قبله. {عَظِيماً:} صفة له، وجملة:{أَعَدَّ اللهُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنَّ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.
الشرح: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} أي: ما صح، وهذا التعبير:{وَما يَنْبَغِي} ونحوهما معناه: الحظر والمنع، فتجيء لحظر الشيء، والحكم بأنه لا يجوز كما في هذه الآية، وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلا، كقوله تعالى في سورة (النّمل):{ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها} الآية رقم [60]. وربما كان العلم بامتناعه شرعا، كقوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [79]:{ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ،} وقوله تعالى في سورة (الشورى) رقم [51]: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} وربما كان في المندوبات، كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تترك صلاة الصبح، والعشاء في الجماعة، ونحو ذلك.
{إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} أي: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الله لتعظيم أمره، والإشعار بأن قضاءه قضاء الله، فهو مثل قوله تعالى:{قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ} . {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ:} أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا؛ بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه، واختيارهم تلوا لاختياره.
هذا؛ والفعل {يَكُونَ} يقرأ بالياء، والتاء؛ لأن الخيرة مؤنث مجازي، يجوز فيه التذكير، والتأنيث، والخيرة من: التخير، كالطيرة من: التطير، يستعمل بمعنى المصدر. وهو التخير؛ وبمعنى المتخيّر، كقولهم: محمد خيرة الله من خلقه، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [68] من سورة (القصص) تجد ما
يسرك، ويثلج صدرك. هذا؛ وجمع الضمير في {لَهُمُ} وإن كان حقه أن يوحد، أو يثنى؛ لأن المذكورين وقعا تحت النفي، فعمّا كل مؤمن، ومؤمنة، فرجع الضمير إلى المعنى، لا إلى اللفظ.
{وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ:} يخالف، أوامرهما فيما أمرا به، أو يخالف نهيهما عما نهيا عنه.
{فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً:} فإن كان العصيان عصيان رد، وامتناع عن القبول؛ فهو ضلال، وكفر، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر، واعتقاد الوجوب؛ فهو ضلال خطأ، وفسق. وانظر شرح:
{ضَلَّ} في الآية رقم [11] من سورة (لقمان).
تنبيه: نزلت الآية الكريمة في زينب بنت جحش الأسدية، وأخيها عبد الله بن جحش، وأمهما أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبها لمولاه زيد بن حارثة-رضي الله عنه-الذي حدثتك عنه في الآية رقم [4] وكانت قد ظنت: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبها لنفسه، فرضيت، فلما علمت: أنه يخطبها لزيد بن حارثة؛ أبت، وقالت: أنا ابنة عمتك يا رسول الله! فلا أرضاه لنفسي، وكانت بيضاء جميلة، وفيها حدة، وكذلك كره أخوها ذلك، فأنزل الله تعالى:{وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ} يعني: عبد الله بن جحش {وَلا مُؤْمِنَةٍ} يعني: أخته زينب {إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} يعني: نكاح زيد لزينب. فلما سمعت زينب بذلك وأخوها؛ رضيا، وسلّما، وجعلت أمرها بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحها زيدا، ودخل بها، وساق إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دنانير، وستين درهما، وخمارا، ودرعا، وملحفة، وخمسين مدا من طعام، وثلاثين صاعا من تمر. انتهى. خازن.
قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: في هذه الآية دليل؛ بل نص في أن الكفاءة لا تعتبر في الأحساب، وإنما تعتبر في الأديان، خلافا لمالك، والشافعي، والمغيرة، وسحنون، وذلك: أن الموالي تزوجت في قريش، تزوج زيد زينب بنت جحش، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير، وزوج أبو حذيفة سالما من فاطمة بنت الوليد بن عتبة، وتزوج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف. انتهى.
والمعتمد: أن الكفاءة تعتبر في الأحساب أيضا؛ لأن المرأة إذا تزوجت دونها في الحسب، فإنها تترفع على الزوج، ولا تخضع لأوامره، ولا تستجيب لمطالبه، والآية التالية توضح ذلك، أما الزوج إذا تزوج دونه في الحسب برضاه، فلا غضاضة، ولكن الأفضل أن يتزوج مثله لأن الولد يفتخر بأخواله، كما هو معلوم لدى كل إنسان.
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص.
{لِمُؤْمِنٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} تقدم على اسمها. {وَلا:} الواو:
حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {مُؤْمِنَةٍ:} معطوف على ما قبله. {إِذا:} ظرف زمان مجرد عن الشرط، مبني على السكون في محل نصب متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، التقدير: وما كان مستقرا لمؤمن ولا مؤمنة وقت قضاء الله كونه خيرة له في أمره. ويجوز أن
تكون: {إِذا} شرطية، ويكون جوابها محذوفا مدلولا عليه بالنفي المتقدم. {قَضَى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:
{إِذا} إليها. {وَرَسُولُهُ:} معطوف على ما قبله، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.
{أَمْراً:} مفعول به. {كانَ:} حرف مصدري، ونصب. {يَكُونَ:} مضارع ناقص منصوب ب: {كانَ} . {لَهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْخِيَرَةُ:} اسم يكون مؤخر.
{مِنْ أَمْرِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الخيرة، و {أَنْ يَكُونَ..} . إلخ في تأويل مصدر في محل رفع اسم (كان) مؤخر، وجملة: (ما كان
…
) إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَعْصِ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى (من). {اللهُ:}
منصوب على التعظيم. {وَرَسُولُهُ:} الواو: حرف عطف. (رسوله): معطوف على ما قبله.
{فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.
{ضَلَّ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من) أيضا. {ضَلالاً:} مفعول مطلق. {مُبِيناً:} صفة له، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [30].
الشرح: {وَإِذْ تَقُولُ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ:} المراد بضمير الغيبة: زيد بن حارثة-رضي الله عنه-أنعم الله عليه بالإسلام الذي هو أجل النعم. {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} أي: بالإعتاق والتبني، فهو متقلب بنعمة الله ونعمة رسوله. {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ:} زينب، ولا تطلقها، وذلك حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال له:«ما لك؟ أرابك منها شيء؟» . قال:
لا والله ما رأيت منها إلا خيرا، ولكنها تتعاظم عليّ بشرفها، وتؤذيني بلسانها، فقال له:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ:} فلا تطلقها. {وَاتَّقِ اللهَ:} فلا تذمها بنسبتها إلى الكبر، وأذى الزوج.
{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ} أي: تخفي في نفسك نكاح زينب إن طلقها زيد، وهو الذي يريد الله إظهاره للناس لحكمة يعلمها جلت قدرته ظهرت فيما بعد، وهي إبطال عادة التبني التي كانت شائعة في الجاهلية وصدر الإسلام. {وَتَخْشَى النّاسَ} أي: تخاف من لوم الناس وعلى الأخص
المنافقين، وتعييرهم، حيث يقولون: تزوج محمد امرأة ابنه زيد. {وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ} أي: تخافه وتستحيي منه، فهو أحق بالخوف، والحياء منه. فعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ممّا أوحي إليه؛ لكتم هذه الآية. {فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً} أي: حاجته منها، ولم يبق له فيها أرب وتقاصرت همته عنها، وطابت نفسه منها، وطلقها، وانقضت عدتها. وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبني تحل بعد الدخول بها. {زَوَّجْناكَها:} وقرئ: «(زوجتكها)» .
تنبيه: قال الله تعالى هنا مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَتَخْشَى النّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ،} وقال في الآية رقم [13] من سورة (التوبة) مخاطبا المؤمنين: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ،} وقال في الآية رقم [44] من سورة (المائدة): {فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَاخْشَوْنِ} والخشية: خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، وهو المراد منه بخشية عباد الله المؤمنين المتكررة في القرآن الكريم. هذا؛ والماضي خشي، والمصدر: خشية، والرجل خشيان والمرأة خشيا، وهذا المكان أخشى من ذلك، أي: أشد خوفا. هذا؛ وقد يأتي الفعل: «خشي» بمعنى: «علم» القلبية، قال الشاعر:[الكامل] ولقد خشيت بأنّ من تبع الهدى
…
سكن الجنان مع النّبيّ محمّد
قالوا: معناه: علمت، وقوله تعالى في سورة (الكهف):{فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً} قال الأخفش: معناه: كرهنا، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
روي: أنها لما اعتدت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد:«ما أجد أحدا، أوثق في نفسي منك! اخطب عليّ زينب» . قال زيد-رضي الله عنه: فانطلقت، وقلت: يا زينب! أبشري! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبك، ففرحت، وتزوجها، ودخل بها، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة، وأطعم الناس الخبز، واللحم حتى امتد النهار. وقال أنس رضي الله عنه:
كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: زوجكن آباؤكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات. وقال الشعبي: كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لأدلّ عليك بثلاث، ما من امرأة من نسائك تدلّ بهن: جدي وجدك واحد، وإني أنكحنيك الله في السماء، وإن السفير جبريل عليه السلام، لذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم، لما قرأ عليه جبريل عليه السلام:{فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها} قال: قبلت، فلم يحتج عليه الصلاة والسلام إلى وليّ من جهة زينب يتولى إيجاب العقد، ولم يحضر شهودا على ذلك.
{لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ:} إثم ومؤاخذة. {فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ:} جمع دعي، وهو الابن المتبنى. {إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً:} قضاء الوطر: إدراك الحاجة، وبلوغ المراد منه. {وَكانَ أَمْرُ اللهِ:} أمره الذي يريده. {مَفْعُولاً} أي: ماضيا ونافذا، كالذي أراده من زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب، رضي الله عنها، والحكمة كانت إبطال عادة التبني؛ التي كانت شائعة في الجاهلية.
تنبيه: قال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي-رضي الله عنه: كان يقال: زيد بن محمد؛ حتى نزل قوله تعالى: {اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ} فقال زيد: أنا زيد بن حارثة، وحرم عليه أن يقول: أنا زيد بن محمد. فلما نزع عنه هذا الشرف، وهذا الفخر، وعلم الله وحشته من ذلك، شرفه بخصوصية لم يكن يخص بها أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أنه سماه في القرآن، فقال تعالى:{فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً} يعني: من زينب، ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم؛ حتى صار قرآنا يتلى في المحاريب؛ نوّه به غاية التنويه، فكان في هذا تأنيس له، وعوض من الفخر بأبوة محمد صلى الله عليه وسلم له.
ألا ترى إلى قول أبي بن كعب-رضي الله عنه-حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا، فبكى، وقال: أو ذكرت هنالك؟ وكان بكاؤه من الفرح حين أخبر: أن الله تعالى ذكره، فكيف بمن صار اسمه قرآنا يتلى مخلدا لا يبيد، يتلوه أهل الدنيا إذا قرءوا القرآن، وأهل الجنة كذلك أبدا، لا يزال على ألسنة المؤمنين، كما لم يزل مذكورا على الخصوص عند رب العالمين؛ إذ القرآن كلام الله القديم، وهو باق لا يبيد؟! فاسم زيد في هذه الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة، تذكره في التلاوة السفرة الكرام البررة، وليس ذلك لاسم من أسماء المؤمنين إلا لنبي من الأنبياء، ولزيد بن حارثة تعويضا من الله تعالى مما نزع منه، وزاد في الآية أن قال:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ} أي: بالإيمان؛ فدل على أنه من أهل الجنة، علم ذلك قبل أن يموت، وهذه فضيلة أخرى. انتهى. قرطبي.
تنبيه: وهنا يحلو لبعض ضعفاء الإيمان الذين في قلوبهم مرض أن يثيروا الشبهات حول زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب-رضي الله عنها-فقد زعموا: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى زينب، فأحبها ثم كتم هذا الحب، ثم بعد ذلك أظهره، ورغب في زواجها، فطلقها زيد، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وزعموا: أن العتاب في الآية كان لكتمان حبه لها.
وكذبوا، وافتروا: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر ببيت زيد، وهو غائب، فرأى زينب، فوقع منها في قلبه شيء، فقال: سبحان مقلب القلوب، فسمعت زينب تلك التسبيحة، فنقلتها إلى زيد، فوقع في قلبه أن يطلقها؛ حتى يتزوجها الرسول إلى غير ذلك من المزاعم الباطلة التي تلقفها المستشرقون ومن على شاكلتهم من المسلمين المزيفين، وخذ ما يلي:
روي عن علي بن الحسين-رضي الله عنهم أجمعين-: أنه قال: أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم: أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه، وقال له:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ} عاتبه الله، وقال له: أخبرتك: أني مزوجكها. {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ،} فالذي أخفاه الرسول ليس هو الحب، وإنما أخفى ما أوحى الله إليه من أمر الزواج بها لحكمة عظيمة، هي إبطال عادة التبني. ومحمد صلى الله عليه وسلم كان يعرف زينب من الصغر؛ لأنها ابنة عمه،
وهي لا تحتجب عنه فمن كان يمنعه منها، وكيف يقدّم إنسان امرأة لشخص وهي بكر حتى إذا تزوجها وصارت ثيبا؛ رغب فيها. انتهى.
ولكن الحق: أن هذا الزواج كان امتحانا في أوله لزينب وأخيها؛ حيث أكرها على قبول زيد، وفي النهاية كان امتحانا قاسيا للنبي صلى الله عليه وسلم حيث يؤمر به، ويعلم نهايته، وزينب تحت مولاه زيد. والحكمة هي ما ذكرته من إبطال عادة التبني، وهكذا تبطل مزاعم المفترين على عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم. والله ولي التوفيق.
الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف استئناف. وقيل: حرف عطف. (إذ): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر وقت
…
إلخ، وأجيز اعتباره ظرفا لهذا المقدر. {تَقُولُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» .
{لِلَّذِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنْعَمَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله.
{عَلَيْهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. (أنعمت):
فعل، وفاعل. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {أَمْسِكْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه، تقديره: أنت. {عَلَيْكَ:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. هذا؛ وقال ابن هشام في مغنيه: في تعليق الجار والمجرور في هذه الآية، وفي قوله تعالى:{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} الآية رقم [260] من سورة (البقرة)، وفي قوله تعالى:{وَهُزِّي إِلَيْكِ} الآية رقم [25] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام، وهذا كله يتخرج على التعلق بمحذوف، كما قيل في اللام في سقيا لك، وإما على حذف مضاف، التقدير: أمسك على نفسك زوجك، وذلك؛ لأنه لا يتعدى فعل المضمر المستتر إلى ضميره المتصل إلا في باب:«ظن» . وانظر ما ذكرته في الشاهد رقم [257] من كتابنا فتح القريب المجيب، تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، وجملة:{أَمْسِكْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{تَقُولُ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذ) إليها، وجملة: اذكر وقت
…
إلخ المقدرة مستأنفة، لا محل لها. {زَوْجَكَ:} مفعول به، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة.
{وَاتَّقِ:} الواو: حرف عطف. (اتق): فعل أمر مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {اللهُ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها.
{وَتُخْفِي:} الواو: واو الحال. (تخفي): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {فِي نَفْسِكَ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {مَا:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {اللهُ:} مبتدأ. {مُبْدِيهِ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه،
والجملة الاسمية صلة: {مَا،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط الضمير المجرور محلا بالإضافة، وجملة:{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: وأنت تخفي
…
إلخ، والجملة الاسمية هذه في محل نصب حال من تاء الفاعل، أو من فاعل:
{تَقُولُ} المستتر، والرابط: الواو. هذا؛ وإنما قدرت مبتدأ محذوفا قبل جملة: {وَتُخْفِي..} . إلخ لأن الجملة المضارعية الواقعة حالا، لا تقترن بالواو. قال ابن مالك:[الرجز] وذات بدء بمضارع ثبت
…
حوت ضميرا، ومن الواو خلت
وذات واو بعدها انو مبتدا
…
له المضارع اجعلنّ مسندا
{وَتَخْشَى:} الواو: حرف عطف. (تخشى): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والفاعل تقديره:«أنت» . {النّاسَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {وَاللهُ:} الواو: واو الحال. (الله): مبتدأ. {أَحَقُّ:} خبره.
{أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَخْشاهُ:} مضارع منصوب ب: «أن» ، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: أحق بخشيتك، والجار والمجرور متعلقان ب:{أَحَقُّ} . هذا؛ وجوز اعتبار المصدر المؤول في محل رفع بدل اشتمال من المبتدأ، كما جوز اعتباره مبتدأ ثانيا مؤخرا، و {أَحَقُّ} خبره مقدما، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والجملة الاسمية:{وَاللهُ أَحَقُّ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، أو هي حال من فاعل:(تخشى)، فتكون حالا متداخلة، والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فسلت مفندا.
{فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما): انظر الآية رقم [22]. {قَضى:} فعل ماض، مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {زَيْدٌ:} فاعله. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {وَطَراً} كان صفة له، فلمّا قدم عليه؛ صار حالا، وجملة:{قَضى..} . إلخ لا محل لها على اعتبار (لما) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لما) إليها على اعتبارها ظرفا. {زَوَّجْناكَها:} فعل ماض مبني على السكون، و (نا): فاعله، والكاف مفعوله الأول، و (ها): مفعوله الثاني، والجملة الفعلية جواب:(لما)، لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {لِكَيْ:} اللام: حرف تعليل وجر. (كي): حرف مصدري، ونصب. {لا:} نافية. {يَكُونَ:} فعل مضارع ناقص منصوب ب: (كي). {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {يَكُونَ} مقدم. {حَرَجٌ:} اسم: {يَكُونَ} مؤخر. {فِي أَزْواجِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {حَرَجٌ،} و {أَزْواجِ} مضاف، و {أَدْعِيائِهِمْ} مضاف إليه، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {إِذا:} ظرف زمان مبني على السكون
في محل نصب متعلق بالفعل {يَكُونَ} . {قَضَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْهُنَّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {وَطَراً} على نحو ما رأيت آنفا، والنون حرف دال على جماعة الإناث، و (كي) والفعل {يَكُونَ} في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
{وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. (كان): فعل ماض ناقص. {أَمْرُ:} اسم: (كان)، وهو مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {مَفْعُولاً:} خبر: (كان)، وجملة:
{وَكانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. وقال الزمخشري: معترضة في آخر الكلام، ولا محل لها أيضا.
الشرح: {ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ:} محمد صلى الله عليه وسلم. {مِنْ حَرَجٍ:} من إثم، ومؤاخذة. {فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ:} في الذي أحله الله له من زواجه بزينب، رضي الله عنها، وغيرها من النساء اللاتي مر ذكرهن، وعددهن. {سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ:} هذا رد لكل معترض على النبي صلى الله عليه وسلم فيما أحل الله له، وهو إعلام بأن النكاح، ونحوه من المباحات سنة قديمة في الأنبياء، أن ينالوا ما أحله الله لهم، فقد كان لداود مائة امرأة حرة، وثلاثمائة سريّة، ولسليمان ثلاثمائة امرأة حرة وسبعمائة سريّة، و {سُنَّةَ} هنا بمعنى: الطريقة، والعادة المتبعة، والمراد بالذين خلوا: الأنبياء الذين مضوا قبل نبينا، عليه، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام. {وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً} أي: قضاء مقضيا، وحكما مبتوتا: أن لا حرج على أحد فيما أحل له.
هذا؛ ولقد أحسن الدكتور محمد علي الصابوني جزاه الله خيرا الرد على من انتقد الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أحل الله له من التزوج بالنساء في رسالته: «شبهات وأباطيل حول تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم» وبين: أن زواجه بكل واحدة كان لحكمة سامية. وأضيف: أن زواجه بأكثر من أربع نسوة، وجمعهن عنده هو من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، فقد اختصه الله بأمور فيها ترفيه له، واختصه الله بأمور فيها تشديد عليه لرفع مقامه، وتكثير ثوابه، وعلو درجاته، انظر الآية رقم [50] الآتية.
هذا؛ ومن أهم ما يدحض انتقاد المستشرقين، والملحدين في كل زمان، ومكان زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع أمران: أولهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتزوج أكثر من أربع إلا بعد بلوغه سن الشيخوخة؛ أي بعد أن جاوز الخمسين من عمره؛ وثانيهما: أن جميع زوجاته الطاهرات ثيبات ما عدا السيدة عائشة، رضي الله عنها، فهي الوحيدة التي تزوجها في حالة الصبا، والبكارة.
الإعراب: {ما:} نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {عَلَى النَّبِيِّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} تقدم على اسمها. {مِنْ:} حرف جر صلة. {حَرَجٍ:} اسم {كانَ} مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {فِيما:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {حَرَجٍ،} وجملة: {فَرَضَ اللهُ لَهُ} صلة الموصول، لا محل لها، والعائد: الضمير المجرور محلا باللام، وجملة:{ما كانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {سُنَّةَ:} مفعول مطلق مؤكد للكلام قبله، كأنه قيل: سن الله ذلك سنة في الأنبياء الماضين، كقولهم: ترابا، وجندلا. و {سُنَّةَ} مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. {فِي الَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {سُنَّةَ اللهِ} .
{خَلَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة، لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ قَبْلُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، ونية معناه. {وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية السابقة. إفرادا، وجملة، مع ملاحظة: أن {مَقْدُوراً} صفة: {قَدَراً} مراد به التأكيد، كظل ظليل، وليل أليل.
الشرح: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ} أي: يبلغون فرائض الله، وسننه، وأوامره، ونواهيه إلى من أرسلوا إليهم. هذا؛ وقرئ «رسالته» بالإفراد. {وَيَخْشَوْنَهُ:} ويخافونه. {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً:} ولا يخافون أحدا من الناس {إِلاَّ اللهَ} تعالى. {وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً:} محاسبا لأعمال خلقه، وحافظا لأعمالهم صغيرها، وكبيرها، سرها، وجهرها.
الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة، أو بدل من:
{الَّذِينَ} في الآية السابقة، أو في محل نصب على المدح بفعل محذوف، تقديره: أمدح، أو أعني ونحو ذلك، أو في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هم الذين. {يُبَلِّغُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {رِسالاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و {رِسالاتِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، وجملة:
{وَيَخْشَوْنَهُ} معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها. {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً:} وهذه الجملة معطوفة أيضا على جملة الصلة لا محل لها مثلها. {إِلاَّ:} أداة حصر. {اللهِ:} بدل من:
{أَحَداً،} والاستثناء ضعيف. {وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً:} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً} في الآية رقم [3] بلا فارق بينهما.
الشرح: {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ} أي: على الحقيقة، فيثبت بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ما بين الوالد وولده من حرمة المصاهرة، وغيرها، والمراد:{مِنْ رِجالِكُمْ} البالغين، والحسن والحسين لم يكونا بالغين حينئذ، وأولاده صلى الله عليه وسلم القاسم، وهو أول أولاده، وبه يكنى، وعبد الله، وكان يلقب ب:
الطيب، والطاهر. وقيل: الطيب، والطاهر غير عبد الله المذكور، ولدا في بطن واحدة قبل البعثة.
وإبراهيم ماتوا قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال، ولو بلغوا كانوا رجاله، لا رجال أصحابه.
{وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ:} وكل رسول أبو أمته فيما يرجع إلى وجوب التوقير، والتعظيم له عليهم، ووجوب الشفقة، والنصيحة لهم عليه، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء، والأبناء، وزيد بن حارثة واحد من رجالكم، الذين ليسوا بأولاده حقيقة، فكان حكمه حكمكم، والادعاء، والتبني من باب الاختصاص، والتقريب لا غير.
{وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ:} بفتح التاء وهي قراءة عاصم وحده بمعنى: أنهم به ختموا، فهو كالخاتم، والطابع لهم، وقرأ الجمهور بكسر التاء بمعنى: أنه ختمهم، أي: جاء آخرهم. وقيل:
الخاتم، والخاتم لغتان، مثل: طابع، وطابع، ودانق ودانق، وطابق من اللحم، وطابق هذا؛ وقال بعضهم: هو فعل مثل: قاتل بمعنى: ختمهم.
تنبيه: قال ابن عطية-رحمه الله تعالى-: هذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة، خلفا، وسلفا، متلقاة على العموم التام، مقتضية نصا: أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، وما ذكره القاضي أبو الطيب في كتابه المسمى ب:«الهداية» من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف، وما ذكره الغزالي في هذه الآية، وهذا المعنى في كتابه الذي سماه ب:«الاقتصاد» إلحاد عندي، وتطرق خبيث إلى تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوة، فالحذر الحذر منه، والله الهادي برحمته. انتهى. قرطبي. أقول: وقد ادعى خبيث النبوة في عصرنا الحديث في باكستان، ولا تزال جماعة تقول بنبوته. هدانا الله وإياهم طريق الحق، والصواب.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد: لو لم أختم به النبيين؛ لجعلت له ابنا يكون بعده نبيا. وعنه-رضي الله عنهما-قال: إن الله لما حكم أن لا نبي بعده لم يعطه ولدا ذكرا يصير رجلا. انتهى. خازن ويعجبني في هذا المقام قول حسان-رضي الله عنه-مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي إبراهيم ابنه معزيا له: [الطويل] مضى وهو محمود العواقب لم يشب
…
بعيب ولم يذمم بقول ولا فعل
رأى أنّه إن عاش ساواك للعلا
…
فآثر أن تبقى وحيدا بلا مثل
وخذ ما يلي: فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه، وأجمله، إلاّ موضع لبنة في زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويتعجبون له، ويقولون: هلاّ وضعت هذه اللّبنة، فأنا اللّبنة، وأنا خاتم النبيين» . متفق عليه. وعن جابر-رضي الله عنه-نحوه. وقد خرجه له مسلم. وعن جبير بن مطعم-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي؛ الّذي يمحو الله الكفر بي، وأنا الحاشر؛ الّذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب؛ الّذي لا نبيّ بعدي» . متفق عليه.
بقي أن تعلم: أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان، وهو نبي مرسل، كما هو مشهور ومعلوم، ولكنه حين ينزل يكون عاملا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ومصليا إلى قبلته، كأنه بعض أمته، فلا يجيء بشريعة جديدة. وينبغي أن تعلم: أن الآية نزلت حين تزوج الرسول زينب، وقال الناس: تزوج محمد امرأة ابنه زيد.
الإعراب: {ما:} نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {مُحَمَّدٌ:} اسم {كانَ} . {أَبا:} خبرها منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {أَبا} مضاف، و {أَحَدٍ} مضاف إليه. {مِنْ رِجالِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {أَحَدٍ،} والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{ما كانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَلكِنْ:}
الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك، مخفف من الثقيلة، مهمل لا عمل له. {رَسُولَ:}
خبر ل: «كان» محذوفة، التقدير: ولكن كان رسول الله. هذا؛ ويقرأ بتشديد النون على أنها عاملة، و {رَسُولَ} اسمها، وخبرها محذوف، التقدير: من عرفتموه. كما يقرأ برفع «(رسول)» على أنه خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: ولكن هو رسول الله، و {رَسُولَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.
{وَخاتَمَ:} معطوف على {رَسُولَ} على رفعه، ونصبه، وعلى اعتباره فعلا؛ ففاعله ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {رَسُولَ اللهِ،} والجملة الفعلية معطوفة على جملة: «كان» المقدرة، و (خاتم) مضاف، و {النَّبِيِّينَ} مضاف إليه، وجملة: «وكان رسول الله
…
» إلخ المقدرة معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها على جميع الاعتبارات فيها.
{وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. (كان): فعل ماض ناقص. {اللهِ:} اسمها. {بِكُلِّ:}
متعلقان ب: {عَلِيماً} بعدهما، و (كل) مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {عَلِيماً:} خبر (كان)، وجملة:{كانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (41)}
الشرح: أمر الله في هذه الآية عباده المؤمنين بأن يذكروه، ويشكروه، ويكثروا من ذلك على
ما أنعم الله به عليهم، وجعل تعالى ذلك دون حد؛ لسهولته على العبد. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لم يفرض الله عز وجل على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإنه لم يجعل له حدا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه، إلا مغلبا على عقله، وأمرهم به في الأحوال كلها، فقال تعالى:{فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ} .
وقال تعالى: {اُذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً} يعني: بالليل، والنهار، في البر، والبحر، في الصحة، والمرض، في السر، والعلانية. وقيل: الذكر الكثير: هو أن لا ينساه أبدا، وخذ ما يلي:
عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أكثروا ذكر الله حتّى يقولوا: مجنون» . رواه أحمد، والحاكم، وغيرهما. وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل الّذي يذكر ربّه؛ والّذي لا يذكر ربّه مثل الحيّ، والميّت» . رواه البخاري، ومسلم، وعن أنس-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ الشّيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله؛ خنس، وإن نسي؛ التقم قلبه» . رواه البيهقي، وغيره.
والأحاديث المرغبة في الذكر أكثر من أن تحصى، وانظر الآية رقم [35].
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [1]. {آمَنُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والمتعلق محذوف. {اُذْكُرُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {اللهِ:} منصوب على التعظيم. {ذِكْراً:} مفعول مطلق. {كَثِيراً:} صفة له.
{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)}
الشرح: {وَسَبِّحُوهُ:} معناه: إذا ذكرتموه ينبغي أن يكون ذكركم إياه على وجه التعظيم والتقديس، والتنزيه عن كل سوء. {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي: أول النهار، وآخره، وخصّا بالذكر؛ لأن ملائكة الليل، وملائكة النهار يجتمعون في هذين الوقتين، وإنما اختص التسبيح بالذكر من بين أنواع الذكر؛ لبيان فضله على سائر الأذكار، كما اختص جبريل، وميكائيل بالذكر من بين الملائكة لبيان فضلهما؛ لأن معنى التسبيح: تنزيه ذاته تعالى عما لا يجوز عليه من الصفات.
وجاز أن يراد بالذكر، والتسبيح وإكثارهما تكثير الطاعات، والعبادات فإنها من جملة الذكر، ثم خص من ذلك التسبيح {بُكْرَةً،} وهي صلاة الفجر. {وَأَصِيلاً،} وهي صلاة الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء لمزيد الاهتمام بشأن الصلاة.
تنبيه: جاء لفظ التسبيح في القرآن الكريم بالماضي أحيانا، وبالمضارع أحيانا، وبالأمر أحيانا، وبالمصدر أحيانا أخرى، استيعابا لهذه المادة من جميع جهاتها، وألفاظها، وهي أربع:
المصدر، والماضي، والمضارع، والأمر، وهذا الفعل بألفاظه الأربعة، قد عدّي باللام تارة، مثل قوله تعالى:{سَبَّحَ لِلّهِ،} وقوله جلت حكمته: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ..} . إلخ وبنفسه أخرى، مثل قوله تعالى شأنه:{وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً،} وقوله جلت قدرته: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ} وأصله التعدي بنفسه؛ لأن معنى سبّحته: بعدته من السوء، منقول من: سبح: إذا ذهب، وبعد، فاللام إما أن تكون مثل: نصحته، ونصحت له، وشكرته، وشكرت له، وإما أن يراد ب:{سَبَّحَ لِلّهِ} اكتسب التسبيح لأجل الله، ولوجهه خالصا.
هذا؛ وقد حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإكثار من التسبيح، وغيره من أنواع الذكر. وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مررتم برياض الجنّة فارتعوا» .
قلت: يا رسول الله! ما رياض الجنّة؟ قال: «المساجد» . قلت: وما الرّتع؟ قال: «سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» . رواه الترمذي.
وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي، فقال: يا محمد! أقرئ أمّتك منّي السّلام، وأخبرهم: أنّ الجنّة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان، وأنّ غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر» .
رواه الترمذي، والطبراني، وهذه الكلمات يقولهن الطاهر، والمحدث، والجنب، والحائض، والنفساء، وينبغي أن لا يلفظهن في الأماكن القذرة، وفي حالة كشف العورة. هذا؛ والتسبيح يأتي بمعنى الدعاء، قال جرير:[الطويل] فلا تنس تسبيح الضّحى إنّ يوسفا
…
دعا ربّه فاختاره حين سبّحا
وانظر ما ذكرته في الآية رقم [17] من سورة (الروم)، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [35].
ولا تنس: أن الله تعالى قال في الآية رقم [44] من سورة (الإسراء): {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً} .
هذا؛ وقد قابل الله بين الأصيل، والبكرة هنا، وأيضا في الآية رقم [5] من سورة (الفرقان) وقابل بينه وبين الغدو في الآية رقم [36] من سورة (النور)، وفي (الرعد) رقم [15]، وأيضا في الآية رقم [205] من سورة (الأعراف) وقابل العشي بالإبكار في الآية رقم [41] من سورة (آل عمران) وقابله بالغداة في الآية رقم [52] من سورة (الأنعام) وأيضا في الآية رقم [28] من سورة (الكهف) وقابل الغدو بالعشي في الآية رقم [46] من سورة (غافر). هذا؛ والبكرة، والغداة، والغدو: النصف الأول من النهار، والأصيل، والعشي: النصف الآخر من النهار، مع الاختلاف في تحديد كل منهما.
والأصيل: الوقت بين العصر، والمغرب على الراجح، ويجمع على: آصال، وعلى:
أصائل، وأصل، وأصلان. وقيل: الآصال جمع أصل، والأصل جمع: أصيل، ثم أصائل جمع الجمع، قال أبو ذؤيب الهذلي:[الطويل]
لعمري لأنت البيت أكرم أهله
…
وأقعد في أفيائه بالأصائل
هذا؛ ويطلق الأصيل على الشعاع الممتدّ من الشمس إلى الماء مثل الحبال، ويشبه لون أشعته في الماء لون الذهب.
هذا؛ وإنما خص هذين الوقتين بالذكر؛ لأن الإنسان يقوم بالغداة من النوم الذي هو أخو الموت، فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم، وهو وقت الحياة من موت النوم بالذكر؛ ليكون أول أعماله ذكر الله عز وجل، وأما وقت الأصيل، وهو أخر النهار، فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم، الذي هو أخو الموت، فيستحب له أن يستقبله بالذكر؛ لأنه حالة تشبه الموت، ولعله لا يقوم من تلك النومة، فيكون موته على ذكر الله عز وجل. فعن جويرية أم المؤمنين-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال:«ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟» . قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم، لوزنتهنّ سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضاء نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته» . أخرجه مسلم، ويروى بروايات كثيرة أيضا.
وقد اختلفت في إعراب: «عدد، رضاء، زنة، مداد» فقال السيوطي: هي منصوبة على الظرف بتقدير: قدر عدد، قدر رضاء
…
إلخ، وقد نص سيبويه-رحمه الله تعالى-على أن من المصادر التي تنصب على الظرف قولهم: زنة الجبال
…
إلخ. وقيل: تعرب على المفعولية المطلقة لفعل محذوف. وقيل: منصوبة بنزع الخافض، التقدير: كعدد خلقه، ومثل رضاء نفسه، ومثل زنة عرشه، ومثل مداد كلماته.
الإعراب: {وَسَبِّحُوهُ:} الواو: حرف عطف. (سبحوه): فعل أمر، وفاعله، ومفعوله.
{بُكْرَةً:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {وَأَصِيلاً:} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها؛ لا محل لها مثلها.
الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لما نزل قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} رقم [56] الآتية؛ قال المهاجرون، والأنصار: هذا لك يا محمد يا رسول الله، وليس لنا فيه شيء، فأنزل الله هذه الآية. انتهى. وهذه النعمة من أجل النعم على هذه الأمة، ودليل على فضيلتها على سائر الأمم، وقد قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ..} . إلخ الآية رقم [110] من سورة (آل عمران). والصلاة من الله على العبد هي رحمته له، وبركته لديه، وصلاة الملائكة دعاؤهم للمؤمنين، واستغفارهم لهم، كما قال تعالى في الآية رقم [7] من سورة (غافر).
{مِنَ الظُّلُماتِ} أي: ظلمات الكفر. {إِلَى النُّورِ} أي: نور الإيمان. هذا؛ والظلمات جمع: ظلمة، وهي الكفر، والنفاق، والجهل، ونحو ذلك. وأيضا جمعت لتعدد فنون الضلال، والمعاصي، ولم يجمع النور؛ لأن الإيمان واحد لا يتعدد. هذا؛ وإن في الكلام استعارة، حيث استعير لفظ الظلمات للكفر، وما يلحق به، والجامع فيهما عدم الاهتداء. واستعير لفظ النور للإيمان بجامع الاهتداء في كل منهما.
{وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً:} فهو اعتناء بصلاح أمرهم، وظهور شرفهم، وبشارة لجميع المؤمنين، وإشارة إلى أن قوله:{يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} غير مختص بالسامعين وقت نزول الوحي؛ بل هو عام لجميع المؤمنين. هذا؛ والملائكة أجسام نورانية، لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة حسنة، لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا ينامون، ولا يموتون، ولا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، يلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس، ولا يوصفون بذكورة، ولا بأنوثة، فمن وصفهم بذكورة فسق، ومن وصفهم بأنوثة كفر، وهم كثيرون، لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، حيث قال جل ذكره:{وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ} يقومون بأعمال مختلفة، كلّ فيما وكل إليه من أعمال. ورؤساؤهم عشرة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، ورقيب، وعتيد، ومنكر، ونكير، ورضوان خازن الجنة، ومالك خازن النار، عليهم ألف صلاة، وألف سلام، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [1] من سورة (فاطر).
الإعراب: {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {يُصَلِّي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية:{هُوَ الَّذِي..} . إلخ مستأنفة فيها معنى التعليل للكلام السابق. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَمَلائِكَتُهُ:} الواو: حرف عطف. (ملائكته): معطوف على فاعل {يُصَلِّي} المستتر، وجاز ذلك للفصل بالجار والمجرور، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لِيُخْرِجَكُمْ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {يُصَلِّي} أيضا. {مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ:} كلاهما متعلقان بالفعل: (يخرج). {وَكانَ:}
الواو: حرف استئناف. (كان): فعل ماض ناقص، واسمه مستتر يعود إلى (الله) أيضا.
{بِالْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان بما بعدهما. {رَحِيماً:} خبر (كان)، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ مستأنفة، وقال الجمل نقلا عن أبي السعود: اعتراض مقرر لمضمون ما قبله، أي: كان بكافة المؤمنين الذين أنتم من زمرتهم رحيما.
{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)}
الشرح: {تَحِيَّتُهُمْ:} تحية المؤمنين بعضهم لبعض، أو هذه التحية من الله لهم، أو هي من الملائكة لهم، كما قال تعالى في سورة (الرعد):{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ..} . إلخ. {يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ} أي: يوم يلقون الله عند الموت، أو عند الخروج من القبر، أو عند دخول الجنة. وقيل: يوم يلقون ملك الموت، وقد ورد: أنه لا يقبض روح مؤمن، ومؤمنة إلا سلم عليه، وعليها. روي عن البراء بن عازب-رضي الله عنه-قال:{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} فيسلم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه، لا يقبض روحه حتى يسلم عليه. {سَلامٌ} أي: يقولون:
سلامة لنا ولكم من عذاب الله، أو يقول الله أو الملائكة لهم حسبما رأيت، و {سَلامٌ} اسم مصدر مثل (عذاب) في الآية رقم [7] من سورة (لقمان). {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} هو الجنة، وما فيها من النعيم المقيم، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [58] من سورة (يس).
هذا؛ والتحية: مصدر «حيّاه» الله بتشديد الياء، وأصل معناه: الدعاء له بالحياة، ثم عم في كل كلام يلقيه بعض الناس على بعض بقصد الدعاء، كقولهم: أبيت اللعن، و: أنعموا صباحا، أو مساء، أو نحو ذلك، ثم خصته الشريعة الإسلامية بكلام معين، وهو قول القائل: السّلام عليكم.
الإعراب: {تَحِيَّتُهُمْ:} مبتدأ، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، أو لمفعوله، حسبما رأيت في الشرح. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالمصدر (تحية). وقيل: متعلق بمحذوف حال، ولا وجه له. {يَلْقَوْنَهُ:} مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (يوم) إليها. {سَلامٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من الضمير المستتر في المؤمنين، والرابط: الضمير فقط، والأول أقوى. {وَأَعَدَّ:} الواو:
حرف استئناف. (أعد): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أَجْراً:} مفعول به. {كَرِيماً:} صفة: {أَجْراً،} والجملة الفعلية: {وَأَعَدَّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير، وهي على تقدير:«قد» قبلها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45)}
الشرح: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً:} على من بعثت إليهم بتصديقهم، وتكذيبهم، ونجاتهم وضلالهم؛ لتترقب أحوالهم، وتشاهد أعمالهم، وتتحمل الشهادة على ما صدر عنهم،
تؤديها يوم القيامة أداء مقبولا فيما لهم، وفيما عليهم، والآية الكريمة رقم [41] من سورة (النساء):{فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} توضح هذا المعنى. {وَمُبَشِّراً} أي: للمؤمنين برحمة الله، وبالجنة. {وَنَذِيراً} أي: مخوفا للعصاة، والمكذبين، والفاسقين، والظالمين من النار، وعذاب الخلد فيها.
الإعراب: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ:} انظر الآية رقم [1] ففيها الكفاية. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): ضمير متصل في محل نصب اسمها حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها.
{أَرْسَلْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول. {شاهِداً:} مفعول به ثان. وقيل: هي حال من الكاف، وهي حال مقارنة؛ إن كان المراد مراقبة أحوالهم في الدنيا، واعتبرها بعضهم مقدرة منتظرة بأن حمل الشهادة على شهادته عليهم في الآخرة؛ بأن يشهد عليهم بما حصل منهم في الدنيا من تصديق، وتكذيب، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم لهم، والحال المقدرة مثل قولك:
مررت برجل معه صقر صائدا به؛ أي: مقدرا به الصيد غدا.
{وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46)}
الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لما نزلت هذه الآية؛ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ومعاذا-رضي الله عنهما-فبعثهما إلى اليمن، وقال:«اذهبا فبشّرا، ولا تنفّرا، ويسّرا، ولا تعسّرا، فإنه قد أنزل الله عليّ» . وقرأ الآية.
{وَداعِياً إِلَى اللهِ} أي: إلى دين الله، وتوحيده، ومحاربة الكفر، وأهله. {بِإِذْنِهِ:} بأمره.
قال الزمخشري: لم يرد حقيقة الإذن، وإنما جعل الإذن مستعارا للتسهيل، والتيسير؛ لأن الدخول في حق المالك متعذر، فإذا صودف الإذن تسهل، وتيسر، فلما كان الإذن تسهيلا لما تعذر من ذلك؛ وضع موضعه، وذلك: أن دعاء أهل الشرك، والجاهلية إلى التوحيد والشرائع أمر في غاية الصعوبة، والتعذر، فقيل:{بِإِذْنِهِ} للإيذان بأن الأمر صعب، لا يتأتى ولا يستطاع؛ إلا إذا سهله الله، ويسره، ومنه قولهم في الشحيح: إنه غير مأذون له في الإنفاق؛ أي غير مسهل له الإنفاق، لكونه شاقا عليه داخلا في حكم التعذر. انتهى. كشاف.
{وَسِراجاً مُنِيراً:} هذا استعارة للنور الذي يتضمنه شرع محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: {وَسِراجاً} أي:
هاديا من ظلم الضلالة، ووصفه بالإنارة؛ لأن من السّرج ما لا يضيء إذا قلّ زيته، ودقت فتيلته.
وفي كلام بعضهم: ثلاثة تضني: رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظر لها من يجيء.
وسماه الله: سراجا، ولم يسمه: شمسا مع أن الشمس أشد إضاءة من السراج وأنور؛ لأنه لا يمكن أن يؤخذ من نور الشمس شيء بخلاف نور السراج، فإنه يؤخذ منه أنوار كثيرة. وما
أحسن قول النسفي-رحمه الله تعالى-: أو المعنى: {شاهِداً} بوحدانيتنا، {وَمُبَشِّراً} برحمتنا، {وَنَذِيراً} بنقمتنا، {وَداعِياً} إلى عبادتنا، {وَسِراجاً} وحجة ظاهرة لحضرتنا.
الإعراب: {وَداعِياً:} معطوف على ما قبله، وفي الكل ضمير مستتر هو فاعله. {إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ:} كلاهما متعلقان ب: (داعيا)، وقيل:{بِإِذْنِهِ} متعلقان بمحذوف حال من لفظ الجلالة، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {وَسِراجاً:} معطوف على ما قبله. {مُنِيراً:} صفة له.
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (47)}
الشرح: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ..} . إلخ: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو معطوف على محذوف، التقدير: فراقب أحوال أمتك، وبشر
…
إلخ. {بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً:} ثوابا عظيما، قال ابن عطية: قال لنا أبيّ رضي الله عنه: هذه من أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى؛ لأن الله عز وجل قد أمر نبيه أن يبشر المؤمنين بأن لهم عنده فضلا كبيرا، وقد بين الله تعالى الفضل الكبير في قوله:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} فالآية في هذه السورة خبر، والتي في (الشورى) رقم [22] تفسير لها.
الإعراب: {وَبَشِّرِ:} الواو: حرف عطف. (بشر): فعل أمر، وفاعله مستتر فيه، تقديره:
«أنت» . {الْمُؤْمِنِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {بِأَنَّ:} الباء: حرف جر. (أن): حرف مشبه بالفعل. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (أنّ) تقدم على اسمها. {مِنَ اللهِ:}
متعلقان بمحذوف حال من: {أَجْراً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، على القاعدة:
«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {فَضْلاً:} اسم: (أنّ) مؤخر. {كَبِيراً:} صفة له:
و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{وَبَشِّرِ..} . إلخ معطوفة على الجملة التي رأيت تقديرها.
الشرح: {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ} أي: لا تطعهم فيما يشيرون عليك من المداهنة في الدين، ولا تمالئهم، والمراد بالكافرين: أبو سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وأبو الأعور السلمي، فقد قالوا: يا محمد! لا تذكر آلهتنا بسوء؛ نتبعك. والمراد بالمنافقين: عبد الله بن
أبيّ، وعبد الله بن سعد، وطعمة بن أبيرق، حثّوا النبي صلى الله عليه وسلم على إجابة المشركين فيما طلبوا بحجّة المصالحة، والموادعة، وهذا كان بعد غزوة أحد، انظر الآية رقم [68] الآتية.
{وَدَعْ أَذاهُمْ} أي: أعرض عن إيذائهم مجازاة على إذايتهم إياك، فأمره الله-تبارك، وتعالى-بترك معاقبتهم، والصفح عن زللهم. فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول، ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين، وناسخه آية السيف. أو المعنى: أعرض عن أقوالهم، وما يؤذونك، ولا تشتغل به: فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل. وهذا تأويل مجاهد، والآية منسوخة بآية السيف. {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً:} انظر الآية رقم [3] ففيها الكفاية.
أما (دع)، فهو بمعنى: أعرض، واترك، والمستعمل من هذه المادة المضارع، والأمر فقط، ومثله «ذر» ومضارعه: يذر، فكلا المادتين ناقص التصرف، وهما بمعنى الترك، والإعراض، وقد سمع سماعا نادرا الماضي منهما، فقالوا: ودع ووذر بوزن وضع، إلا أن ذلك شاذ في الاستعمال؛ لأن العرب كلهم إلا قليلا منهم أميت هذا الماضي من لغاتهم، وليس المعنى أنهم لم يتكلموا به البتة؛ بل تكلموا به دهرا، ثم أماتوه بإهمالهم استعماله، فلما جمع العلماء ما وصل إليهم من لغات العرب؛ وجدوه مماتا إلا ما سمع منه سماعا نادرا، فقد قرئ قوله تعالى:
{ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى} بالتخفيف، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«دعوا الحبشة ما ودعوكم» . وسمع منه المصدر في قوله عليه الصلاة والسلام: «لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات، أو لأحرقنّ عليهم بيوتهم» . أي: عن تركهم إياها. وسمع منه: اسم الفاعل، واسم المفعول في أبيات من الشعر، قال خفاف بن ندبة:[الطويل] إذا ما استحمّت أرضه من سمائه
…
جرى وهو مودوع ووادع مصدق
هذا رأي أكثر النحاة، وقال محب الدين الخطيب، شارح شواهد الكشاف: فقد رويت هذه الكلمة، أي:(دع) عن أفصح العرب، يقصد النبي صلى الله عليه وسلم، ونقلت عن طريق القراء، فكيف تكون إماتة؟ وقد جاء الماضي في بعض الأشعار، وما هذه سبيله، فيجوز القول بقلة الاستعمال، ولا يجوز القول بالإمانة، وأضيف: أن كثيرا من النحاة يقولون في ماضي: «عم ويعم» ما قيل في ماضي «دع، وذر» .
الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تُطِعِ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا)، وحرك بالكسرة لالتقاء الساكنين، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {الْكافِرِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {وَالْمُنافِقِينَ} معطوف على ما قبله. {وَدَعْ:} الواو: حرف عطف. (دع): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .
{أَذاهُمْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، أو لمفعوله حسبما رأيت في الشرح. {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ..} . إلخ. انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [3] إفرادا وجملا.
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ:} تزوجتموهن. هذا؛ والنكاح لغة:
الضم، وشرعا: عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ: إنكاح، أو تزويج، وهو حقيقة في العقد مجاز في الوطء على الأصح عندنا معاشر الشافعية، وهو عند السادة الحنفية في الأصل الوطء، وتسمية العقد نكاحا لملابسته له؛ من حيث إنه طريق إليه، كتسمية الخمر إثما؛ لأنها سببه. قال الشاعر:[الوافر] شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي
…
كذاك الإثم يذهب بالعقول
قالوا: ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد؛ لأنه في معنى الوطء من باب التصريح به، ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة، والمماسة، والقربان، والتغشي والإتيان.
{ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أي: تجامعوهن. والخلوة الصحيحة مثل الجماع عند الحنفية لها كل أحكامه. وفي الآية دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع لأن الله رتب الطلاق على النكاح، حتى لو قال لامرأة أجنبية: إذا نكحتك؛ فأنت طالق. أو قال: كل امرأة أنكحها فهي طالق. فنكح لا يقع الطلاق، وهو المعتمد. هذا؛ وتخصيص المؤمنات بالذكر دون الكتابيات، مع أن الحكم عام فيهن تنبيه على أن من شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة يتخيرها لنطفته، وأن يبتعد عن نكاح الكافرات، والفاسقات، والفاجرات، وأن يستنكف أن يدخل تحت لحاف واحد غير الصالحة، والعفيفة، وما ذكر في سورة (المائدة) رقم [5] فائدته بيان ما هو جائز غير محرم من نكاح المحصنات من أهل الكتاب.
{فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها} أي: فلا يجب لكم عليهن عدة إذا وقع الطلاق قبل الدخول بهن. وانظر العدد في سورة (الطلاق). هذا؛ وإسناد الفاعل إلى الذكور يدل على أن العدة حق للأزواج على النساء، سواء أكانت بالأقراء، أو بالأشهر. هذا؛ ويقرأ الفعل:{تَعْتَدُّونَها} بتخفيف الدال، وفسر على أنه من الاعتداء، وهو بتشديد الدال بمعنى: تستوفونها وتحسبونها.
{فَمَتِّعُوهُنَّ} أي: أعطوهن المتعة، وهذه المتعة واجبة على المطلق؛ إذا لم يكن قد سمى لها مهرا، وهي سنة إذا سمى لها مهرا، ولها نصف المهر، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [28] بشأن القدر المالي الذي يعطى للمطلقة. {وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً} أي: أخرجوهن من بيوتكم من
غير إضرار بهن، ولا منع حق لهن، قال تعالى:{وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا} وانظر الآية رقم [28] علما بأن طلاق غير المدخول بها، لا يوصف بسني، ولا ببدعي. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: (يا): أداة نداء تنوب مناب أدعو. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب: (يا)، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه.
{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدلا من لفظ (أيها) وانظر ما ذكرته في الآية رقم [1]، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محل لها. {إِذا:}
ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {نَكَحْتُمُ:} فعل، وفاعل. {الْمُؤْمِناتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية ابتدائية هنا لا محل لها، لاقتران جواب {إِذا} بالفاء، ولا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وهو ما ذكره ابن هشام في المغني. {ثُمَّ:} حرف عطف. {طَلَّقْتُمُوهُنَّ:} فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جمع الإناث، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب، واستقبال.
{تَمَسُّوهُنَّ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والنون علامة جمع الإناث، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {قَبْلِ} إليه.
{فَما:} الفاء: واقعة في جواب {إِذا} . (ما): نافية. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَلَيْهِنَّ:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من {عِدَّةٍ،} ولا يجيز سيبويه مجيء الحال من المبتدأ، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {مِنْ:} حرف جر صلة. {عِدَّةٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية جواب:{إِذا} لا محل لها، وجملة:{تَعْتَدُّونَها} صفة {عِدَّةٍ،} و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف مثل الجملة الندائية، لا محل له. {فَمَتِّعُوهُنَّ:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفاء الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (متعوهن): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء، وما بعدها معطوفة عليها. {سَراحاً:} مفعول مطلق. {جَمِيلاً:} صفة له.
الشرح: روى السدي عن أبي صالح، عن أم هانئ بنت أبي طالب-رضي الله عنها قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذرت إليه، فعذرني، ثم أنزل الله تعالى:{إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ..} .
إلخ ثم قالت: فلم أكن أحل له؛ لأني لم أهاجر، كنت من الطلقاء. خرجه أبو عيسى الترمذي.
وقال القرطبي: لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه، حرم عليه التزوج بغيرهن، والاستبدال بهن، مكافأة لهن على فعلهن، وأنزل الآية بعد التالية، ثم نسخ هذا التحريم، فأباح له أن يتزوج بمن شاء من النساء عليهن، وأنزل هذه الآية، وهي وإن كانت متقدمة في التلاوة، فهي متأخرة النزول. ويدل على صحته ما خرجه الترمذي عن عطاء قال: قالت عائشة-رضي الله عنها: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أحل الله تعالى له النساء. قال: هذا حديث حسن صحيح.
{اللاّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ:} مهورهن؛ لأن المهر مقابل للانتفاع بالبضع بشرط إجراء العقد بين الزوجين بشروطه، وتوفر أركانه. {وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أي: من السراري. {مِمّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ} أي: رده الله عليك من الكفار من النساء بالمأخوذ على وجه القهر، والغلبة، مثل صفية، وريحانة؛ اللتين كانتا من اليهود.
{اللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ:} فهذا شرط لحل قريباته له صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا} . ولا تنس أن الله جلت قدرته قد ذكر العم فردا والعمات جمعا. وكذلك الخال، والخالات؛ لأن العم، والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر، والراجز، وليس كذلك العمة، والخالة، فجاء الكلام بغاية البيان لرفع الإشكال، وهذا معنى دقيق، فتأملوه، قاله ابن العربي. انتهى. قرطبي بتصرف كبير مني.
وقال الجمل-رحمه الله تعالى-: وقد سئل كثير عن حكمة إفراد العم، والخال دون العمة، والخالة، حتى إن السبكي صنف جزءا فيه، سماه: بذل الهمة في إفراد العم، وجمع العمة. وقد رأيت لهم فيه كلمات كلها ضعيفة، كقول الرازي: إن العم والخال على زنة المصدر، والمصدر يستوي فيه المفرد، والجمع، بخلاف العمة، والخالة. وقيل: إنهما يعمان إذا أضيفا، والعمة والخالة لا يعمان لتاء الوحدة انتهى. نقلا من الشهاب.
{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ:} ولقد اختلف في اسم الواهبة نفسها، فقيل: هي أم شريك الأنصارية، اسمها غزيّة. وقيل: غزيّلة. وقيل: ليلى بنت حكيم. وقيل: هي ميمونة بنت الحارث الهلالية حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءها الخاطب، وهي على بعيرها، فقالت:
البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: هي أم شريك العامرية. وقيل: هي زينب بنت خزيمة أم المساكين. وقيل: هي خولة بنت حكيم. والله تعالى أعلم. هذا؛ وتقييد الواهبة نفسها بمؤمنة دليل واضح على أن الكافرة لا تحل له، وبهذا يتميز النبي صلى الله عليه وسلم علينا، حيث لا يحل له نكاح الكافرة، ويحل لنا؛ لأن ما كان من جانب الفضائل، والكرامة فحظه فيه أوفر، وما كان من جانب النقائص فجانبه عنها أطهر. انتهى. قرطبي عن إمام الحرمين بتصرف مني.
{إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها:} يطلب نكاحها، ويرغب فيه. وقيل: نكح، واستنكح بمعنى واحد، مثل: أجاب، واستجاب، وعجل، واستعجل. قال النابغة:[الطويل] وهم قتلوا الطائيّ بالحجر عنوة
…
أبا جابر واستنكحوا أمّ جابر
وأعاد لفظ (النبي)، فأظهر في مقام الإضمار تفخيما له، وتقريرا لاستحقاقه الكرامة لرسالته. {خالِصَةً لَكَ:} بمعنى خلوصا فهو مصدر مثل: العافية، والعاقبة، والكاذبة، واستعمال الفاعل، والفاعلة في المصادر كثير، ولا تنس الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وقوله تعالى:{مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} إيذان بأن الهبة في النكاح من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح بلفظ الهبة لغيره من أمته، وعليه مذهب الشافعي.
{قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ:} حين إجراء العقد بين الزوجين من شروط، ووجوب المهر بالوطء؛ حيث لم يسم، والقسم بين الزوجات، ووجوب المعاشرة بالمعروف
…
إلخ. {وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ:} من الإيماء، والسراري؛ حيث وسع الله الأمر فيهن. {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} أي: ضيق في دينك؛ حيث اختصصناك بالتنزيه، واختيار ما هو أولى وأفضل، وفي دنياك حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات، وزدنا لك الواهبة نفسها.
{وَكانَ اللهُ غَفُوراً:} لما يعسر التحرز عنه. {رَحِيماً:} بالتوسعة في مظان الحرج، وتفسير الحرج بالضيق هنا، وقد فسرته بالمؤاخذة، والإثم في الآية رقم [38] والأول ذكرته في تفسير قوله تعالى في الآية رقم [78] من سورة (الحج):{وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .
تنبيه: خص الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد في باب الفرض، والتحريم، والتحليل مزية على الأمة، وهبت له، ومرتبة خص بها، ففرضت عليه أشياء لم تفرض على غيره، وحرمت عليه أفعال لم تحرم على غيره، وحللت له أشياء لم تحلل لأحد من أمته، منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه.
فأما ما فرض عليه فتسعة: الأول: التهجد في الليل، والمنصوص: أنه كان واجبا عليه، ثم نسخ كما رأيت في الآية رقم [79] من سورة (الإسراء). الثاني: صلاة الضحى. الثالث: صلاة الأضحى. الرابع: الوتر. الخامس: السواك. السادس: قضاء دين من مات معسرا من المسلمين.
السابع: مشاورة ذوي الأحلام في غير الشرائع. الثامن: تخيير النساء. التاسع: إذا عمل عملا؛ أثبته، وكان يجب عليه إذا رأى منكرا؛ أنكره وأظهره؛ لأن إقراره لغيره على ذلك يدل على جوازه.
وأما ما حرم الله عليه صلى الله عليه وسلم فجملته عشرة: الأول: تحريم الزكاة عليه، وعلى آله. الثاني:
صدقة التطوع عليه، وفي آله تفصيل باختلاف. الثالث: خائنة الأعين، وهو أن يظهر خلاف ما يضمر. الرابع: حرم الله عليه إذا لبس لأمته أن يخلعها عنه، أو يحكم الله بينه وبين محاربه، الخامس: الأكل متكئا. السادس: أكل الأطعمة الكريهة الرائحة، مثل: البصل، وغيره.
السابع: التبدل بأزواجه، كما ستعرفه في الآية التالية. الثامن: نكاح امرأة تكره صحبته.
التاسع: نكاح الحرة الكتابية. العاشر: نكاح الأمة، ولو مسلمة.
وأما ما أحل له صلى الله عليه وسلم فجملته ستة عشر: الأول: صفي المغنم. الثاني: الاستبداد بخمس الخمس، أو الخمس. الثالث: الوصال في الصوم. الرابع: الزيادة على أربع نسوة. الخامس:
النكاح بلفظ الهبة. السادس: النكاح بغير ولي. السابع: النكاح بغير صداق. الثامن: نكاحه في حالة الإحرام. التاسع: سقوط القسم عنه بين الزوجات. وسيأتي في الآية التالية. العاشر: إذا وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها، وحل له نكاحها «وهذا ضعيف غير مسلم» .
الحادي عشر: أنه أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها. الثاني عشر: دخوله مكة بغير إحرام.
الثالث عشر: القتال بمكة. الرابع عشر: أنه لا يورث. وإنما ذكر هذا في قسم التحليل؛ لأن الرجل إذا قارب الموت بالمرض، زال عنه أكثر ملكه، ولم يبق له إلا الثلث خالصا، وبقي ملك النبي صلى الله عليه وسلم على ما تقرر بيانه في سورة (مريم). الخامس عشر: بقاء زوجيته من بعد موته.
السادس عشر: إذا طلق امرأة تبقى حرمته عليها، فلا تنكح، وأبيح له عليه الصلاة، والسّلام أخذ الطعام، والشراب من الجائع، والعطشان، وإن كان من هو معه يخاف الهلاك على نفسه، لقوله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وعلى كل أحد من المسلمين أن يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه.
وأبيح له أن يحمي لنفسه، وأكرمه الله بتحليل الغنائم، وجعلت الأرض له مسجدا، وطهورا، وكان من الأنبياء من لا تصح صلاتهم إلا في المسجد، ونصر بالرعب، فكان العدو يخافه من مسيرة شهر، وبعث إلى الخلق كافة، وجعلت معجزاته كمعجزات الأنبياء قبله، وزيادة. انتهى. قرطبي.
الإعراب: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ:} انظر الآية السابقة. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَحْلَلْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إنّ). {لَكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أَزْواجَكَ:} مفعول به، والكاف
ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{إِنّا أَحْلَلْنا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {اللاّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة أزواجك. {آتَيْتَ:} فعل، وفاعل. {أُجُورَهُنَّ:} مفعول به، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والنون حرف دال على جماعة الإناث، وجملة:{آتَيْتَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على {أَزْواجَكَ} . {مَلَكَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث لا محل لها.
{يَمِينُكَ:} فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: والتي ملكتها يمينك. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف، و (من): بيان لما أبهم في (ما)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: من الذي أفاءه الله عليك.
{وَبَناتِ:} الواو: حرف عطف. (بنات): معطوف على أزواجك منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم، و (بنات) مضاف، و {عَمِّكَ} مضاف إليه، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ} كل هذا معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله. {اللاّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة: {خالاتِكَ} .
{هاجَرْنَ:} فعل ماض مبني على السكون، والنون فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مَعَكَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَامْرَأَتَ:} معطوف على {أَزْواجَكَ} أيضا. {مُؤْمِنَةً:} صفة: (امرأة). هذا؛ وقيل: إن (امرأة) مفعول به لفعل محذوف، التقدير: ونحل لك امرأة لأن الكلام بمعنى المستقبل بخلاف الأول.
{إِنْ وَهَبَتْ..} . إلخ: توالى شرطان، ولم يذكر جواب لأحدهما، ومثلها الآية رقم [34] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وهي {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ..}. إلخ وخذ ما قاله أبو البقاء-رحمه الله تعالى-: حكم الشرط إذا دخل على الشرط أن يكون الشرط الثاني والجواب جوابا للشرط الأول، كقولك: إن أتيتني، إن كلّمتني أكرمتك.
فقولك: إن كلمتني أكرمتك جواب إن أتيتني، وإذا كان كذلك صار الشرط الأول في الذكر مؤخرا في المعنى، حتى لو أتاه، ثم كلمه لم يجب الإكرام، ولكن إن كلمه ثم أتاه؛ وجب إكرامه، وعلة ذلك: أن الجواب صار معوقا للشرط الثاني، وقد جاء في القرآن منه قوله تعالى:
{إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها..} . إلخ.
وأضيف ما قاله سليمان الجمل-رحمه الله تعالى-: وإن زاد على شرطين «أي: حكمه حكم الشرطين» وعلى هذا يترتب الحكم، مثاله: أن يقول لعبده: إن كلمت زيدا، إن دخلت الدار، إن أكلت الخبز، فأنت حرّ، فجواب الثالث:«أنت حرّ» والثالث، وجوابه جواب للثاني،
والثاني، وجوابه جواب للأول. فإن كلم، ثم دخل، ثمّ أكل؛ لم يعتق، لكن إن أكل، ثم دخل، ثم كلم؛ عتق لما ذكر. انتهى.
أما ابن هشام فقد قال في المغني: ذكروا: أنه إذا اعترض شرط على آخر، نحو «إن أكلت، إن شربت فأنت طالق» فإن الجواب المذكور للسابق منهما، وجواب الثاني مدلول عليه بالشرط الأول، وجوابه، كما قالوا في الجواب المتأخر عن الشرط، والقسم، ولهذا قال محققو الفقهاء في المثال المذكور: إنها لا تطلق حتى تقدم المؤخر وتؤخر المقدم، وذلك لأن التقدير حينئذ: إن شربت، فإن أكلت فأنت طالق. وقد أشار إلى ذلك ابن الوردي-رحمه الله تعالى-في البهجة بقوله:[الرجز]
وطالق إن كلّمت إن دخلت
…
إن أوّلا بعد أخير فعلت
وهذا كله حسن، لكنهم جعلوا منه قوله تعالى:{وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي..} . إلخ وفيه نظر؛ إذ لم يتوال شرطان وبعدهما جواب كما في المثال، وكما في قول الشاعر: وهو الشاهد رقم [1041] من كتابنا فتح القريب المجيب: [البسيط]
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا؛ تجدوا
…
منّا معاقل عزّ زانها كرم
وقول ابن دريد في مقصورته: وهو الشاهد رقم [1042] من كتابنا المذكور: [الرجز]
فإن عثرت بعدها إن وألت
…
نفسي من هاتا فقولا لا لعا
إذ الآية الكريمة لم يذكر فيها جواب، وإنما تقدم على الشرطين ما هو جواب في المعنى للشرط الأول، فينبغي أن يقدر إلى جانبه، ويكون الأصل: إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم، وأما أن يقدر الجواب بعدهما، ثم يقدر بعد ذلك مقدما إلى جانب الشرط الأول؛ فلا وجه له. والله أعلم. انتهى. أقول: ما قاله أبو البقاء وما قاله ابن هشام مؤداه واحد، وإن اختلف التعبير بينهما. وأخيرا أذكر أنه قرئ بفتح همزة:«(أن وهبت)» وخذ الإعراب على القراءتين.
(أن): حرف مصدري، ونصب. {وَهَبَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفعل يعود إلى امرأة مؤمنة. {نَفْسَها:} مفعول به، و (ها): في محل جر بالإضافة. {لِلنَّبِيِّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (أن) والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل نصب بدلا من {(امْرَأَةً مُؤْمِنَةً)}. وقيل: في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: أحللنا لك امرأة مؤمنة لهبتها نفسها لك، وأما على كسر همزة:{إِنْ} فهي حرف شرط جازم. {وَهَبَتْ:} ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، وجواب الشرط محذوف، التقدير: إن وهبت
…
فهي حل له، والجملة الشرطية في محل نصب صفة ثانية ل:(امرأة) وإعراب ما بعدها مثلها، التقدير: إن أراد النبي أن يستنكحها؛ فهي خالصة له، والجملة الشرطية هذه في محل نصب حال؛ لأن الحال قيد، كما أن الشرط
الثاني قيد للأول؛ أي: فكأنه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها؛ وأنت تريد أن تستنكحها؛ لأن إرادته هي قبول الهبة، وما به تتم.
{خالِصَةً:} مفعول مطلق، عامله محذوف، التقدير: خلصت لك خالصة، ومجيء المصدر على هذه الزنة وارد، كالعاقبة، والكاذبة. وفاعله محذوف، التقدير: خالصا لك نكاحها؛ وفي السمين: وفيه أوجه: أحدها: أنه منصوب على الحال من فاعل: {وَهَبَتْ} المستتر؛ أي: حال كونها خالصة لك دون غيرك. الثاني: أنها حال من امرأة؛ لأنها وصفت، فخصصت، وهو بمعنى الأول، وإليه ذهب الزجاج. الثالث: أنها نعت مصدر مقدر، أي: هبة خالصة، فنصبها ب:{وَهَبَتْ} . الرابع: أنها مصدر مؤكد كوعد الله. انتهى. جمل. {لَكَ:} جار ومجرور متعلقان ب: {خالِصَةً} . {مِنْ دُونِ:} متعلقان بها أيضا. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له. و {دُونِ} مضاف، و {الْمُؤْمِنِينَ} مضاف إليه
…
إلخ.
{قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {عَلِمْنا:} فعل، وفاعل. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، واكتفى الفعل بمفعول واحد؛ لأنه من المعرفة. {فَرَضْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: قد علمنا الذي، أو: شيئا فرضناه. {عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ:} كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: {فِي أَزْواجِهِمْ} متعلقان بمحذوف حال، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَما:} الواو: حرف عطف. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على {أَزْواجِهِمْ،} والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير: وفي الذي ملكته أيمانهم. وجملة: {قَدْ عَلِمْنا..} . إلخ معترضة بين {خالِصَةً} وما يتعلق بها، وهي مقررة لمضمون ما قبلها من خلوص الإحلال له، ببيان أنه قد فرض عليهم من شرائط العقد وحقوقه ما لم يفرض عليه، تكرمة له، وتوسعا عليه صلى الله عليه وسلم. {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} انظر إعراب مثل هذه الكلمات في الآية رقم [37]، والجار والمجرور متعلقان ب:{خالِصَةً} . وقيل: متعلقان ب: {أَحْلَلْنا} . وقيل: متعلقان ب: {فَرَضْنا} والمعتمد الأول، وجملة:{وَكانَ اللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ:} تؤخر. يقرأ بالهمزة وبدونه. {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ:}
تضم. فالمعنى: أنت يا محمد مخير بشأن نسائك، تترك مضاجعة من تشاء منهن، وتضاجع من
تشاء، أو تطلق من تشاء، وتمسك من تشاء منهن، أو لا تقسم لأيتهن شئت، وتقسم لمن شئت، أو تترك تزوج من شئت من نساء أمتك، وتتزوج من شئت. وعن الحسن-رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة؛ لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها، وهذا قسمة جامعة لما هو الغرض؛ لأنه إما أن يطلق، وإما أن يمسك، فإذا أمسك ضاجع، أو ترك، وقسم، أو لم يقسم، وإذا طلق، وعزل، فإما أن يخلي المعزولة، لا يبتغيها، أو يبتغيها.
روي: أنه أرجى منهن سودة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة، فكان يقسم لهن ما شاء، كما شاء، وكانت ممن آوى إليه عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب رضي الله عنهن.
أرجى خمسا وآوى أربعا، وكان صلى الله عليه وسلم مع أن الله قد أطلق له الحرية في معاملة أزواجه، كان يشدد على نفسه في رعاية التسوية بينهن تطييبا لقلوبهن. وكان يقول: اللهم هذه قدرتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك، ولا أملك، يعني: قلبه؛ لأنه كان يميل إلى عائشة أكثر من غيرها.
وروي: أن سودة-رضي الله عنها-حين أحست بميله إلى عائشة، وضعف رغبته فيها؛ فإنها وهبت ليلتها لعائشة، وقالت له: أمسكني، ولا تطلقني؛ حتى أحشر في زمرة نسائك.
{وَمَنِ ابْتَغَيْتَ} أي: طلبتها للمبيت معك. {مِمَّنْ عَزَلْتَ} أي: هجرتها، وابتعدت عنها مدة.
{فَلا جُناحَ عَلَيْكَ} أي: لا إثم، ولا مؤاخذة عليك في طلبها، ورجوعك عليها. {ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ} أي: ذلك التفويض إلى مشيئتك أقرب إلى رضاهن، وأطيب لأنفسهن، وأقل لحزنهن إذا علمن: أن ذلك من الله تعالى. {وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} أي: بما أعطيتهن من تقريب، وإرجاء، وعزل، وإيواء؛ لأنه حكم كلهن فيه سواء، ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا، وتكرما منك، وإن رجحت بعضهن على بعض علمن: أنه بحكم الله، لا اعتراض لواحدة منهن عليك، فتطمئن نفوسهن، ويهدأ بالهن.
{وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ} أي: من الميل لبعضهن. {وَكانَ اللهُ عَلِيماً:} بما في ضمائركم. {حَلِيماً:} لا يعاجل بالعقوبة. هذا؛ وانظر شرح: (شاء) في الآية رقم [48] من سورة (الروم)، وشرح:(العين) في الآية رقم [17] من سورة (السجدة)، وشرح:{قُرَّةِ} في الآية رقم [17] منها. هذا؛ والفعل: {يَحْزَنَّ} في هذه الآية من باب: فرح، وطرب فهو لازم، ويأتي من باب: دخل، وقتل، فيكون متعديا. كما يكون متعديا إذا أتى من الرباعي.
الإعراب: {تُرْجِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، أو ظاهرة على الهمزة، والفاعل ضمير مستتر، تقديره:«أنت» . {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، وجملة {تَشاءُ:} صلته، والعائد محذوف، التقدير: التي تشاؤها. {مِنْهُنَّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب، و (من) بيان لما أبهم في (من) والنون علامة جمع الإناث، وإعراب الجملة التالية مثلها، والعائد والمتعلق
محذوفان، التقدير: وتؤوي إليك التي تشاؤها منهن. والجملة معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع.
{وَمَنِ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط مبني على السكون في محل نصب مفعول به للفعل بعده، أو هو في محل رفع مبتدأ. {اِبْتَغَيْتَ:} فعل، وفاعل، والمفعول محذوف على اعتبار (من) مبتدأ. {مِمَّنْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، أو من (من)، و (من) بيان لما أبهم في (من). {عَزَلْتَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير: من التي عزلتها. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {جُناحَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (لا)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [30]. هذا؛ وإن اعتبرت:(من) موصولة؛ فهي مبتدأ، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، والجملة الاسمية:{فَلا جُناحَ عَلَيْكَ} في محل رفع خبره؛ وزيدت الفاء في خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية على الاعتبارين مستأنفة، لا محل لها.
{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {أَدْنى:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {أَنْ تَقَرَّ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ} ويقرأ بالبناء للمعلوم، وللمجهول. {أَعْيُنُهُنَّ:} فاعل، أو نائب فاعل، ويقرأ:«(تقرّ)» ونصب «(أعينهن)» على أنه مفعول به، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والنون حرف دال على جماعة الإناث، و {أَنْ تَقَرَّ} في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: إلى إقرار أعينهن، والجار والمجرور متعلقان ب:{أَدْنى} . {وَلا:} الواو:
حرف عطف. (لا): نافية. {يَحْزَنَّ:} فعل مضارع مبني على السكون، ونون النسوة فاعله، والفعل معطوف على ما قبله، فهو منصوب محلا، و (يرضين): مثله محلا، وإعرابا، لذا فالتقدير: ذلك أقرب إلى إقرار أعينهن، وأقرب إلى قلة حزنهن، وأقرب إلى رضاهن جميعا.
{بِما:} متعلقان بما قبلهما، و {آتَيْتَهُنَّ:} فعل، وفاعل ومفعوله الأول، والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية صلة:(ما)، والعائد محذوف، وهو المفعول الثاني، التقدير:
ويرضين بالذي آتيتهن إياه. {كُلُّهُنَّ:} توكيد لنون النسوة بقوله: (يرضين)، وقرئ شاذا بنصبه على أنه توكيد ل:(هنّ) والهاء في محل جر بالإضافة.
{وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {يَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {بِما:} اسم موصول مبني على السكون
في محل نصب مفعول به. {فِي قُلُوبِكُمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، لا محل لها، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{وَاللهُ يَعْلَمُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها أيضا.
الشرح: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ:} يقرأ الفعل بالياء، والتاء؛ لأنه جمع تكسير، يجوز تذكيره، وتأنيثه، وإذا جاز بغير فصل في قوله تعالى:{وَقالَ نِسْوَةٌ} كان مع الفصل أجوز. {مِنْ بَعْدُ} أي: من بعد التسع اللاتي اخترنك المذكورات في الآية رقم [29]. {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ} أي: بأن تطلق إحداهن، وتتزوج بدلها، أو تطلقهن جميعا، وتتزوج غيرهن، وهذا تكريم لهن، ومكافأة على اختيارهن الله، ورسوله، كما رأيت في الآية رقم [29] أيضا. {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} أي: حسن المبتدلات الجدد. أي: فليس لك أن تطلق أحدا من نسائك، وتنكح بدلها أخرى، ولو أعجبك جمالها. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يعني: أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب-رضي الله عنه-لما استشهد بمؤتة، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطبها، فنهي عن ذلك. وقيل: هذا الحجر عليه صلى الله عليه وسلم حتى لو ماتت واحدة منهن؛ لا يحل له نكاح أخرى. {إِلاّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ:} فهي استثناء ممن حرم عليه من النساء بعد اللاتي اخترن الله، ورسوله، والدار الآخرة. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ملك مارية القبطية رضي الله عنها-بعد نزول هذه الآية، وكانت قد أهداها له المقوقس ملك مصر، وذلك حين بعث إليه الرسول صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة-رضي الله عنه-بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام، صورته:«بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط» . و {يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ..} . إلخ الآية رقم [64] من سورة (آل عمران)، فلما وصل إليه الكتاب قرأه، ثم جعله في حق من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له، ثم كتاب جوابه في كتاب صورته: «إلى محمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما فيه، وما تدعو إليه، وعلمت: أن نبيا قد بقي، وما كنت أظن أنه يخرج إلا بالشام، وقد أكرمت رسولك (أي: فإنه قد دفع لحاطب مائة دينار، وخمسة أثواب) وبعثت لك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم (أي: وهما مارية، وسيرين-رضي الله عنهما) وبغلة للركوب، وثياب، كذا
وكذا». ولم يسلم، وأهدى إليه جارية ثالثة، وخصيّا، يقال له: مابور، والبغلة هي الدلدل، وكانت شهباء، وفرسا هو: اللزاز، فأسرج، وألجم، وهو فرسه الميمون، وأهدى إليه عسلا من عسل بنها. انتهى. من الجمل نقلا عن السيرة الحلبية بتصرف مني كبير.
والمشهور: أنه بعث إليه طبيبا أيضا، ولما وصل إليه الطبيب، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا حاجة لنا به، نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع» . وقد ولدت مارية-رضي الله عنها إبراهيم عليه السلام، وقد توفي قبل تمام حولين له، وأما سيرين فقد زوجها لأحد أصحابه، فولدت له محمد بن سيرين، وهو من كبار التابعين، وأخيرا: فقد كان كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس في السنة السادسة للهجرة، وهي السنة التي راسل فيها الملوك؛ الذين كانوا في حياته صلى الله عليه وسلم. والله أعلم، وأجل، وأكرم.
{وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} أي: حافظا مهيمنا، فتحفظوا جهدكم، ولا تتخطوا ما حد لكم.
وهو تهديد، وتحذير عن مجاوزة حدود الله، وتخطي حلاله إلى حرامه. وبقي أن تعرف هل نسخ هذا الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بقي إلى آخر حياته؟ فقيل: بقي، والأصح: أنه نسخ، فعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء، وروى الطحاوي عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء من شاء، إلا ذات محرم، وذلك قوله تعالى:{تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ..} . إلخ الآية السابقة.
قال النحاس: وهذا؛ -والله أعلم-أولى ما قيل في الآية، وهو وقول عائشة واحد في النسخ، وقد عارض بعض فقهاء الكوفة، فقال: محال أن تنسخ الآية السابقة هذه الآية، وهي قبلها في المصحف الذي أجمع عليه المسلمون. ورجح قول من قال: نسخت بالسّنّة. قال النحاس: وهذه المعارضة لا تلزم، وقائلها غالط؛ لأن القرآن بمنزلة سورة واحدة، ويبين لك أن اعتراض هذا المعترض لا يلزم؛ لأن الآية رقم [240] من سورة (البقرة) قد نسخت بالآية رقم [234] وهي بعدها، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
الإعراب: {لا:} نافية. {يَحِلُّ:} فعل مضارع. {لَكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {النِّساءُ:} فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة. {مِنْ بَعْدُ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {النِّساءُ} وهو أولى، وبني {بَعْدُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا نية. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {أَنْ تَبَدَّلَ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» ، والمصدر المؤول في محل رفع معطوف على {النِّساءُ} التقدير: ولا يحل لك التبدل. {بِهِنَّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {مِنْ:} حرف جر صلة. {أَزْواجٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
{وَلَوْ:} الواو: واو الحال. (لو): وصلية. وقيل: شرطية، ولا وجه له؛ لأنها لا جواب لها، وأيضا لا تجتمع الشرطية، والحالية. {أَعْجَبَكَ:} فعل ماض، والكاف مفعول به.
{حُسْنُهُنَّ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل {تَبَدَّلَ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير. {إِلاّ:} أداة حصر. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع بدل من: {النِّساءُ،} أو في محل نصب على الاستثناء، والأول هو المختار، وأجيز اعتباره مستثنى من (الأزواج)، أو في محل جر بدلا من لفظه، أو في محل نصب بدلا من:(هنّ) على المحل، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير:
إلا الذي ملكته يمينك. هذا؛ وأجاز مكي اعتبار: {ما} مصدرية، تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب على الاستثناء، أو في محل رفع بدلا من النساء على حسب ما رأيت فيما تقدم.
{وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. (كان): فعل ماض ناقص. {اللهُ:} اسمها. {عَلى كُلِّ:} جار ومجرور متعلقان ب: {رَقِيباً} بعدهما، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {رَقِيباً:} خبر:
(كان)، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} أي: إلا وقت أن يؤذن لكم، أو: إلا مأذونا لكم. {إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ:} غير منتظرين نضجه وإدراكه. {وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ:} إلى الطعام، وأذن لكم في الدخول؛ فادخلوا غير مؤاخذ عليكم. {فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا:} فاخرجوا، وتفرقوا، ولا تمكثوا. والآية خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدخلون، ويقعدون منتظرين لإدراكه وهذا قبل أن تنزل آية الحجاب كما ستعرفه.
{وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أي: لحديث بعضكم بعضا، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون، فنهوا عن ذلك. {إِنَّ ذلِكُمْ} أي: القعود في البيت للتحدث بعد الطعام. {كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ:} لتضييق المنزل عليه، وعلى أهله، واشتغاله فيما لا يعنيه.
{فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} أي: أن يخرجكم. {وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} أي: لا يستحيي من
إخراجكم الذي هو الحق، ولا ينبغي أن يستحيا منه. ولما كان الحياء مما يمنع الحيي من بعض الأفعال؛ قيل:{لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ،} أي لا يمنع منه، ولا يتركه ترك الحيي منكم. هذا أدب أدب الله به الثقلاء، وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم، وقال:{فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} . {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً:} وإذا سألتم نساء النبي صلى الله عليه وسلم شيئا مما ينتفع به. {فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} أي: من وراء ستر، فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم منتقبة كانت، أو غير منتقبة.
هذا؛ وفيما تقدم المطابقة بين قوله: ادخلوا، وانتشروا، وبين الإيجاب والسلب في قوله تعالى:{فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} وهذا من المحسنات البديعية.
{ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ:} من خواطر الشيطان، وعوارض الفتن، وكانت النساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرجال، وكان عمر-رضي الله عنه-يحب ضرب الحجاب عليهن، ويود أن ينزل فيه، وقال: يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فنزلت. وذكر أن بعضهم قال: أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد لأتزوجن فلانة، فنزل قوله تعالى:{وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ..} . إلخ.
{إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً} أي: ذنبا عظيما، وهذا من إعلام تعظيم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإيجاب حرمته حيا، وميتا، وإعلامه بذلك مما طيب نفسه، وسر قلبه، واستفرغ شكره، فإن من الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت قبله لئلا تنكح غيره بعده، وانظر شرح:
{وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ} في الآية رقم [36].
وإنما حرمن على غيره صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حي في قبره، ورعاية لشرفه، ولأنهن أزواجه في الجنة، ولأنهن أمهات المؤمنين، ولأن المرأة في الجنة مع آخر أزواجها، ويرد على قوله: لأنه حي في قبره بقية الأنبياء، فإن أزواجهم يجوز لغيرهم من الأنبياء التزوج بهن مع أنهم أحياء في قبورهم، وكذا الشهداء يجوز لغيرهم التزوج بنسائهم مع أنهم أحياء، فالأولى الاقتصار على التعاليل اللاتي بعده، ونساء باقي الأنبياء يحرمن على غير الأنبياء.
تنبيه: قال أكثر المفسرين: نزلت الآية الكريمة في شأن وليمة زينب بنت جحش حين بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى الشيخان عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: كنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، وكان أول ما أنزل في بناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش حين أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها عروسا، فدعا القوم، فأصابوا من الطعام، ثم خرجوا، وبقي رهط عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأطالوا المكث فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج، وخرجت معه لكي يخرجوا، فمشى ومشيت معه حتى جاء عتبة حجرة عائشة-رضي الله عنها-ثم ظن: أنهم قد خرجوا، فرجع، ورجعت معه، حتى إذا دخل على زينب؛ فإذا هم جلوس، لم يقوموا، فرجع، ورجعت معه؛
حتى إذا بلغ حجرة عائشة، وظن أنهم قد خرجوا، رجع، ورجعت معه، فإذا هم قد خرجوا، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، وأرخى بيني، وبينه الستر، وأنزل الله آية الحجاب.
وروى الشيخان عن عائشة-رضي الله عنها-أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المواضع الخالية لقضاء الحاجة من البول، والغائط، وكان عمر-رضي الله عنه-يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة! حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله تعالى آية الحجاب، وهذه الآية من جملة الآيات الأربع عشرة التي نزلت موافقة لرأي عمر رضي الله عنه، وقد بينتها في محالها.
هذا؛ والقائل: أننهى أن نكلم بنات عمنا
…
إلخ هو طلحة بن عبيد الله التيمي قريب أبي بكر، رضي الله عنه وليس هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، فحاشاه من هذا القول، وإنما القائل غيره، وقد وافق الاسم الاسم، والنسبة النسبة، واسم الأب اسم الأب موافقة. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: وندم هذا الرجل على ما حدّث به نفسه، فمشى إلى مكة على رجليه. وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقيقا، فكفر الله عنه. انتهى. قرطبي.
هذا؛ والحياء بالنسبة للإنسان: هو انقباض النفس من الشيء، وتركه خوفا من اللوم، وهو ملكة تمنع الإنسان من ارتكاب الرذائل، والحياء خير ما يتحلى به إنسان، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما، رفع الآخر» . وإذا ذهب الحياء من الإنسان؛ فقد ذهب منه كل خير، كما قال القائل:[الوافر] إذا لم تخش عاقبة اللّيالي
…
ولم تستح فاصنع ما تشاء
فلا وأبيك ما في العيش خير
…
ولا الدّنيا إذا ذهب الحياء
هذا؛ والحياء في حق الله تعالى المراد منه: الترك اللازم للانقباض، كما ورد في قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«إنّ الله حييّ كريم يستحيي إذا رفع الرجل يديه أن يردّهما صفرا خائبتين» . رواه أبو داود، والترمذي عن سلمان الفارسي، رضي الله عنه. فالمراد منه: أنه سبحانه يعطي، ولا يمنع.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ} انظر الآية رقم [49]. {آمَنُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {لا:} ناهية، جازمة. {تَدْخُلُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: {لا،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بُيُوتَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله عند بعض النحاة، وفي مقدمتهم سيبويه، والمحققون وعلى رأسهم الأخفش ينصبونه على التوسع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب عندهم انتصاب المفعول
به على السعة، بإجراء اللازم مجرى المتعدي، ومثل ذلك قل في:«دخلت المدينة، ونزلت البلد، وسكنت الشام» . و {بُيُوتَ:} مضاف، و {النَّبِيِّ} مضاف إليه. {إِلاّ:} حرف حصر.
{أَنْ:} حرف مصدري، ونصب، واستقبال. {يُؤْذَنَ:} فعل مضارع مبني للمجهول منصوب ب: {أَنْ} . {لَكُمْ:} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل. {إِلى طَعامٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وأن والفعل المضارع في تأويل مصدر، وفيه أوجه:
أحدها: أنه في محل نصب حال تقديره: إلا مأذونا لكم. الثاني: أنه على إسقاط باء السببية تقديره: إلا بسبب الإذن لكم، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، التقدير: إلا مصحوبين بإذن، أو هما متعلقان بالفعل قبلهما، مثل قوله تعالى:{فَأَخْرَجَ بِهِ} أي: بسببه، الثالث: أنه منصوب على الظرفية؛ أي: إلا وقت الإذن لكم، وهذا يعني: أنه مستثنى من عموم الأحوال، أي: لا تدخلوا بيوت النبي في وقت من الأوقات إلا وقت الإذن لكم. {غَيْرَ:} حال من الكاف، أو من الواو، و {غَيْرَ} مضاف، و {ناظِرِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه.
{إِناهُ:} مفعول به ل: {ناظِرِينَ؛} لأنه اسم فاعل منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وقرئ بجر (غير) صفة لطعام، فيكون جاريا على غير من هو له بلا إبراز الضمير، وهو غير جائز عند البصريين؛ إذ من حق ضمير {غَيْرَ} ما هو له عندهم أن يبرز إلى اللفظ، فيقال: إلى طعام غير ناظرين إناه أنتم، كقولك: هند زيد ضاربته هي، وجملة:{لا تَدْخُلُوا..} . إلخ لا محل لها مثل الجملة الندائية قبلها.
{وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل، لا عمل له. {إِذا:} انظر الآية رقم [49]. {دُعِيتُمْ:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على السكون. والتاء نائب فاعله، ومتعلقه محذوف، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذا} إليها. {فَادْخُلُوا:} الفاء: واقعة في جواب {إِذا} . (ادخلوا): فعل أمر مبني على حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب {إِذا،} لا محل لها، وجملة:{وَلكِنْ إِذا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} {فَإِذا} ومدخولها معطوف على ما قبله، لا محل له مثله، وإعرابه مثله أيضا. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {مُسْتَأْنِسِينَ:}
معطوف على {ناظِرِينَ} فهو مجرور مثله، وأجيز اعتباره معطوفا على {غَيْرَ} فيكون منصوبا، كما أجيز اعتباره حالا مقدرة من محذوف، التقدير: لا تدخلوا، أو: لا تمكثوا مستأنسين، وفاعله مستتر فيه. {لِحَدِيثٍ:} جار ومجرور متعلقان به.
{أَنْ:} حرف مشبه بالفعل. {ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسم {أَنْ،} واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {كانَ:} فعل ماض
ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى اسم الإشارة. {يُؤْذِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، منع من ظهورها الثقل، والفاعل يعود إلى اسم الإشارة. {النَّبِيِّ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانَ،} وجملة:
{كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر: {أَنْ} . هذا؛ وإن اعتبرت {كانَ} زائدة؛ فجملة:
{يُؤْذِي النَّبِيَّ} تكون خبر: {أَنْ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ ذلِكُمْ..} . إلخ تعليل لما قبلها، لا محل لها. {فَيَسْتَحْيِي:} الفاء: حرف عطف. {فَيَسْتَحْيِي:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، وهو يقرأ بياء واحدة، وبياءين، ومثله ما بعده، والفاعل يعود إلى النبي، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، والرابط في الأولى رابط في الثانية.
{مِنْكُمْ:} متعلقان بما قبلهما وهو على تقدير مضاف؛ إذ الأصل: فيستحيي من إخراجكم.
{وَاللهُ:} الواو: واو الحال. (الله): مبتدأ. {لا:} نافية. {فَيَسْتَحْيِي:} مضارع مرفوع
…
إلخ، والفاعل يعود إلى (الله). {مِنَ الْحَقِّ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل يستحيي الأول، والرابط الضمير فقط.
{وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [49]. {سَأَلْتُمُوهُنَّ:} فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، والهاء مفعول به أول، والنون حرف دال على جماعة الإناث.
{مَتاعاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {فَسْئَلُوهُنَّ:}
الفاء: واقعة في جواب (إذا). (اسألوهن): فعل أمر، وفاعله، ومفعوله الأول، والثاني محذوف، التقدير: فاسألوهن إياه، والجملة الفعلية جواب (إذا)، لا محل لها. {مِنْ وَراءِ:}
متعلقان بما قبلهما، و {وَراءِ} مضاف، و {حِجابٍ} مضاف إليه، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {أَطْهَرُ:} خبر المبتدأ. {لِقُلُوبِكُمْ:} متعلقان ب: {أَطْهَرُ} . (قلوبهن):
معطوف على ما قبله، والكاف والهاء ضميران متصلان في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{ذلِكُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {لَكُمْ:}
جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ} تقدم على اسمها، والمصدر المؤول من {أَنْ تُؤْذُوا} في محل رفع اسمها مؤخر، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {رَسُولَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَنْكِحُوا} معطوف على سابقه، فهو في محل رفع مثله. {أَزْواجَهُ:} مفعول به.
والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنْ بَعْدِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{أَزْواجَهُ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {أَبَداً:} ظرف زمان متعلق بما قبله.
{أَنْ:} حرف مشبه بالفعل. {ذلِكُمْ:} اسم إشارة اسم: {أَنْ} . واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {كانَ} ماض ناقص. واسمه يعود إلى {ذلِكُمْ}. {عِنْدَ:}
ظرف مكان متعلق ب: {عَظِيماً} بعده، و {عِنْدَ:} مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه. {عَظِيماً:}
خبر {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر {أَنْ،} والجملة الاسمية:
{أَنْ..} . إلخ مستأنفة، أو تعليلية، لا محل لها على الاعتبارين.
{إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54)}
الشرح: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً:} تظهروا، وتجهروا بشيء على ألسنتكم، كنكاح أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. {أَوْ تُخْفُوهُ} في صدوركم، أي: لا تجهروا به. {فَإِنَّ اللهَ كانَ} وكائن وما يزال كائنا أبد الآبدين {عَلِيماً} بكل شيء. وفحواه: أن الله جلت قدرته، وتعالت حكمته عالم بما بدا، وما خفي، وما كان، وما لم يكن، لا يخفى عليه ماض تقضّى، ولا مستقبل يأتي. وهذا على العموم تمدح به، وهو أهل المدح، والحمد، والمراد به هنا: التوبيخ، والوعيد لمن تقدم التعريض به في الآية السابقة، ممّن أشير إليه بقوله:{ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} ومن أشير إليه في قوله تعالى: {وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ..} . إلخ فقيل لهم في هذه الآية:
إن الله تعالى يعلم ما تخفونه من هذه المعتقدات والخواطر المكروهة، وما تبدونه منها، فيجازيكم عليها، ولا تنس المطابقة بين قوله:{تُبْدُوا} (وتخفوا) وهي من المحسنات البديعية.
الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {تُبْدُوا:} فعل مضارع مجزوم فعل الشرط، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {شَيْئاً:}
مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.
{أَوْ:} حرف عطف. {تُخْفُوهُ:} فعل مضارع معطوف على ما قبله مجزوم مثله، والواو فاعله، والهاء مفعول به. {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إن): حرف مشبه بالفعل.
{اللهَ:} اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى {اللهَ}. {بِكُلِّ:} متعلقان ب: {عَلِيماً} بعدهما، و (كل): مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {عَلِيماً:} خبر: {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، وجملة: (إن
…
) إلخ في محل جزم جواب الشرط. هذا؛ وعند التأمل يتبين لك أن جواب الشرط محذوف، التقدير: فهو يجازيكم به، وعليه فالجملة الاسمية: (إن الله
…
) إلخ تعليلية لا محل لها، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.
الشرح: {لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ} أي: لا إثم، ولا حرج على أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم. {فِي آبائِهِنَّ..}. إلخ: أي: في رؤية، وكلام آبائهن لهن
…
إلخ، فالكلام على حذف المضاف.
روي: أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء، والأبناء، والإخوان: يا رسول الله! أو نكلمهن أيضا من وراء الحجاب؟ فنزل: {لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ} . هذا؛ وقد ذكر تعالى في هذه الآية من يحل للمرأة البروز له، ولم يذكر الأعمام، والأخوال مع كونهم من المحارم، وأولادهم ليسوا من المحارم باتفاق جميع المسلمين؛ لأن مناكحتهم صحيحة لا حرج فيها، لم يذكرهم الله؛ لأنهم يجرون مجرى الوالدين، في معنى الإخوان، أو لأن الأحوط أن يتسترن عنهم حذرا من أن يصفوهن لأولادهم. قال الزجاج: هذا؛ وقد ذكر الله في هذه الآية بعض المحارم وذكر الجميع في الآية رقم [23] من سورة (النساء)، والآية رقم [31] من سورة (النور)، فهذه الآية توسطت بين الآيتين.
{وَلا نِسائِهِنَّ} أي: المؤمنات من أهل دينهنّ، المراد أنه يجوز للمرأة المسلمة أن تنظر إلى بدن المرأة المسلمة ما عدا ما بين السرة والركبة، فلا يجوز للمرأة المؤمنة أن تتعرى من ثيابها عند الذمية، أو الوثنية؛ لأنها ليست من المؤمنات، ولأنها أجنبية في الدين، فكانت أبعد من الرجل الذي يحل نكاحه، وقد كتاب عمر-رضي الله عنه-إلى أبي عبيدة بن الجراح-رضي الله عنه-أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمام مع المسلمات، وذلك لئلا تصف الكافرة جسد المسلمة لزوجها الكافر، أو غيره من أقاربها. ولا يفوتني أن أذكر أنه تقدم الطبيبة الكافرة في معالجة المرأة المسلمة على الطبيب المسلم، ولو كان عدلا، ولكن المسلمين في هذه الأيام قد انحرفوا عن الصراط المستقيم، فتراهم يقدمون الطبيب الكافر على الطبيب المسلم؛ بل وعلى الطبيبة المسلمة، ولا حول، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. {وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ} أي: من العبيد، والإماء، بمعنى: أنه يجوز للمرأة المسلمة أن تكشف من بدنها ما عدا ما بين السرة والركبة لمن تملكه من العبيد، ولا أطيل الكلام في ذلك؛ لأن الرق لم يعد موجودا في الدنيا.
وينبغي أن تعلم: أن هذه الأحكام ليست مقصورة على نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل تعم جميع المسلمات المؤمنات، ولذا عممته كما ترى.
هذا؛ و (آباء) جمع: أب، وأصله: أبو، فجمعه آباء. و (أبناء) جمع: ابن، وأصله: بنو، فجمعه: أبناء. و (نساء) أصله: نساي، فقل في إعلال الثلاثة: تحركت الواو، والياء، وانفتح ما
قبلهما، فقلبتا ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة. هذا؛ ولقد سئلت عما يلي: همزة المصدر استغفار ونحوه همزة وصل، فإذا جمع استغفارات، ونحوه تبقى الهمزة همزة وصل وهمزة «ابن» همزة وصل، فلما جمع «أبناء» صارت همزة قطع فما الفرق بينهما؟ فالجواب: إن همزة المصدر أصلية، وأما همزة «ابن» فليست أصلية إذ أصله «بنو» كما رأيت، فالهمزة فيه بدل من حرف علة أصلي، فلما جمع على «أبناء» فهذه الهمزة همزة أفعال، وليست همزة: ابن، كما قد يتوهم.
أما {شَيْءٍ} فهو في اللغة عبارة عن كل موجود، إما حسا كالأجسام، وإما حكما كالأقوال، نحو قلت: شيئا، وجمع الشيء: أشياء غير منصرف، واختلف في علته اختلافا كبيرا، والأقرب ما حكي عن الخليل-رحمه الله تعالى-أن وزنه: شياء وزان: حمراء، فاستثقل وجود همزتين في تقدير الاجتماع، فنقلت الأولى إلى أول الكلمة، فبقيت: لفعاء، كما قلبوا أدؤرا، فقالوا: آدر، وشبهه، وجمع الأشياء: أشايا.
تنبيه: وقعت «ما» على العبيد والإماء، وهم عاقلون، وهي لغير العاقل، كما هو معروف، وإنما وقعت عليهم؛ لأنهم كانوا يباعون، ويشترون كالبهائم، كما وقعت على النساء الحرائر في قوله تعالى:{فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ..} . إلخ الآية رقم [3] من سورة (النساء) لأنهن ناقصات عقل، ولأنهن بسبب دفع المهر لهن يشبهن الإماء، وانظر (اتقى) في الآية رقم [32].
الإعراب: {لا:} نافية للجنس تعمل عمل: «إن» . {جُناحَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب. {عَلَيْهِنَّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {لا} . {فِي آبائِهِنَّ:}
متعلقان ب: {جُناحَ؛} لأنه مصدر. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، وهو غير وجيه. هذا؛ وإن علقت عليهن ب:{جُناحَ} فهما متعلقان بمحذوف خبر {لا،} والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والنون حرف دال على جماعة الإناث، وما بعده معطوف عليه. {وَلا:} الواو:
حرف عطف. (لا): نافية، أو زائدة لتأكيد النفي. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير:
والذي ملكته أيمانكم. {وَاتَّقِينَ:} الواو: حرف عطف. (اتقين): فعل أمر مبني على السكون، ونون النسوة فاعله. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فامتثلن ما أمرتن به، واتقين الله في أن يراكن غير هؤلاء. والفاء المقدرة يظهر: أنها الفصيحة، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا؛ فامتثلن
…
إلخ. {إِنَّ اللهَ كانَ..} .
إلخ انظر إعراب مثلها في الآية السابقة، وهي مستأنفة، أو معترضة، لا محل لها على الاعتبارين، والجملة الاسمية:{لا جُناحَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: هذه الآية شرّف الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد موته، وأظهر بها منزلته عنده تعالى، والصلاة من الله عليه صلى الله عليه وسلم: رحمته ورضوانه، ومن الملائكة: الدعاء والاستغفار، ومن الأمة: الدعاء، والتعظيم لأمره. انتهى. قرطبي. فإن قيل: إذا صلّى الله، وملائكته عليه فأيّ حاجة به إلى صلاتنا؟ أجيب بأن الصلاة عليه ليست لحاجته إليها، وإلا فلا حاجة به إلى صلاة الملائكة أيضا، وإنما القصد بها تعظيمه صلى الله عليه وسلم، وعود فائدتها علينا بالثواب، والقرب منه صلى الله عليه وسلم. انتهى. نقلا عن الخطيب.
قال الإمام: ولم تؤكد الصلاة-أي: بمصدر-كما أكد السّلام؛ لأنها مؤكدة بقوله: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ..} . إلخ. وقيل: إنه من الاحتباك، فحذف (عليه) من أحدهما، والمصدر من الآخر. هذا؛ وتجوز الصلاة على غيره تبعا له، وتكره استقلالا؛ لأنه في العرف صار شعارا لذكر الرسل، ولذلك كره أن يقال: إن محمدا عز وجل، وإن كان عزيزا جليلا.
هذا؛ وقد اختلف في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: أواجبة، أو مندوبة؟ ومن قال في الوجوب اختلفوا في حال وجوبها، فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره، ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا أخبركم بأبخل الناس؟» . قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ، فذلك أبخل الناس» . رواه ابن أبي عاصم في كتاب الصلاة عن أبي ذر الغفاريّ، رضي الله عنه.
ومنهم من قال: تجب في العمر مرة. ومنهم من قال: تجب في كل مجلس مرة، وإن تكرر ذكره، ومنهم من قال: تجب في كل صلاة في التشهد الأخير، وهو مذهب الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد، ومن قول الشافعي، رضي الله عنه:[البسيط] يا آل بيت رسول الله حبكم
…
فرض من الله في القرآن أنزله
يكفيكم من عظيم الفخر أنكم
…
من لم يصلّ عليكم لا صلاة له
كما اختلف في صفة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. وخذ ما يلي: عن كعب بن عجرة-رضي الله عنه قال: لما نزل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! هذا السّلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة؟ فقال:«قل: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» .
وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: إذا صليتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأحسنوا الصلاة عليه، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه. قال، فقالوا له: فعلّمنا! قال: قولوا:
أما فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فهو مما لا ريب فيه، وقد ورد في بيانه أحاديث كثيرة، خذ منها ما يلي: فعن أبي بردة بن نيار-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى عليّ من أمتي صلاة مخلصا من قلبه؛ صلّى الله عليه بها عشر صلوات، ورفعه بها عشر درجات، وكتاب له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيّئات» . رواه النسائي، والطبراني. وعن ابن مسعود رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ لله ملائكة سيّاحين يبلّغوني عن أمّتي السّلام» . رواه النسائي. وعن الحسن بن علي-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حيثما كنتم فصلّوا عليّ، فإنّ صلاتكم تبلغني» . رواه الطبراني. وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أولى النّاس بي يوم القيامة أكثرهم صلاة عليّ» . رواه الترمذي.
هذا؛ وقال سهل بن عبد الله: الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم أفضل العبادات؛ لأن الله تعالى تولاها هو وملائكته، ثم أمر بها المؤمنين، وسائر العبادات ليس كذلك. وقال أبو سليمان الداراني: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يقبل الصلاتين، وهو أكرم من أن يرد ما بينهما.
وروى سعيد بن المسيب عن عمر-رضي الله عنه-أنه قال: الدعاء يحجب دون السماء حتى يصلّى على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رفع الدعاء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«من صلّى عليّ في كتاب لم تزل الملائكة يصلّون عليه، ما دام اسمي في ذلك الكتاب» . يا رب لك الحمد على نعمتك.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {وَمَلائِكَتَهُ:} معطوف على ما قبله، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {يُصَلُّونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} . وقيل: الجملة في محل رفع خبر: {وَمَلائِكَتَهُ} على رفعه، وخبر الجلالة محذوف لتغاير الصلاتين، فيكون التقدير:
إن الله يصلي على النبي، وإن ملائكته يصلون على النبي. ويكون قد حذف متعلق أحد الفعلين.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} انظر الآية رقم [53] والمحال عليها. {صَلُّوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَلَيْهِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية لا محل لها مثل الجملة الندائية قبلها؛ لأنها مثلها ابتدائية، وجملة:{وَسَلِّمُوا..} . إلخ معطوفة عليها،
وإعرابها مثلها، وانظر ما ذكرته في الشرح من الاحتباك، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، أو مستأنفة.
هذا؛ ويقرأ برفع: «(ملائكته)» : فالكسائي يعطفه على اسم: {إِنَّ} باعتباره مبتدأ قبل دخولها عليه، والجمهور على أنه مبتدأ خبره محذوف، أو خبره المذكور بعده، وخبر:{إِنَّ} هو المحذوف، وجملة المبتدأ، والخبر معطوفة على جملة:{إِنَّ} واسمها، وخبرها، وبعض البصريين يقول بقول الكسائي؛ لأنهم لم يشترطوا المحرز، وهو قول الكوفيين عامة الذين لا يشترطون المحرز أيضا، ولكن شرط الفراء لصحة الرفع قبل مجيء الخبر خفاء إعراب الاسم لئلا يتنافر اللفظ، ولم يشترطه الكسائي. وقول الجمهور هو المعتمد، وهو أن خبر:{إِنَّ} محذوف، وجملة:{يُصَلُّونَ} خبر: (ملائكته). ولا يصح أن تكون خبر: {إِنَّ} لعدم الموافقة بالإفراد، والجمع، ومثل الآية الكريمة قول الشاعر:[الطويل] خليليّ هل طبّ فإنّي وأنتما
…
وإن لم تبوحا بالهوى دنفان
وهو الشاهد رقم [857] من كتابنا فتح القريب المجيب، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [69] من سورة (المائدة) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الشرح: اختلف العلماء في إذاية الله تعالى بماذا تكون؟ فقال الجمهور من العلماء: معناه بالكفر ونسبة الصاحبة، والولد، والشريك إليه، ووصفه بما لا يليق به، كقول اليهود لعنهم الله:
{وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} الآية رقم [64] من سورة (المائدة)، وكقول النصارى:{الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ} . وقول المشركين: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه. فقد أخرج البخاري -رحمه الله تعالى-عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: كذّبني ابن آدم، ولم يكن له، وشتمني، ولم يكن له ذلك؛ فأمّا تكذيبه إيّاي؛ فقوله: لن يعيدني؛ كما بدأني! وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأمّا شتمه إيّاي؛ فقوله: اتّخذ الله ولدا. وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد» . وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: «يؤذيني ابن آدم، يسب الدّهر، وأنا الدّهر، بيدي الأمر، أقلّب اللّيل والنّهار» .
معنى هذا الحديث: أنه كان من عادة العرب في الجاهلية أن يذموا الدهر، ويسبوه عند النوازل، لاعتقادهم: أن الذي يصيبهم من أفعال الدهر، فقال الله تعالى:«أنا الدهر» أي: أنا
الذي أحل بهم النوازل، وأنا فاعل لذلك الذي تنسبونه إلى الدهر في زعمكم. وقيل: معنى يؤذون الله: يلحدون في أسمائه، وصفاته. وقيل: هم أصحاب التصاوير. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لعن الله المصوّرين» . وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«قال الله عز وجل: ومن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرّة، أو ليخلقوا حبة، أو شعيرة» . متفق عليه. وقيل: هو على حذف مضاف، التقدير: يؤذون أولياء الله. كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال الله تعالى: «من آذى لي وليا؛ فقد آذنته بالحرب» . وقال تعالى: «من أهان لي وليا؛ فقد بارزني بالمحاربة» . ومعنى الأذى هو مخالفة أمر الله تعالى، وارتكاب معاصيه، ذكر ذلك على ما يتعارفه الناس بينهم؛ لأن الله تعالى منزه عن أن يلحقه أذى من أحد.
وأما إذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي كل ما يؤذيه من الأقوال، والأفعال أيضا، أما قولهم:
فساحر، شاعر، كاهن، مجنون. وأما فعلهم: فكسر رباعيته، وشجّ وجهه يوم أحد، وهذا ما كان منهم في المدينة، وأما فعلهم بمكة؛ فكثير، منه: إلقاء السلى على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، إلى غير ذلك. وفي هذه الأيام كل من يدعي محبة الرسول، ولا يهتدي بهديه، ولا يعمل بسنته؛ فهو مؤذ للرسول صلى الله عليه وسلم.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محلّ نصب اسمها. {يُؤْذُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله.
{اللهَ:} منصوب على التعظيم. {وَرَسُولَهُ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {لَعَنَهُمُ:} فعل ماض، والهاء مفعول به. {اللهَ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها على الوجهين. {فِي الدُّنْيا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَالْآخِرَةِ:} معطوف على ما قبله. وجملة: {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً} معطوفة على جملة: {لَعَنَهُمُ..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها.
الشرح: قيل: إن الآية الكريمة نزلت في علي-رضي الله عنه، وكرم الله وجهه-كان بعض المنافقين يؤذونه، ويسمعونه كلاما يؤذيه. وقيل: نزلت في شأن عائشة، رضي الله عنها. وقيل:
نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء؛ إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيتبعون المرأة، فإن سكتت تبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء، ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة؛ لأن زيّ الكل كان واحدا، تخرج الحرة
والأمة في درع، وخمار، فشكين ذلك إلى أزواجهن، فذكروا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، ثم نهى الرسول صلى الله عليه وسلم الحرائر أن يتشبهن بالإماء، وهو ما في الآية التالية.
وقد ميز الله تعالى بين أذاه، وأذى الرسول، وأذى المؤمنين، فجعل الأول كفرا، والثاني كبيرة، وأطلق إيذاء الله ورسوله، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات؛ لأن إيذاء الله، ورسوله لا يكون إلا بغير حق أبدا، وأما إيذاء المؤمنين والمؤمنات، فمنه بحق ومنه بغير حق، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [112]:{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً} . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية بعده صلته. {وَالْمُؤْمِناتِ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {بِغَيْرِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مَا:} نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر بإضافة: (غير) إليها، واعتبارها موصولة، أو مصدرية فيه ضعف، والجملة الفعلية بعدها صفتها، والرابط:
محذوف؛ إذ التقدير: بغير شيء اكتسبوه. {فَقَدِ:} الفاء: زائدة لتحسين اللفظ. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {اِحْتَمَلُوا:} فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{بُهْتاناً:} مفعول به. {وَإِثْماً:} معطوف على ما قبله. {مُبِيناً:} صفة له، والجملة الفعلية:
{فَقَدِ احْتَمَلُوا..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، وزيدت الفاء في الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية: (الذين
…
) إلخ معطوفة على الجملة الاسمية (إن
…
) إلخ لا محل لها مثلها.
الشرح: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ:} انظر الآية رقم [1]. {قُلْ لِأَزْواجِكَ:} انظر الآية رقم [29].
{وَبَناتِكَ:} الأربع، وكلهن من خديجة، رضي الله عنها. وهن: زينب، رضي الله عنها، وهي أكبر بناته صلى الله عليه وسلم تزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع، واسمه: لقيط. وقيل: هاشم. وتوفيت سنة ثمان من الهجرة. ورقية خطبها قبل النبوة عتبة بن أبي لهب، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عليه:{تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ..} . إلخ أمره أبوه بالإعراض عنها، فتزوجها عثمان، رضي الله عنه، وهاجرت معه إلى الحبشة الهجرتين، وولدت منه غلاما، سماه: عبد الله وبه يكنى، وتوفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة بدر، فلم يشهد دفنها. والثالثة أم كلثوم، رضي الله عنها، خطبها قبل النبوة عتيبة أخو عتبة بن أبي لهب، ثم أمره أبوه أن يعرض عنها للسبب
المذكور في أمر رقية، رضي الله عنها، فتزوجها عثمان رضي الله عنه، بعد وفاة رقية، رضي الله عنها. وبذلك سمّي ذا النورين، وتوفيت في حياة أبيها صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة تسع من الهجرة، والرابعة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، ولدت؛ وقريش تبني الكعبة قبل النبوة بخمس سنين.
{وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ:} هذا تعميم بعد تخصيص. {يُدْنِينَ:} يرخين، ويغطين وجوههن وأبدانهن. {عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ:} جمع: جلباب، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع، والخمار. وقيل: هو الملحفة، وكل ما يستتر به من كساء وغيره. {ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} أي: أولى وأجدر بأن يعرفن، فلا يتعرض لهنّ. {وَكانَ اللهُ غَفُوراً:} لما سلف منهن من التفريط. {رَحِيماً:} بتعليمهن آداب الإسلام.
تنبيه: أشارت الآية الكريمة إلى لطيفة دقيقة، وهي أن الدعوة لا تثمر إلا إذا بدأ الداعي بها في نفسه، وأهله، وهذا هو السر في البدء بالحجاب الشرعي بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته، قال أبو الأسود الدؤلي-رحمه الله تعالى-من قصيدة مشهورة:[الكامل] يا أيّها الرجل المعلّم غيره
…
هلاّ لنفسك كان ذا التّعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها
…
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
وقد أجمعت الأمة على أن المراد بما في الآية الكريمة أن تغطي النساء وجوههن، وأبدانهنّ؛ لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه وحده، ولأن الوجه هو موضع الفتنة كما هو معروف لدى كل عاقل. ولا تنس: أن البيئة تختلف بين الريف، والبدو، والمدينة، فلكلّ اعتباره.
ولما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن، كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن؛ إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف، فإذا لبسن الجلابيب؛ وقع الفرق بينهن وبين الإماء، فتعرف الحرائر بسترهن، فيكف عن معارضتهن من كان عزبا، أو شابا، وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية، تتبرز للحاجة، فيتعرض لها بعض الفجار يظن: أنها أمة، فتصيح به فيذهب، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت الآية بسبب ذلك، وهذه الآية تسمى: آية الحجاب.
في الآية الكريمة أمر الله سبحانه جميع النساء بالستر، وأن ذلك لا يكون إلا بما لا يصف جلدها إلا إذا كانت مع زوجها، فلها أن تلبس ما شاءت؛ لأن له أن يستمتع بها كيف شاء.
ثبت: أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة، فقال: سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن، وماذا فتح من الخزائن من يوقظ صواحب الحجر؟ ربّ كاسية في الدنيا، عارية في الآخرة.
وذكر أبو هريرة-رضي الله عنه-رقة الثياب للنساء، فقال:«الكاسيات العاريات المتنعّمات الشّقيّات» . ودخل نسوة من بني تميم على عائشة-رضي الله عنها-عليهن ثياب رقاق، فقالت:
إن كنتنّ مؤمنات؛ فليس هذا بلباس المؤمنات، وإن كنتنّ غير مؤمنات فتمتعن به.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات، عاريات، مميلات، مائلات، رءوسهنّ كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنّة، ولا يجدن ريحها، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» . رواه مسلم وغيره.
وعن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر-رضي الله عنها-دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها، وقال:«يا أسماء! إنّ المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه، وكفّيه» . رواه أبو داود. وعن أبي موسى-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلّ عين زانية، والمرأة إذا استعطرت، فمرّت بالمجلس كذا وكذا يعني زانية» . رواه أبو داود، والترمذي.
الإعراب: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ} انظر الآية رقم [1]. {قُلْ:} أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:
«أنت» . {لِأَزْواجِكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَبَناتِكَ:} معطوف على ما قبله، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَنِساءِ:} معطوف أيضا، وهو مضاف، و {الْمُؤْمِنِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء
…
إلخ، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {يُدْنِينَ:}
فعل مضارع مبني على السكون، ونون النسوة فاعله، ومحله الجزم من ثلاثة أوجه: أحدها هو جواب {قُلْ} وتقدير الكلام: إن تقل لهن يدنين، قاله الأخفش، ورده قوم، فقالوا: لأن قول الرسول لهن لا يوجب أن يدنين، وهذا عندي لا يبطل قوله؛ لأنه لم يرد أمر الكافرات؛ بل المؤمنات، كما هو واضح، وإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لهن: ادنين عليكن من جلابيبكن، أدنينها؛ لأنهنّ مأمورات بامتثال أمره، واجتناب نهيه، استجابة لقوله تعالى:{وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
والوجه الثاني حكي عن المبرد-رحمه الله تعالى-وهو: أنّ التقدير: قل لهن: ادنين، يدنين. ف:{يُدْنِينَ} المصرح به جواب ادنين المحذوف. حكاه جماعة، ولم يتعرضوا لإفساده، وهو فاسد لوجهين: أحدهما: أن جواب الشرط يخالف الشرط، إما في الفعل، وإما في الفاعل، أو فيهما معا، فأما إذا كان مثله في الفعل، والفاعل؛ فهو خطأ، كقولك: قم تقم، والتقدير: على ما ذكر في هذا الوجه: إن يدنين يدنين، والوجه الثاني: أن الأمر المقدر للمواجهة، و {يُدْنِينَ} على لفظ الغيبة، وهو خطأ؛ إذا كان الفاعل واحدا.
والوجه الثالث من الأوجه الأولى: أنه مجزوم بلام محذوفة، تقديره: ليدنين، فهو أمر مستأنف، وجاز حذف اللام لدلالة {قُلْ} على الأمر. وهذا الإعراب هو الموافق لما ذكرته في الآية رقم [31] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، بالمقايسة بين ما هنا وهناك، فإن التعبير في الآيتين واحد، ولم يذكر أحد شيئا في إعراب الآية هنا، وما هناك منقول عن أبي البقاء العكبري، وعن مكي بن أبي طالب القيسي، مع الإشارة إلى ما ذكره ابن هشام في مغنيه، رحم الله الجميع رحمة واسعة، وشملنا ببره وإحسانه. ومثل هذه الآية رقم [31] من سورة (النور) بلا فارق، والله ولي التوفيق.
{عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ:} كلاهما متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: {عَلَيْهِنَّ} متعلقان بمحذوف حال. ولا وجه له البتة. والهاء في الثاني ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والنون فيهما حرف دال على جماعة الإناث، وجملة:{قُلْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {أَدْنى:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب.
{يُعْرَفْنَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مبني على السكون، ونون النسوة نائب فاعله، وهو في محل نصب ب:{أَنْ،} ومتعلقه محذوف، التقدير: أن يعرفن بأنهن حرائر، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور متعلقان ب:{أَدْنى؛} إذ المعنى: فأقرب إلى معرفتهن. {فَلا:} الفاء: حرف عطف وسبب. (لا):
نافية. {يُؤْذَيْنَ:} معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه، وتأويله بمصدر؛ إذ التقدير: فعدم إيذائهن بالتعرض لهن، وجملة:{وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ:} عن نفاقهم. {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ:} ضعف إيمان، وقلة ثبات عليه، أو في قلوبهم حب الفجور، والفسوق. {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ:} هم أناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذين كان يرسلهم إلى محاربة الكفار، فيقولون: هزموا، أو قتلوا، وجرى عليهم كذا، وكذا، فيكسرون قلوب المؤمنين. {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ:} لنسلطنك عليهم، أو لنأمرنك بقتالهم. {ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها} أي: في المدينة، بمعنى: لا يقيمون فيها. {إِلاّ قَلِيلاً} أي: زمانا قصيرا.
تنبيه: يرى أهل التفسير: أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد، يعني أنهم جمعوا هذه الأوصاف الثلاثة، فالواو مقحمة، كما قال الشاعر:[المتقارب] إلى الملك القرم وابن الهمام
…
وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة. وقيل: الموصوف متغاير، ومتعدد، فكان من المنافقين قوم يرجفون، وقوم يتبعون النساء للريبة، وقوم يشككون المسلمين. هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: الإرجاف: التماس الفتنة، والإرجاف: إشاعة الكذب، والباطل للاغتمام به. وقيل: تحريك القلوب. يقال: رجفت الأرض: أي تحركت وتزلزلت، والرجفان:
الاضطراب الشديد. قال عنترة من قصيدة يتوعد فيها الربيع بن زياد العبسي: وهذا هو الشاهد رقم [152] من كتابنا فتح رب البرية. [الوافر] متى ما تلقني فردين ترجف
…
روانف أليتيك وتستطارا
والإرجاف: واحد أراجيف الأخبار. وقد أرجفوا في الشيء: أي: خاضوا فيه. قال العين المنقري يهجو به العجاج، أو رؤبة ابنه:[البسيط] أبا الأراجيف يا ابن اللؤم توعدني؟
…
وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور
هذا؛ والتعبير ب: {ثُمَّ} -وهي للتراخي-يفيد: أن الجلاء عن الأوطان، كان أعظم عليهم من كل ما أصيبوا به، فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه، انتهى. كشاف. وفي الآية دليل على أن من كان معك ساكنا بالمدينة، فهو جار لك. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه، وانظر شرح (المنافق) في الآية رقم [12] وشرح:{ثُمَّ} في [11] من سورة (الروم).
الإعراب: {لَئِنْ:} اللام: موطئة لقسم محذوف. (إن): حرف شرط جازم. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَنْتَهِ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، وهو في محل جزم فعل الشرط. {الْمُنافِقُونَ:}
فاعله مرفوع
…
إلخ، ومتعلقه محذوف، كما رأيت تقديره في الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع، معطوف على ما قبله، أو هو صفة له. {فِي قُلُوبِهِمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {مَرَضٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها. هذا؛ وإن اعتبرت الجار والمجرور {فِي قُلُوبِهِمْ} متعلقين بمحذوف صلة الموصول، فيكون {مَرَضٌ} فاعلا بالجار والمجرور؛ أي: بمتعلقه. {وَالْمُرْجِفُونَ:} معطوف على ما قبله، أو هو صفة ثانية حسبما رأيت في الشرح حيث قيل بزيادة الواو. {فِي الْمَدِينَةِ:}
متعلقان ب: (المرجفون). {لَنُغْرِيَنَّكَ:} اللام: واقعة في جواب القسم المقدر. (نغرينك): فعل
مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محل له، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به. {قُلُوبِهِمْ:} متعلقان به، والجملة الفعلية جواب القسم المقدر، لا محل لها، وجواب الشرط محذوف على القاعدة:«إذا اجتمع شرط وقسم؛ فالجواب للسابق منهما» قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-: [الرجز] واحذف لدى اجتماع شرط وقسم
…
جواب ما أخّرت، فهو ملتزم
{ثُمَّ:} حرف عطف. {لا:} نافية. {يُجاوِرُونَكَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على جواب القسم، لا محل لها مثله.
{فِيها:} متعلقان بما قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له قطعا. {إِلاّ:} حرف حصر. {قَلِيلاً:} صفة مفعول مطلق، أو صفة زمان محذوف، التقدير: إلا جوارا قليلا، أو إلا زمانا قليلا. وقال مكي: حال من الواو، أي: لا يجاورونك إلا في حال قلتهم، وذلتهم.
{مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61)}
الشرح: {مَلْعُونِينَ:} مطرودين من رحمة الله تعالى. {أَيْنَما ثُقِفُوا:} وجدوا، قال تعالى:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} . هذا؛ و (الثقف) في الأصل: الحذق في إدراك شيء علما كان، أو عملا، فهو يتضمن معنى الغلبة. {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً:} هذا خبر، ومعناه الأمر، أي:
خذوهم، واقتلوهم حيث وجدتموهم؛ إذا كانوا مصرين على النفاق، والإرجاف، قال القرطبي -رحمه الله تعالى-: وقد فعل بهم الطرد، واللعن، فإنه لما نزلت (براءة) جمعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا فلان قم فاخرج، فإنك منافق! يا فلان قم
…
إلخ، فقام إخوانهم من المسلمين، فأخرجوهم، وطردوهم من المسجد.
الإعراب: {مَلْعُونِينَ:} منصوب على الذم بفعل محذوف. وقيل: هو حال من واو الجماعة، وهو قول مكي، وأبي البقاء. ورده ابن هشام في المغني بقوله: لأن الصحيح: أنه لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان. وقال الجمل: حال من مقدر حذف هو وعامله، التقدير: ثم يخرجون ملعونين، ثم قال: وفي السمين قوله: {مَلْعُونِينَ} حال من فاعل {يُجاوِرُونَكَ} قاله ابن عطية، والزمخشري، وأبو البقاء. قال ابن عطية: لأنه بمعنى: ينفون منها ملعونين، وقال الزمخشري: دخل حرف الاستثناء على الحال والظرف معا، كما مر في قوله تعالى:{إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ} وجوز الزمخشري أن ينتصب على الذم، وجوز ابن عطية أن يكون بدلا من {قَلِيلاً} على أنه حال كما تقدم تقريره؛ أي: لا يجاورك منهم أحد إلا قليلا ملعونا. ويجوز أن يكون منصوبا ب: {أُخِذُوا} الذي هو جواب الشرط. وهذا عند الكسائي، والفراء، فإنهما يجيزان تقديم معمول الجواب على أداة الشرط، نحو: خيرا إن تأتني
تصب انتهى. ورده ابن هشام بقوله: ويرده: أن الشرط له الصدر. {أَيْنَما:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بفعل شرطه على المعتمد، وبعضهم يعلقه بجوابه. وقيل:(ما) زائدة، فيكون مبنيا على الفتح. {ثُقِفُوا:} فعل ماض مبني للمجهول، مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها على تعليق الشرط به، وفي محل جر بإضافة {أَيْنَما} إليها على اعتبار الشرط متعلقا بجوابه. {أُخِذُوا:} جواب الشرط، وإعرابه مثل إعراب سابقه، وجملته لا محل لها؛ لأنها لم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية. {وَقُتِّلُوا:} معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه ومحله. {تَقْتِيلاً:} مفعول مطلق، والجملة الشرطية مستأنفة، لا محل لها.
{سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (62)}
الشرح: {سُنَّةَ اللهِ..} . إلخ: أي سن الله ذلك في الأمم الماضية، وهو أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء، حيث وسعوا في وهنهم وإضعافهم بالإرجاف، ونحوه، أينما وجدوا، وأينما حلوا. وعن مقاتل: يعني كما قتل أهل بدر وأسروا. {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً:} لأنه لا يبدلها، أو لا يقدر أحد أن يبدلها، وذلك لابتنائها على أساس الحكمة التي يدور عليها فلك التشريع، ومثل هذه الآية في معناها ومغزاها قوله تعالى في الآية رقم [77] من سورة الإسراء، وهاكها:{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً،} ومثلها الآية رقم [43] من سورة (فاطر) انظرها فالبحث فيها جيد جدا.
قال القرطبي: وفي الآية دليل على جواز ترك إنفاذ الوعيد، والدليل على ذلك بقاء المنافقين معه صلى الله عليه وسلم حتى مات، والمعروف من أهل الفضل إتمام وعدهم، وتأخير وعيدهم. انتهى. وقد بينات ذلك كثيرا.
هذا؛ والسنة: الشريعة، والطريقة، وهي تكون حسنة إن كانت في الخير، مثل صلاة التراويح عشرين ركعة. وتكون سيئة إن كانت في الشر. وما أكثر السنن السيئة التي ابتدعها الناس في هذا الزمن. وخذ ما يلي: فعن حذيفة بن اليمان-رضي الله عنه-قال: سأل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسك القوم، ثم إنّ رجلا أعطاه، فأعطى القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من سنّ خيرا فاستنّ به، كان له أجره، ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا. ومن سنّ شرّا، فاستنّ به، كان عليه وزره، ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا» . رواه أحمد، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ورواه ابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وعن عمرو بن عوف-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث يوما: «اعلم يا بلال! قال: ما أعلم يا رسول الله؟! قال: اعلم أنّ من أحيا سنّة من سنتي قد أميتت بعدي؛
كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة، لا يرضاها الله، ورسوله؛ كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا». رواه الترمذي وابن ماجة.
الإعراب: {سُنَّةَ:} مفعول مطلق، عامله محذوف، أي: سن الله ذلك سنة، و {سُنَّةَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {فِي الَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل المقدر، أو بسنة. {خَلَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بما قبلهما، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {وَلَنْ:} الواو: حرف عطف. وقيل: واو الحال، ولا وجه له قطعا؛ لأنها تناقض معنى (لن). (لن): حرف نفي، ونصب، واستقبال. {تَجِدَ:} فعل مضارع منصوب ب (لن)، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {لِسُنَّةِ:} متعلقان ب: {تَبْدِيلاً،} أو بمحذوف حال منه، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، و (سنة) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه
…
إلخ. {تَبْدِيلاً:} مفعول به، وجملة:{وَلَنْ تَجِدَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، ولا محل لها على الاعتبارين.
الشرح: {يَسْئَلُكَ النّاسُ..} . إلخ: كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة، استعجالا على سبيل الهزء، واليهود يسألونه امتحانا؛ لأن الله تعالى عمّى وقتها في التوراة، وفي كل كتاب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به لم يطلع عليه ملكا، ولا نبيا، ثم بين لرسوله صلى الله عليه وسلم: أنها قريبة الوقوع تهديدا للمستعجلين، وإسكاتا للممتحنين، وهذا السؤال تكرر من المشركين، ومن اليهود، وقوله تعالى في كثير من السور:{وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} برهان قاطع على ذلك، وقوله تعالى:{يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها} (النازعات) رقم [42].
{قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ:} لا يطلع عليه ملكا، ولا نبيا؛ لأنه تعالى استأثر به. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [187]{يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاّ هُوَ} . هذا؛ وانظر ما ذكرته في الآية رقم [14] من سورة (الروم)، والآية رقم [24] من سورة (لقمان) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
{وَما يُدْرِيكَ:} وما يعلمك. {لَعَلَّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} أي: في زمان قريب، وقال صلى الله عليه وسلم:
«بعثت أنا والسّاعة كهاتين» . وأشار إلى السبابة، والوسطى. خرجه أصحاب الصحيح. هذا؛
ولم يؤنث: {قَرِيباً} مع كونه راجعا إلى {السّاعَةِ} وذلك على تأويلها باليوم، كما قيل في قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [56]:{إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ذكّر {قَرِيبٌ} على تأويل الرحمة بالعفو. وذكر الفراء: أنهم التزموا التذكير في: {قَرِيبٌ} إذا لم يرد قرب النّسب قصدا للفرق، أي بين المراد بها النّسب، والمراد بها غيره. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [52] من سورة (سبأ) عن قرب الساعة، وبعدها عن الماضي.
تنبيه: قال المحققون من العلماء: سبب إخفاء علم الساعة، ووقت قيامها عن العباد؛ ليكونوا دائما على خوف، وحذر منها؛ لأنهم إذا لم يعلموا متى يكون ذلك الوقت؛ كانوا على وجل، وخوف منها، فيكون ذلك أدعى لهم إلى الطاعة، والمسارعة إلى التوبة، وأزجر لهم عن المعصية. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتقومنّ الساعة، وقد نشر الرّجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه. ولتقومنّ الساعة، وقد انصرف الرّجل بلبن لقحته فلا يطعمه. ولتقومنّ الساعة، وهو يليط حوضه، فلا يسقي فيه، ولتقومنّ الساعة، وقد رفع أكلته إلى فيه، فلا يطعمها» . متفق عليه. هذا؛ وقد أخفى الله أمورا أخرى مثل ليلة القدر في شهر رمضان، وساعة الإجابة يوم الجمعة؛ ليجتهد المؤمن، والمؤمنة في ليالي شهر رمضان في العبادة، وليكونا مجتهدين في الدعاء كل يوم الجمعة، وليلته.
هذا؛ والسؤال في هذه الآية سؤال استفتاء، أو هو سؤال تعنت فيما يظهر و «سأل» تارة يكون لاقتضاء معنى في نفس المسئول، فيتعدى ب:{عَنِ،} كهذه الآية، وقد يكون لاقتضاء مال، ونحوه، فيتعدى لاثنين نحو سألت زيدا مالا.
هذا؛ و {يُدْرِيكَ} ماضيه «درى» بمعنى: علم، فهو من أفعال اليقين، فينصب مفعولين كقول الشاعر: وهذا هو الشاهد رقم [6] من كتابنا: «فتح رب البرية» : [الطويل] دريت الوفيّ العهد يا عمرو فاغتبط
…
فإنّ اغتباطا بالوفاء حميد
وهو قليل؛ إذ الكثير المستعمل فيه أن يتعدى إلى واحد بالباء، نحو دريت بكذا، فإن دخلت همزة النقل؛ تعدى إلى واحد بنفسه، وإلى واحد بالباء، نحو قوله تعالى:{قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ} . قال شيخ الإسلام: ومحل ذلك إذا لم يدخل على الفعل استفهام، وإلا تعدى إلى ثلاثة مفاعيل، نحو قوله تعالى في سورة (القارعة):
{وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ} فالكاف مفعول به أول والجملة الاسمية بعده سدت مسد المفعولين. انتهى.
والذي في الهمع، والمغني-قيل: وهو الأوجه-: أن الجملة الاسمية سدت مسد المفعول الثاني المتعدى إليه بالحرف، فتكون في محل نصب بإسقاط الجار، كما في: فكرت: أهذا
صحيح، أم لا؟ أي: فكرت بما ذكر. انتهى. جرجاوي. وينبغي أن تعلم: أن الفعل أدري هنا معلق عن العمل لفظا بوقوع: {لَعَلَّ} بعده، والكوفيون يجرون الترجي مجرى الاستفهام في التعليق؛ إلا أن النحويين لم يعدّوا لعلّ من المعلقات، والحق مع الكوفيين، وهو ظاهر في هذه الآية، وكقوله تعالى:{وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى} من سورة (عبس)، وقوله جل شأنه:{وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ قَرِيبٌ} الآية رقم [17] من سورة (الشورى). فإن كان درى بمعنى: ختل، أي: خدع، كان متعديا إلى واحد بنفسه، مثل: دريت الصيد، أي: ختلته، وخدعته، أي: لا أختل، وإن كانت بمعنى: حكّ، مثل: درى رأسه بالمدرى، أي: حك رأسه بالمشط؛ فهي كذلك.
الإعراب: {يَسْئَلُكَ:} فعل مضارع، والكاف مفعول به. {النّاسُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {عَنِ السّاعَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني. {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنَّما:} كافة، ومكفوفة. {عِلْمُها:}
مبتدأ، و (ها): في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ. و {عِنْدَ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَما:}
الواو: حرف استئناف. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُدْرِيكَ:}
فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى:(ما)، تقديره:«هو» ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {لَعَلَّ:} حرف مشبه بالفعل. {السّاعَةِ:} اسم: {لَعَلَّ} . {تَكُونُ:}
فعل مضارع ناقص، واسمه يعود إلى {السّاعَةِ} تقديره:«هي» . {قَرِيباً:} خبر (تكون)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل) وجملة:{لَعَلَّ..} . إلخ في محل نصب سدت مسد المفعول الثاني للفعل: {يُدْرِيكَ} .
{إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64)}
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} اسمها. {لَعَنَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} . {الْكافِرِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَأَعَدَّ:} الواو: حرف عطف.
(أعد): فعل ماض، وفاعله يعود إلى {اللهَ}. {لَهُمْ:} متعلقان بما قبلهما. {سَعِيراً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.
{خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65)}
الشرح: {خالِدِينَ فِيها} أي: في السعير، وأنث الضمير؛ لأن السعير بمعنى: النار. {لا يَجِدُونَ وَلِيًّا:} يحفظهم من عذاب السعير. {وَلا نَصِيراً:} يدفع عنهم العذاب. وفي الآية الكريمة رد على مذهب الجهمية الذين يزعمون: أن الجنة، والنار تفنيان. ومعنى:{خالِدِينَ} مقيمين، لا يخرجون منها. والأبد: الزمان الطويل الذي ليس له حد، فإذا قلت: لا أكلمك؛ أبدا، فالأبد من وقت التكلم إلى آخر العمر.
تنبيه: قال الإمام الرازي-رحمه الله تعالى-: قال قوم: إن عذاب الله للكافرين منقطع وله نهاية، واستدلوا بقوله تعالى:{لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً،} وبأن معصية الظالم متناهية، فالعقاب عليها بما لا يتناهى ظلم. والجواب: أن قوله تعالى: {أَحْقاباً} لا يقتضي: أن له نهاية؛ لأن العرب يعبرون به، وبنحوه عن الدوام، ولا ظلم في ذلك؛ لأن الكافر كان عازما على الكفر ما دام حيا، فعوقب دائما، ولم يعاقب بالدائم إلا على دائم، فلم يكن عذابه إلا جزاء وفاقا. انتهى. جمل. في سورة (هود)[108].
الإعراب: {خالِدِينَ:} حال مقدرة من الكافرين منصوب
…
إلخ، وفاعله مستتر فيه.
{فِيها:} متعلقان به. {أَبَداً:} ظرف زمان متعلق ب: {خالِدِينَ} أيضا. {لا:} نافية.
{يَجِدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {وَلِيًّا:} مفعول به. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية، أو هي صلة لتأكيد النفي. {نَصِيراً:} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية في محل نصب حال ثانية من الكافرين، أو هي حال من الضمير المستتر ب:{خالِدِينَ،} فتكون حالا متداخلة. هذا؛ والحال بالنسبة للزمان على ثلاثة أقسام: حال مقارنة، وهي الغالبة، نحو قوله تعالى حكاية عن قول امرأة إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَهذا بَعْلِي شَيْخاً} . وحال مقدرة، وهي المستقبلة، نحو قوله تعالى:{فَادْخُلُوها خالِدِينَ} . وحال محكية، وهي الماضية، نحو جاء زيد أمس راكبا. وهناك الحال الموطئة، وهي التي تذكر توطئة للصفة بعدها، بمعنى أن المقصود الصفة، وهذا كثير في القرآن الكريم، خذ منه قوله تعالى:{وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ} .
والحال تنقسم إلى قسمين: إما مؤسسة، وإما مؤكدة، فالأولى: هي التي لا يستفاد معناها بدونها، نحو جاء زيد راكبا، وأكثر ما تأتي الحال من هذا النوع، والمؤكدة هي التي يستفاد معناها بدونها، وإنما يؤتى بها للتوكيد، وهي ثلاثة أنواع:
1 -
ما يؤتى بها لتوكيد عاملها، وهي التي توافقه معنى فقط، أو معنى، ولفظا، فالأول: نحو قوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها} . ومنه قوله تعالى في كثير من الآيات: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} . والثاني: نحو قوله تعالى: {وَأَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً} .
2 -
ما يؤتى به لتوكيد صاحبها كقوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} رقم [99] من سورة (يونس).
3 -
ما يؤتى بها لتوكيد مضمون جملة معقودة من اسمين معرفتين جامدين، نحو «هو الحقّ بيّنا، أو: صريحا» وقول سالم بن دارة اليربوعي، وهذا هو الشاهد رقم [385] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [البسيط] أنا ابن دارة معروفا بها نسبي
…
وهل بدارة يا للنّاس من عار؟!
وهناك الحال اللازمة في قراءة من قرأ قوله تعالى في سورة (ص) رقم [29]: {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ} لأن البركة لا تفارقه.
الشرح: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ:} تصرف من جهة إلى جهة كاللحم يشوى بالنار، أو:
من حال إلى حال، وهذا التقليب تغيير ألوانها بلفح النار، فتسود مرة، وتخضر أخرى، وخصت الوجوه بالذكر؛ لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده، ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن جسم الكافر كله. هذا؛ وقراءة الجمهور {تُقَلَّبُ} بالبناء للمجهول، وقرئ:«(نقلّب)» بنون، وكسر اللام، ونصب «(وجوههم)» وقرئ:«(تقلّب)» بالبناء للمعلوم على اعتبار الفاعل عائدا إلى السعير، وقرأ بعضهم:{(تُقَلَّبُ)} على معنى: تتقلب، أي بحذف إحدى التاءين، أما {النّارِ} فأصلها النّور، تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وهي من المؤنث المجازي، وقد تذكر، وتصغيرها نويرة، والجمع: أنور، ونيران، ويكنى بها عن جهنم؛ التي سيعذب الله بها الكافرين، والفاسقين من أبناء المسلمين، والفعل: نار ينور، يستعمل لازما، ومتعديا؛ إذا بدئ بهمزة التعدية، كما في قولك: أنارت الشمس الكون.
{يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا:} يقولون هذا حين تقلب وجوههم في النار، فهم يتمنون: أنهم لم يكفروا، فينجون كما نجا المؤمنون، ولكن لا ينفعهم هذا التمني فتيلا.
الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل: {يَقُولُونَ،} أو هو متعلق بالفعل: {يَجِدُونَ،} أو ب: {نَصِيراً،} أو هو متعلق بمحذوف تقديره: اذكر. {تُقَلَّبُ:} فعل مضارع مبني للمجهول.
{وُجُوهُهُمْ:} نائب فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، وعلى قراءة الفعل:«(تقلّب)» بالبناء للمعلوم ف: {وُجُوهُهُمْ} فاعله، وعلى قراءته بالنون؛ فالفاعل تقديره:«نحن» ، وعلى قراءته «(تقلّب)» فالفاعل يعود إلى السعير، وعلى هذين الوجهين فوجوههم مفعول به، وعلى جميع الاعتبارات فالجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{يَوْمَ} إليها. {فِي النّارِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {وُجُوهُهُمْ}. {يَقُولُونَ:} فعل مضارع
مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وهذا على اعتبار الظرف متعلقا به، وهي في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، أو من {وُجُوهُهُمْ} على الأوجه الأخرى في تعليق الظرف. (يا): حرف تنبيه، واعتبارها أداة نداء؛ والمنادى محذوف ضعيف جدا. (ليتنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): ضمير متصل في محل نصب اسمها.
{أَطَعْنَا:} فعل، وفاعل. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:
(ليت)، والجملة الفعلية بعدها معطوفة عليها، فهي في محل رفع مثلها، والجملة الاسمية:
{يا لَيْتَنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول.
{وَقالُوا رَبَّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)}
الشرح: {وَقالُوا} أي: الضعفاء الذين اتبعوا الأقوياء، وهو معطوف على:{يَقُولُونَ،} والعدول إلى الماضي، للإشعار بأن قولهم هذا ليس مستمرا، كقولهم السابق؛ بل هو ضرب اعتذار، أرادوا به ضربا من التشفي بمضاعفة عذاب الذين ألقوهم في تلك الورطة. {رَبَّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا:} يعنون بهم: الذين لقنوهم الكفر، والتعبير عنهم بعنوان السيادة، والكبراء؛ لتقوية الاعتذار، وإلا فهم في مقام التحقير، والإهانة. هذا؛ و (سادة) جمع: سيد، أو: سائد على غير قياس، وقرئ:«(ساداتنا)» على أنه جمع الجمع، وهو غير مقيس.
أما (السبيل) فهو الطريق يذكر ويؤنث بلفظ واحد، فمن التذكير قوله تعالى:{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً،} ومن التأنيث قوله تعالى: {قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ} والجمع على التأنيث: سبول، وعلى التذكير: سبل بضمتين وقد تسكن الباء، كما في: رسل، وعسر، ويسر. قال عيسى بن عمر: كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم، وأوسطه ساكن، فمن العرب من يخففه، ومنهم من يثقله، وذلك مثل: رحم، وحلم، وأسد.
فائدة: قال مكي بن أبي طالب القيسي-رحمه الله تعالى-: ونداء الرب قد كثر حذف (يا) النداء منه في القرآن، وعلة ذلك: أن حذف (يا) من نداء الرب تعالى فيه معنى التعظيم له، والتنزيه، وذلك؛ لأن النداء فيه ضرب من معنى الأمر؛ لأنك إذا قلت: يا زيد! فمعناه: تعال زيد! أدعوك يا زيد! فحذفت (يا) من نداء «الرب» ليزول معنى الأمر وينقص؛ لأن (يا) تؤكده، وتظهر معناه، فكان في حذف (يا) التعظيم، والإجلال، والتنزيه للرب تعالى، فكثر حذفها في القرآن، والكلام في نداء الرب لذلك المعنى. انتهى.
الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف عطف. (قالوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها،
حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَطَعْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). {سادَتَنا:} مفعول به، وعلى القراءة الثانية فعلامة النصب الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَكُبَراءَنا:} معطوف على ما قبله. {فَأَضَلُّونَا:} فعل ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {السَّبِيلا:} منصوب بنزع الخافض؛ إذ الأصل: عن السبيل، فلما حذف الجار؛ وصل الفعل إليه، فنصبه. والإضلال لا يتعدى إلى مفعولين من غير توسط حرف الجر كقوله تعالى:{لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ،} والألف فيه وفي: {الرَّسُولا} للإطلاق. هذا؛ والآية: {رَبَّنا..} . إلخ كلها في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على جملة {يَقُولُونَ..} . إلخ على جميع الوجوه المعتبرة فيها، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.
{رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَاِلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)}
الشرح: {رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ} أي: مثلي ما أوتينا منه؛ لأنهم ضلوا، وأضلوا.
وقال قتادة: عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة. {وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً:} هذا؛ ويقرأ: (كثيرا) بالثاء، واختاره أبو حاتم، وأبو عبيد، والنحاس، لقوله تعالى:{أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ} ففيه معنى التكثير. قال محمد بن أبي السري: رأيت في المنام كأني في مسجد عسقلان، وكأن رجلا يناظرني، فيمن يبغض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال:«والعنهم لعنا كثيرا» ، ثم كررها حتى غاب عني، لا يقولها إلا بالثاء، وقراءة الباء ترجع في المعنى، إلى الثاء؛ لأن ما كبر كان كثيرا عظيم المقدار. هذا؛ وانظر يضاعف في الآية رقم [30]، وانظر كيف يلعن الكفار بعضهم بعضا في الآية رقم [25] من سورة (العنكبوت).
هذا؛ واللعن: الطرد من رحمة الله تعالى، ولقد كرر الله لعن الكافرين في الآية رقم [161] من سورة (البقرة) كما لعن الظالمين، والكاذبين، والناقضين للعهد، والميثاق في آيات متفرقة، وهو دليل قاطع على أن من مات على كفره، فقد استحق اللعن من الله، والملائكة، والناس أجمعين، وأما الأحياء من الكفار، فقد قال العلماء: لا يجوز لعن كافر معين؛ لأن حاله عند الوفاة لا تعلم، فلعله يؤمن، ويموت على الإيمان؛ وقد قيد الله في آية البقرة إطلاق اللعنة على من مات على الكفر، ويجوز لعن الكفار جملة بدون تعيين، كما في قولك: لعن الله الكافرين، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لعن الله اليهود، حرّمت عليهم الشحوم، فجمّلوها، وباعوها» . وذهب بعضهم إلى جواز لعن إنسان معين من الكفار، بدليل جواز قتاله، وهو الصحيح؛ كيف لا؟ وقد لعن حسان بن ثابت-رضي الله عنه-أبا سفيان وزوجه هندا قبل أن يسلما في شعره، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، خذ قوله:[الكامل]
لعن الإله وزوجها معها
…
هند الهنود طويلة البظر
وقد لعن الفاروق-رضي الله عنه-أبا سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السلمي، وغيرهم الذين قدموا المدينة المنورة بعد غزوة أحد، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم جماعة من المنافقين، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا بسوء، وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربك، فشق ذلك على سيد الخلق، وحبيب الحق، فقال الفاروق: يا رسول الله! ائذن لي في قتلهم. فقال: «إني قد أعطيتهم الأمان» . فقال الفاروق رضي الله عنه: اخرجوا في لعنة الله، وغضبه، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. كيف لا؟ وآية (النور) رقم [7] تأمر المسلم أن يلعن نفسه؛ إن كان من الكاذبين.
وأما العصاة من المسلمين فلا يجوز لعن واحد منهم على التعيين قطعا، وأما على الإطلاق فيجوز كما في قولك: لعن الله الفاسقين، والفاسقات، والفاسدين، والفاسدات
…
إلخ، لما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لعن الله السارق يسرق البيضة، والحبل، فتقطع يده» . ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الواشمة، والمستوشمة وآكل الرّبا، ولعن من غير منار الأرض، ومن انتسب إلى غير أبيه، ومن عمل عمل قوم لوط، ومن أتى امرأة في دبرها، وغير ذلك» . وكل هذا في الصحيح من الأحاديث، والله أعلم، وأجل، وأكرم.
الإعراب: {رَبَّنا:} انظر مثله في الآية السابقة. {آتِهِمْ:} فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به أول. {ضِعْفَيْنِ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {مِنَ الْعَذابِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف صفة:{ضِعْفَيْنِ} . {وَالْعَنْهُمْ:} الواو: حرف عطف. (العنهم): فعل دعاء أيضا، والهاء مفعول به. {لَعْناً:} مفعول مطلق. {كَبِيراً:} صفة له، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول أيضا.
الشرح: لما ذكر الله المنافقين والكفار الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ حذر المؤمنين من التعرض للإيذاء، ونهاهم عن التشبه ببني إسرائيل في إذايتهم نبيهم موسى. واختلف الناس فيما أوذي به محمد صلى الله عليه وسلم، وموسى عليه السلام، واذكر ما يلي:
فبنو إسرائيل آذوا موسى كثيرا، وكثيرا، منها: قولهم: {أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً،} وقولهم: {لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ،} وقولهم: {اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ،} وقولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ} .
ومن إيذائهم له: أنهم اتهموه بقتل أخيه هارون لما مات في التيه، فأمر الله تعالى الملائكة أن تحمله، حتى مروا به على بني إسرائيل، فعرفوا أنه لم يقتله. ومن إيذائهم له أن قارون استأجر بغيا؛ لتقذفه بنفسها على رأس الملأ، فعصمها الله، وبرأ موسى من ذلك، وأهلك قارون. انظر تفصيله في الآية رقم [81] من سورة (القصص). ومن إيذائهم له ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، قال: فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففرّ الحجر بثوبه، قال: فجمح موسى بأثره، يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فنظروا إليه، وهو من أحسنهم خلقا، وأعدلهم صورة وليس به الذي قالوا، فأخذ ثوبه، فلبسه، وطفق بالحجر ضربا بعصاه، فو الله إن بالحجر لندبا من أثر الضرب، ثلاثا، أو أربعا، أو خمسا» . أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم مع اختلاف بينهما في ألفاظه.
أما إيذاء المؤمنين لنبيهم صلى الله عليه وسلم: منه ما ذكرته لك في الآية رقم [53]، ومنه ما رواه عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك، وأعطى ناسا من أشراف العرب، وآثرهم في القسمة، فقال رجل من الأنصار: والله إن هذه قسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله! فقلت: والله لأخبرنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيته فأخبرته بما قال، فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم حتى كان كالصّرف، ثم قال:«فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟!» . ثم قال: «يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» . متفق عليه.
ويجدر بي أن أذكر: أن كثيرا من المسلمين يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام وهو في قبره حي طري، فالذين لا يأخذون بتعاليمه، ولا يتأدبون بآدابه، ولا يتخلقون بأخلاقه، ولا يتمسكون بسنته؛ بل الذين لا يعرفون شيئا من ذلك، وهم أبعد ما يكونون عن سنته، فلعمري لا أدري هل نقول عنهم: إنهم منافقون، أم فاسقون، أم فاسدون، أم كافرون؟ فلا ريب أن الذين لا يأخذون بشرعه، ولا يعملون بالكتاب الذي أنزل عليه هم الكافرون.
{وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً:} ذا قربة، ووجاهة عند الله. والوجيه عند العرب: العظيم القدر، الرفيع المنزلة. ويروى: أنه كان إذا سأل الله شيئا أعطاه إياه، فقد كان مستجاب الدعوة.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [49]. {لا:} ناهية جازمة. {تَكُونُوا:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب: {لا،} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل في محل رفع اسمها، والألف للتفريق. {كَالَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبره.
هذا؛ وإن اعتبرت الكاف اسما بمعنى: مثل؛ فهي الخبر، وتكون مضافة، و {الَّذِينَ} اسم موصول
مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. {آذَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدرة على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مُوسى} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية:{لا تَكُونُوا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. (برأه الله):
فعل ماض، ومفعوله، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها.
{مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو من شيء قالوه. وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(من) التقدير: فبرأه الله من قولهم. {وَكانَ:} الواو: حرف عطف. (كان):
فعل ماض ناقص، واسمه مستتر يعود إلى:{مُوسى} . {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب: {وَجِيهاً} بعده، و {عِنْدَ} مضاف، و {اللهُ} مضاف إليه. {وَجِيهاً:} خبر (كان)، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70)}
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ:} خافوه، وراقبوه في كل أعمالكم، وأقوالكم، وحركاتكم، وسكناتكم. {وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً:} قاصدا إلى الحق. والسداد: القصد إلى الحق، والقول بالعدل، يقال: سدد السهم نحو الرّميّة: إذا لم يعدل عن سمتها، كما قالوا: سهم قاصد، وهذا بفتح السين. وهو بكسر السين لكل شيء سددت به شيئا، وذلك مثل سداد القارورة، وسداد الثغر. قال العرجي:[الوافر] أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا
…
ليوم كريهة وسداد ثغر
وهو على هذا اسم آلة. وهو بضم السين داء في الأنف يمنع تنشم الريح. كذا في القاموس. وقد نظم بعضهم الثلاثة بقوله: [الرجز] والاستقامة هي السّداد
…
وبلغة من عيش السّداد
وجمع سدّة أتى سداد
…
وهي زكام مانع للنّشر
والمراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد في القول؛ لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله، والمعنى: راقبوا الله في حفظ ألسنتكم، وتسديد قولكم فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة من تقبل حسناتكم، والإثابة عليها، ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها. وخذ هذه النبذة من أحاديث سيد الأنام في حفظ اللسان:
فعن عقبة بن عامر-رضي الله عنه-قال: قلت: يا رسول الله: ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك» . رواه أبو داود، والترمذي، وعن سهل بن سعد-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه أضمن له الجنّة» . رواه البخاري وغيره. وعن أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنة رجل لا يأمن جاره بوائقه» . رواه الإمام أحمد. وعن أنس-رضي الله عنه-قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر، فقال:«يا أبا ذرّ! ألا أدلّك على خصلتين هما خفيفتان على الظّهر، وأثقل في الميزان من غيرهما؟» . قال: بلى يا رسول الله! قال: «عليك بحسن الخلق، وطول الصّمت، فو الّذي نفسي بيده، ما عمل الخلائق بمثلهما!» . رواه الطبراني، وغيره. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ العبد ليتكلّم بالكلمة ما يتبيّن فيها يزلّ بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» . رواه الستة إلا أبا داود. وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإنّ أبعد النّاس من الله تعالى القلب القاسي» . رواه الترمذي والبيهقي، وخذ قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [114]:{*لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} .
هذا؛ وآفات اللسان تزيد عن العشرين: الكلام فيما لا يعني، فضول الكلام، الخوض في الباطل، المراء، والجدال، التقعر في الكلام، الفحش، السب، اللعن، الغناء المشتمل على الفحش، الشعر المذموم، المزاح الممزوج بالكذب، السخرية بالناس، التنبيه على العيوب، إفشاء السر، الوعد الكاذب، اليمين الفاجرة، الغيبة، النميمة، التكلم بلسانين.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [49]. {اِتَّقُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم؛ والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها، والتي بعدها معطوفة عليها لا محل لها مثلها.
{قَوْلاً:} مفعول مطلق. {سَدِيداً:} صفة له.
الشرح: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ} أي: يوفقكم للأعمال الصالحة، أو يصلحها بالقبول، والإثابة عليها. وقيل: إصلاح الأعمال: التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي: يجعلها مكفرة، وممحاة بسبب استقامتكم في القول، والعمل. قال الزمخشري: وهذه الآية
مقررة للتي قبلها، بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان؛ ليترادف عليها النهي والأمر، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام، واتباع الأمر الوعد البليغ، فيقوى الصارف عن الأذى، والداعي إلى تركه.
{وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ} فيما أمرا به، وفيما نهيا عنه. {فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً:} يعش في الدنيا حميدا، وفي الآخرة سعيدا، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [54] من سورة (النور) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {يُصْلِحْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف، التقدير: إن تقولوا قولا سديدا يصلح، فلذا الوقف على {سَدِيداً} غير جيد؛ بل الأحسن الوصل. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أَعْمالَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل لها على الوجهين المعتبرين فيها، وجملة:{(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)} معطوفة عليها، وإعرابها مثلها، والفاعل بالفعل ضمير مستتر تقديره:
«هو» يعود إلى {اللهَ} .
{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُطِعِ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {اللهَ:} منصوب على التعظيم. (رسوله): معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَقَدْ:} الفاء واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {فازَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من) أيضا. {فَوْزاً:} مفعول مطلق. {عَظِيماً:} صفة له، والجملة الفعلية:
{فَقَدْ فازَ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [30]، والجملة الاسمية:{وَمَنْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: قال عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما: أراد بالأمانة: الطاعة والفرائض؛ التي فرضها الله تعالى على عباده، عرضها على السموات، والأرض، والجبال على أنهم إن أدوها؛ أثابهم، وإن ضيعوها؛ عذبهم.
وقال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: الأمانة أداء الصلوات، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وصدق الحديث، وقضاء الدين، والعدل في المكيال. وأشد من هذا كله الودائع. وقيل: هي جميع ما أمروا به، ونهوا عنه. وقيل: هي الصوم، وغسل الجنابة، وما يخفى من الشرائع.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه: أول ما خلق الله من الإنسان الفرج، وقال: هذه الأمانة أستودعكها. فالفرج أمانة، والأذنان أمانة، والعين أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
وفي رواية عن ابن عباس-رضي الله عنهما: هي أمانات الناس، والوفاء بالعهود، فحق على كل مؤمن ألا يغش مؤمنا، ولا معاهدا في شيء، لا في قليل، ولا في كثير. فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السموات، والأرض، والجبال. وهذا قول جماعة من التابعين، وأكثر السلف، فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسنتنّ؛ جوزيتنّ، وإن عصيتنّ؛ عوقبتن. قلن: لا يا رب نحن مسخرات لأمرك، لا نريد ثوابا، ولا عقابا. وقلن:
ذلك خوفا، وخشية، وتعظيما لدين الله تعالى؛ لئلا يقوموا بها، لا معصية، ولا مخالفة لأمره.
وكان العرض عليهن تخييرا، لا إلزاما، ولو ألزمهنّ؛ لم يمتنعن من حملها، والجمادات كلها خاضعة لله تعالى، مطيعة لأمره، ساجدة له.
قال بعض أهل العلم: ركب الله فيهن العقل، والفهم حين عرض عليهن الأمانة، حتى عقلن الخطاب، وأجبن بما أجبن، كما حكى الله عنهن قولهن:{قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} الآية رقم [11] من سورة (فصلت). وقيل: المراد من العرض على السموات، والأرض، والجبال: هو العرض على أهلها من الملائكة دون أعيانها. والقول الأول هو الأصح، وهو قول العلماء.
{فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها} أي: خفن من الأمانة ألا يؤدينها، فيلحقهن العقاب. {وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ} يعني: آدم، قال الله عز وجل لآدم: إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال، فلم تطقها، فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال: إن أحسنت؛ جوزيت خيرا، وإن أسأت عوقبت، فحملها آدم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام- وقال: بين أذني، وعاتقي، قال الله تعالى: أما إذا تحملت، فسأعينك، وأجعل لبصرك حجابا، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل؛ فأرخ عليه حجابه (المراد به: الجفنان) وأجعل للسانك لحيين، وغلافا، فإذا خشيت؛ فأغلقه عليه، وأجعل لفرجك لباسا، فلا تكشفه على ما حرمت عليك. قال مجاهد-رحمه الله تعالى-: فما كان بين أن تحملها وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر إلى العصر.
هذا؛ وفي الآية استعارة تمثيلية، مثل للأمانة في ضخامتها، وعظمها، وتفخيم شأنها بأنها من الثقل لو عرضت على السموات، والأرض، والجبال-وهي من القوة، والشدة بأعلى المنازل والمراتب-لأبت عن حملها، وأشفقت منها، وهو تمثيل رائع لتهويل شأن الأمانة.
هذا؛ والأمانة مصدر، وحق المصادر أن لا تجمع؛ لأنها كالفعل يدل على القليل والكثير من جنسه، ولكن لما اختلف أنواع الأمانة لوقوعها على الصلاة، والزكاة، والتطهر، والحج، وغير ذلك من العبادات؛ جاز جمعها؛ لأنها لما اختلفت أنواعها؛ شابهت المفعول به، فجمعت كما
يجمع المفعول به، قال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ،} وقال جل ذكره: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها} .
{إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: {ظَلُوماً} لنفسه. {جَهُولاً} بأمر ربه، وما تحمل من الأمانة. وقيل:{ظَلُوماً} حين عصى ربه. {جَهُولاً} لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة؟ وقيل: {ظَلُوماً جَهُولاً} حيث حمل الأمانة، ولم يف بها، وضمنها، ولم يف بضمانها. انتهى. خازن.
هذا؛ و (جهول) وصف للجنس باعتبار الأغلب، وكون الإنسان ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية، والشهوية الحيوانية. وخذ ما يلي:
فعن حذيفة بن اليمان-رضي الله عنه-قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا: أنّ الأمانة نزلت في جذر قلوب الرّجال، ثمّ نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السّنّة. ثم حدّثنا عن رفع الأمانة، فقال: ينام الرّجل النّومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظلّ أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك، فنفط، فتراه منتبرا، وليس فيه شيء (ثمّ أخذ حصاة فدحرجها على رجله) فيصبح النّاس يتبايعون، لا يكاد أحد يؤدّي الأمانة حتّى يقال: إنّ في بني فلان رجلا أمينا، حتّى يقال للرجل: ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبّة خردل من إيمان، ولقد أتى عليّ زمان، وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما؛ ليردّنّه على دينه، ولئن كان نصرانيا، أو يهوديا؛ ليردّنّه على ساعيه. وأمّا اليوم فما كنت لأبايع منكم إلاّ فلانا وفلانا. متفق عليه. انتهى. خازن.
وروى البخاري عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدّث القوم، فجاء أعرابيّ، فقال: متى السّاعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّث، فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال. وقال بعضهم: لم يسمع. حتّى إذا قضى حديثه، قال: «أين السّائل عن السّاعة؟» . قال: ها أنا يا رسول الله، قال:«إذا ضيّعت الأمانة فانتظر السّاعة» . قال:
كيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: «إذا وسّد الأمر إلى غير أهله؛ فانتظر السّاعة» .
وعن علي-رضي الله عنه وكرم الله وجهه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كنّا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلع علينا رجل من أهل العالية، فقال: يا رسول الله! أخبرني بأشدّ شيء في هذا الدّين، وألينه؟ فقال: «ألينه: شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمدا عبده ورسوله. وأشدّه يا أخا العالية! الأمانة، إنّه لا دين لمن لا أمانة له، ولا صلاة له، ولا زكاة له» . رواه البزار.
هذا؛ و (جهول): صيغة مبالغة اسم الفاعل: جاهل، وهو من يجهل ما يتعلق به من المكروه، والمضرة. ومن حق الحكيم ألاّ يقدم على شيء حتى يعلم كيفيته، وحاله، ولا يشتري الحلم بالجهل، ولا الأناة بالطيش، ولا الرفق بالخرق، كما قال أبو ذؤيب الهذلي:[الطويل]
فإن تزعميني كنت أجهل فيكمو
…
فإنّي شريت الحلم بعدك بالجهل
وإن لم يكن كذلك؛ يصدق عليه: أنه من أكبر الجهال، والحمار أفضل منه، كما قال الشاعر الحكيم:[البسيط] فضل الحمار على الجهول بخلّة
…
معروفة عند الّذي يدريها
إنّ الحمار إذا توهّم لم يسر
…
وتعاود الجهّال ما يؤذيها
حقا إن الحمار أفضل بكثير من الفاسقين الجاهلين: المقامرين، والظالمين، وشاربي الخمر
…
إلخ، ودليل ذلك: أنك لو وضعت الخمر للحمار، والبغل، ونحوهما لا يشربه، بل ينفر منه، ومع ذلك تجد المئات بل الألوف من البشر يشربونها ليلا، ونهارا.
الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {عَرَضْنَا:} فعل، وفاعل. {الْأَمانَةَ:} مفعول به. {عَلَى السَّماواتِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ:} معطوفان على {السَّماواتِ،} وجملة: {عَرَضْنَا..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {فَأَبَيْنَ:} الفاء: حرف عطف.
(أبين): فعل ماض مبني على السكون، ونون النسوة فاعله. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب.
{يَحْمِلْنَها:} فعل مضارع مبني على السكون وهو في محل نصب ب: {أَنْ،} ونون النسوة فاعله.
و (ها): مفعوله، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، وجملة:
{فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها} معطوفة على جملة: {عَرَضْنَا..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها، والرابط في الأولى رابط في الثانية، وجملة:{وَأَشْفَقْنَ مِنْها} معطوفة عليها أيضا، وجملة:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ} معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: «ولكن عرضناها على الإنسان، فحملها
…
إلخ» وهذا الكلام معطوف على ما قبله، لا محل له مثله. {الْأَمانَةَ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه.
{كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى {الْإِنْسانُ}. {ظَلُوماً:} خبر {كانَ} . {جَهُولاً:}
خبر ثان، وجملة:{كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر: (إن)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ كانَ..} . إلخ تعليل لحمل الإنسان للأمانة.
الشرح: {لِيُعَذِّبَ اللهُ..} . إلخ: تعليل لحمل الأمانة، المعنى: عرضنا الأمانة على جميع المخلوقات، ثم قلدناها الإنسان؛ ليظهر شرك المشرك، ونفاق المنافق؛ ليعذبهم الله نتيجة سوء
أعمالهم، ومعتقداتهم، ويظهر إيمان المؤمن، فيثيبه الله. {وَكانَ اللهُ غَفُوراً:} للتائبين من ذنوبهم.
{رَحِيماً:} بهم؛ حيث لم يعاجلهم بالعقوبة. وانظر شرح (كان) في الآية رقم [1]. هذا؛ وفي الآية الكريمة من المحسنات البديعية: المقابلة، والطباق بين:{لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ} وبين قوله تعالى: {وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} . وفي ختم السورة الكريمة بهذه الآية من المحسنات البديعية ما يسميه علماء البديع: رد العجز على الصدر؛ لأن السورة الكريمة بدئت في ذم المنافقين، وختمت ببيان سوء عاقبتهم، فحسن الكلام في البدء، والختام. وإنما قدم المنافقين على المشركين هنا وفي سورة (الفتح) رقم [6] لأن المنافقين كانوا أشد على المؤمنين من المشركين؛ ولأن المشرك يمكن أي يحترز منه، ويجاهد؛ لأنه عدو مبين، والمنافق لا يمكن أن يحترز منه، ولا يجاهد، فلهذا كان شره أكثر من شر المشرك، فكان تقديم المنافق أولى.
ومن المعلوم: أن المنافقين، والمنافقات كانوا في المدينة، وأن المشركين، والمشركات هم من أهل مكة.
الإعراب: {لِيُعَذِّبَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل. {اللهُ:} فاعله.
{الْمُنافِقِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {وَالْمُنافِقاتِ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ:}
معطوفان على ما قبلهما منصوبان مثلهما، و «أن» المضمرة والفعل:(يعذب) في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(حملها). وقيل: متعلقان بالفعل:
{عَرَضْنَا} . {وَيَتُوبَ:} معطوف على يعذب منصوب مثله. {اللهُ:} فاعل. {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل: (يتوب). {وَالْمُؤْمِناتِ:} معطوف على ما قبله. وجملة: {وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} مستأنفة، وفيها معنى التوكيد لفحوى الكلام السابق. هذا؛ ويجوز في:
{رَحِيماً} أن يكون خبرا ثانيا ل: (كان)، وأجاز مكي اعتباره حالا من الضمير المستتر في {غَفُوراً،} وأجاز اعتباره نعتا له، وهذا غير مسلم له؛ لأنهما اسمان من أسماء الله الحسنى على المعتمد. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
انتهت سورة (الأحزاب)، شرحا وإعرابا، بحمد الله وتوفيقه.
والحمد لله ربّ العالمين